لا سبيل للقياس بصفاته
نحن وإن كنا في محاولتنا لوصف الخالق وصفاته نحتاج إلى مصطلحات تؤدي تلك المفاهيم ، إلاّ هذه المصطلحات التي نستعملها نحن هي أعجز عن الوصول بنا إلى هدف الوصف الواقعي له سبحانه ، إذ أن أفهامنا المحدودة لا تدرك كيفية أوصاف ذات الحق سبحانه ، وهو أعلى وأسمى من جميع هذه المفاهيم المصوغة في أذهاننا .
إن الإنسان المخلوق والمحدود لا ينبغي له أن يطمع في قياس الوجود غير المادي بالأوصاف والخصائص المادية ، أو أن يبين للناس ذلك الوجود بهذه الأوصاف .
إن البحث حول تلك الحقيقة التي هي غير هذه الموجودات الطبيعية الممكنة ، وعن قدرته وعلمه غير المحدود والمحيط بكل ما سواه ، وكما يقول القرآن الكريم : ( ليس كمثله شيء )(1) .
إن البحث لا ريب في أنه بحث علمي دقيق .
يقول أميرالمؤمنين (عليه السلام) :
« ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله ، ولاإياه عنى من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشورى : الآية 11 .
شبهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه ، كل معروف بنفسه مصنوع وكل قائم في سواه معلول ، فاعل لاباضطراب آلة ، مقدر لا بجول فكرة ، غنيّ لا باستفادة ، لا تصحبه الأوقات ، ولا ترفده الأدوات ، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله ، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ، ضادّ النور بالظلمة ، والوضوح بالبهمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصرد ، مؤلف بين متعادياتها ، مقارن بين متبايناتها ، مقرب بين متباعداتها ، مفرق بين متدانياتها ، لا يشمل بحد ، ولا يحسب بعدّ ، وإنما تحدّ الأدوات أنفسها ، وتشير الآلات إلى نظائرها »(1) .
إن وجود الفارق بين صفات الله سبحانه وصفاتنا وعدم إمكان القياس بينهما ، بسبب تفاوت مفاهيم الصفات في منبع الوجود عن الصفات في سائر الموجودات .
فمثلاً : نحن قادرون على بعض الأعمال ، ولكن ليست هذه القدرة كقدرة الله عليها ، إذ أن صفة القدرة فينا شيء وموصوف هذه القدرة شيء آخر .
أو حينما نتكلم نحن عن علمنا بشيء لسنا نحن وهذا العلم شيئاً واحداً ، إذ لم يكن في وجودنا على عهد الطفولة أيّ أثر من هذه المعرفة العلمية ، ثم اكتسبنا هذه المعلومات بالتعلم وبالتدريج ، والعلم والقدرة يشكلان ناحيتين متمايزتين عنن وجودنا نحن ، وليست هذه الصفات عين ذواتنا ، ولا متحدة مع وجودنا ، بل الصفات عارضة ووجودنا معروض لها ، ولكل منهما حساب خاص .
وليست القضية بالنسبة إلى الله بهذه الصورة ، فحينما نقول : إن الله عالم وقدير نقصد أنه سبحانه هو منبع العلم والقدرة ، وهنا ليست الصفة شيئاً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخطبة : 181 نهج البلاغة .
غير نفس الموصوف وإن كانا متفاوتين من حيث المفهوم ، فصفاته في الواقع عين ذاته سبحانه ، إذ لا معروض هناك حتى يعرض عليه شيء ، بل هو وجود مطلق عين العلم والقدرة والحياة والثبوت والتحقق بحيث لا يصحبه أيّ قيد أو حدّ عقلي أو خارجي .
وحيث إن تربيتنا لا تكون إلّا في حجر الطبيعة ، وإن لنا أنساً متواصلاً بهذا الجهاز الطبيعي ، وإن كل ما نراه له أبعاد وأشكال خاصة ، وزمان ومكان وخواص الأجسام ، فبسبب أنس أذهاننا بمفاهيم ظواهر هذه الطبيعة نحاول أن نقيس كل شيء بمقاييسها ، وحتى أن مفاهيمنا الفكرية والعقلية تنشأ من هنا منذ اليوم الأول حسب التحقيقات العلمية والفلسفية .
