عربي
Friday 8th of November 2024
0
نفر 0

عصمة يوسف (عليه السلام ) وقول الله (... وهمّ بها )

يوسف الصدّيق هو الا َُسوة  إنّ فيما ورد في سورة يوسف من الآيات، لاَجلى دليل على أنّه الاِنسان المثالي الذي لا يعدّ له مثال، كيف؟ وقد دلّت الآيات على أنّه سبحانه اجتباه من بداية حياته وصباه، وعلّمه من تأويل الاَحاديث، وأتمّ نعمته عليه، وقد قام القرآن بسرد قصته وأسماها بأحسن القصص، ففيها براهين واضحة على طهارته ونزاهته وعصمته من الذنوب، وصيانته من المعاصي، وتفانيه في مرضاة الله ، كيف؟ وقد ابتلاه الله سبحانه بلاءً حسناً، فوجده صابراً متمالكاً لنفسه عند الشهوات والمحرمات، وناجياً من الغمرات التي لا ينجو منها إلاّ من عصمه الله سبحانه، فقد ظهر بهذا البلاء باطنه، وتجلّت به حقيقته، وبان أنّه الاِنسان الذي حاق به الخوف من الله سبحانه، فطفق لا يغفل عنه طرفة عين ولا يبدل رضاه بشيء.

 كيف؟ ومن طالع القصة يقف على أنّ نجاة يوسف من مخالب الشهوة وخدعة امرأة العزيز لم تكن إلاّ أمراً خارقاً للعادة، ولولا عصمته لما كانت النجاة ممكنة، بل كانت أمراً أشبه بالروَيا منه باليقظة.

الهم :

وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الطباطبائي:

 فقد كان يوسف رجلاً، ومن غريزة الرجال الميل إلى النساء، وكان شاباً بالغاً أشده، وذاك أوان غليان الشهوة وفوران الشبق، وكان ذا جمال بديع يدهش العقول ويسلب الاَلباب، والجمال والملاحة يدعوان إلى الهوى؟ هذا من جانب، ومن جانب آخر كان مستغرقاً في النعمة وهنىء العيش، محبوراً بمثوى كريم، وذلك من أقوى أسباب التهوّس، وكانت الملكة فتاة فائقة الجمال كما هو الحال في حرم الملوك والعظماء، وكانت لا محالة متزيّنة لما يأخذ بمجامع كل قلب، وهي عزيزة مصر ـ ومع ذلك ـ عاشقة له والهة تتوق نفسها إليه، وكانت لها سوابق الاِكرام والاِحسان والاِنعام ليوسف وذلك كلّه مما يقطع اللسان ويصمت الاِنسان وقد تعرّضت له، ودعته إلى نفسها، والصبر مع التعرّض أصعب، وقد راودته هذه الفتّانة وأتت بما في مقدرتها من الغنج والدلال، وقد ألّـحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه، والصبر معه أصعب وأشق، وكانت عزيزة لا يرد أمرها ولا يثنى رأيها، وهي رتبة خصّها بها العزيز ، وكان في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائعة التي تبهر العيون وتدعو إلى كل عيش هنىء.

وكانا في خلوة، وقد غلّقت الاَبواب وأرخت الستور، وكان لا يأمن من الشر مع الامتناع، وكان في أمن من ظهور الاَمر وانتهاك الستر ، لاَنّـهـا كانت عزيزة، بيدها أسباب الستر والتعمية، ولم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كانت مفتاحاً لعيش هنيء طويل، وكان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة والمعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة وأمانيها كالملك والعزّة والمال.

 فهذه أسباب وأُمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدّته، أو أقبلت على صخرة صمّـاء لاَذابتها، ولم يكن هناك ممّا يتوهم مانعاً إلاّ الخوف من ظهورالاَمر، أو مناعة نسب يوسف، أو قبح الخيانة للعزيز، ولكن الكل غير صالح لمنع يوسف عن ارتكاب العمل.

 أمّا الخوف من ظهور الاَمر فقد مرّ أنّه كان في أَمن منه، ولو كان بدا من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تأوّله تأويلاً كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها، فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاءً، فلم يوَاخذها بشيء، وقلبت العقوبة على يوسف حتى سجن.

