عربي
Saturday 2nd of November 2024
0
نفر 0

أصل العلية

أصل العلية

إن أصل العلية قانون عام شامل ، وهو أساس لجميع المساعي العلمية أو العادية للبشرية ، إن مساعي العلماء للكشف عن علة أية حادثة طبيعية أو اجتماعية ، إنما هي لعدم قبولهم أن تتحقق ظاهرة طبيعية ، أو اجتماعية بدون تدخل العلل والعوامل .

إن تحقيقات العلماء والمتفكرين في العالم اليوم قد أقدرتهم على المعرفة الأكثر بالنظام القوي الحاكم على الطبيعة ، وإنهم كلما تقدّموا في طريق العلوم والصناعات أكثر فأكثر التزموا بهذا الأصل أكثر فأكثر ، إن علاقة العلية وعدم وجود ظاهرة أو حادثة بدون علة من أقوى الدلائل العقلية وأوضح الأفكار البشرية ضرورة ، والحاجة إلى العلة أمر فطري طبيعي لها أفعالها وردود أفعالها في أفكارنا بصورة أتوماتيكية عفوية .

إن الإنسان غير المتحضر أيضاً كان يحاول كشف علل الحوادث والظواهر ، إلاّ أنه لحرمانه من القدرة العلمية كان يفسر المسائل بالاستناد إلى الأرواح غير الطاهرة أو الطاهرة ، وإن الفلاسفة إنما أخذوا مفهوم العلية من ضمير الإنسانية وصاغوا لها المفاهيم الفلسفية .

نحن المحصورين بين جدران المادة لم نصادف في حياتنا الوقوف على صدفة كما يقولون ، بل لم يتفق لأحد في طول تأريخ العالم أن يقف

على صدفة لا علة لها كي يتشبث بها القائلون بالصدفة في خلقة الكائنات .

إن الدقة والحساب والمقايسة نتيجة للفكر والإرادة والقدرة في الفاعل الذي يطرح عمله على أساس برنامج وهدف خاص ، أما ما يحدث على يد عامل غير عاقل فترى الهرج والمرج واللانظامية تقطر من كل زاوية من زواياه ، فما هي هذه الصدفة التي تقود الحياة من مظلع فجرها حتى الآن بهذه الكيفية العجيبة من حيث الدقة والنظام ؟ ! فهل أن هذا النظام وليد الصدفة والاتفاق العفوي ؟ !

من رأى ومن ادّعى حدوث ظاهرة بدون سبب وعلة في أيّ من العلوم المادية والإنسانية ؟ ، إنّ استدامة سلسلة العلل والمعاليل حتى اللانهائية والقصور عن معرفة العلة الأولى لا يبرر إنكار العلة والوقوف على المدرجة الأولى من العلل بعنوان أنها هي النهاية ، إن العالم إن لم يكن وليد حكمة عميقة بليغة وإرادة عالمة وتدبير هندسي منظم يحفظه عن كل تحريفة وطغيان عن نظم الطبيعة وقوانينها الحاكمة عليه ، لكان معرضاً لخطر الانهدام في كل لحظة ، إذ لو وجدت ظاهرة على أساس الصدفة والاتفاق الأعمى في إحدى مراحل الحياة المنظمة لكان وجود هذه الصدفة عاملاً مساعداً على فناء العالم ، حيث إن أصغر خلل في النظام وتوازن عناصره وأبسط اختلال في قوانين العالم كان كافياً لاصطدام الأجرام السماوية وتفجرها وبالتالي انعدام العالم .

لو كانت خلقة العالم على أساس الصدفة فلماذا نرى الماديين يفسرون وجوده على أساس نظام مدروس ومدبر لا مجال للصدفة فيه ؟ !

لو كان العالم كله وليد الصدفة فكيف يكون ذلك الشيء الذي يوجد من غير صدفة ؟ وما هي مميزات وخصائص الموجود من غير سبيل الصدفة كي نلاحظ تطبيق التعريف فنرى هل هو ينطبق على مختلف الظواهر المتنوعة في هذا العالم ؟ !

بينما لا تجد في نظام الوجود موجوداً على أساس الصدفة والإهمال والتحولات الاتفاقية ، بل ليس في مصنع الخلقة ظاهرة لا ترى فيها آثار الفكر والتدبير والدقة ، وإن خصائص الآثار هي التي تدلنا على خصائص المؤثر .

