1 - إن النبي محمداً (صلى الله عليه وآله) كان يتمتع بقوة عالية في شخصيته ساعدته على أن ينجح في عمله ونشر رسالته السماوية وخلق جيلاً مؤمناً يرفع على كاهله مسؤولية النشر والتطبيق للشريعة فمنذ بداية حياته (صلى الله عليه وآله) تحدّى الواقع الفاسد والتيار الفكري السائد في ضلاله وانحرافه فتعبد لوحده في غار حراء وابتعد عن الشهوات والنزوات المتداولة حينذاك فوقف كالجبل الأشم أمام الأعاصير الجاهلية المحيطة به فبدلاً من أن ينحرف مع التيار العام الفاسد وقف متنكراً يفكر ملياً بالنجاة لهذه الأمة المسكينة فهو شخصياً ابتعد عن ذلك كل البعد وبقي في المجتمع ولكن ليس معه إلاّ في الإطار المشروع النافع حتى لقب بالصادق الأمين وبعد البعثة صمد أمام الإغراءات الدنيوية المتعددة وردّ هذه الإغراءات بكلمات مبدئية قالها لعمه أبي طالب: (لو وضعوا الشمس في يميني...).
والنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان يمشي إلى جانب المعذبين ويرجو لهم الخلاص من وحل الجاهلية الظالمة وفي بداية الدعوة الإسلامية كان يمشي إلى جانب المعذبين من أجل الحرية والكرامة ومن أجل الإسلام فيتنفس الصعداء ويقول: (صبراً آل ياسر موعدكم الجنة), بهذه القوة الكبيرة في شخصيته المتزنة استطاع أن يهضم المشاكل ويستوعب الأزمات على كافة المستويات الفردية والاجتماعية ليصوغ من الفرد الضائع في خضم الأحداث المتلاطمة بالأهواء والطموحات الدنيوية ليكون فرداً مؤمناً هادفاً يعرف حياته وطريقه وآخرته ومصيره بل يضحي من أجل المجتمع ويسحق أنانيته من أجل المصلحة العليا ، واستطاع أن ينظم من المجتمع الخاوي المتحارب والمتآكل بالفساد والصراعات الجانبية والعصبيات مجتمعاً رسالياً مخلصاً لحريته وأمته متقدماً بحضارته فمن ناحية بنى المجتمع بالتماسك الإيماني وإدارته الإيمانية ومن ناحية أخرى سعى لإسعاد المجتمعات البشرية الأخرى فبدأ يدّك قلاع المتجبرين الحكام في شرق الأرض وغربها لإنقاذ الناس - جميع الناس - من سلطة الطواغيت في الأرض. فدعاهم للإسلام أو ضَمِن دفع الجزية للمسلمين واستطاع العرب في الحجاز أن يسودوا العالم - ضمن برهة زمنية قصيرة - بعد أن كانوا في حالة النزاع الداخلي والتمزق الاجتماعي والطبقي القاتل..
وبهذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) يتمتع بنضج سياسي واجتماعي رفيع وبهذه الروحية الفاعلة نزل في الساحة التغييرية ميدانياً وبنى الفرد والمجتمع وقادهم بشجاعة تامة وإصرار كامل فلم تعرف شخصيته معنىً للهزيمة الداخلية قط بل كان ملاذ الأبطال في الحروب والصراعات كما قال الإمام علي (عليه السلام): كنا إذا حمي الوطيس لذنا برسول الله (صلى الله عليه وآله). فكان يدعو الناس بقوة وشجاعة للإسلام دون خوف أو ملامة متوقعاً كل الأمور غير هيّاب منها فهو رجل التربية دون تردد ورجل المرحلة الصعبة دون وجل ورجل الإقتحام دون تهور ورجل التعقل دون جبن أو تراجع. قال علي (عليه السلام): (قال لي النبي (صلى الله عليه وآله): إجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أُمرت به) ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له.. ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا.. فقال (صلى الله عليه وآله): (يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه...).
