صفات الخالق وخصائصه
القرآن كيف يصف الله ؟
عند ما نريد أن نقيم شخصية علمية ومستوى معلومات مؤلف محقق ، نقبل على آثاره العلمية ونجعلها مورد التحقيق والتقييم ، ولكي نتوصل إلى مدى استعداد ومقدار قدرة فنان ما على خلق المبتكرات كان علينا أن نحقق في منتوجاته ومصنوعاته الفنية .
كذلك ندرك صفات الخالق وخصائصه من طريق التدبّر الدقيق في دقائق الموجودات وظرافتها ، ونتعرف على علم الخالق وحكمته وحياته وقدرته في حدود إدراكنا .
يجب علينا أن نقبل أن قوة معرفة الإنسان ليست بمستوى الحصول على معرفة جامعة شاملة عن الله سبحانه ، ولا يمكن التعرّف على خصائصه إلاّ في حدود قدرتنا على ذلك ، وإن كل قياس أو تمثيل بهذا الشأن من الخطأ الفاحش ، إذ كل ما هو مشهود في هذه الطبيعة إنما هو من مصنوعات الله سبحانه بأمره وإرادته ، وليس هو من الطبيعة في شيء ولا من سنخ مخلوقاته كي يكون إدراك ماهيته ممكناً من طريق القياس والتمثيل .
إنه وجود لا يوجد أيّ مقياس لمعرفة ذاته ، ولا أيّ إحصائية أو أرقام
لتعين مدى قدرته أو مستوى علمه تعالى .
وعلى هذا ، أليس الإنسان أعجز وأحقر من أن يدرك ذات هكذا حقيقته عالية أو حتى صفاتها ؟ ! .
وفي نفس الوقت لا يستلزم الاعتراف بالعجز عن المعرفة الكاملة والوسيعة والعميقة ، أن نكون قاصرين عن أيّ معرفة نسبية ولو كانت قصيرة ، فإن نظام الوجود يصرخ بصفاته ، وبإمكاننا أن نرى قدرته وابتداعه الخلق من طريق النظر في مظاهر الطبيعة وجمالها وقيمها .
إن مشاهدة الإرادة والشعور والعلم والإدراك والانسجام والتوازن في النظام الموجود ، وظواهر الحياة المختلفة ، تمكننا من أن ندرك أن هذه المفاهيم المذكورة ، وكل ما يحكي عن هدف في النظام إنما هي نابغة عن إرادة خالق يتصف بجميع هذه الخصائص ، حتى يمكنه أن يعكس منها شيئاً على موجودات هذا العالم .
إن قوة الفكر الغريبة هي التي تتعرّف على الله وتلمس وجوده ، قوة الفكر التي هي بارقة من بوارق أوامره التي لا تزال تفيض على المادة ; الأمر الذي وهب للفكر قوة إدراك المعنى والنفوذ إلى الحقيقة ، وإن معرفة الحق إنما تتجلى بهذه الموهبة العظيمة .
إن معرفة الخالق بنيت في الإسلام على أساس جديد بيّن ، فالقرآن الكريم يتابع هذه المسألة بأسلوب التساؤل بين النفي والإثبات ، والقرآن هو المصدر الأساس لمعرفة رؤية الإسلام العامة .
إن القرآن ينفي الآلهة الباطلة ببراهين مضيئة ، إذ قبل التوصل إلى التوحيد يجب رفع جميع صور الدرك وعبودية ما سوى الله ، فهذه هي الخطوط المهمة الأولى التي تمهد السبيل إلى التوحيد .
يقول القرآن الكريم :
( أم اتخذوا من دونه آلهة ؟ قل : هاتوا برهانكم ، هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون )(1) .
ويقول :
( قل : أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً ؟ ! والله هو السميع العليم )(2) .
إن الذي تنقطع علاقته بالتوحيد ينسى علاقته وموقعيته في عالم الوجود بل ينسى حتى نفسه ويفقدها ، فإن قطع العلاقة بالفطرة الإنسانية آخر مراحل فقدان الذات ، وإنما يصبح الإنسان أجنبياً مع ذاته وفطرته بتأثير من مختلف العوامل النفسية والخارجية، وحينما يصبح الإنسان أجنبياً مع نفسه ينقطع عن خالقه ويدخل في عبودية غيره ويستبدل هذه العبودية عن التعقل والمنطق ، وهذا هو ارتداد إلى عبادة ظواهر الطبيعة ومظاهرها ، فسواء إن سجدنا للأوثان أو توهمنا أن الأصل في الوجود هو المادةپ ، فكلاهما ارتدادإلى الوراءورجعية تسلب الإنسان مايساعده على نموه الذاتي الإنساني.
