عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

حكمة أفعال الله

سؤال يواجه الجميع: لماذا الاختلاف والتفضيل في الحصص الموزعة من الفيض الإلهي؟ فلما كانت الأرزاق الإلهية عادلة التوزيع بين البشر لماذا نشاهد الاختلاف في الحياة؟ فإن كان الاختلاف نتيجة لأرضية الاستقبال لهذا الفيض كمّاً وكيفاً لماذا تختلف هذه الأرضية من شخص لآخر ومن مجتمع لآخر؟ هنا يبرز السؤال بصورة اكثر شدةً لماذا هذا الاختلاف في أرضية الاستقبال؟ ألم يخلقنا الله جميعاً بقانون عادل متزن إذن لماذا الاختلاف والتمايز بين الناس؟ فنرى أحد الناس ذكياً جميلاً ذا مالٍ وجاهٍ وعناية يولد في بلدٍ غني خالٍ من المشاكل والأزمات النفسية ويضع بظروف جيدة فيدرس ويتثقف ويشقّ طريقه إلى مواقع علمية واجتماعية وربما سياسية مرموقة فينعم في حياته، بينما نرى شخصاً آخر بصفات عكسية أي إنه غبي أبله قبيح المنظر فقير مالياً وليس له جاه ويولد في بلد فقير تعيس وكلّه مشاكل وأزمات نفسية وسياسية فلا يدرس ولا يتثقف بل يشق طريقه نحو أزمات حادّة تنتظره، فإذا بلغ سن الرشد لا يستطيع الزواج لإفلاسه وضعته فتزداد حدة مشاكله فتصبح روحه عدائية انتقامية عنيدة - غالباً -.

والآن لماذا هذا الفرق؟ ولماذا هذه الاختلافات؟ وكما يصدق ذلك على الفرد يصدق على المجتمع بصفة عامة بل على الكائنات الحية الأخرى فلماذا خلق الإنسان وخلق الحيوان؟ ولماذا خلق الحيوان حيواناً بريّاً؟ والآخر بحريّاً وهكذا. ومرةً أخرى تبرز المساءلة الوجدانية لماذا الاختلاف في الأعمار؟ بل لماذا تنتهي حياتنا وتفنى وتنعدم ونحرم أخيراً من نعمة الدنيا؟ وكذلك تبرز المساءلة الوجدانية لماذا النقص في الخلقة وعدم الكمال فلماذا الجهل والفقر؟ ولماذا الآفات والمصائب والحيوانات السامة والضارة؟ لماذا الجراثيم القاتلة فلو اعتبرنا من الحكمة أن توجد الكريات البيضاء في دم الإنسان لتطوق الجراثيم المهاجمة لجسم الإنسان وتطردها نتساءل لماذا الجراثيم ابتداءً؟ إن هذه الحشرات والآفات التي لا نستطيع حصرها تهدد الإنسان بل الحياة بالأجمع فالأفاعي السامة تقتل الإنسان والنيازك الحارقة بإمكانها أن تحرق مدينة كاملة والفيضانات المدمرة باستطاعتها تدمير البشرية.. بعد هذه التساؤلات التي تعتبر من البحوث الحساسة في مسألة العدل الإلهي والتي تنتاب ذهنية شباب المسلمين اكثر من غيرها لأنها ملموسة عملاً وبإمكان الوسوسة الشيطانية أن تمد مخالبها القذرة إلى الفطرة الإنسانية السليمة لتخدشها عبر هذه الطرق التي تظهر في البداية بأنها صاحبة الحق ولكن بعد ما يتضح موقف الإسلام الحقيقي تضمحل هذه الشبهات وتذوب أمام أشعة الحق الحارقة لجراثيم الباطل. وأرى نفسي مضطراً لتوضيح المسألة اكثر فأتناول هذا الموضوع بنوع من التفصيل.. وعلى ضوء مجمل مطالعاتي في هذا الشأن أظن إن هذه الإشكالات هي التي دفعت الإنسان لاتخاذ نهجاً عبادياً والتزامياً معيناً في الحياة ففي حقبة زمنية غابرة تبنى الإنسان إلهين في الكون إلهاً للخير وإلهاً للشر فعبدوا أصنام الخير: الماء والشمس والأرض... وعبدوا أصنام الشر: الطاعون والزلزال فنشأت الثنائية (الازدواجية) كما في عبادة المجوس المعروفة أو عبادة الجاهلية التي كانت تتقرب إلى الله برموز الخير وتتعوذ برموز الشر، فلو تجردنا عن هذا التحليل وجئنا إلى القرآن الكريم ونقرأ الآية الكريمة:

(الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور). [سورة الأنعام، الآية 1].