بهذه الشجاعة المقرونة بالسماحة كان يجمعهم ويحدثهم ويهديهم ومن جانب آخر كان يتحمل عذابهم وسخريتهم، هذه النفسية القوية هي التي زرعت القيم الجديدة لغرض التعامل الحر والتصرف الناجح من أجل الرسالة والمجتمع وهذه النفسية من أسرار نجاحه (صلى الله عليه وآله) في الرسالة الإسلامية فإذن العامل الذاتي في شخصية الرسول من المعالم المهمة في انجاح عمل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الإصلاحي والتغييري.
2 - طبيعة رسالته المتميزة بالقوة البيانية والقوة العقلانية في مخاطبة الناس عقولهم ووجدانهم الداخلي فالقرآن الكريم هذا المعجز المتميز بالبيان المتين لمخاطبة العقل والوجدان من أسرار النجاح للرسالة الإسلامية.
فكان القرآن المجيد له قدرته الغيبية في السيطرة على المشاعر ونفوس الناس وهذه الحالة من أبرز معاجز القرآن المجيد حتى أن بعض المشركين كانوا حينما يسمعون الآيات المباركة تُتلى على مسامعهم كانت تسيطر هذه الكلمات المقدسة سيطرة تامة بجرسها الموسيقي ومعانيها الدقيقة وبالحديث الواقعي الجذاب والكاشف عن خفايا النفوس ودفائن العقول مما يجبر العقلاء والناس عموماً على الإذعان التام لهذا الكنز السماوي العظيم.
(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً). [سورة الإسراء: الآية 81].
ينقل التاريخ أنه في مرة جاء الوليد بن المغيرة إلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) فلما قرأ عليه القرآن كأنه رقّ إليه فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه قال له: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه فإنك أتيت محمداً لتتعرض لما قبله قال الوليد: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالاً قال فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له وكاره قال وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته... إلى أن قال بعد ضغط أبي جهل - هذا سحر يأثره عن غيره).
فهي رسالة تلائم العقل الإنساني وتنسجم مع فطرته الذاتية وتناغي طموحات الإنسان وتتوج التطلعات الفطرية لديه بالهداية والصلاح وهي رسالة تستوعب كل آلام وآمال الفرد والمجتمع وتحل الأزمات حلاً عقلانياً علمياً فهي رسالة الحب والعلم والحرية والأخلاق السليمة وهي رسالة شمولية لمناحي الحياة كلها الروحية والعقائدية والعبادية والاقتصادية وهي رسالة أعتنت بالإنسان الفرد والمجتمع الإنساني وواكبت الإنسان منذ تكوينه الأول إلى هوته ودخلت في كل تفاصيل الحياة الصحية والاجتماعية والاقتصادية فهي رسالة الحياة في الدنيا ورسالة الحياة في الآخرة.
3 - ظروف ولادة الدين الجديد:
أما ظروف ولادة الشريعة الإسلامية فإنها كانت ظروف انتظار الدستور الذي يأخذ بأيدي الناس المحرومين والمعْدمين إلى شاطئ الأمان والهدى..