إن التوحيد هو القوة الوحيدة التي تيسر للإنسان أن يكون مع نفسه وذاته وفطرته وقيمه الإنسانية ، وإنما يجد الإنسان نفسه في ظل قيمه الإنسانية ، ويكملها بالانسجام مع طبيعته الإنسانية وماهية وجوده .
ولقد كانت النبوّات والرسالات السماوية الإلهية تبدأ بالنهضة لإعلان الدعوة إلى التوحيد ، بمعنى ربوبية الإله الواحد ، ولا نجد في اللغات البشرية كلمة أغنى من كلمة التوحيد ، وأثرى بالمفاهيم البناءة التي تستوعب النواحي المختلفة لحياة الإنسان وتحجزه عن التحريفات .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء : الآية 24 .
2 سورة المائدة : الآية 76 .
ونجد القرآن يرينا طريق معرفة الله بدلائل بينة منها قوله سبحانه :
( أم خلقوا من غير شيء ؟ أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض ؟ بل لا يوقنون )(1) .
ويترك القرآن الحكم ببطلان افتراض أن يكون الإنسان مخلوقاً من لا شيء وبدون خالق ، وكذلك افتراض أن يكون هو خالق نفسه ، يترك حكمهما إلى العقل الفطري للإنسان السليم ، كي يذهب الإنسان بهذين الافتراضين إلى مختبر عقله فيحللهما ، وبالتفكير في آيات الله يتعرّف على منبع الوجود بصورة قطعية يقينية بالغة ، ويدرك بنفسه أن لا سبيل إلى تقييم عالم الوجود بدون وجود مدبّر منظم خلق هذه الظواهر والمظاهر ، وفي آيات أخرى يدعوا القرآن الفكر الإنساني إلى التفكير في كيفية خلقته التدرجية ، ثم ينتهي بهذه الخلقة البديعة بما فيها من عجائب الصنع والتدبير إلى أنها من آثار وآيات قدرة الله اللانهائية ، التي تداعب الكائنات بنفوذها وهيمنتها ، يقول :
( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين )(2) .
ولعل الخلق الآخر إشارة إلى توظيف خلايا الأعضاء : العين والأذن والمخ وغيرها ، وبدئها حركتها الدائبة ، والقرآن في تصويره هذا يلفت الإنسان إلى التكفير : هل يمكن أن تعقل كـل هذه التحوّلات العجيبة المدهشة مع افتراض عدم الخالق ؟ أم أن هذه الظواهر تؤكد لزوم وجود هندسة دقيقة وقيادة صحيحة وإرادة عالمة وبرنامج معين ، فهل يمكن أن تتعهد هذه الخلايا بوظائفها وتؤديها بكل دقة ونظام من دون إرادة مدبّر عالم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الطور : الآيتان 35 ـ 36 .
2 سورة المؤمنون : الآيات 12 ـ 13 ـ 14 .
حكيم ، ثم يتبلور هذا العالم بهذه الكيفية الموجودة ؟ ويجيب القرآن على هذا التساؤل يقول :
( هو الله الخالق البارئ المصوّر )(1) .
فهو الخالق للأجزاء الأصلية وهو البارئ لأجزاء كل عضو وهو المصوّر للصور المختلفة .
يقول الدكتور ( كارل ) : « إن تركيب الأعضاء أشبه بأساطير الجن التي تقصّ على الأطفال ، فهي من عمل الخلايا التي كأنما هي عالمة بالأشكال التي يجب أن تكون الأعضاء عليها ، وهي التي تعدّ التصاميم وكذلك المواد الإنشائية وتجعلها في متناول العمل والعمال »(2) .
إن القرآن يتناول كل محسوس يراه الإنسان حوله وينبه الإنسان إلى التفكير فيه بدقة واستنتاج النتائج ، ويقول :
( وإلهكم إله واحد لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم * إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسجر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون )(3) .
( قل انظروا ما ذا في السموات والأرض ؟ )(4) .
إن القرآن الكريم يذكر تأريخ الإنسانية وتطوراته والسير في مصائر
الأمم الماضية على أنه من المصادر الخاصة للمعرفة ، وهو يسترعي انتباه الإنسان لكشف الحقيقة إلى النظر في الانتصارات والانكسارات والهزائم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحشر : الآية 24 .