تبرز أمامنا هذه المساءلة الوجدانية الملحّة فالظلام المقترن بالخوف والسكون والسواد وتوقف الحياة الاجتماعية بينما النور المقترن بالحركة والانتعاش والازدهار وكلاهما من جعل الله وإبداعه.. المهم هذا التساؤل يأخذ طريقه الطبيعي بحثاً عن الإجابة فتارةً نذهب إلى أن الموجودات كلها خير وما نحسبه شراً هو أمر طارئ على الأصل أي الخير، ويحكم لهذا الشر بالمعادلة النسبية فيوجد في باطن الشر هدف صالح وخير محسوب من زاوية معينة ربما نحن لا ندركه لقصورنا أحياناً وتقصيرنا أحياناً أخرى، هذه إجابة إيجابية وبالضبط أمامها إجابة سلبية تحمل روح الرد على التفسير الأول وعموماً أمام هذه التساؤلات توجد طريقتان للإجابة.

الطريقة الأولى: هي الطريقة التسليمية المطلقة، فلا ظلم في الخلق والوجود ولا اختلاف ولا تفرقة في الكون بل العدل والاستقامة والتوزيع العادل للفرص الحياتية - كما قلنا في الصفحات السابقة - ونسأل لماذا يظلم الله الناس؟ ألأنه محتاج أو فقير أو انه يضمر البغض والعداء لأحد.. كل ذلك ليس من صفات الأزلي الحكيم وكل ما في الأمر أن بعض الأسرار ما استطعنا اكتشافها لقصور أو تقصير. وهذه الطريقة في الإجابة سهلة وبسيطة ومريحة للنفس من جهة وأنها سريعة النتائج من جهة أخرى.

أما الطريقة الثانية: فهي الطريقة التوضيحية (طويلة النفس) هدفها العثور على أسرار هذه الآفات والأزمات والاختلافات وتوجيهها التوجيه الإسلامي القويم على ضوء المعرفة المتواجدة لديها فنسأل مثلاً هل من الحكمة والمصلحة أن تخلق هذه الآفات والزلازل المفجعة والمروعة؟ وعليه كان لابد من معرفة وجودات الكون ضمن الأنظمة الذاتية أو الاعتبارية بأنها خلقت بهذه الصيغة لا غيرها مع وجود الترابط المتين فيما بينها أو أنها وجدت ثم احتلت هذه المواقع فيما بعد، وهنا يضرب الشهيد مطهري مثلاً بالأرقام ويقول: (فمثلاً العدد 5 يستطيع أن يكون بين العدد 4 والعدد 6 ولا يستطيع أن يحتل المرتبة بين العدد 6 والعدد 8 وهل يحتل العدد 7 المنزلة بين العدد 4 والعدد 6 دون خرق؟ وتعالوا الآن ننظر في نظام العلل والمعلولات الأسباب والمسببات المقدمات والنتائج لنرى ما هي حقيقتها؟ هي خلقت أولاً ثم أعطيت درجتها ومنزلتها بعد ذلك؟ أم أن وجودها مساوٍ للرتبة التي استقرت فيها)(14).

وقد قال سبحانه: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر). [سورة القمر، الآية 50].