فمن نقاط القوة لنجاح النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في الحجاز آنذاك أن الولادة للدين الإسلامي كانت في ظروف مؤاتية جداً ضن التوقيت الناجح لاستقبال الناس للدين الجديد فكانت الحالة الاجتماعية والنفسية والمادية قد بلغت حدّها من الضغط على المساكين مما أدى بالناس أن ييأسوا من حياتهم التافهة وطرقهم في الخلاص فدفعوا ضرائب العيش والعبودية إضافة لذلك أن الديانة السائدة وصلت إلى حد كبير أيضاً من الابتعاد عن القيم السماوية الأصيلة فقد حُرّفت الديانات قدراً كبيراً وابتعد الناس عن الروح الدينية الأصيلة ابتعاداً هائلاً فسادت السخرية وعمّت حالة الضياع والاستغلال للمناصب الدينية لغرض امتصاص قوت الأمة.. فببزوغ أشعة الشمس الإسلامية أُعيدة الثقة بالدين المصلح وأُزيلت الأقنعة المموهة بالتقديس والمستفيدة باستغلال الآخرين وبان ضعف العقائد المنحرفة مما جعل عملية التبليغ الإسلامي عملية لها مسوغاتها وأهميتها فتفاعلت الساحة الاجتماعية بالحدث الجليل ما بين مؤيد ومدافع أو رافض ومعاند أو ساكت ومتحير وشيئاً فشيئاً أخذت الأمور تجري للصالح الإسلامي.
(إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا). [سورة النصر: الآية 1 - 3].
4 - ظروف النبي (صلى الله عليه وآله) الشخصية المتوجة بالإمداد الغيبي:
من هذه النقاط الجديرة بالإشارة مسألة البيئة التي عايشها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والظروف الشخصية التي مرّ به الرسول (صلى الله عليه وآله) بها قبل البعثة وبعدها هذه الظروف المحيطة به كان يرى التأييد الغيبي الواضح مما ساعده أكثر على إنجاح مهمته التبليغية الشاقة فالنبي (صلى الله عليه وآله) ولد يتيم الأب أي مقطوع الحنان الأبوي فتكفله جده ثم عمه ودخل معترك الحياة يصارعها بدقة وشجاعة وهدوء وهو يشعر ما لليتيم من حاجة كبيرة للرعاية فنزلت عليه الآيات الكريمة لتذكره باليد الغيبية الداعمة له.
(ألم يجدك يتيماً فآوى، ووجدك ضالاً فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى، فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر). [سورة الضحى: الآيات 6 - 10].
ونريد أن نقول أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) تفاعل مع ظروفه النفسية والشخصية والبيئية فهو رجل المعاناة والصبر والاعتماد على الذات فحينما بُعث لقيادة الأمة كان قد استكمل دورته الحياتية بعد أن خبرها بشكلٍ جيد وعرف كيف يتعامل مع صعوبة العيش ومنغصات الدنيا وكيف ينظر إلى الترف فقال: (إن الترف يزيل النعم) هذه الخبرات العملية من الحياة بل تراكم التجارب الحياتية جعلته أصلب عوداً وأربط جأشاً في الصبر والإقدام ليقود المسلمين بخطوات ثابتة في الميدان التغييري في المجتمع والنفس وساحات القتال كذلك، فمن جهة يقرر الصبر على آل ياسر ومن جهة أخرى يأمر المسلمين بالهجرة والإعداد للأدوار المستقبلية وهو يهاجر أيضاً معهم ليفتح الأفاق ويسبق الزمن فيؤاخي عملياً وبسرعة بين المهاجرين والأنصار في المدينة المنورة ومن جعة أخرى يوزع مسؤوليات الجهاد في ساحات القتال فمسيرته متكاملة كلها خلق وسمو وتصميم وإرادة وعزم وشجاعة وإصرار على المبدأ. هذه الإيجابيات نشأت معه ضمن الظروف المحيطة به التي خدمته في المهمة الكبرى بالعناية الإلهية المشرفة على ظروف تكوينه (صلى الله عليه وآله) في صلب أبيه ورحم أمه وطفولته وحتى استلام الرسالة الإسلامية المباركة ليندفع نحو مسؤولياته المباركة في تطبيق القرآن على الأرض.
19 - قصص الأنبياء، الجزائري ص80. 20 - بحار الأنوار 15 ص206. 21 - سيرة ابن هشام ج1 القسم الأول ص83. 22 - طبقات ابن سعد ج1 القسم الأول ص 83 (نقلاً عن الدروس ص163). 23 - سيرة ابن هشام ج1 ص213.