عربي
Monday 25th of November 2024
0
نفر 0

عصمة يوسف (عليه السلام ) وقول الله (... وهمّ بها )-2

أمّا المطلقة فهي قوله: (ولقد همّت به )، وهو يدل على تحقّق "الهم" من عزيزة مصر بلا تردد, أمّا المقيدة فهي قوله: (وهمّ بها لولا أن رأي برهان ربّه) وتقديره: "لولا أن رأي برهان ربّه لهمّ بها" فيدل على عدم تحقق الهم منه لما رأي برهان ربّه، وأمّا الجملة المتقدمة على "لولا" أعني قوله (وهم بها )فلا تدل على تحقق الهم، لاَنّها ليست جملة منفصلة عمّا بعدها، حتى تدل على تحقق الهمّ، وانّما هي قائمة مكان الجواب، فتكون مشروطة معلّقة مثله، فإن قيل: هذا الجواب يقضي لفظة (لولا) يتقدمها في ترتيب الكلام، ويكون التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهم بضربها، وتقدم جواب (لولا) قبيح، أو يقتضي أن يكون (لولا) بغير جواب.

قلنا: أما جواب (لولا) فجائز مستعمل، لأن العزم على الضرب والهم به قد وقع، إلا أنه انصرف عنه بالبرهان الذي رآه، ويكون تقدير الكلام وتلخيصه: " ولقد همت به وهم بدفعها لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك ". فالجواب المتعلق بلولا محذوف في الكلام كما يحذف الجواب في قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم)، معناها: ولولا فضل الله عليكم ورحمته، وأن الله رؤوف رحيم لهلكتم، ومثله (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم) (5) معناها لو تعلمون علم اليقين لم تتنافسوا في الدنيا ولم تحرصوا على حطامها.

 وقال امرؤ القيس:

ولكنها نفس تساقط أنفسا       فلو أنها نفس تموت سوية

أراد فلو أنها نفس تموت سوية لتقضت وفنيت، فحذف الجواب تعويلا على أن الكلام يقتضيه ويتعلق به.

على أن من حمل هذه الآية على الوجه الذي لا يليق بنبي الله، وأضاف العزم على المعصية إليه، لا بد له من تقدير جواب محذوف.

ويكون التقدير على تأويله: ولقد همت بالزنى وهم بمثله، لولا أن رأى برهان ربه لفعله.

فإن قيل: متى علقتم العزم في الآية والهم بالضرب أو الدفع كان ذلك مخالفا للظاهر.

قلنا: ليس الأمر على ما ظنه هذا السائل، لأن الهم في هذه الآية متعلق بما لا يصح أن يتعلق به العزم والإرادة على الحقيقة، لأنه تعالى قال:

(ولقد همت به وهم بها) فتعلق الهم في ظاهر الكلام بذواتهما والذات الموجودة الباقية لا يصح أن تراد ويعزم عليها، فلا بد من تقدير أمر محذوف يتعلق العزم به مما يرجع إليهما ويختصان به ورجوع الضرب والدفع إليهما كرجوع ركوب الفاحشة فلا ظاهر للكلام يقتضي خلاف ما ذكرناه، ألا ترى أن القائل إذا قال: قد هممت بفلان فظاهر الكلام يقتضي تعلق عزمه وهمه إلى أمر يرجع إلى فلان، وليس بعض الأفعال بذلك أولى من بعض، فقد يجوز أن يريد أنه هم بقصده أو بإكرامه أو بإهانته أو غير ذلك من ضروب الأفعال، على أنه لو كان للكلام ظاهر يقتضي خلاف ما ذكرناه، وإن كنا قد بينا أن الأمر بخلاف ذلك لجاز أن نعدل عنه ونحمله على خلاف الظاهر، للدليل العقلي الدال على تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن القبائح.

فإن قيل: الكلام في قوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها) خرج مخرجا واحدا. فلم جعلتم همها به متعلقا بالقبح؟ وهمه بها متعلقا بالضرب والدفع على ما ذكرتم؟

قلنا: أما الظاهر، فلا يدل الأمر الذي تعلق به الهم والعزم منهما جميعا وإنما أثبتنا همها به متعلقا بالقبيح لشهادة الكتاب، والآثار بذلك.

