عربي
Wednesday 25th of December 2024
0
نفر 0

علم الله الشامل

علم الله الشامل

إن الله الذي لا يحويه المكان ولا يخلو منه مكان ، وليس له حدّ محدود ، طبيعيّ أن يكون عالماً بكل شيء في نظام هذا العالم ، لا يحويه علم الله الشامسل المحيط ، فالحوادث التي تجري في أقصى نقاط هذا العالم ، والتي مضى عليها ميليارات السنين أو التي تجري في أقصى نقاط هذا العالم ، والتي مضى عليها ميليارات السنين أو التي تحدث بعد ميليارات السنين ، لا تخرج عن إحاطة علم الله سبحانه ، وعلى هذا فلا سبيل إلى الوقوف على حدود علم الله ، إذ لا حدّ له .

لغاية إدراك سعة علم الله لو أمددنا أفكارنا بالتحقيق والتدبّر بعقولنا التي تستطيع أن تستوعب الطبيعة في لحظات ، ومضينا قدماً نحو هذه الغاية بأجنحة أفكارنا الحرة ، فإن أفكارنا لا تزال تفقد الاستعداد لدرك تلك الغاية .

لو كنا في كل مكان كما نحن في مكان ونقطة خاصة ، ولم يكن يخلو منا أيّ محل ، لم يكن ليخفى علينا أيّ شيء ، بل كنا ندرك كل شيء .

ينقسم العالم بالنسبة إلينا إلى قسمين : « غيب وشهود » وليس كون بعض الحقائق من الغيب عنا لعدم ماديتها أو لعدم كونها من المحسوسات بالحواس الظاهرة ، ولعدم محدوديتها ، بل لا ينحصر الوجود في الأمور المحسوسة التي تدخل تحت التجربة .

إننا من أجل أن ندرك رموز وأسرار حقائق الوجود نحتاج إلى مدرجة للقفز إليها ، ومدى فعالية هذه القفزة يتوقف على قوة الفكر الفعّال عندنا ، فإذا أعدّت لنا هذه المدارج تمكّنا من معرفة كثير من الواقعيات .

إن القرآن الكريم يبدي رؤية واسعة عن الوجود تحت عنوان : « الغيب » والأنبياء حاولوا أن يصعدوا برؤية الإنسان عن عالم الخلقة إلى الإيمان بالغيب ، كي تتجاوز رؤيته المحدود إلى اللامحدود وتتعدّى الظاهر حتى آفاق الغيب الخفي .

أما الله فلا غيب بالنسبة إليه بل العالم كله شهود لديه كما يقول القرآن الكريم :

( عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم )(1) .

إن المصنوعات البشرية تنبع من ذكاء وعلوم صانعيها ، وكلما كان المصنوع أدقّ وأكثر فنية ومهارة كان أكثر دلالة على مدى علمية الصانع ، وكان أدلّ على هندسة وهدف ذلك الصانع .

ومع أن عظمة هذا العالم لا يناسب القياس بمصنوعات الإنسان إلاّ أن عظمة هذا العالم وصور موجوداته المتناسبة وما تدل عليه من عظمة تلك الحكمة في هذا النظام العظيم ، وبهذه المناظر الجميلة والمحيّرة ، كلها تدلّ على العلم اللانهائي والمحيط لذلك الناظم والمدّبر الخلاّق ، بل هذه المظاهر من أقوى الأدلة على ذلك الوجود الفيّاض بالعلم والإرادة والحكمة ، ذلك الوجود الذي أبدع هذه العجائب على أساس برنامج دقيق ومنظم ، وبإمكاننا أن نتعرّف على مظاهر هذا العلم الواسع في كل جزء من أجزاء ظواهر هذا الوجود .

والذين يحاولون متابعة تجارب المختبرات ونظريات العلماء بإمكانهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 سورة الحشر : الآية 22 .

 

أن يشاهدوا عجائب كثيرة من مظاهر ذلك العلم اللانهائي في الحيوانات والحشرات والنباتات .

أجل ، إنه يعلم بمجاري النجوم والكواكب في فضاء السماوات وبعالم السحابيات ودوران المجرّات ، من الأزل وإلى الأبد ، وبعدد الذرّات في جميع الأجرام والأجسام والأحجام ، وبحركة ميليارات الموجودات الدقيقة والخشنة على وجه الأرض ، وفي أعماق البحار والمحيطات ، وبجميع القوانين والسنن الطبيعية النافذة والمستمرة ، وبالظاهر والباطن لكل شيء ، وبما تضمر الصدور والضمائر بل هو أقرب إليها من أصحابها ، ونستمع مرة أخرى هنا إلى نداء القرآن الكريم ، إذ يقول :

( ألا يعلم من خلق ، وهو اللطيف الخبير )(1) .

( لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء )(2) .

يقول ( نيوتن ) : « بالنظر في جهاز السمع في الأذن والبصر في العين نفهم أن صانع الأذن عالم بقوانين الأصوات بشكل كامل ، وصانع العين خبير بالقوانين المعقدة المتعلقة بالنور والرؤية ، وبالنظر في نظام السماوات نتوصل إلى حقيقة كبرى تدبّر أمرها بهذا النظام الحكيم الخاص »(3) .

