تم اختيار الأنبياء من صميم الواقع الاجتماعي فواكبوا مسيرة الناس وكلما نما نبي في وسط مجتمعه نمت معه الفضيلة والخير والخط الإيجابي في الأمة كافراز طبيعي لدعوته المباركة وفي مقابل هذا الخط نما الخط السلبي من المنافقين والكافرين ليأخذوا دورهم العدائي للنبي ورسالته وعلى طول التاريخ مسيرة حافلة لجهاد الأنبياء (عليهم السلام) ومواقفهم من الأصدقاء والأعداء.
وكان عددهم 124.000 نبي ولهم درجات ورُتب معينة فمنهم من كانت رسالته خاصة بنفسه وبأهله أو بمجتمعه وقريته ومنهم من كانت رسالته لجميع البشرية في عصره وكما مرّ معنا في الروايات، هنالك أنبياء أُولو العزم وهم خمسة (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله) ) أما المذكورون في القرآن هم أفضل الأنبياء وعددهم خمسة وعشرون نبياً ورسولاً وهنالك فرق بين النبي والرسول فالرسول هو الذي يرى جبرائيل ويكلمه أما النبي فيسمع صوته فقط باليقظة أو المنام فيراه بالحلم وقد تجتمع الحالتان في شخص واحد فإذن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً.
وهذه الرسالات كانت تواكب مسيرة المجتمع الثقافية والاجتماعية فالذي يقول أن رسالة الإسلام هي الخاتمة وبما أنها هي الأصلح للبشرية، لماذا ما نزلت منذ البعثة الإلهية ؟ مثلاً! في زمن النبي نوح (عليه السلام) من دون أن تدخل البشرية في خضم الصراع الذي دار فترة طويلة بين اتباع الشرائع السماوية وأعدائها من جانب وبين اتباع الشرائع السماوية أنفسهم من جانب آخر والذي لا يزال أثره واضحاً إلى يومنا الحالي. ويمكن صياغة السؤال بشكل آخر، ألم يكن في علم الله عز وجل أن الرسالة الإسلامية ونبوة محمد (صلى الله عليه وآله) هي الأجدر والأفضل لمتطلبات البشر إلى آخر الزمن فلماذا لم تنزل رسالة الإسلام من الأول؟ لتنتهي المشاكل والصراعات المتعددة الجهات وعلى الأقل إيقاف الصراعات بين الأديان السماوية نفسها أعني بين اتباعها وانصارها، والواقع إن البشرية كانت بحاجة إلى كل الرسالات السماوية حسب تسلسلها الزمني فالله أعلم بأحوال الناس وما يناسبهم من قوانين هذا أولاً وثانياً إن البشرية مرت بمراحل أشبه ما تكون بمراحل الطفولة البشرية والصبا والمراهقة والشباب ثم النضج البشري.
وفي كل مرحلة من هذه المراحل كانت البشرية بحاجة إلى رسالة تناسبها وتتلائم مع حالتها العقلية والثقافية والاجتماعية والذهنية السائدة وكل تلك الرسالات كانت تمهيداً لمرحلة النضوج البشري فأختتمت رسالات السماء بالرسالة المحمدية الخالدة فقد قال سبحانه:
(ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين). [سورة آل عمران: الآية 85].
و(اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً). [سورة المائدة: الآية 3].
و(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين). [سورة الأحزاب: الآية 40].
فكل رسالة من رسالات الأنبياء من أُولي العزم تنسخ الرسالة السابقة لتحل محلها بأمر الله تعالى وما بين الرسالات الرئيسية الخمس كان الأنبياء يجدّدون إحياء الرسالة العالمية التي سبقتهم حتى يبعث الله نبياً من أُولي العزم لينسخ تلك الرسالة برسالته الجديدة..
ومرحلة النضوج هذه ساهمت الرسالات السماوية المتتالية في إيجادها بل لها الدور الرئيسي في إنضاج المجتمع البشري حتى وصل إلى مرحلة التقبّل للرسالة الخاتمة. ونلاحظ ذلك جلياً في القرآن الكريم حيث يستعرض الكثير من الأمم السالفة والأنبياء السابقين (عليهم السلام) والحالات التي مرت عليهم ولدينا سور كاملة بأسماء الأنبياء تحكي قصصهم مع أممهم فهذه سورة يوسف وسورة إبراهيم ونوح وغيرها فعلى ذلك ندرك أن الحالة الذهنية للمجتمع البشري قد تم انضاجها فصارت أرضية ملائمة لنداءات السماء الأخيرة حيث المنهج الإسلامي الثابت الذي يعتبر تتويجاً طبيعياً لجهود الأنبياء السابقين على نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله) فإذن كل نبي مرسل هو حلقة من حلقات الرسالة السماوية صالحة لزمن معين فكل نبي يهدف تنظيم الحياة وملء فراغ الإنسان فكرياً وثقافياً وسد الحاجة الروحية لكي لا يبقى عائماً دون ركائز فكرية يستند إليها في تفسير الاستفهامات العديدة التي تبرز أمامه حول الكون والخلق والوجود فيجدها أمامه موضحة بأدلتها الوافية وبالتالي يعمل النبي جاهداً لتهيئة الناس للحلقة القادمة بالرسالة الجديدة.