فالإرادة المباشرة من الله وإرادة التنظيم الحالي كذلك منه في تعيين الرتبة وتحديد المهمة والصلاحية فالإرادة واحدة في الخلق والإدارة فإذن النظام الكوني ذاتي وليس اعتبارياً وإرادة وجود الكون هي عين إرادة نظام الكون وإرادة نظامه هي عين إرادة وجود الكون. وفي الحقيقة لا يوجد تفضيل في الخلق والتوزيع بالنسبة للقدرة على الانتفاع أي الأرزاق العامة وإنما هنالك فرق واضح بين الأمرين فالتفضيل هو ترجيح كفة طرف على طرف بالرغم من تساويهما مثال ذلك البشر أمام القانون الإسلامي فلا تفضيل ولا ترجيح حيث قال (صلى الله عليه وآله): (الناس سواسية كأسنان المشط). أما الاختلاف فهو توزيع المهام حسب القدرة والقابلية فهو تفضيل وترجيح كفة طرف على طرف آخر لعدم تساويهما كما في الفقه الإسلامي أن دية المرأة نصف دية الرجل وللمجنون أحكام ولغير البالغ أحكام وللعبد المملوك أحكام وفي الإرث (للذكر مثل حظ الأنثيين) وهكذا إذن المسألة ليست تفضيل دون أسباب وإنما هنالك اختلاف ولابد من مراعاته كي تتحقق العدالة، والاختلاف مسألة طبيعية حينذاك بل هي عين العدالة بينما عدم مراعاة الاختلاف أي المساواة هنا هي عين الظلم قال تعالى:

(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). [سورة الزمر، الآية 9].

ومثال جميل يستشهد به الشهيد مطهري في كتابه العدل الإلهي فيقول: لو أخذنا إناءين يسع كل منهما عشرة ليترات ووضعنا أحدهما تحت حنفية الماء وسكبنا فيه عشرة ليترات من الماء ووضعنا الآخر تحتها وسكبنا فيه خمس ليترات منه فهذا ترجيح لأن منشأ الاختلاف هنا ليس من ناحية الإناء وإنما من المالئ للإناء أما إذا كان لدينا إناءان يسع أحدهما عشرة ليترات والآخر يسع خمسة ليترات وغمسنا كلاً منهما في البحر فإن الاختلاف بينهما سيستمر لأن اختلافها ناشئ من ناحية استعداد كل منهما وسعته وليس من ناحية البحر أو قوة اندفاع الماء(15) وعلى هذا تزول الشبهة ولكنها تظهر بشكلٍ أقوى إذا عرفنا أن صانع الإناءين ولسبب ما جعل أحدهما صغيراً والآخر كبيراً فلا يمكن تساويهما لاختلاف قابليتهما فالإشكال على الأصل.

وهكذا بالنسبة إلى خلق الإنسان حيث أن الله سبحانه خلق الحر والعبد فعليه يحصل الحر على امتيازات ما لا يحصل عليها العبد، لماذا؟ ولماذا خلق الذكر ذكراً والأنثى أنثى ليكون للذكر مثل حظ الأنثيين. والجواب على ذلك يتلخص بما يلي:

يقول الله في محكم كتابه: (إنا كل شيء خلقناه بقدر). [سورة القمر، الآية 49].

فالقانون الإلهي في خلق الكون له امتيازاته وترتيباته وقوانينه الخاصة وإن هذا الكون قد خلق ضمن مقاييس معينة وإدارة هذا الكون محكومة بأنظمة ثابتة ذاتياً لا تقبل التغيير كما في سورة فاطر، الآية 43: (فلن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً).

وقال سبحانه: (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم). [سورة الرعد، الآية 11].

فالقانون الإلهي ليس قانوناً اعتبارياً طارئاً سرعان ما يتغيّر ويزول بل إنه قانون ثابت فنظام العلة والمعلول والأسباب والمسببات ومراتب الخلق - كما قلنا سابقاً - كل ذلك ضمن تخطيط وإدارة قانونية ثابتة فلا يمكن أن نجمع ذرتين من الهيدروجين وذرة من الاوكسجين وننتظر الناتج حامض الكبريتيك فكل شيء علة لمعلول معين ومعلول لعلة معينة وضمن نظام الخلق والإيجاد تترتب الوجودات ذاتياً لا اعتباطياً طارئاً. وضمن هذا النظام الواسع لابد أن توجد عدة اختلافات لتكتمل صورة الكون فالكون بحاجة إلى جزء غير مرئي والى جزء مرئي ظاهر للعيان والكون بهذه الصورة القانونية المبدعة بحاجة إلى جزء من المادة نسميه تراباً صالحاً للزراعة والحفر والمشي عليه وبحاجة إلى قرص منير يحلق في السماء ويشع علينا نوراً في الليل ولا نستطيع أن نعيش فوق ترابه مع أن الإنسان استطاع أن ينزل على سطح القمر ولكن بالنتيجة يبقى هذا الكوكب يخدم الإنسان من بعيد. والكون بحاجة أيضا إلى ظلمات متراكمة في جوف المحيطات والبحار فكما أن للكون قمماً جبلية شاهقة فللكون أيضا وديان سحيقة لغرض التوازن وسريان القانون الإلهي.