لو كانت الصدفة تولد النظام والتوازن للزم أن يكون ما وجد بهندسة ومحاسبات غير منسجم ولا متوازن ، إذ أن الهندسة لنظام العالم لا يقوم على أي برهان منطقي أو دليل علمي ، ولا يمكن أن تفترضها كطريق حل مقبول لنظام الوجود .

إن استعمال كلمة الصدفة في بعض المسائل إنما هو عن عدم معرفة دقيقة بمعناها لا مع التوجه إلى ذلك ، وإنما يستمسك بها أصحابها ما لم يتوصلوا إلى معرفة بالقوانين الحاكمة على الظواهر والحوادث ، وحينما تكتشف العلة الحقيقية للحوادث المعقدة ، أو يكتشف القانون الحاكم على ظاهرة خاصة في ظل التحقيقات العلمية المستمرة أودعت هذه الكلمة إلى ملف الكلمات المتروكة ، وعلى هذا نقول : إن التعبير بالصدفة ليس حكماً علمياً نهائياً ، ولا يبقى له مجال بعد المعرفة العلمية واكتشاف رموز نظام العالم .

يقول ( فرانس بيكن ) إحدى شخصيات النهضة العلمية الأروبية : « يمكنني أن أؤمن بجميع الأساطير ، ولا يمكنني قبول أن يكون هذا العالم موجوداً بلا علم ولا شعور حاكم على خلقه ، نعم يمكن لفلسفة سطحية غير عميقة أن تسبب إلحاد الإنسان ، بينما الفلسفة العميقة توجب الإيمان بالأديان ، أجل إذا نظر الناظر إلى العلة القريبة للأشياء ولم يتجاوزها أمكن أن لا يعتقد بوجود الخالق ، ولكنه لو نظر إلى جميع سلسلة المعلومات لامن في النهاية بالمشيئة الأزلية للإله الواحد »(1) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 تاريخ فلسفة ( ويل دورانت ) ص 163 ج 1 : بالفارسية .

 

ويناسب هنا أن نستمع إلى حوار بين « نيوتن » الرياضي والمنجم الإنكليزي المعروف مع أحد أصدقائه الماديين .

أوصى ( نيوتن ) إلى رجل ميكانيكي ماهر فنان أن يصنع له صورة مصغرة عن المنظومة الشمسية ، فصنع له ما أراد ، وكانت هذه الصورة ( الماكيت ) ذات مركز وسيارات حولها ترتبط بعضها ببعض بأسلاك ، وهي تدور بأسلاكها في مدارات خاصة حول ذلك المحور في مركز الدائرة .

ذات يوم كان ( نيوتن ) في مكتبه ، ومعه صديقه الميكانيكي صانع الصورة الفلكية ، إذ دخل عليه صديقه العالم الماديّ ، وما إن وقع بصره على الصورة الفلكية ( الماكيت ) للمنظومة الشمسية حتى بهر بجمالها وظرافتها ، ولما حّك محرّك أسلاكها رأى أن السيارات المعدنية أخذت تتحرك حول محورها على الأسلاك ، صاح : شيء جميل ! من صنع هذا ؟ ، أجاب ( نيوتن ) : لا أحد ! إنما وجدت بالصدفة والاتفاق هكذا !

قال العالم الماديّ لعلك لم تفهم ما أقول ، أن سألتك : أيّ الميكانيكي صنع هذا ( الماكيت ) ومن صمم له هندستها ؟

قال ( نيوتن ) : لقد التفت إلى سؤالك وكان كلامي جواباً لسؤالك حينما قلت لك : لا أحد ، وإنما وجدت بالصدفة وحدها أي أن موادها تجمعت وتشكلت بهذا الشكل بصورة اتفاقية عفوية .

قال العالم المادي ـ وهو ينظر إلى ( نيوتن ) بحيرة ومرارة ـ : صديقي ( نيوتن ) ! هل تتصور أني أحمق أنسب صنع هذا الماكيت إلى الصدفة ، وصانعها لابدّ أن يكون أستاذاً ماهراً ذا ذوق ونبوغ ؟ .