وعلى هذا فإن تصوّر وجود ليست أيّ خاصة من خواص المادة بحيث إن كل ما يتوصر في أذهاننا فهو غير ذلك الصورة ، وإن درك صفات ذات لا تكون الصفات فيه منفكة عنه ـ بالإِضافة إلى ما يستلزم من الدقة المتناهية ـ يوجب أن نفرغ أذهاننا بصورة كاملة عن تصوّر الموجودات المادية .
ولأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) بهذا الصدد بيان بليغ وغنيّ وعميق ، يؤكد فيه على عدم قدرة الإِنسان على تحديد الله في قيود الأوصاف كما يتصوّر ، يقول :
« كمال توحيده نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، فمن وصفه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله »(1) .
إن المفاهيم الذهنية ، لا تتمكن من أن تحدد الله في حدود الصفات أو تنطبق على وجوده سبحانه كالمفهوم على المصداق ، لأن كل واحدة من الصفات، والمفاهيم من حيث مفهومها الخاص هي غير سائر الصفات،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخطبة الأولى من نهج البلاغة .
فمثلاً مفهوم الحياة أجنبيّ عن مفهوم القدرة غير منطبق أحدهما على الآخر ، وإن كان من الممكن أن يستوعب مصداق خاص كل هذه الصفات ، ولكن لا ينطبق كل مصطلح من الكلمات إلّا على معناه الخاص به .
حينما يريد الإنسان العاقل أن يصف شيئاً بوصف خاص ، فمع أن هدفه أن يقرر نوعاً من الوحدة من حيث المصداق بين الصفة والموصوف ، ولكن بما أن مفهوم الصفة غير الموصوف فهو يحكم بمغايرتهما بصورة تلقائية أراد أو لم يرد ، وحيث إن الوسيلة الوحيدة لمعرفة الأشياء وصفها بالمفاهيم الذهنية التي هي من حيث التصوّر متباينة عن الذات ، وهي ـ أي الأوصاف ـ تلازم المحدودية ، إذن تبقى المفاهيم الذهنية قاصرة عن معرفة أو تعريف تلك الحقيقة المتعالية ، وهو سبحانه أسمى من أن يعرف بالوصف ، ولهذا يقال : إن من يحدده بالوصف يعلم أنه لم يعرفه .
وبذكر مثال نستطيع ـ إلى حدّ ما ـ أن نطلع على مفهوم الصفات الزائدة على الذات : تصوّروا أن حرارة شعلة النار تهب الحرارة لكل شيء ، وأن الحرق والحرارة من صفات وكيفيات النار ، فهل أن هذه الخصوصية تشغل زاوية من وجود النار ؟ كلّا ، بل إن النار كيفما كانت وبكل وجودها لها هذه الخصوصية : الحرق والحرارة .
قال الإِمام الصادق ( عليه السلام ) في جواب من سألة عن حقيقة الله سبحانه :
« هو شيء بخلاف الأشياء ، أرجع بقولي إلى إثبات معنى وأنه شيء بحفيقة الشيئية ، غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس ، لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ، ولا تغيره الأزمان »(1) .
ويقول ( بول كلارنس ) العالم الفيزيائي الاجتماعي : « إن الكتب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أصول الكافي / كتاب التوحيد ص 83 .
المقدّسة ( التوارة والإِنجيل ) حينما تعرف الله تسعتمل الالفاظ التي تستعمل في مورد الإِنسان ، ولا شك في أن هذا من ضيق في دائرة اللغات ، إذ أن مفهوم « الله » مفهوم روحي معنوي والإِنسان المحصور فكره بين جدران المادة لا يجد طريقه إلى كنه ذات الله سبحانه »(1) .
ومع عدم قدرتنا على الإحاطة بذات وحتى صفات الله سبحانه بأيّ صورة من الصور ، علينا أن نحاول التقدّم في طريق معرفته خطوات إلى الأمام حسب إمكاناتنا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إثبات وجود الخالق : ص 67 ( بالفارسية ) .
وحدانية الله
عند ما يكون الكلام في بحث العقائد الدينية عن التوحيد فهو بمعنى الاعتقاد بوحدانية الله في ذاته ، وفي خلقه وفي أفعاله وحاكميته على العالم ، وإدارة نظام العالم ، وفي العبودية والعبادة ، وجهات أخرى متعددة .
