وسائر الإحساسات الثلاثة هي : حب الاستطاع والمعرفة ، وهذا الإحساس هو الذي حمل فكر البشر من أول يوم على التحقيق حول المسائل المجهولة ، ومعرفة عالم الوجود ومظاهره المتنوعة ، وفي ظل هذا التحقيق ظهرت الصناعات والعلوم ، إن الشدائد والأتعاب التي يتحملها مؤسسو العلوم والمحققون والكاشفون للكشف عن أسرار الطبيعية إنما تنشأ من هذا الإحساس .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإحساس الديني ( بالفارسية ) بترجمة مهندس بياني .
2 ـ الإِحساس بالإِحسان الذي هو مستند الفضائل والصفات الروحية السامية ، فكل إنسان يحس في عمق وجدانه وضميره جاذبية تجذبه إلى العدل وحب النوع والفداء ، إن هذا الإِحساس والجاذبية الأصلية تحدث نوعاً من الاتّجاه إلى السجايا الطاهرة والتبري والنفور والانزجار عن الأرجاس .
3 ـ الإِحساس بالجمال الذي هو سبب لتجلّي وظهور أنواع الفن والذوقيات ، وله أثر عميق في ظهور قسم عظيم من الحوادث الاجتماعية .
4 ـ الإِحساس الديني أو المفهوم المقدس للعبد الرابع ، وهذا الإِحساس هو نوع من الجاذبية إلى ماوراء الطبيعة ، وهو يضمن استقلال سائر المفاهيم الثلاثة وبكشف الإِحساس الديني انكسرت محاصرة الأبعاد الروحية في الثلاثة ، وثبت أن لجميع الاتجاهات الدينية جذوراً ذاتية ، ظهرت في أدوار كان أصحابها يعيشون في بطون الغابات وشعب الجبال .
لكسب المعرفة بمبدأ الوجود أساليب متعددة ، إن مفهوم « الله » إجابة صحيحة للحاجات العقلية وغير العقلية ( الفطرية ) ، فالعقل يتيقن بوجوده من طريق النظام والآيات يقيناً قاطعاً بيناً ، والفطرة ترتبط بالله عن طريق الحب والحاجات الفطرية ، حتى كأنك تقول : إنه يرى الله جهرة ! لا بالبصر بل بالبصيرة ، ولا حاجة في إدراك الله عن طريق القلب والحب إلى أي نوع من الاستدلال والبرهان .
إن العلم اليوم وإن كان يبحث عن التحقيق التجريبي للاستدلال ، إلاّ أن توحيد الله الذي يكون نتيجة مباشرة للبحث والاستدلال ، سواء كان بالدلائل العقلية والفلسفية أو العلوم التجريبية الحسية ، فهو توحيد استدلالي .
هناك علماء مثل (ديكارت) و(سن توما داكن) وصلوا إلى نتائج واضحة من معرفة مبدأ الوجود من نافذة العقل والبرهان والفكر العلمي وهناك
عرفاء مثل ( باسكال ) الفرنسي أدركوه عن طريق الشهود الباطني والفطرة ، وكان هو يقول : « للقلب دلائل للإِيمان بالله لا سبيل للعقل إلى تلك الدلائل »(1) .
وكان ( أنشتاين ) هكذا يفكر : « إن أجمل وأعمق الأحاسيس التي يمكن أن تعرض للإِنسان هو حسه العرفاني ، فهو الذي يبذر بذور جميع العلوم الواقعية في النفوس ، والذي لا يشعر بهذا الإِحساس ولا يستطيع أن يكون متحيراً مبهوتاً فهو كالميت »(2) .
و( شوبنهاور ) العالم الألماني يرى الاتجاه الديني في الإِنسان عميقاً جداً حتى أنه يجعله هو الفصل المنطقي المميز له عن سائر الحيوانات فيقول : « إن الإِنسان حيوان يعتقد بالميتافيزيقيا »(3) .
مع ما لحس حب الاستطاع والإِحسان والجمال من الأصالة والاستقلال والأثر في العلوم والأخلاق والفن ، فإن الحس الديني يهيّىء الأرضية لتحرك هذه الأحاسيس الثلاثة وفعاليتها ، ويساعدها في مجاريها ، وله الحظ الوافر في فتح أسرار عالم الطبيعة .
إن العالم في نظر المؤمن مصمم على أساس قوانين وأنظمة دقيقة ومحسوبة ، إن حس حب الاستطلاع ينحرك في ظل الإِيمان بالله المدبر الحكيم ، كي يبحث ويسعى في سبيل كشف قوانين وأسرار الطبيعة المبتنية على سلسلة من العلل والمعلولات .
( ويل ديورانت ) يقول : « كان ( هربرت اسبنسر ) يرى أن الكهنة هم العلماء الأول كما هم الأدباء الأول ، فهم الذين بدأوا العلم بالمشاهدات في المراصد الفلكية بهدف تعيين أيام الاحتفالات الدينية ، وكانت هذه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سير الحكمة في أوربا : ج 2 ص 18 . ( بالفارسية ) .
2 الإِحساس الديني : ص 72 ( بالفارسية ) .
3 ميتافيزيك فليسين شاله : ص 11 ( بالفارسية ) .
المعلومات تخزن وتحفظ في المعابد ، وتنتقل من جيل إلى جيل آخر بعنوان التراث الديني »(1) .
إن دور الحس الديني في تسامي الإِنسانية السامية وتعديل الغرائز وتنمية شجرة الفضائل والأخلاق لا يقبل الجدل ، والذين يخطون في المسير الديني يرون تعديل غرائزهم واتصافهم بالصفات الراقية من أهم الوظائف الدينية .