وهى ممن يجوز عليها فعل القبيح، ولم يؤمن دليل ذلك من جوازه عليها كما أمن ذلك فيه (عليه السلام)، والموضع إلى يشهد بذلك من الكتاب قوله تعالى:(وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين) (6) وقوله تعالى: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه) وقوله تعالى حاكياً عنها (الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) وفي موضع آخر: (قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم). (7)

 والآثار واردة بإطباق مفسري القرآن ومتأوليه، على أنها همت بالمعصية والفاحشة، وأما هو عليه السلام فقد تقدم من الأدلة العقلية ما يدل على أنه لا يجوز أن يفعل القبيح ولا يعزم عليه. فأما ما يدل من القرآن على أنه عليه السلام ما هم بالفاحشة ولا عزم عليها فمواضع كثيرة منها قوله تعالى:(كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) (8) وقوله تعالى (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) (9) ولو كان الأمر كما قال الجهال من جلوسه منها مجلس الخائن وانتهائه إلى حل السراويل وحوشي من ذلك، لم يكن السوء والفحشاء منصرفين عنه، ولكان خائنا بالغيب، وقوله تعالى حاكيا عنها:

(ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) (10) وفي موضع آخر: (أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) وقول العزيز لما رأى القميص قد من دبر (إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) (11) فنسب الكيد إلى المرأة دونه، وقوله تعالى حاكيا عن زوجها لما وقف على أن الذنب منها وبراءة يوسف (عليه السلام) منه: (يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) (12) وعلى مذهبهم الفاسد أن كل واحد منهما مخطئ فيجب أن يستغفر فلم اختصت بالاستغفار دونه، وقوله تعالى حاكيا عنه: (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن واكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم) (13) فالاستجابة تؤذن ببراءته من كل سوء، وتنبئ أنه لو فعل ما ذكروه لكان قد يصرف عنه كيدهن. وقوله تعالى: (قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء) (14) والعزم على المعصية من أكبر السوء، وقوله تعالى حاكيا عن الملك: (ائتوني به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين) (15) ولا يقال ذلك فيمن فعل ما أدعوه عليه. فإن قيل: فأي معنى لقول يوسف: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربى غفور رحيم) (16).

قلنا: إنما أراد الدعاء والمنازعة والشهوة ولم يرد العزم على المعصية وهو لا يبرئ نفسه مما لا تعرى منه طباع البشر. وفي ذلك جواب آخر اعتمده أبو علي الجبائي واختاره، وإن كان قد سبق إليه جماعة من أهل التأويل وذكروه، وهو أن هذا الكلام الذي هو " وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء " إنما هو من كلام المرأة لا من كلام يوسف عليه السلام.

واستشهدوا على صحة هذا التأويل بأنه منسوق على الكلام المحكي عن المرأة بلا شك. ألا ترى أنه تعالى قال: (قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق (17) أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) (18) فنسق الكلام على كلام المرأة وعلى هذا التأويل يكون التبرؤ من الخيانة الذي هو ذلك " ليعلم إني لم أخنه بالغيب " من كلام المرأة لا من كلام يوسف (عليه السلام) ويكون المكنى عنه في قولها (إني لم أخنه بالغيب) هو يوسف (عليه السلام) دون زوجها، لأن زوجها قد خانته في الحقيقة بالغيب، وإنما أرادت أني لم أخن يوسف (عليه السلام) وهو غائب في السجن، ولم أقل فيه لما سئلت عنه وعن قصتي معه إلا الحق، ومن جعل ذلك من كلام يوسف (عليه السلام) جعله محمولاً على إني لم أخن العزيز في زوجته بالغيب، وهذا الجواب كأنه أشبه بالظاهر، لأن الكلام معه لا ينقطع عن اتساقه وانتظامه.

فإن قيل: فأي معنى لسجنه إذا كان عند القوم متبرئا من المعصية متنزها عن الخيانة قلنا: قد قيل إن العلة في ذلك الستر على المرأة والتمويه والكتمان لأمرها حتى لا تفتضح وينكشف أمرها لكل أحد، والذي يشهد بذلك قوله تعالى: (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين)

وجواب آخر: في الآية على أن الهم فيها هو العزم، وهو أن يحمل الكلام على التقديم والتأخير، ويكون تلخيصه " ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها " ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لولا أن تداركتك، وقتلت لولا أني قد خلصتك. والمعنى لولا تداركي لهلكت ولولا تخليصي لقتلت، وإن لم يكن وقع في هلاك ولا قتل. قال الشاعر:

لئن كنت مقتولا ويسلم عامر        ولا يدعني قومي صريخا لحرة

وقال الآخر:

لئن لم اعجل طعنه أو اعجل     فلا يدعني قومي ليوم كريهة

فقدم جواب لئن في البيتين جميعا. وقد استبعد قوم تقديم جواب لولا عليها وقالوا لو جاز ذلك لجاز قولهم، قام زيد لولا عمرو، وقصدتك لولا بكر. وقد بينا بما أوردناه من الأمثلة والشواهد جواز تقديم جواب لولا، وأن القائل قد يقول قد كنت قمت لولا كذا وكذا، وقد كنت قصدتك لولا أن صدني فلان وإن لم يقع قيام ولا قصد. وهذا هو الذي يشبه الآية دون ما ذكروه من المثال.