كل ذلك ليس من باب التفضيل والامتياز وإنما من باب التوزيع للأدوار التي لابد منها لغرض التكاملية فهو من باب الاختلاف الذي هو عين العدالة والحكمة والتدبير.

وأما موضوع الآفات والشرور في الطبيعة كالزلازل والفيضانات المدمرة والحيوانات السامة والضارة وهكذا النقص في العطاء والخلقة فهذا رجل بصير وهذا رجل أعمى وهذا جميل وهذا قبيح وهذا الحيوان نجس وهذا طاهر فمما لا شك فيه إنه موضوع من أشد المواضيع الغنية بالأمثلة والوقائع وبالفعل نرى بعض المسلمين يثيرهم هذا الموضوع وبالخصوص لو كان المتطرق له يمتلك لباقة بيانية وقدرة على الاستيلاء على مشاعر القارئ أو السامع فلذلك كان الأجدر بنا أن نبحث مبحث العدالة بالتفصيل ونجعله من البحوث العامة والمتداولة بين الأيدي وننزّله إلى الثقافة العامة لتتشكل خلفية إسلامية ناضجة للمسلمين ليردعوا بها أصحاب هذه الأبواق الجاهلية.

والحق إن الظلم والشر والقبح أمور نسبية أي تتحدد سلبياتها بالنسبة لشيء معين دون آخر، مثلاً الحيوانات السامة هي ليست ضارة لنفسها بل للإنسان فهي بالنسبة للإنسان ظلم وشر لأنها تقتله أما بالنسبة لنفسها فلا ظلم ولا شر وبالنسبة لغيرها كذلك بل قد تكون خيراً لكائن حيواني آخر ويمكن أن تؤثر على الطبيعة المحيطة تأثيراً إيجابياً.

ولنأخذ مثالاً من الطبيعة: ثاني أوكسيد الكربون غاز سام وقاتل بالنسبة للإنسان ولكنه بالنسبة للنباتات ضروري لحياتها فتأخذه من مركبات الهواء لتلفظ الأوكسجين الذي يعتبر الجزء الضروري من الهواء لحياة الإنسان فثاني أوكسيد الكربون ضار بالنسبة للإنسان ونافع للنباتات ومع وجود هذه النسبة الواضحة نلاحظ في قانون الخلقة الكونية لابد من الغازين في تركيب الهواء - في مثالنا - أي إن هذه الوجودات وأمثالها من لوازم الخلقة الكونية فلا يمكن الاستغناء عنهما كالعارض على الواقع أو ملازمة الظلم لصاحبه. ومع ذلك يمكن افتراض فوائد جمة للسموم المارة الذكر لكننا ما توصلنا لمعرفتها مثلاً: يذكر الشيخ أحمد البهادلي في كتابه (محاضرات في العقيدة الإسلامية) نقلاً عن كتاب (الإسلام يتحدى) مثالاً مصدقاً لهذه الفكرة حول نبات الصبير(16).

- لقد قاموا في استراليا بزراعة نوع خاص من (الصبّار) لكي يحمي مزارعهم بما فيه من أشواك فانتشر الصبار انتشاراً رهيباً ومروعاً حتى استولى على منطقة توازي مساحة جزر بريطانيا وهاجم قراهم وضرب مزارعهم ولم يتمكنوا من استئصاله بأية طريقة واستمرت هذه الحالة حتى خرج علماء الحشرات وفتشوا عن دودة تأكله فاكتشفوا دودة لا تعيش إلا عليه ولا غذاء لها سواه وتتناسل بسرعة ولا عدو لها في حشرات استراليا وسرعان ما تغلبت هذه الدودة الصغيرة على ذلك النبات ولعلنا قبل هذه العملية نقول أن وجود هذه الحشرة لا نفع فيه ومن أمثال هذه الحشرة النافعة يكتشف العلم نفعها بمرور الزمن وربما لا يحصل له شرف الاكتشاف فمن الصعوبة أن نحكم بعدم جدوائيتها لأول وهلة فلربما لا يظهر منها النفع إلا بعد حين ولربما نرى أضرارها من زاويتنا ولها منافع من زوايا الحياة الأخرى فسبحان الخالق المبدع المدبر.