2 الإنسان ذلك المجهول .
3 سورة البقرة : الآيتان : 163 ـ 164 .
4 سورة يونس : الآية 101 .
والمعظمات والتعاسة والسعادات للأمم المختلفة السابقة ، كي يحاول إخضاع تأريخه المعاصر لإرادته من خلال معرفته بقوانين التأريخ وحساباته الدقيقة والمنظمة ، والاستفادة منها لنفسه ومجتمعه ، ويقول القرآن الكريم :
( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين )(1) .
( لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون * وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين )(2) .
إن القرآن الكريم يرى النفس الإنسانية ، أيضاً منبعاً آخر للفكر المفيد لكشف الحقيقة ، ويوليها أهمية خاصة ، فيقول :
( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )(3) .
( وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون )(4) .
يعني القرآن نفس هذا الجهاز البدني ، وجمال صورته المتناسبة بما له من أجهزة وعمليات وأفعال وردود أفعال ، وبما فيه من تقنية دقيقة وظريقة ، وبما أودع فيه من القوى الوغرائز والإدراكات والعواطف وأنواع الإحساس الإنساني والحيواني ، ولا سيما قوة الفكر المحيّرة ، وما دام البشر لم يخط كثيراً في طريق معرفة القوى المعنوية والطاقات غير المحسوسة ، وكيفية علاقاتها بأعضاء الجسم المادي ، فإنه يبقى منبعاً فياضاً للمعرفة .
إن القرآن يعلن كفاية الفكرة والتحقيق في النفس الإنسانية لهداية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران : الآية 137 .
2 سورة الأنبياء : الآيتان 10 ـ 11 .
3 سورة فصلت : الآية 53 .
4 سورة الذاريات : الآيتان 20 ـ 21 .
الإنسان إلى منبع الوجود اللامحدود في علمه وقدرته وغناه وحكمته ، كي يعلم الإنسان أنه هو الذي ركب في الإنسان هذه المجموعة من الخصال والخلال المثمرة ووهب لها الوجود والحياة .
ثم يقول القرآن : أيها الإنسان ، بعد وجود هذه الآيات الحية والحجج القاطعة للتحقيق في معرفة الخالق ، والتي ركبت في نفسك ، لا عذر لك للإنكار أو الانحراف عنه أبداً .
إن القرآن الكريم يصف الله سبحانه بصفات يثبتها له وأخرى بنفيها عنه ، صفات الله المثبتة كالعلم والقدرة والإرادة ، وأن وجوده لا يسبقه عدم ولا أوّل لوجوده ، وأن الكون يدور لا حول له إلاّ بأمره وإرادته وقدرته .
يقول القرآن الكريم :
( هو الله الذي لا إله إلاّ هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم * هو الله الذي لا إله إلاّ هو الملك القدّوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبّر ، سبحان الله عمّا يشركون )(1) .
( سبحان ربك ربّ العزّة عمّا يصفون )(2) .
إن العقل البشري المحدود أقصر من أن يقضي بشيء في مقام ذات الله القادر ، ونحن نعترف بعجزنا عن درك كنه ذلك الوجود الذي لا مثيل له ولا نموذج في إحساسنا وأفكارنا ، فإنه مقام تبقى فيه أعمق المدارس الفكرية وأكبر أساليب المعرفة البشرية متحيرة لا تهتدي سبيلاً .
إن الذات الواحدة بتمام المعنى والمنزهة عن التركيب لا ريب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحشر : الآيتان 22 ـ 23 .
2 سورة الصافات : الآية 180 .
تستجمع جميع الكمالات ، إذ لا كمال أعلى من الوجود المطلق اللامحدود ، فلو كان هناك كمال خارج عن هذا الوجود اللامحدود لزم أن يكون مطلقاً غير محدود .
وكما أن الموجودات لابدّ من أن تنتهي إلى ذات واجبة الوجود ، بمعنى أن يكون وجودها من نفسها لا من غيرها بل تكون هي عين الوجود ، وتكون سائر الموجودات متعلقة في وجودها بتلك الذات وذلك الوجود المطلق ، كذلك ما يوجد في هذا العالم من صفات الكمال كالحياة والقدرة والعلم لابدّ أن ترجع إلى حياة وقدرة وعلم مستقل مطلق ، تكون هذه الصفات من خصائص ذلك الوجود اللامحدود .