وكما لا يتصوّر التعدد في توحيد الذات كذلك لا يصح التركيب واختلاف الذات والصفات ، فإن هذا الاختلاف من لوازم المحدودية ، وإنما التفكيك الذي نقول به بين صفات الله وذاته وإنما هو بالنظر إلى أفكارنا ومطالعاتنا ، وإلاّ فلا سبيل لتعدد الجهات والإضافات في ذاته سبحانه .
نحن لو نظرنا إلى شيء من الطبيعية من وراء زجاج ملوّن ظهر لنا ذلك الشيء في كل مرة بلون آخر ، وكذلك حينما ننظر بعقولنا إلى ذات الله الذي لا شريك له ، فبلحاظ حضور جميع الموجودات لديه ننسب إليه صفة : العالم ونقول : هو العالم ، وتارة ننظر إليه من حيث قدرته على خلق كل شيء ، فنصفه بالقدرة ونقول : إنه قادر .
وعلى هذا نقول : بما أننا ننظر إلى الصفات المختلفة من زوايا مختلفة هي من خصائص وجودنا المحدود ، كذلك ننتزع هذه المفاهيم بالنسبة إلى تلك الذات غير المحدودة ، بينما هي من حيث التحقق فلجميع هـذه المفاهيم وجود واحد ، وكلها تخبر عن حقيقة واحدة ، هي تلك الحقيقة
المنزهة عن كل عيب ونقص ، والتي تتصف بكل كمال من القدرة والرحمة والعلم والبركة والحكمة والجلالة .
نحن إذا عرفنا أن وجود الله من نفسه ، فعلينا أن نعلم أن الوجود المطلق غير محدود من جميع الجهات ، إذ لو كان الوجود والعدم متساويين بالنسبة إليه كان عليه أن يحصل على الوجود من خارج ذاته ، فالوجود لا يحصل بنفسه ، إذن فالوجود المحض هو الذي له الوجود من نفسه ، وإذ يكون الذات عين الوجود كان غير محدود من حيث العلم والقدرة والأزلية والأبدية ، إذ العلم والقدرة نوع من الوجود ، والذات التي هي عين الوجود لها جميع هذه الكمالات بصورة غير محدودة .
إن وحدة الله من صفاته البارزة ، وقد دعت جميع الأديان الإلهية في تعاليمها الأصيلة غير المحرّقة ، جميع البشر إلى التوحيد الخالص عن كل شرك وشائبة ، إذ الشرك بكل صورة وأبعاده من أضرّ الضلال للبشر ، الضلال الناشيء في طول التأريخ من الجهل والانحراف عن هداية العقل والدين .
ولو كان الناس يصدّقون ويؤمنون بالله عن طريق الفكر الصحيح ودلالة العقل وهداية الرسل لما كانوا يتقبلون أيّ مصنوع ظاهر أو مستور إلهاً بدلاً عنه سبحانه ، أو أن يكون لأيّ موجود آخر شيء من الأمر والتقدير والتدبير معه تعالى .
ونحن إذ نقول : إن الله واحد لا نعني بذلك معنى الجسمية ، إذ الجسم مركب من عدة عناصر وأجزاء ، ونحن ننفي التركيب والتجزئة والتوالد عنه إذ هي من صفات الممكنات ، وكل مركب متولّد عن التركيب ليس بإله وليس شبيهاً بالله .
إنما يمكن أن نتصوّر له تعدد المصاديق فيما إذا أمكن أن تصدق عليه صفات من قبيل الكمية والكيفية والزمان والمكان ، والله لا يتصف بشيء من هذه الأوصاف والقيود ، إذن فطبيعي أن لا يتصوّر له أيّ مشابه أو مثيل .