وبعد، فإن في الكلام شرطا وهو قوله تعالى: (لولا أن رأى برهان ربه)، فكيف يحمل على الإطلاق مع حصول الشرط؟ فليس لهم أن يجعلوا جواب لولا محذوفا، لأن جعل جوابها موجودا أولى. وليس تقديم جواب لولا بأبعد من حذفه جملة من الكلام. وإذا جاز عندهم الحذف لئلا يلزم تقديم الجواب جاز لغيرهم تقديم الجواب حتى لئن لا يلزم الحذف.

فإن قيل: فما البرهان الذي رآه يوسف عليه السلام حتى انصرف لأجله عن المعصية، وهل يصح أن يكون البرهان ما روي من أن الله تعالى أراه صورة أبيه يعقوب (عليه السلام) عاضا على إصبعه متوعدا له على مقاربة المعصية، أو يكون ما روي من أن الملائكة نادته بالنهي والزجر في الحال فانزجر.

قلنا: ليس يجوز أن يكون البرهان الذي رآه فانزجر به عن المعصية ما ظنه العامة من الأمرين اللذين ذكرناهما، لأن ذلك يفضي إلى الالجاء وينافي التكليف ويضاد المحنة، ولو كان الأمر على ما ظنوه لما كان يوسف عليه السلام يستحق بتنزيهه عما دعته إليه المرأة من المعصية مدحا ولا ثوابا، وهذا من أقبح القول فيه (عليه السلام)، لأن الله تعالى قد مدحه بالامتناع عن المعصية وأثنى عليه بذلك فقال تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)، فأما البرهان، فيحتمل أن يكون لطفا لطف الله تعالى به في تلك الحال أو قبلها، فاختار عنده الامتناع من المعاصي والتنزه عنها، وهو الذي يقتضي كونه معصوما لأن العصمة هي ما اختير (ما اختار) عنده من الألطاف، التنزه عن القبح والامتناع من فعله. ويجوز أن يكون معنى الرؤية ههنا بمعنى العلم، كما يجوز أن يكون بمعنى الادراك، لأن كلا الوجهين يحتمله القول.

وذكر آخرون: إن البرهان ههنا إنما هو دلالة الله تعالى ليوسف (عليه السلام) على تحريم ذلك الفعل، وعلى أن من فعله استحق العقاب لأن ذلك أيضا صارف عن الفعل ومقو لدواعي الامتناع منه وهذا أيضا جايز.

 أضف إلى ذلك أنّ الهمين في الموردين بمعنى واحد، وبما أنّ هم العزيزة كان بنحو العزم والاِرادة، وجب حمل الهم في جانب يوسف عليه أيضاً لا علىس خطور الشيء بالبال، لاَنّه تفكيك بين اللفظين من حيث المعنى بلا قرينة، ولكن تحقّق أحد الهمين دون الآخر، لاَنّ هم يوسف كان مشروطاً بعدم روَية برهان ربّه، وبما أنّ العدم انقلب إلى الوجود، ورأي البرهان لم يتحقق هذا الهم من الاَساس، كما سيوافيك، نعم لا ننكر أنّ الهم قد يستعمل بالقرينة في مقابل العزم، قال كعب بن زهير:

 فكم فهموا من سيد متوسـع * ومن فاعل للخير ان همّ أو عزم ولكن التقابل بين الهم والعزم أوجب حمل الهم على الخطور بالبال، ولولاه لحمل على نفس العزم  كما ربّما يستعمل في معنى المقاربة فيقولون: همّ بكذا وكذا، أي كاد يفعله وعلى كل تقدير فالمعنى اللائح من الهم في الآية هو العزم والاِرادة.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

آراء الحكماء في المعاد الجسماني
المناظرة الحادية عشر/سماحة الشيخ مصطفى الطائي
أسباب النزول بين العموم والخصوص
الصفات الذاتية الثبوتية
المراد من الاثني عشر عند أهل السنة
التسليم
رجاء الله وخشيته
لماذا نحن بحاجة الي تكوين الذات المعلوماتية ؟
التجسيم عند ابن تيمية وأتباعه ق (8)
أعمــــال ماقبــل النـــوم

 
user comment