أصل العلية
إن أصل العلية قانون عام شامل ، وهو أساس لجميع المساعي العلمية أو العادية للبشرية ، إن مساعي العلماء للكشف عن علة أية حادثة طبيعية أو اجتماعية ، إنما هي لعدم قبولهم أن تتحقق ظاهرة طبيعية ، أو اجتماعية بدون تدخل العلل والعوامل .
إن تحقيقات العلماء والمتفكرين في العالم اليوم قد أقدرتهم على المعرفة الأكثر بالنظام القوي الحاكم على الطبيعة ، وإنهم كلما تقدّموا في طريق العلوم والصناعات أكثر فأكثر التزموا بهذا الأصل أكثر فأكثر ، إن علاقة العلية وعدم وجود ظاهرة أو حادثة بدون علة من أقوى الدلائل العقلية وأوضح الأفكار البشرية ضرورة ، والحاجة إلى العلة أمر فطري طبيعي لها أفعالها وردود أفعالها في أفكارنا بصورة أتوماتيكية عفوية .
إن الإنسان غير المتحضر أيضاً كان يحاول كشف علل الحوادث والظواهر ، إلاّ أنه لحرمانه من القدرة العلمية كان يفسر المسائل بالاستناد إلى الأرواح غير الطاهرة أو الطاهرة ، وإن الفلاسفة إنما أخذوا مفهوم العلية من ضمير الإنسانية وصاغوا لها المفاهيم الفلسفية .
نحن المحصورين بين جدران المادة لم نصادف في حياتنا الوقوف على صدفة كما يقولون ، بل لم يتفق لأحد في طول تأريخ العالم أن يقف
على صدفة لا علة لها كي يتشبث بها القائلون بالصدفة في خلقة الكائنات .
إن الدقة والحساب والمقايسة نتيجة للفكر والإرادة والقدرة في الفاعل الذي يطرح عمله على أساس برنامج وهدف خاص ، أما ما يحدث على يد عامل غير عاقل فترى الهرج والمرج واللانظامية تقطر من كل زاوية من زواياه ، فما هي هذه الصدفة التي تقود الحياة من مظلع فجرها حتى الآن بهذه الكيفية العجيبة من حيث الدقة والنظام ؟ ! فهل أن هذا النظام وليد الصدفة والاتفاق العفوي ؟ !
من رأى ومن ادّعى حدوث ظاهرة بدون سبب وعلة في أيّ من العلوم المادية والإنسانية ؟ ، إنّ استدامة سلسلة العلل والمعاليل حتى اللانهائية والقصور عن معرفة العلة الأولى لا يبرر إنكار العلة والوقوف على المدرجة الأولى من العلل بعنوان أنها هي النهاية ، إن العالم إن لم يكن وليد حكمة عميقة بليغة وإرادة عالمة وتدبير هندسي منظم يحفظه عن كل تحريفة وطغيان عن نظم الطبيعة وقوانينها الحاكمة عليه ، لكان معرضاً لخطر الانهدام في كل لحظة ، إذ لو وجدت ظاهرة على أساس الصدفة والاتفاق الأعمى في إحدى مراحل الحياة المنظمة لكان وجود هذه الصدفة عاملاً مساعداً على فناء العالم ، حيث إن أصغر خلل في النظام وتوازن عناصره وأبسط اختلال في قوانين العالم كان كافياً لاصطدام الأجرام السماوية وتفجرها وبالتالي انعدام العالم .
لو كانت خلقة العالم على أساس الصدفة فلماذا نرى الماديين يفسرون وجوده على أساس نظام مدروس ومدبر لا مجال للصدفة فيه ؟ !
لو كان العالم كله وليد الصدفة فكيف يكون ذلك الشيء الذي يوجد من غير صدفة ؟ وما هي مميزات وخصائص الموجود من غير سبيل الصدفة كي نلاحظ تطبيق التعريف فنرى هل هو ينطبق على مختلف الظواهر المتنوعة في هذا العالم ؟ !
بينما لا تجد في نظام الوجود موجوداً على أساس الصدفة والإهمال والتحولات الاتفاقية ، بل ليس في مصنع الخلقة ظاهرة لا ترى فيها آثار الفكر والتدبير والدقة ، وإن خصائص الآثار هي التي تدلنا على خصائص المؤثر .