ومثلاً نقول : نحن إذا تصوّرنا حقيقة الماء بلا أيّ قيد أو وصف خاص ، ثم كررنا هذا التصوّر مراراً ، لم يزد عندنا شيء على التصوّر الأول ، إذ قد تصوّرنا الماء للمرة الأولى بصورة مطلقة عن أيّ قيد أو شرط أو كمية أو كيفية ، فلا يمكن أن نفترض فردين لحقيقة الماء في التصوّر الثاني وهكذا ، أما إذا أضفنا قيوداً إلى حقيقة الماء من الخارج ، تكثرت أفراد هذه الحقيقة المقيدة الموصوفة وتعددت بتعدد منابعها ومواردها ، فماء المطر وماء العين وماء البحر في الأزمنة والأمكنة المختلفة هنا وهناك ، وإذا حذفنا هذه القيود ونظرنا إلى حقيقة الماء المجرّدة عن هذه القيود والأوصاف امتنع عليها التعدد ولم تبق إلّا حقيقة واحدة فقط .
وعلينا أن ندرك أن الموجود إذا كان متحيزاً في مكان ما كان محتاجاً إلى ذلك المكان ، والموجود المتحيز في المكان رهين في وجوده للظروف الزمانية والمكانية الخاصة به ، وإنما يتحقق وجوده في زمان معين يشتمل على تلك الشروط الخاصة ، فإذا عرفنا موجوداً لم يخل ولا يخلو منه أيّ زمان أو مكان ، متصفاً بأسمى درجات الكمال ، كاملاً مطلقاً لا كامل مطلقاً سواه ، إذا موجوداً هكذا كان تصوّر تعدده عين تصوّر المحدودية والقيود له .
إن الله ليس واحداً بالعدد كي يمكن تصوّر فرد ثان من سنخه له ، بل إنه واحد بحيث إذا فرضنا فرداً آخر له كان هو عين الفرض الأول ، كما في مثال حقيقة الماء .
بما أن تعدد الأشياء رهين قيود تميزها عن غيرها ، فلو كان موجود مطلقاً عن أيّ قيد أو شرط ، كان افتراض وجود ثان له من غير المعقول ، إذ إن وجود الفرد الثاني مستلزم لوجود حدود متميزة ، فلو انتفت الحدود في شيء لم يعد هناك شيئان ، بل كان تصوّر الفرد الثاني تكراراً لافتراض نفس الفرد الأول .
إن وحدة الله تعني أننا إذا تصوّرناه وحده مع قطع النظر ـ بعد فرض
وجوده ـ عن جميع الموجودات مما سواه ، كان وجوده ثابتاً من دون أيّ شريك أو ندّ أو ولد أو كفوء، وكذلك إذا نظرنا إلى وجوده مع سائر الموجودات أيضاً كان وجوده ثابتاً بلا شريك، في حين أننا لو نظرنا إلى سائر الموجودات ، مع قطع النظر عن وجود الله لم يمكن أن تبقى موجودة ، إذ إن وجودها منوط بوجود الله، حدوثاً وبقاء، فلو تصوّرنا أيّ قيد أو شرط لوجود الله وتصوّرنا فقدان القيد أو الشرط انتفى وجود الخالق أيضاً عند انتفاء الشرط والقيد ، في حين أن وجود الله مطلق غير مشروط لا يمكن افتراض التعدد له ، فالعقل لا يقدر على افتراض فرد ثان له من سنخ وجوده المطلق .
لنضرب مثالاً : نقول : لو قبلنا أن لا حدّ ولا نهاية للعالم وأننا لو مشينا في أيّ طرف منه لم نصل إلى نقطة النهاية ، فمع افتراض هكذا صورة عن عالم الأجسام هل يمكننا أن نفترض مع عالماً آخر ؟ كلا إذ إن افتراض العالم غير المحدود ينفي بنفسه افتراض عالم جسماني آخر معه ، وكل ما نتصوّره عالماً آخر فهو إما نفس هذا العالم أو جزء منه .
فمع العالم ، بأن الله هو الوجود المحض يكون افتراض وجود آخر مثله معه كافتراض عالم جسماني آخر ، إلى جانب عالم لا محدود ، وهذا من غير الممكن .
ومن هنا نعلم أن ليس معنى : الله واحد ، أنه لا ثاني له ، بل معناه أنه لا يمكن افتراض وجود إله ثان معه ، وأن نفس وجود الله مستلزم لكونه واحداً فرداً ، وأن انفراده بذاته ، وبذلك يعرف ويميّز عن سائر الموجودات ، في حين أن سائر الموجودات لا تتميّز بذواتها ، وإنما تميّزت بما وهب الخالق لها من تميّز وتشخيص .