وبالفعل جاءت الرسالات لرسم الحياة المادية قانونياً فبينت الحلال والحرام وميّزت الأعمال الخيرة عن الشريرة لحفظ الحياة اجتماعياً وسلوكياً إضافة لبرامج الحياة الروحية عبر المناهج والقوانين التربوية ومما لاشك فيه أن الأنبياء قد واجهوا المجتمع البشري بشتى أنواع المواجهة فالناس ما بين مؤيد مقتنع وما بين رافض محارب وما بين الاتجاهين هنالك درجات تزداد قرباً لأحد الموقفين أو بُعداً.
وبدأت مسيرة الأنبياء بالدخول في وسط الناس لدراسة نقاط ضعفهم لمعالجتها وإزالتها وبيان نقاط قوتهم لدعمها إضافة لعملية الزرع الإيجابي للقيم النبيلة في النفوس وقد عانى الأنبياء في مسيرة التغيير الاجتماعي من الطغاة والرافضين للرسالة السماوية ووقف المتضررون من الدعوة الإصلاحية الموقف العدائي ودفعهم حقدهم إلى المجابهة الفكرية والجسدية حتى أن بعض الأنبياء تعرض للتصفية الجسدية بأبشع صورها حرقاً وتقطيعاً ونبذاً واتهاماً بالخيانة أو حب الرئاسة والتسلط وعموماً إن قصص الأنبياء حافلة بالمواقف الصعبة والمواجهة الشجاعة بين النبي وقومه وكانت دوافع الظالمين والمعارضين للأنبياء محصورة في الجهل والتخلف والخوف على المصالح الشخصية فتحمل الأنبياء من الظالمين أشد وأقسى أنواع التعذيب الجسدي والروحي حتى بلغت الحالة الوحشية أن يفتكوا بالأنبياء فنشروا نبياً بالمنشار فقتلوه، ورموا نبياً في البئر بعد أن سلخوا رأسه ونصبوا في وسط البئر سيوفاً متوجهةً للسماء ورموه من على رأسه فتقطع جسمه ارباً ارباً.
أما نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) فلاحقوه بأكثر من مؤامرة لقتله فأنقذه الله سبحانه منها إضافة للتعذيب النفسي الذي تعرض إليه (صلى الله عليه وآله) حتى قال: (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت).
وقد قال الله تعالى: (ولقد كُذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأي المرسلين). [سورة الأنعام: الآية 34].
فكان الطغاة يحركون الجهلة لينفذوا لهم ما يريدون فيرمون على النبي (صلى الله عليه وآله) مثلاً الأوساخ ويضعون في طريقه الأشواك حتى أبعدوه قسراً عن المجتمع في شعب أبي طالب هو وصحبه في مدة زمنية تجاوزت عن ثلاث سنوات فكانت المقاطعة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ولكل نبي قصص مع قومه ولكن مع هذه الحالات المؤلمة استطاع الأنبياء (عليهم السلام) أن يخلقوا تياراً مؤمناً في المجتمع هذا التيار بدأ يتغير ويغير نحو الخير والصلاح ويتحمل المشاق في المسيرة الصعبة أمام التيار المضاد وحسد المتضررين وبطشهم وكان يتم بإشراف النبي المرسل بل كان يدخل في الصراع بدقائقه وتفصيلاته.
والآن فلنتساءل كيف كان يتم الاتصال بين الله وبين النبي ؟ وكيف استطاع النبي أن يثبت صدقه أمام الناس؟ وحالة الناس المشككة عادة بالأطروحات الجديدة في المجتمع بل مناهضة ومحاربة لها وباختصار إن الاتصال كان يتم عبر الوحي، ويدفعنا التساؤل لنقول من هو الوحي ؟ وكيف نفهم طريقة الاتصال بالوحي؟. عرفنا أن الوحي هو الرابط بين الله وبين النبي وهو القناة الأمينة التي تنقل أوامر الله عز وجل للنبي فهو المصدر الوحيد للرسالة السماوية والوحي هو البريد الناقل لرسالة الله إلى النبي ومن ثم تُبلّغ بواسطة النبي للبشرية. وبهذه المعاني المتقاربة يتناسب لفظ الوحي بالمعنى الاصطلاحي مع معناه اللغوي فهو الإعلام في خفاء فهو مصدر من (وحيت) إليه أو (أوحيت) إليه إذا كلمته بصورة مخفية وخصوصية وحينما ينسب الوحي إلى الله عز وجل فيعني إعلام الله لأنبيائه رسالته وأحكامه فالرسالة السماوية قادمة من الغيب عبر هذا الخط وهو الوحي الوسيط تستهدف المبلّغ الرئيس هو النبي المرسل ليبلغها الناس.
(قال - نوح - يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين، أُبلغكم رسالات بربي وانصح لكم). [سورة الأعراف: الآية 61 - 62].