 وأمّا مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عمّـا هو أعظم من الزنا وأشد اثماً، فانّهم كانوا أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمثال يوسف  فلم تمنعهم شرافة النسب من أن يهمّوا بقتله ويلقوه في غيابت الجب ويبيعوه من السيّارة بيع العبيد، ويثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي، فبكى حتى ابيضّت عيناه.

 وأمّا قبح الخيانة وحرمتها فهو من القوانين الاجتماعية، والقوانين الاجتماعية إنّما توَثر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة وذلك إنّما يتم فيما إذا كان الاِنسان تحت سلطة القوّة المجرية والحكومة العادلة  وأمّا لو أغفلت القوّة المجرية، أو فسقت فأهملت، أو خفي الجرم عن نظرها، أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشيء من هذه القوانين.

 فلم يكن عند يوسف ما يدفع به عن نفسه ويظهر به على هذه الاَسباب القوية التي كانت لها عليه، إلاّ أصل التوحيد وهو الاِيمان بالله .

 وإن شئت قلت: المحبة الاِلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه، فلم تترك لغيرها محلاً ولا موضع أصبع.

غير انّ رفع الستر عن مرمى الآية يتوقف على البحث عن أُمور :

1- ما هو معنى "الهم" في قوله: (ولقد همّت به وهمّ بها ).

 2- ما هو جواب (لولا أن رأي برهان ربّه) وهذا هو العمدة في تفسير الآية.

3- ما هو معنى البرهان؟

4- دلالة الآية على عصمة يوسف، وإليك تفسيرها واحداً تلو الآخر.

1- ما معنى الهم؟

 لقد فسّـره ابن منظور في لسانه بقوله: همّ بالشىء يهم همّاً: نواه وأراده وعزم عليه، قال سبحانه: (وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا )

 روى أهل السير : أنّ طائفة من المنافقين عزموا على أن يغتالوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في العودة من تبوك، ولاَجل ذلك وقفوا على طريقه، فلمّا قربوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بتنحيتهم، وسمّـاهم رجلاً رجلاً.  

فإن قيل: فما تأويل قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام وامرأة العزيز (ولقد همت به وهم بها لولا أن رآى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين) (1).

 (الجواب): إن الهم في اللغة ينقسم إلى وجوه: منها العزم على الفعل كقوله تعالى: (إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم) (2) أي أرادوا ذلك وعزموا عليه.

 قال الشاعر:

تركت على عثمان تبكي حلائله      هممت ولم أفعل وكدت وليتني

ومثله قول الخنساء:

                                             وإن كل هم همه فهو فاعله               وفضل مرداسا على الناس حلمه

ومثله قول حاتم الطائي:

                                            ويمضي على الأيام والدهر مقدما             ولله صلعوك يساور همه

ومن وجوه الهم، خطور الشئ بالبال وإن لم يقع العزم عليه. قال الله تعالى: (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما) (3)  وإنما أراد تعالى أن الفشل خطر ببالهم، ولو كان الهم في هذا المكان عزما، لما كان الله تعالى ولا هما لأنه تعالى يقول: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) (4)

 وإرادة المعصية، والعزم عليها معصية. وقد تجاوز ذلك قوم حتى قالوا إن العزم على الكبيرة كبيرة وعلى الصغيرة صغيرة وعلى الكفر كفر. ولا يجوز أن يكون الله تعالى ولي من عزم على الفرار عن نصرة نبيه صلى الله عليه وآله وإسلامه إلى السوء، ومما يشهد أيضا بذلك قول كعب بن زهير:

ومن فاعل للخير إن هم أو عزم       فكم فيهم من سيد متوسع

ففرق كما ترى بين الهم والعزم. وظاهر التفرقة قد يقتضي اختلاف المعنى.

ومن وجوه الهم أن يستعمل بمعنى المقاربة، فيقولون هم بكذا وكذا أي كاد أن يفعله. قال ذو الرمة:

وقد هم دمعي أن يلج أوائله        أقول لمسعود بجرعاء مالك

والدمع لا يجوز عليه العزم، وإنما أراد أنه كاد وقرب.

وقال أبو الأسود الدؤلي:

لتفعل خيرا تقتفيها شمالكا            وكنت متى تهمم يمينك مرة

وعلى هذا خرج قوله تعالى جدارا يريد أن ينقض أي يكاد.