ولو كان المعنى الواقعي لكلمة « متحققاً » في ذهن الإِنسان العاقل وعرفه بمعناه الصحيح ، توصل بصورة طبيعية إلى منافاة التعدد مع ذاته سبحانه .
نحن نرى بوضوح أن جميع أجزاء العالم يسودها نوع من الوحدة
والانسجام المستمر والممتدّ : فالإِنسان يولد غاز الكاربون لتتنفس به النباتات ، وهي بدورها تولد غاز الأوكسيجين لتنفس الإِنسان وبهذا الأخذ والعطاء المتبادل بين الإِنسان والنبات تبقى نسبة معينة من الأوكسيجين في الحياة مستمرة ، وبدونها لم نكن نرى أيّ أثر من حياة الإِنسان اليوم على وجه كرة الأرض .
وإن مقدار الحرارة التي تتلقاها الأرض من الشمس بقدر حاجة الموجودات الحية فيها ، فإن سرعة سير الأرض حول الشمس ، وبعدها عن هذا المنبع العظيم للطاقة والحرارة ، قد انتظم بحيث يمكن للإِنسان الحياة على وجه الأرض ، وكذلك بعد الأرض عن الشمس يتطابق مع مقدار الحرارة المناسبة للحياة على الأرض ، مثلاً لو أصبحت سرعة سير الأرض في كل ساعة مئة ميل بدلاً عن الألف ميل ، كانت الأيام والليالي تطول أكثر مما هي عليه الآن أكثر من عشر مرّات ، وكانت شدة الحرارة في الأيام ترتفع حتى تحرق جميع النباتات ، وكانت برودة الليالي في الشتاء تجمد جميع الأزهار والأعشاب .
ولو كانت أشعة الشمس تتضاءل إلى النصف مما هي عليه الآن ، كانت ذوات الأرواح تتجمد من شدة البرد ولا تقدر على أية حركة ، ولو كانت هذه الأشعة تتضاعف إلى ضعفي ما هي عليه الآن كانت تتوقف أنشطة الحياة في المراحل الأولى من تكوّنها .
ولو كان القمر أبعد من الأرض مما هو عليه اليوم كان مدّ البحار يشتدّ حتى يصل إلى درجة قلع الجبال من أصولها .
إن هذا العالم المتحرّك بهذه الرؤية هو قافلة قد شدّ كل من فيها
بعضهم ببعض ، وهم كالأجزاء الكبار والصغار لجهاز واحد في وجهة واحدة على سعي وفعالية جاهدة ، وعلى كل شيء من أجزاء هذا الجهاز وظيفته وتكليفه بالنظر إلى موضع كل من هذه الأجزاء ، وكل هذا الجهاز يكمل
بعضه بعضاً ويساعده ، يربط بين كل ذرّة مع سائر ذرّاته علاقة معنوية عميقة مترابطة .
كتب البروفيسور ( روايه ) المفكر الشهير ، يقول :
« إن بين جميع مخلوقات هذا العالم سلسلة حديدية أو خيط ربط أو علاقة سرية محكمة تقرر بينها التعادل التام ، حتى أن المخلوقات غير ذات الشعور والوعي ليست بعيدة عن بركات هذه العلاقة الخاصة ، إن مخلوقات هذا العالم كأنما هي في صف واحد متسلسل ، أو كأنما هي منتظمة في سلك كسبحة لا تنقطع ، وإن حركات حياة هذه المخلوقات إنما تتحقق طبق نفس هذه العلاقة القوية والسريّة .
ننظر إلى موجود حيّ ، نرى أن الدورة الدموية واللمفاوية والعصبية منسجمة بل مترابطة بل متحدة ، وهي تستمر في جسم الإِنسان مثلاً بقدرة وشمول بحيث قد يفكر الشخص لأول مرة أنه يعيش في وسط طوفان من فقدان النظام ومن الهرج وعدم الانسجام ! .