فإذن نفهم أن الوحي حالة شعورية لدى النبي يستقبل بها قرارات الله ليبلغها الناس فهنالك فرق دقيق بين الوحي والإلهام فالإلهام حالة غير شعورية تخطر في الوجدان، متعددة المصادر عكس الوحي فمصدره الغيب الإلهي فقط وقد يطلق على الوحي الإلهام الغيبي أحياناً.
وعلى العموم فالوحي هو السبيل الطبيعي لنداءات السماء فقد قال تعالى:
(وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء). [سورة الشورى: الآية 51].
فإذن للوحي عدة مظاهر كما أشارت الآية المباركة وهي:
أولاً - الوحي المباشر:
وهو الذي يقرب من معنى الإلهام فيلقي الله سبحانه علمه المبارك في قلوب الأنبياء (عليهم السلام) بالايحاء المباشر أو أن يرى النبي في منامه ما يلهمه معرفة حكم الله الشرعي وقراره - جل جلاله - كما في قصة النبي إبراهيم (عليه السلام) مع ابنه إسماعيل (عليه السلام) فقد قال سبحانه:
(قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إنشاء الله من الصابرين). [سورة الصافات: الآية 101].
فإذن الإيحاء المباشر بالمنام جعله (عليه السلام) يَقْدم على ذبح ولده إسماعيل وهذا نوع من أنواع الوحي الذي يترجم إرادة الله سبحانه وتعالى وقراره لأنبيائه الكرام - الواجب التطبيق - .
ثانياً - الكلام من وراء حجاب:
وذلك بأن يخلق الله عز وجل كلاماً بلغة النبي (عليه السلام) يفهمها النبي قراراً شرعياً أمراً أو نهياً أو سلوكاً معيناً كما في تكملة الآية المارة الذكر في قصة ذبيح الله إسماعيل (..فلما أسلما وتلّه للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم ، قد صدقت الرؤيا إنّا كذلك نجزي المحسنين).
وكذلك مع النبي موسى حيث يسمى كليم الله فكلّمه الله في جبل طور كما في الآية المباركة:
(وهل أتاك حديث موسى، إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبسٍ أو أجد على النار هدى، فلما أتاها نودي يا موسى، إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى، وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى...). [سورة طه: الآيات 9 - 13].
ثالثاً - المَلَك المباشر:
فقد قال عز وجل: (..أو يرسل رسلاً فيوحي بإذنه ما يشاء)
الوحي المنزل عبر جبرئيل المَلَك الأمين المقرّب إلى الله عز وجل كما في الآية الأخرى:
(نزل به الروح الأمين، على قلبك). [سورة الشعراء: الآيتان 193 - 194].
وورد عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (الأنبياء على خمسة أنواع منهم من يسمع الصوت مثل صوت السلسلة فيعلم ما عني به ومنهم من ينبّأ في منامه مثل يوسف وإبراهيم ومنهم من يعين ومنهم من ينكت في قلبه ويوقر في أذنه)(18).
وهنا يمكن أن نبرز التفاتة عصرية بأن الوحي الإلهي يستند إلى عناصر مادية كما مرّ معنا في الأنواع الثلاثة فهنالك تعامل خاص من الخالق الكريم مع عبده المختار للنبوة ومسألة الاتصال لا تخضع للوسائل المادية المعروفة لدينا اليوم بل يمكن استخدام طرق غير مرئية وبدون أجهزة اتصال مادية وهذا ما نقصده من أن هنالك تعامل خاص بين الخالق والأنبياء ولتقريب الفكرة نقول إن الاتصال اليوم ما عاد لغزاً مجهولاً لدى الناس بل أصبح أمراً اعتيادياً سواء خضع لأجهزة الاتصال المادية التكنولوجية أو كانت له طريقته الخاصة ولدينا دراسات وافية على قدرة الحيوان - مثلاً - بأنها تتصل فيما بينها بطريقتها الخاصة فالفراشة مثلاً تضغط على آلاف الأطنان من الهواء لتوصل صوتها إلى زوجها البعيد عنها وسرعان ما يتم اللقاء في شهر العسل، هذا الاتصال يتم دون استعمال للأجهزة المادية، وما تفعله حشرة النحل من أعمال وإنتاج للعسل عبر صناعة الخلايا الهندسية المنتظمة بإرادة الله ووحيه - بالطريقة الخاصة - فقد قال سبحانه:
(وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً). [سورة النحل: الآية 68].
هذا إلهام إلهي لهذه الحشرة أن تسلك طريقها في الحياة بالصورة التي نشاهدها.
إذن فالارتباط بين الله والشخصية المختارة للنبوة لا تحتاج إلى الأمور المادية بقدر ما تحتاج إلى صفاء ذاتي
وتوفيق إلهي واختيار لهذه المهمة الجبارة فالذي يخلق الفراشة بهذه القدرة والنحلة بهذه القابلية قادر على
أن يبعث الرسالة عبر الوحي المبارك بأنواعه - المارة الذكر - .
18 - ميزان الحكمة، ري شهري ج9 ص336.