لو كانت الصدفة تولد النظام والتوازن للزم أن يكون ما وجد بهندسة ومحاسبات غير منسجم ولا متوازن ، إذ أن الهندسة لنظام العالم لا يقوم على أي برهان منطقي أو دليل علمي ، ولا يمكن أن تفترضها كطريق حل مقبول لنظام الوجود .
إن استعمال كلمة الصدفة في بعض المسائل إنما هو عن عدم معرفة دقيقة بمعناها لا مع التوجه إلى ذلك ، وإنما يستمسك بها أصحابها ما لم يتوصلوا إلى معرفة بالقوانين الحاكمة على الظواهر والحوادث ، وحينما تكتشف العلة الحقيقية للحوادث المعقدة ، أو يكتشف القانون الحاكم على ظاهرة خاصة في ظل التحقيقات العلمية المستمرة أودعت هذه الكلمة إلى ملف الكلمات المتروكة ، وعلى هذا نقول : إن التعبير بالصدفة ليس حكماً علمياً نهائياً ، ولا يبقى له مجال بعد المعرفة العلمية واكتشاف رموز نظام العالم .
يقول ( فرانس بيكن ) إحدى شخصيات النهضة العلمية الأروبية : « يمكنني أن أؤمن بجميع الأساطير ، ولا يمكنني قبول أن يكون هذا العالم موجوداً بلا علم ولا شعور حاكم على خلقه ، نعم يمكن لفلسفة سطحية غير عميقة أن تسبب إلحاد الإنسان ، بينما الفلسفة العميقة توجب الإيمان بالأديان ، أجل إذا نظر الناظر إلى العلة القريبة للأشياء ولم يتجاوزها أمكن أن لا يعتقد بوجود الخالق ، ولكنه لو نظر إلى جميع سلسلة المعلومات لامن في النهاية بالمشيئة الأزلية للإله الواحد »(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تاريخ فلسفة ( ويل دورانت ) ص 163 ج 1 : بالفارسية .
ويناسب هنا أن نستمع إلى حوار بين « نيوتن » الرياضي والمنجم الإنكليزي المعروف مع أحد أصدقائه الماديين .
أوصى ( نيوتن ) إلى رجل ميكانيكي ماهر فنان أن يصنع له صورة مصغرة عن المنظومة الشمسية ، فصنع له ما أراد ، وكانت هذه الصورة ( الماكيت ) ذات مركز وسيارات حولها ترتبط بعضها ببعض بأسلاك ، وهي تدور بأسلاكها في مدارات خاصة حول ذلك المحور في مركز الدائرة .
ذات يوم كان ( نيوتن ) في مكتبه ، ومعه صديقه الميكانيكي صانع الصورة الفلكية ، إذ دخل عليه صديقه العالم الماديّ ، وما إن وقع بصره على الصورة الفلكية ( الماكيت ) للمنظومة الشمسية حتى بهر بجمالها وظرافتها ، ولما حّك محرّك أسلاكها رأى أن السيارات المعدنية أخذت تتحرك حول محورها على الأسلاك ، صاح : شيء جميل ! من صنع هذا ؟ ، أجاب ( نيوتن ) : لا أحد ! إنما وجدت بالصدفة والاتفاق هكذا !
قال العالم الماديّ لعلك لم تفهم ما أقول ، أن سألتك : أيّ الميكانيكي صنع هذا ( الماكيت ) ومن صمم له هندستها ؟
قال ( نيوتن ) : لقد التفت إلى سؤالك وكان كلامي جواباً لسؤالك حينما قلت لك : لا أحد ، وإنما وجدت بالصدفة وحدها أي أن موادها تجمعت وتشكلت بهذا الشكل بصورة اتفاقية عفوية .
قال العالم المادي ـ وهو ينظر إلى ( نيوتن ) بحيرة ومرارة ـ : صديقي ( نيوتن ) ! هل تتصور أني أحمق أنسب صنع هذا الماكيت إلى الصدفة ، وصانعها لابدّ أن يكون أستاذاً ماهراً ذا ذوق ونبوغ ؟ .