إن الفكر الديني كان من أهم العوامل في تربية حس حب الجمال على طول التأريخ ، إذ لم يخلق الإِنسان القديم أكبر آثاره الفنية إلا لتعظيم آلهته ، إن معابد الصين العجيبة ، وأهرام مصر العظيمة وأصنام المكسيك الجميلة والفن المعماري الجميل ، والمحيّر في الشرق الإِسلامي كلها من آثار الإِحساس الديني .
يعتقد علماء النفس ، أن هناك علاقة بين البلوغ وثورة الإِحساسات الدينية ، وأن في هذا العهد من حياة الإِنسان يظهر اتجاه خاص إلى المسائل الدينية ، حتى في الأفراد الذين لم يعيروا أي أهمية لها .
ويرى ( استانلي ) أن : ( حد ظهور هذه الإِحساسات هو سن السادسة عشرة للشباب ، يمكن أن نحسب هذا الأمر صورة من صور توسعة شخصية الشباب ، إن هذه الإِحساسات تأذن للشباب أن يجد العلة الغائية من وجوده في ذات الله سبحانه )(2) .
ولا شك أن نداء الفطرة إنما يتجلى فيما إذا لم يجعل أمامه مانع بسده ، فإن الدعايات والتبليغات المخالفة تقلل من فعالية الفطرة والفكرة الصحيحة ، وإن كانت نتيجة هذه المكافحات للفطرة لا تصل إلى حدّ أن تستأصل جذور الاتجاهات الطبيعية في الإِنسان ، ولهذا إذا كان هناك سدّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تاريخ ويل ديورانت : ج 1 ص 121 ( بالفارسية ) .
2 البلوغ : ص 118 ( بالفارسية ) .
مانع فإن كُسِرَ بدأت الطبيعة الأصيلة فعاليتها ونشاطها بمحاولاتها الذاتية الخلاّقة المتجلّية .
نحن نعلم أنه قد مر إلى الآن أكثر من نصف قرن على الثورة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي ، وعروق الدين بعد حية في أعماق طبقات واسعة من الناس في روسيا ، ولم يستطع القادة الزمنيون بكل ما كانت لهم من محاولات جادة في هذه المدة لمحو الدين والمذهب أن يفرغوا ضمائر الملايين من الإِحساس الديني .
وعلى هذا نقول : إن تواجد الأفكار المادية في العالم لا تضر بفطرية الاعتقاد بالله والمعاد ، ولا يمكن أن نحسب هذا الابتعاد والانفصال عن طريق الفطرة من مذهب خاص شاذ ، قبال هذه الأمم والمدارس الميتافيزيقية سواء اليوم أو الأدوار السابقة نقضاً لفطرية معرفة الله ، إذ ما من عام إلا وقد خصّ ، وفي كل شيء استثناء .
ويستفاد من التأريخ أن المذاهب المادي الفلسفي أسّس في القرن السادس والسابع قبل الميلاد ، وحماة المذهب المادي في ذلك العهد كانوا على الترتيب عبارة عن :
( طاليس ) من فلاسفة اليونان ، المولود عام 622 والمتوفى في 560 او 567 ق . م .
و( هراكليت ) : 535 ـ 475 ق . م .
و( دموكريت ) : 540 ق . م .
و( أبيكور ) : 346 ق . م .
وليست نسبة المادية إلى هؤلاء قطعية ، إذ كتب بعض العلماء مثل ( بانكون ) في كتابه : ( تأريخ الفلسفة ) بشأن ( طاليس ) يقول : « كان يرى أن التغيرات المادية إنما تتكون تحت تأثير من العوامل غير المادية » ، وكتب
بشأن « دموكريت » يقول : « دموكريت لم يكن مادياً ، بل كان يعتقد بوجود الأرواح » .
وبدأ المذهب المادي في القرن الثامن عشر ، بالتقدم بين العلماء التجريبيين ، وإن اختلف في بعضهم : هل هو مادي أو لا ؟ ، فمثلاً عد بعض المؤرخين ( جان جاك روسو ) من حماة المذهب المادي بينما يراه آخرون إليها ، ويمكن أن يكون نسب إلى المادّية لمخالفاته للكنيسة وأربابها .
نقل الدكتور ( فريد وجدي ) صاحب كتاب ( دائرة المعارف ) عن ( روسو ) أنه كان يقون بشأن مبدأ الوجود : « كلما أمعن النظر وأتأمل الحوادث التي تتجدد على أيديى قوى الطبيعة ، وما يتلوها من ردود فعل طبيعية وتأثير بعضها في الآخر ، يثبت عندي من طريق الانتقال من نتيجة إلى أخرى ، أنه لا بدّ في السبب الأول من الإِرادة والإِدراك والشعور ، وعلى هذا فإني أعتقد أن إرادته « الله » هي التي حركت الوجود وأحيت الأموات ، ولكن قل لي : أين هو ؟ وأقول : إنه موجود في السماوات التي يحرّكها والنجوم التي يضيئها ، وليس هو فيَّ أيضاً فحسب بل هو موجود حتى في ذلك الغنم الذي يرعى والطير والحجر الذي يسقط والورقة الخضراء التي يرقصها الهواء وفي كل مكان ، وعلى هذا فكم بعيدة عن العقل تلك النظريات التي تظن : أن هذا النظام نتيجة حركة عمياء وجدت في المادة صدفة ! ليقولوا ما شاؤوا ! ولكني أرى نظاماً مستمراً ، على الموجودات ولا أدرك الحكمة المودعة في هذا النظام : أنا لست ممن يستطيع أن يعتقد أن المادة العمياء ، تنتج موجودات أحياء ، وأن الضرورة العمياء تخلق كائنات شاعرة ، وأن فاقد العقل يخلق موجودات عاقلة حكيمة » ؟ ! .