قال الحارثي:

ويرغب عن دماء بني عقيل         يريد الرمح صدر أبي براء

وجوه الهم:

1- ومن وجوه الهم الشهوة وميل الطباع، لأن الانسان قد يقول فيما يشتهيه ويميل طبعه إليه: ليس هذا من همي وهذا أهم الأشياء إلي. والتجوز باستعمال الهمة مكان الشهوة ظاهر في اللغة. وقد روي هذا التأويل عن الحسن البصري قال: أما همها فكان أخبث الهم، وأما همه (عليه السلام) فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء.

فإذا كانت وجوه هذه اللفظة مختلفة متسعة على ما ذكرناه نفينا عن نبي الله ما لا يليق به وهو العزم على القبيح، وأجزنا باقي الوجوه لأن كل واحد منها يليق بحاله.

2-  فإن قيل: فهل يسوغ حمل الهم في الآية على العزم والإرادة؟ ويكون مع ذلك لها وجه صحيح يليق بالنبي (عليه السلام)؟.

قلنا: نعم، متى حملنا الهم ههنا على العزم، جاز أن نعلقه بغير القبيح ويجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه، كما يقول القائل: قد كنت هممت بفلان أي بأن أوقع به ضربا أو مكروها.

تنزيه يوسف عن العزم على المعصية:

فإن قيل: فأي فائدة على هذا التأويل في قوله تعالى: (لولا أن رأى برهان ربه) والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها؟.

قلنا: يجوز أن يكون لما هم بدفعها وضربها، أراه الله تعالى برهانا على أنه إن أقدم على من هم به أهلكه أهلها وقتلوه، أو أنها تدعي عليه المراودة على القبيح، وتقذفه بأنه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه، فأخبر الله تعالى أنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل والمكروه، أو ظن القبيح به أو اعتقاده فيه.

ما هو جواب لولا ؟ لولا نوعان : الاولى أبتدائية . الثانية :شرطية .

 لا شك أنّ "لولا" في قوله سبحانه: (لولا أنْ رأي بُرهَانَ رَبّه )ابتدائية. فلا تدخل إلاّ على المبتدأ مثل "لوما" قال ابن مالك.

لولا ولوما يلزمان الابتداء * إذ امتناعاً بوجــود عقدا

ومما لا شك فيه أنّ "لولا" الابتدائية تحتاج إلى جواب، ويكون الجواب مذكوراً غالباً مثل قول القائل:

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية * لولا رجاوَك قد قتلت أولادي

 وقد تواترت الروايات عن الخليفة عمر بن الخطاب أنّه قال في مواضع خطيرة: "لولا على لهلك عمر" .

 وربّما يحذف جوابها لدلالة القرينة عليه أو انفهامه من السياق، كقوله سبحانه: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) ، أي ولولا فضل الله ورحمته عليكم لهلكتم، وربّما يحذف الجواب لدلالة الجملة المتقدمة عليه كقوله: "قد كنت هلكت لولا أن تداركتك" ،وقوله: "وقتلت لولا أنّي قد خلصتك"، والمعنى لولا تداركي لهلكت، ولولا تخليصي لقُتلت  ومثل لولا سائر الحروف الشرطية قال الشاعر:

 فلا يدعني قومي صريعاً لحـرة * لئن كنت مقتولاً ويسلم عامـر وقال الآخر:

 فلا يدعني قومي ليـوم كريهــة * لئن لم أعجل طعنة أو أعجــل  فحذف جواب الشرط في البيتين لاَجل الجملة المتقدمة.

وبالجملة: لا إشكال في أنّ جواب الحروف الشرطية عامة، وجواب "لولا" خاصة، يكون محذوفاً إمّا لفهمه من السياق أو لدلالة كلام متقدم عليه المقام مـن قبيل الثاني، فقوله سبحانه: (ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأي برهان ربّه) يوَوّل إلى جملتين: إحداهما مطلقة، والا َُخرى مشروطة.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أصول العقیدة الإسلامیة وأرکانها
لماذا اعرض الصحابة عن مدلول حديث الغدير
قلب المؤمن عرش الله
الثبات على المبدأ
الفتور المعنوي بعد المواسم العبادية
فضل التبليغ وأهدافه
الزهراء عليها السلام وعلاقتها بالتوحيد
عصمة الأنبياء (عليهم السلام) عند المذاهب ...
الخروج من القبر
التقية المحرمة والمکروهة عند الشيعة الإمامية

 
user comment