حينئذ قام ( نيوتن ) من خلف منضدته ، وأغلق الكتاب ووضع يده على كتف صديقه المادي وقال : صديقي ! إن ما تراه وتسأل عن صانعه ليس إلاّ ماكيتاً صغيراً عن نظام واقعي عظيم للمنظومة الشمسية ، ومع ذلك لا تقبل أن يكون قد صنع لوحده وبالصدفة ، من دون أن يكون له صانع عالم

مستهدف ، إذن فلماذا تصرّ على عدم وجود خالق عالم لنفس المنظومة الشمسية بما لها من عظمة وسعة وتعقيدات ، وتقول : إن الصدفة أو المادة غير الشاعرة هي التي صنتعها ؟ !

فخجل العالم الماديّ ، وسكت لا يحير جواباً أمام منطق ( نيوتن ) القويّ والصريح .

وهكذا لام ( نيوتن ) صديقه العجول الذي كان يعاند ويكابر وينكر الخالق ويجانب الحقيقة .

الأصالة في الحياة

يقول العلم اليوم : إن الحياة هي التي توجد الحياة ، وأن حياة الأحياء إنما تبقى وتستمر عن طريق التناسل والتوليد ، ولم ير لحد الآن أيّ خلية حية تولد من مادة غير حية ، حتى في الأحياء ذات الحياة الدنيئة كالزعانف والسلاحف والفطائر ، فما لم يكن مولدها متمتعاً هو بالحياة في محيط حيّ لا يمكن أن تولد حية وتنمو .

يقول العلم : قد مرّ على الكرة الأرضية زمان طويل لم يمكن الحياة عليها لحرارتها العالية ، وحينئذ لم يكن على وجه الأرض خضرة ولا أنهار ولا عيون ، بل كان فضاؤها مليئاً بالمعدنيات المذابة والبراكين المتفجرة ، وبعد أن برد ظهرها ، لم يكن يوجد عليها موجودات غير آلية حتى آلاف السنين ، وخلاصة القول : إنه لم يكن هناك أيّ أثر للحياة بين التحولات التي كانت تطرأ على سطح الأرض آنذاك ، إذن فكيف وجدت الحياة عليها ؟

لا شك أن الحياة إنما وجدت على هذه الكرة بعد مدة من ظهورها أكثر من ثلاث ميليارات من السنين ! أما كيف كان ذلك فهذا أمر مجهول لدى العلم .

مرت قرون والعلماء المحققون يسعون وراء كشف سر الحياة هذه الظاهرة الغريبة في المختبرات العلمية ، ولكنهم لم يقتربوا حتى الآن من

اكتشاف هذا اللغز العجيب !

كتب ( بروتو بور كل ) العالم والمحقق الالماني في كتابه : ( العوالم البعيدة ) يقول : « الحياة ! أي كلمة ساحرة ! هل وجدت الحياة من العدم ؟ ! هل يمكن أن توجد الآليات من غيرها ؟ ! أم أن هنا يداً خالقة قادرة مطلقة ؟ قد يقال : لعل الحياة جاءت من الكرات الفلكية الأخرى إلى سيارتنا هذه ؟ إذ أن الميكروبات النباتية الحية التي تسبح في جوّ إحدى الكرات الفلكية ترتفع إلى حدّ كبير ، يمكن لأشعة الشمس أن تدفعها إلى فضاء كرات أخرى تصل إلى سطح تلك الكرة فتنمو وتتطور هناك .

ومع هذه الفرضية لم يتقدّموا في سبيل حلّ اللغز الكبير ، حتى بمقدار رأس إبرة ! إذ حتى في هذه الصورة تبقى كيفية ظهور الحياة ـ سواء في إحدى الكواكب التابعة للمنظومة الشمسية ، أو التابعة للشعرى اليمانية ـ مجهولة غير واضحة .

وكما أنه لا تتكون الساعة من تكديس اللوالب والنوابض كذلك هنا ما لم نجد القلب المحرّك ونداء : كن حياً ، فلا نجد الحياة » ! .

نحن نعلم أن المادة في ذاتها فاقدة للحياة ، وأن ليس لأيّ عنصر ماديّ لوحدة خصوصية الحياة ، إذن فلا يمكن أن نفترض الحياة نتيجة تركيب منسجم لذرات متشكلة من المادة ، حيث نجد أمامنا هذا السؤال الملح : لماذا لا تتكرر ولا تكثر المادة الحية إلاّ عن طريق التناسل والتوليد ؟ ، إن التفاعلات الكيمياوية مستمرة في الأجسام غير الحية ولا نجد فيها أيّ أثر للحياة ، وأما القول بأن المادة تميل إلى التركيب ، وأن الحياة نبعث فيها في تطوراتها المتكاملة ، فإنما هو وصف لمظاهر الظواهر الحية التي نحسها ، وليس بياناً لكيفية وجود الحياة ومعرفة سببها .