فلذلك لا يمكن فصل الآثار الضارة عن غير الضارة فالجانبان هما جانبا الحياة فمع النور ظلام ومع الخير شر ومع العسر يسر، ومع هابيل قابيل ومع البياض سواد من باب الضد يكشفه الضد وكلّ حسب موقعه من خارطة الحياة كالرسوم الهندسية التي تحتل حيّزاً معيناً فالمثلث مجموع زواياه يساوي زاويتين قائمتين والمربع مجموع زواياه أربع زوايا قوائم فليس من المعقول أن يعترض أحدنا على هذا التقسيم بقوله لقد ظلمتم المثلث بحصته مثلاً.. فقد قال سبحانه:

(ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى). [سورة طه، الآية 50].

ومن جملة فوائد الأضرار والآلام والأمراض والفقر والحرمان والبلاء على الإنسان بالذات أن شخصيته تصقل وتنضج لتتفجر طاقاتها لإزالة هذا البلاء من ناحية ومن ناحية أخرى تعتبر تربية الإنسان كاملة الصورة حينما يمرّ بالآلام والأضرار والنكبات فينكشف مدى صبره وتحمله للأذى وبالتالي تنمو حالة التقوى في القلب وتنحسر حالة الفجور وهكذا ستكون هذه الآلام لغفران الذنوب كما ورد في الأثر الشريف ولتقوية الروح الإيمانية لمقاومة الشيطان والهوى أي لصالح الإنسان. فلذلك نلاحظ الأنبياء (عليهم السلام) كانوا أشد الناس بلاءً واختباراً فأحدهم يبتلى بأولاده والآخر بمرضه وعلته والآخر بقومه والآخر بزوجته والآخر بالفقر وهكذا وسنتحدث في فصل النبوة عن بعض الأنبياء - حتى جاء رسول الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله) ليقول: (ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت) وهكذا الأئمة الأطهار (عليهم السلام) حتى ورد في الأثر المبارك على لسان أحدهم (عليهم السلام): (ما منا إلا مسموم أو مقتول) والقرآن الكريم يجعل الاختبار والنجاح في الاختبار من الأسس الرئيسية لتحقيق رضا الله سبحانه وبالتالي نيل الخير والجنان فقد قال سبحانه: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين). [سورة البقرة، الآية 155].

وقال الرسول (صلى الله عليه وآله): (حمّى يوم كفارة سنة) وفي حديث آخر قال (صلى الله عليه وآله): (إن الحمّى طهور من ربّ غفور)(17).

والإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (إن أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الأمثل فالأمثل) وبالفعل إن المؤمن ليجد راحته في تحمل العناء والجهاد والتعب على عكس غير المؤمن فإنه يجد راحته في الابتعاد عن المسؤوليات المقدسة، ونحن إذ نستقرئ الأفكار التي وردت في البداية تحت عنوان (حكمة أفعال الله) ورد موضوع الموت والفناء وبالفعل إنه مكروه وحزن حيث ورد - وقهر عباده بالموت والفناء - وفي الحقيقة أن الموت والحياة والآخرة والثواب أو العقاب وبمعنى آخر أن مرحلة الموت وما بعد الموت هي التي تجيب عن اكثر الإشكاليات التي يثيرها البعض حول العدالة الإلهية حيث أن الدنيا مرحلة يمر بها الإنسان - كما مر - بمراحل الأصلاب والأرحام فالدنيا حلقة من حلقات حياة الإنسان ومحطة من المحطات التي يمر بها الإنسان لأجل معلوم (الموت وما بعد الموت) أي أن هذه الحلقة من الحياة تترتب عليها الآثار سلباً أو إيجاباً وعلى ما أنجز من أعمال في الدنيا فـ(الدنيا مزرعة الآخرة) كما ورد وكلما كان الإنسان مطيعاً مؤمناً صابراً في الدنيا كلما تقرب في الآخرة إلى رضى الله سبحانه وكلما كان عاصياً مخالفاً ظالماً في الدنيا كان بعيداً عن رحمة الله في الآخرة إذن الاشكالات المثيرة في عالم الدنيا حول التوزيع العدل تنتهي حينما ندرك أن حلقة الموت وما بعد الموت متممة لحلقة الحياة الدنيوية ومترتبة عليها هذا من جهة ومن جهة أخرى إن مسألة الموت - كما أسلفنا - هي نهاية الحياة الدنيوية المبتسمة فهي القهر والحرمان والنقص والشؤم.. كل هذا التوهم يزول حينما نعرف أن الموت حلقة وصل بين طرفي الحياة الدنيوية والأخروية ولابد من الدخول للآخرة من خلال بوابة الموت ولله درّ الشاعر لقوله:

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته***يوماً على آلة الحدباء محمول

وإذا رأيت جنازةً محمولةً***فاعلم بأنك بعدها محمول

فحياة الإنسان مسلسل زمني بعضه في الدنيا وبعضه بعد الدنيا فالآخرة هي الحيوان والاستقرار وصحيح أن الإنسان حينما يألف جماعة وطريقة حياتية معينة يصعب عليه فراقها وبالفعل الفراق قهر والموت قهر كما أن الطفل يولد من بطن أمه باكياً يريد البقاء على طريقة ألفها في حياته الجنينية المعتادة وحينما يدخل رحاب الدنيا بعد وعيه يضحك على تصوره الطفولي الساذج ويسخر من بكائه الفطري حباً لحياة الرحم وهكذا المؤمن الناجح والحائز على رضى الله تعالى يسخر من تصوره الساذج هو الآخر في تعلقه بالدنيا الفانية فقد جاء في الأثر الشريف (الناس نيام إذا ماتوا انتهوا) فإذن تزول هذه الرؤية الضبابية والتشاؤمية حينما نضع الدنيا والآخرة في موضع الحياة العامة المتكاملة قال سبحانه:

(أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً وأنّكم إلينا لا ترجعون). [سورة المؤمنون، الآية 115].

وقال أيضا في محكم كتابه الكريم: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً). [سورة الملك، الآية 2].

وقال في آية أخرى: (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون). [سورة العنكبوت، الآية 64].

أي أن الحياة الدنيا هي حلقة من حلقات حياة الإنسان وليست كل الحياة. والحساب في الآخرة سيصفي المظالم في الدنيا، يقول الإمام علي (عليه السلام): (اليوم عمل ولا حساب وغداً (يوم القيامة) حساب ولا عمل) وكما ورد في الحديث: (الدنيا مزرعة الآخرة) فما تزرعه من خير وبركة وعطاء في الدنيا هو الذي تحصده وتحصل عليه في الآخرة والعكس كذلك ولا بأس أن نسجل هنا ملاحظة خاصة وهي أن بعض المعاصي والآثام يلمس الإنسان آثارها السوداء كعقوبة طبيعية في الدنيا كشرب الخمر مثلاً فله أضرار طبيعية تلحق بالشارب عبر قانونها الطبيعي فالآثار الصحية والاجتماعية والنفسية واضحة الانعكاس من ارتكاب هذا الإثم كالبصمات السوداء على الصفحات البيضاء ومثال ما ورد في الأخبار - بشر القاتل بالقتل - وعملية القصاص من الظالم المعتدي على يد المؤمنين وهكذا وإنما ركزنا في جزاء الآخرة لكي لا نجهد أنفسنا في انتظار العقوبة الدنيوية للظالمين والآثمين ولتنقشع الشبهات العالقة بالعدالة حيث الحساب الدقيق للأعمال والأقوال والتصرفات. قال سبحانه:

(ونضع الموازين القسط ليوم القيامة). [سورة الأنبياء، الآية 47].

14 - المطهري، العدل الإلهي، ص102.

15 - المطهري، العدل الإلهي، ص106.

16 - البهادلي، محاضرات في العقيدة، ص301 - بتصرف -.

17 - سفينة البحار، ج1، ص345.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

معنى الصفة
مَن هن الخبيثات ومَن هم الخبيثون؟
مفهوم البداء في عالم الخلق والتكوين
هل المعاد إعادة للمعدوم؟
الإمامة والخلافة بإختصار
كتاب الغيبة
عُبادة بن الصامت
موقف القرآن من مسألة : (الحتمية) و (استقلال ...
مرجعية المسلمين بعد النبي صلی الله عليه وآله وسلم
مقدمة عامة في نبوة النبي محمد

 
user comment