ولهذا فإن علماء الطبيعة بفضل اطلاعهم على دقائق النظم في أعماق الوجود ، وبفضل خبرتهم وتجاربهم الكاشفة عن المحاسبات الدقيقة في الوجود الحيّ ، والميت ، وكريات الدم والخلايا ، وكيفية تأثيرها وتأثرها وأفعالها وردودها لديها ومختلف تحولاتها ، حسب تحقيقاتهم العلمية ، وبفضل مشاهداتهم التجريبية في مظاهر الحكمة المحيّرة والعلم الواسع اللانهائي في آفاق الطبيعة ، بفضل كل هذا تتجلى لهم سعة علم الله وكمال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 سورة الملك : الآية 14 .

2 سورة آل عمران : الآية 5 .

3 دائرة المعارف لفريد وجدي ، ج 10 ص 448 .

 

أوصافه ، وإن هم لم يتعمدوا إخفاء نداء الوجدان فهم يرون وجود الخالق أوضح وأجلى من غيرهم .

يقول أحد المفكرين : « إن عالمنا بمخ مفكر فعال أشبه منه بجهاز ميكانيكي كبير ، وكتعريف علميّ أقول : إن عالمنا مخلوق فكرة عظيمة هي أسمى من مظاهر الفكر فينا ، وأنا أرى أن الأفكار العلمية تسير إلى هذا الهدف » .

إن علم الله ليس قاصراً على الماضي ولا على الحوادث والموجودات الحاضرة ، بل إن علمه بالمستقبل كعلمه بالحاضر .

ولا يشبه علمه بعلم الإِنسان في توقفه على وجود المعلوم في الخارج ، ولا يصح تصور ان علمه حاصل له من طريق التحقيق في المخلوقات ، إن علمه لا يناسب القياس بعلم الإِنسان وليس باستطاعة المقاييس البشرية أن تعمل أي شيء لمعرفة كيفية علمه سبحانه ، إذ لا بد لعلم الإِنسان من وجود المعلوم كي يتعلق به العلم ، وليس الأمر كذلك في علم الله سبحانه ، إن علم الله « علم الحضوري » حسب المصطلح العلمي ، أي لا يجب فيه وجود المعلوم كي يتعلق به العلم ، بل الأمر مكشوف لديه ، وذات الله وإن كان غير موجوداته ولكنه ليس خارجاً عنها أيضاً كما يقول أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، فالماضي والمستقبل حاضر لديه بدون أي واسطة ، يقول أميرالمؤمنين (عليه السلام) :

« فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن ، وتمكن منها لا على الممازجة ، وعلمها لا بأداة ، لا يكون العلم إلّا بها ، وليس بينه وبين معلومه علم غيره »(1) .

يشـير أمـيرالمؤمنين (عليه السلام) في حـديثه هـذا إلى مـا اصطلح عليه العلماء بالعلم « الحضوري » إذ لا حاجة لله في علمه بالحوادث ألى الصور

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كتاب التوحيد للشيخ الصدوق ص 73 .

 

الذهنية التي هي أساس العلم « الحصولي » ، أجل ، لو كان تحقق علمه متوقفاً على تلك الطريقة الحصولية كان محتاجاً إلى تلك الصور الذهنية لتحقق العلم ، في حين أنه هو الغنيّ على الإِطلاق .

إن الله الذي منه نشأ وجود العالم والعالمين ، وهو الذي يقضي كل حاجة مفترضة ، وهو الذي يجود بكل نعمة وكل كمال ، وهو مجمع جميع الكمالات والفضائل ، كيف يتصوّر أن يكون هو قاضي الحاجات وفي نفس الوقت محتاجاً ؟ .

إن الصور الذهنية تبقى في أذهاننا حسب ما نريد ، وإذا أهملناها فإنها سنختفي ، إذ أن الصور الذهنية إنما هي مخلوقة لنا .

ويسمى هذا العلم بالحضوريّ ، إذ يحصل من دون حاجة إلى الواسطة ، بخلاف العلم الحصوليّ الذي لا يحصل بدون واسطة ، بل هو انعكاس للطبيعة في حواس الإِنسان .

والفارق بيننا وبين الله هو أن الله غنيّ على الإِطلاق فلا حاجة له إلى الصور الذهنية .

إن تصوير الحوادث الماضية والآتية ، إنما يكون في آفاق أفكارنا المحدودة ووجودنا المحدود الذي يشتغل محلاً من الزمان والمكان الخاص ، والذي لا وجود له خارج حدود هذا المقطع من الزمان والمكان ، إذ إن وجودنا وجود مادّي ، والمادة في تغيراتها المستمرة وتدرّجها التكاملي تجري على أساس قوانين الفيزياء والنسبية محتاجة إلى الزمان والمكان ، أما الوجود الحاضر من الأزل حتى الأبد في كل زمان بعيداً عن أسر المواد ولوازمها فلا فرق لديه بين الماضي والحاضر والمستقبل .