حينئذ قام ( نيوتن ) من خلف منضدته ، وأغلق الكتاب ووضع يده على كتف صديقه المادي وقال : صديقي ! إن ما تراه وتسأل عن صانعه ليس إلاّ ماكيتاً صغيراً عن نظام واقعي عظيم للمنظومة الشمسية ، ومع ذلك لا تقبل أن يكون قد صنع لوحده وبالصدفة ، من دون أن يكون له صانع عالم
مستهدف ، إذن فلماذا تصرّ على عدم وجود خالق عالم لنفس المنظومة الشمسية بما لها من عظمة وسعة وتعقيدات ، وتقول : إن الصدفة أو المادة غير الشاعرة هي التي صنتعها ؟ !
فخجل العالم الماديّ ، وسكت لا يحير جواباً أمام منطق ( نيوتن ) القويّ والصريح .
وهكذا لام ( نيوتن ) صديقه العجول الذي كان يعاند ويكابر وينكر الخالق ويجانب الحقيقة .
الأصالة في الحياة
يقول العلم اليوم : إن الحياة هي التي توجد الحياة ، وأن حياة الأحياء إنما تبقى وتستمر عن طريق التناسل والتوليد ، ولم ير لحد الآن أيّ خلية حية تولد من مادة غير حية ، حتى في الأحياء ذات الحياة الدنيئة كالزعانف والسلاحف والفطائر ، فما لم يكن مولدها متمتعاً هو بالحياة في محيط حيّ لا يمكن أن تولد حية وتنمو .
يقول العلم : قد مرّ على الكرة الأرضية زمان طويل لم يمكن الحياة عليها لحرارتها العالية ، وحينئذ لم يكن على وجه الأرض خضرة ولا أنهار ولا عيون ، بل كان فضاؤها مليئاً بالمعدنيات المذابة والبراكين المتفجرة ، وبعد أن برد ظهرها ، لم يكن يوجد عليها موجودات غير آلية حتى آلاف السنين ، وخلاصة القول : إنه لم يكن هناك أيّ أثر للحياة بين التحولات التي كانت تطرأ على سطح الأرض آنذاك ، إذن فكيف وجدت الحياة عليها ؟
لا شك أن الحياة إنما وجدت على هذه الكرة بعد مدة من ظهورها أكثر من ثلاث ميليارات من السنين ! أما كيف كان ذلك فهذا أمر مجهول لدى العلم .
مرت قرون والعلماء المحققون يسعون وراء كشف سر الحياة هذه الظاهرة الغريبة في المختبرات العلمية ، ولكنهم لم يقتربوا حتى الآن من
اكتشاف هذا اللغز العجيب !
كتب ( بروتو بور كل ) العالم والمحقق الالماني في كتابه : ( العوالم البعيدة ) يقول : « الحياة ! أي كلمة ساحرة ! هل وجدت الحياة من العدم ؟ ! هل يمكن أن توجد الآليات من غيرها ؟ ! أم أن هنا يداً خالقة قادرة مطلقة ؟ قد يقال : لعل الحياة جاءت من الكرات الفلكية الأخرى إلى سيارتنا هذه ؟ إذ أن الميكروبات النباتية الحية التي تسبح في جوّ إحدى الكرات الفلكية ترتفع إلى حدّ كبير ، يمكن لأشعة الشمس أن تدفعها إلى فضاء كرات أخرى تصل إلى سطح تلك الكرة فتنمو وتتطور هناك .
ومع هذه الفرضية لم يتقدّموا في سبيل حلّ اللغز الكبير ، حتى بمقدار رأس إبرة ! إذ حتى في هذه الصورة تبقى كيفية ظهور الحياة ـ سواء في إحدى الكواكب التابعة للمنظومة الشمسية ، أو التابعة للشعرى اليمانية ـ مجهولة غير واضحة .
وكما أنه لا تتكون الساعة من تكديس اللوالب والنوابض كذلك هنا ما لم نجد القلب المحرّك ونداء : كن حياً ، فلا نجد الحياة » ! .