العجيب أن الشكل العام لكل خلية حية كسلسلة نابضة بالحياة بين أمواج هائلة كأنها غير منتظمة فيما بينها ، بغضّ النظر عن جانبها الفيزيولوجي ، ويبهت فكر الإِنسان ويعضّ أصبع الحيرة والدهشة حينما يرى أن جميع هذه الأمواج والاضطرابات بما فيها من توازن وانسجام إنما هي تحت إرشاد عامل موحد كبير وقدير ، وبإمكان الإنسان أن يرى هذا العامل القدير في كل وحدة وانسجام ، وكل صورة ترمز إلى نوع من الوحدة والانسجام في مجموعة غير منتظمة بظاهرها »(1) .
وهنا نقول : إن العالم المليء بالوحدة ، لا بدّ أن يكون مرتبطاً بحقيقة واحدة ومبدأ واحد ، ويجب أن يكون وجوده نابعاً من تلك النقطة الوجودية الواحدة ، إن الوجود لو كان واحداً لم يمكن أن يكون موجده متعدداً ، إن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ألفا عالم في البحث عن الخالق العظيم : ص 50 ( بالفارسية ) .
الذي أوجد الوحدة والانسجام في محيط الوجود المختلف والمتكاثر ، قد جعل من قدرته هذه برهاناً صادقاً على وحدته وعلمه وقدرته .
ويقول القرآن الكريم :
( قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض ؟ أم لهم شرك في السموات ؟ أم آتيناهم كتاباً فهم على بيّنة منه ، بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً غروراً * إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ، إنه كان حليماً غفوراً )(1) .
إن فطرتنا التي هي من الأبعاد الأساسية لوجودنا تؤيّد هذه الوحدة ، فإننا في الاضطرابات الشديدة والمصائب العظيمة تميل آمالنا إلى جهة واحدة ونتجه إلى نقطة معينة بقلوبنا وأفئدتنا .
سأل هشام بن الحكم أحد تلامذة الإِمام الصادق منه ( عليه السلام ) :
ما الدليل على أن الله واحد ؟ قال ( عليه السلام ) :
« اتصال التدبير ، وتمام الصنع ، كما قال الله تعالى : (لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا)(2) .
إذن فاستقرار وشمول هذا النظام العالمي العالم يكفيان لنفي فرضية تعدد الآلهة في منطقة واحدة ، أو مناطق متعددة من نظام هذا العالم .
يقول ( المستر موريس مترلينك ) : « عندما يفجرون أيّ ذرّة من ذرّات جميع الأجسام نصل إلى الذرّة ( الذرّة العلمية = أتوم = ATOM ) وعندما يفجرون هذه الذرّة نصل إلى ما نسميه نحن ـ من ضيق التعبير ـ بالطاقة الكهربائية ـ ( الكتريسيتي ) وهو الذي يتشكل بأشكال مختلفة ومنها جميع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فاطر : الآيتان 40 ـ 41 .
2 كتاب أصول الكافي ـ باب التوحيد .
المواد الإِنشائية في العالم ، ومن هنا نستنج أن الذي خلق هذا العالم هو واحد ، فإن جميع أجزاء هذا العالم من المواد والقوانين إنما تتشكل من هذا الشيء الواحد الذي لم نعرفه بعد . . »(1) .
ومع أن القرآن الكريم يؤكد وحدة الله في الخلق وإدارة العالم ، مع ذلك يذكّر بدور العلل والأسباب التي هي عوامل مطيعة له سبحانه ، فيقول :
( والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، إنّ في ذلك لآية لقوم يسمعون )(2) .
وبعدما وصلنا إلى هذه النتيجة : وهي أن ليس في نظام الوجود أيّ أحد سوى الله عامل في الخلق والتدبير والإِدارة ، وأن جميع منابع التأثير في العالم إنما هي تحت أمره وإرادته ، وأن أداء أيّ دور من جانب أيّ عامل ، أو أيّ علة أو سبب في هذا العالم ، إنما أوتيه من ناحية تلك الذات المقدّسة الخالقة والمقدرة . . بعد هذا كيف يمكننا أن نرى أيّ موجود سواه مساوياً له في ذلك ، أو أن نخضع له بالعبادة ؟ ! ويقول القرآن الكريم بهذا الصدد :
( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ، واسجدوا لله الذي خلقهنّ إن كنتم إياه تعبدون )(3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عالم آخر : ص 49 ( بالفارسية ) .
2 سورة النحل : الآية 65 .
3 سجدة واجبة ) .سورة فصلت الآية 37 .