وبما أن كل حادث يستند في وجوده وظهوره إلى وجود الله المطلق ، فلا يمكن أن يكون بين الله وهذا الوجود أيّ حجاب أو حائل فالله محيط بظاهر كل شيء وباطنه .

وكذلك القرب والبعد والفواصل المكانية ، إنما تنشأ من محدودية وجودنا ، يقول القرآن الكريم :

(ويعلم ما في البرّ والبحر ، وما تسقط من ورقة إلّا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلّا في كتاب مبين)(1) .

نفترض أننا واقفون في غرفة مشرفة على الشارع العام ننظر من نافذة صغيرة إلى مجموعة السيارات التي تسير في الشارع على سرعتها ، بديهيّ أننا لا نتمكن أن ننظر إلى مجموع السيارات مرة واحدة ، بل تمرّ السيارات أمام تلك النافذة الصغيرة واحدة فواحدة تظهر وتختفي ، فإذا كان الواقف خلف النافذة لا يعلم بحقيقة الحال تصوّر أنها توجد في ناحية وتعدم في أخرى .

والحقيقة أن نافذتنا هذه الصغيرة والمحدودة هي التي تصوّر لنا ماضي ومستقبل هذه السيارات ، بينما يرى الواقفون على جوانب الشارع كمية أكبر من السيارات من دون هذا التصوّر الخاطىء ، إن موقفنا بالنسبة إلى ماضي ومستقبل هذا العالم كهذا الواقف الناظر من النافذة الصغيرة إلى السيارات في الشارع .

يقول العلماء : « ذكر في علم الثيوبولوجيا أن للعالم جهات أربع ، ولكن هناك الكثير من الخواص الهندسية في العالم ليس لها سوى أبعاد ثلاثة مخالفة للصورة العامة » .

لو كان شخص خارج إطار شيء ما كان ذلك الشيء حاضراً أمامه ولم يكن أيّ فرق أن يكون ذلك الشيء أمامه أو خلفه ، كذلك لو تحكم شخص على بعد الزمان = البعد الرابع في العالم ، تمكن من النظر في الأبعاد الثلاثة الأخرى ، ولم يكن لأيّ جهة من الجهات الأربع أيّ خصوصية .

ولو تحرك إنسان بسرعة النور كانت فاصلة تقدر بالصفر ، فجميع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 سورة الأنعام : الآية 59 .

 

النقاط في فضاء الفواصل تبدو في معبر الناظر وكأنها نقطة واحدة مجموعة ، فهو يلاحظ جميع الحوادث وكأنها حادثة واحدة .

والزمان لهذا الإنسان زمان راكد ، أي وإن كانت الحوادث متغيرة ولكنها تبدو في نظرة وكأنها تحدث في آن واحد لا على طول استمرار الزمان ، فلا معنى للماضي والحاضر والمستقبل لدى هذا الناظر البصر على كل مصير »(1) .

وإذ علمنا أن الله فوق الزمان والمكان ، فجميع الموجودات والحوادث الماضية والآتية حاضرة لديه وموجودة عنده كلوحة مصوّرة من دون أن يكون علمه متوقفاً على هذه اللوحة المصوّرة .

وعلى هذا فنحن أمام خالق عالم بكل صغيرة وكبيرة كما يقول القرآن الكريم :

(إ الله يعلم ما تفعلون)(2) .

يجب علينا أن نشعر بالمسؤولية وأن نحذر عن كل زلة وتحريفة تسبب لنا الانحطاط والبعد عن الله سبحانه ، وأن نخضع أمام ذلك العليم على الإِطلاق الذي أخذ بأيدينا وعبر بنا مراحل الحياة المختلفة حتى بلغ بنا مرحلة انفتاح طاقاتنا واستعداداتنا ، ولا نعصي أوامره التي تفتح لنا طريق السعادة والوصول إلى الهدف الإِنساني السامي ، بل لا نقبل أيّ عامل أو دافع فينا سواه .

وللوصول إلى هذا الهدف السامي علينا أن نتحلى بالأوصاف الإِلهية ، وأَّ نعدّ العدة في هذه المدة للقاء الله وضيافته ، كي يتحقق لنا الرجوع إلى الله أي مبدأ الوجود ، ولا نصل إلى تلك المقامات إلّا بالعمل المستند إلى التقوى ، فمعرفة الله وتوحيده تجعل مسؤولية العمل على عاتق الإِنسان بعنوان الأمانة الإِلهية .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 العلم والفن : ص 236 ( بالفارسية ) .

2 سورة النحل : الآية 91 .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الجبر والاختيار
حديث المنزلة ق(4)
[فصل ] [مذهب العباسية وانقراضهم ]
محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة
هل العذاب في سورة المعارج دنيوي ام اخروي
آل البيت عند الشيعة
في إنا فاعلون
هل يوافق الكتاب المقدس على تعليم الكنيسة بأن ...
معاجز النبي محمد دليل نبوته
القرآن ومن الاحاديث عن رسول الله(صلى الله عليه ...

 
user comment