نحن نعلم أن المادة في ذاتها فاقدة للحياة ، وأن ليس لأيّ عنصر ماديّ لوحدة خصوصية الحياة ، إذن فلا يمكن أن نفترض الحياة نتيجة تركيب منسجم لذرات متشكلة من المادة ، حيث نجد أمامنا هذا السؤال الملح : لماذا لا تتكرر ولا تكثر المادة الحية إلاّ عن طريق التناسل والتوليد ؟ ، إن التفاعلات الكيمياوية مستمرة في الأجسام غير الحية ولا نجد فيها أيّ أثر للحياة ، وأما القول بأن المادة تميل إلى التركيب ، وأن الحياة نبعث فيها في تطوراتها المتكاملة ، فإنما هو وصف لمظاهر الظواهر الحية التي نحسها ، وليس بياناً لكيفية وجود الحياة ومعرفة سببها .
إن أجزاء المادة لم تكن تختلف فيما بينها بالأصالة ، فلماذا تركب بعضها مع بعض وتأخر كثير منها ، فتمتع بالتالي بعضها بالحياة وحرم البعض
الآخر ؟ من أين نشاهد الاختلاف وما هي علة هذا الاختلاف في الحياة بين موادها ؟ .
إنما الشيء الذي يحصل من تركيب عنصرين أن عناصر متعددة ، هو أن يهب العنصر ما فيه من خصائص للعنصر الآخر المتركب معه ، ولكنه كيف يهب ما لا يملك ؟ أجل إن العناصر تجد بفضل التركيب خاصة عامة غير خارجة عن إطار خواص آحادها ، إلاّ أنّ الحياة بما لها من خصائص منفردة لا شبه بينها وبين خواص المادة ، إذ للحياة تجليات ليست للمادة ، وهي تتحكم في المادة من كثير من النواحي ، وإن كانت هي تتبع المادة في الهيكل . ما أن تسطع أشعة الحياة على المادة حتى تتجلى فيها الحركة والإرادة والإدراك والمعرفة .
إذن فتفسير الحياة بردود فعل كيماوية غير وجيه ، يقول أحد العلماء : « ليست الحياة نظاماً جامداً لا روح فيه كالمعمل ، بل هي نظام فيه قدرة التجديد والتكرار لنفسه وكذلك التفوق والتسلّط ـ إن صحّ التعبير ـ على نفسه ، ومعه مرشد وهاد طبيعي فطريّ يهديه من الداخل والضمير ، فطرة مكدسة مكنوزة في نسيجه تتكفل بتجديد ما تحلل وتلف » .
ما هو هذا العامل الذي يصنع الخلايا أنواعاً مختلفة ومع برامج متنوعة تأخذ مكانها في جسم منظم ، يحضر الخلية الجنسية التي تنقل مميزات وخصائص الآباء إلى الأبناء بلا استثناء ، وبدون قصور أو خطأ في أداء المهمام والوظائف والتكاليف والمسؤوليات ؟
نحن نرى أن للخلايا الحية خصائص في تركيبها ، فمن خصائصها ترميم الخسائر وتجديد ما يتلف واستعداد التنوع ، وحفظ النوعيات ، فكل خلية في جسد الإنسان تعمل في الزمن الذي ينبغي أن تعمل فيه بصورة متناسبة ، وأما توزيع العمل والوظائف فأمر محير ، تنقسم بمقدار الحاجة إلى تكوين الأجسام ، وتذهب كل خلية إلى مكانها من المخّ ، والرئة والكبد والقلب والكلى ، ولا يرى أيّ قصور في وظائف الخلايا الجاثية المنتظمة في
مواضعها ، فهي تدفع المواد الزائدة غير المفيدة وتحفظ الحجم المناسب لكل شيء .
إن نسبة هذا التقسيم العجيب ـ الذي يوجد لتناسب وتتوازن الأجزاء اللازمة في أجسام الموجودات ـ إلى العوامل الميكانيكية غير المدركة ، تفسير قاصد جداً ، وأيّ إنسان حرّ التفكير يقبل هذا المنطق ؟ ! .
ولهذا نحن نقول : إن الحياة نور يشعّ على المواد المستعدة لقبولها من أفق أعلى من المادة ، فيجعلها تتحرك وتفكر ، إن هذه هي إرادة الرب القدير وقدرته وحكمته الجامعة البالغة التي تفيض بمعجزة الحياة بجميع خصائصها على المادة غير ذات الروح ، وإن الإنسان يرى بين هذه المواد المتحركة جوهرة الحياة السيالة كحقيقة شاعرة ، ويشاهد بها الله في خالقيه مستمرة وإيجاد وتطوير دائم .