إن أجزاء المادة لم تكن تختلف فيما بينها بالأصالة ، فلماذا تركب بعضها مع بعض وتأخر كثير منها ، فتمتع بالتالي بعضها بالحياة وحرم البعض

الآخر ؟ من أين نشاهد الاختلاف وما هي علة هذا الاختلاف في الحياة بين موادها ؟ .

إنما الشيء الذي يحصل من تركيب عنصرين أن عناصر متعددة ، هو أن يهب العنصر ما فيه من خصائص للعنصر الآخر المتركب معه ، ولكنه كيف يهب ما لا يملك ؟ أجل إن العناصر تجد بفضل التركيب خاصة عامة غير خارجة عن إطار خواص آحادها ، إلاّ أنّ الحياة بما لها من خصائص منفردة لا شبه بينها وبين خواص المادة ، إذ للحياة تجليات ليست للمادة ، وهي تتحكم في المادة من كثير من النواحي ، وإن كانت هي تتبع المادة في الهيكل . ما أن تسطع أشعة الحياة على المادة حتى تتجلى فيها الحركة والإرادة والإدراك والمعرفة .

إذن فتفسير الحياة بردود فعل كيماوية غير وجيه ، يقول أحد العلماء : « ليست الحياة نظاماً جامداً لا روح فيه كالمعمل ، بل هي نظام فيه قدرة التجديد والتكرار لنفسه وكذلك التفوق والتسلّط ـ إن صحّ التعبير ـ على نفسه ، ومعه مرشد وهاد طبيعي فطريّ يهديه من الداخل والضمير ، فطرة مكدسة مكنوزة في نسيجه تتكفل بتجديد ما تحلل وتلف » .

ما هو هذا العامل الذي يصنع الخلايا أنواعاً مختلفة ومع برامج متنوعة تأخذ مكانها في جسم منظم ، يحضر الخلية الجنسية التي تنقل مميزات وخصائص الآباء إلى الأبناء بلا استثناء ، وبدون قصور أو خطأ في أداء المهمام والوظائف والتكاليف والمسؤوليات ؟

نحن نرى أن للخلايا الحية خصائص في تركيبها ، فمن خصائصها ترميم الخسائر وتجديد ما يتلف واستعداد التنوع ، وحفظ النوعيات ، فكل خلية في جسد الإنسان تعمل في الزمن الذي ينبغي أن تعمل فيه بصورة متناسبة ، وأما توزيع العمل والوظائف فأمر محير ، تنقسم بمقدار الحاجة إلى تكوين الأجسام ، وتذهب كل خلية إلى مكانها من المخّ ، والرئة والكبد والقلب والكلى ، ولا يرى أيّ قصور في وظائف الخلايا الجاثية المنتظمة في

مواضعها ، فهي تدفع المواد الزائدة غير المفيدة وتحفظ الحجم المناسب لكل شيء .

إن نسبة هذا التقسيم العجيب ـ الذي يوجد لتناسب وتتوازن الأجزاء اللازمة في أجسام الموجودات ـ إلى العوامل الميكانيكية غير المدركة ، تفسير قاصد جداً ، وأيّ إنسان حرّ التفكير يقبل هذا المنطق ؟ ! .

ولهذا نحن نقول : إن الحياة نور يشعّ على المواد المستعدة لقبولها من أفق أعلى من المادة ، فيجعلها تتحرك وتفكر ، إن هذه هي إرادة الرب القدير وقدرته وحكمته الجامعة البالغة التي تفيض بمعجزة الحياة بجميع خصائصها على المادة غير ذات الروح ، وإن الإنسان يرى بين هذه المواد المتحركة جوهرة الحياة السيالة كحقيقة شاعرة ، ويشاهد بها الله في خالقيه مستمرة وإيجاد وتطوير دائم .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

البَضْعة الزكيّة
محبة الرسول واله صلى الله عليه وآله
سؤال القبرفي کلام امير المؤمنين
إبراهيم عليه السلام أول الموحدين
مما يهوِّن هول المحشر
مفهوم الإنتظار
نظرة متطورة الى الاقتصاد عند الطهطاوي
ما يصح السجود عليه
من التراث الفقهي للإمام الباقر(عليه السلام)
عشيرة سال سائل بعذاب واقع

 
user comment