الأصل الثاني
عدلُ اللهِ الشّاملْ
نظرات حول العدل
سارت مسألة العدالة الإِلهيه بين سائر الصفات الإِلهية مسيراً خاصاً ، حيث كان للمسلمين نظرات مختلفة بشأن العدل الإِلهي ، وقد أبدوا اجتهاداتهم واستنباطاتهم في هذه المسألة بأشكال مختلفة .
فجماعة من أهل السنة من أتباع أبي الحسن الأشعري ليس لهم إيمان كإيماننا بالعدل الإِلهي ، وكأنهم ينكرون العدل في أفعال الله ! .
إنهم يرون : أن كل ما يفعله الله بأيّ شخص حتى لو كان عقاباً أو ثواباً بدون استحقاق بعمل ، كان ذلك حسناً ومحض الحق والعدل ؟ حتى لو حسبناه نحن خلافاً لموازين العدل والإِنصاف وفقاً للمقاييس الإِنسانية .
هؤلاء ينزعون صفة العدالة عن أفعال الله سبحانه ، ولا يحسبون الشيء عدلاً إلّا باستناده إلى الله سبحانه ، فلو أثاب المحسنين وعاقب السميئين كان عدلاً ، ولو عمل عكس هذا أيضاً ، لم يكن خارجاً عن ساحة العدالة ! إنهم إذ يقولون بلغوية التعبير بالعدل والظلم عن أفعال الله ، يزعمون أنهم يقدّسون الله عن هذا الطريق ، بينما نحن لا نحسب عاقلاً يحسب هذه الفكرة تقديساً لله ، بل هي وليدة نقص فكريّ وتعصّب أعمى باسم العلم ! إن هذه النظرة تؤدي إلى إنكار الحساب والنظام وأصل العليّة والسببية في نظام العالم وأفعال البشر .
إنهم يعتقدون بأن نور العقل بكل إشراقه ينطفيء في الإدراكات الدينية . ومسائل الإسلام وأحكامه ، ولا ضوء له على هذا الصعيد كي يضيء الدرب أمام أقدام الإنسان ، ولهذا فلا يمكن الاستناد إلى هداية العقول والإفادة منها .
إن هذا الادعاء لا يطابق القرآن ولا مضمون السنة ، إذ القرآن الكريم يرى الإعراض عن العقل ضلالاً ، بل يدعو الناس إلى التعقل والفكر لمعرفة المعارف الإلهية والعقائد الدينية ، وشبه الذين يعرضون عن الإفادة من أضواء هذا المصباح الذاتي المنير ، شبههم بالحيوانات والأنعام فقال سبحانه :
( إنّ شرّ الدّوابّ عندالله الصمّ اليكم الذين لا يعقلون )(1) .
وقال رسول الإسلام ( صلى الله عليه وآله ) :
« حجة الله على العباد النبيّ ، والحجة فيما بـين العـباد وبين الله العقل »(2) .
وأمام هذه الفرقة من المسلمين فرقتان هما : المعتزلة والشيعة ، الذين اختاروا العدل من بين صفات الله وجعلوه أصلاً عقائدياً برأسه ، ورأوا أن القول بأثر القضاء في أعمال الإنسان إلى حدّ اضطراره في العمل ، مناف لأصل العدل ، هؤلاء يعتقدوان أن العدل أساس أعمال الله سواء في نظام التكوين أو نظام التشريع ، وكما أن أعمال الإنسان تقاس بمقاييس الحسن والقبح ، كذلك لا مانع من تطبيق مقياس الحسن والقبح على أعمال الله سبحانه ، وبما أن العدل في منطق العقل أمر محمود والظلم مذموم ، فالمعبود المدبّر والحكيم على الإطلاق لا يزاول عملاً مذموماً عند العقل بل ممنوعاً .
إننا حينما نقول : إن الله عادل نعني أن الخالق العليم لا يعمل عملاً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الانفال : الآية 22 .
2 الكافي ج 1 ص 25 .
على خلاف الحكمة والمصلحة ، وليس مفهوم الحكمة في الخالق بمعنى بلوغه إلى أهدافه ورفع حوائجه باختيار أحسن السبل ، بل الله هو الذي يخرج الموجودات مما فيها من نقص وإعواز إلى الكمال والغايات السامية ، والحكمة في كل مخلوق هي ما أودعه الله فيه من غايات وأهداف ، والله هو الذي يجود عليهم بفيض التكامل بعد أن أفاض عليهم الوجود .
فالعدل له مفهوم واسع من أجلى مصاديقه الابتعاد عن الظلم والعدوان .
وقد روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال مبيناً لمعنى العدل :
« أما العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لا مك عليه »(1) .
لا ريب أن كل ظلم وفساد في السلوك والعمل على تفاوت واختلاف في الأشكال والأساليب ، وصور صدوره من البشر ، إنما تنشأ من الجهل والحاجة والضعف أو الحقد والعداوة .
كثير من الناس يبرأ من الظلم والفساد ، ولكنه بسبب جهله بعواقب الأمور يلوث يديه يلوث الظلم والعدوان ، أو أنواع الأعمـال الفاسدة والقبيحة .
وقد يعشر البشر بالحاجة إلى شيء يفقد إمكانية قضائها ، فتؤدي تلك الحاجة بصاحبها إلى كثير من الفساد ، إن الشعور بالحاجة والحرص الشديد المؤلم والحقد المؤذي من دوافع التجاوز على الآخرين ، أجل قد يصل به الحال إلى أن يفقد اختياره من يده . ويندفع إلى أن يكرس كل مساعيه ومحاولاته من أجل تحقيق أمانيه وآماله ومناه ، ويكسر في ذلك كل الحدود الأخلاقية والإنسانية ، ويضغط على أعناق المظلومين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الكافي ج 1 ص 442 .
وسبحان الله الواحد الأبدي عن هذه الخصائص والنقائص والمضايقات ، إذ لا يخفى علثى علمه الواسع شيء ، ولا يتصوّر أيّ عجز أو ذل بشأن ذلك الناموس الأزليّ الذي يمدّ بأشعته الخالدة الموجودات بالحياة وينظم تكاملها وتطورها وتنوعها ، إن الذات المستجمعة لجميع مراتب الكمال لا تكون فقيرة محتاجة إلى شيء أبداً وإذن فلا يخاف الله الفوت ، وإذا أراد شيئاً فلا ريب أنه قادر على كل شيء من دون أيّ محدودية في قدرته على ذلك ، كي يخرج لذلك عن جادة العدالة فيظلم أحداً ، أو أن ينتقم تشفياً لخاطره ، أو يعمل أيّ عمل غير لائق بكماله سبحانه .
إذن فدوافع هذه الأعمال أيضاً ، لا تجد طريقاً لها إلى وجود الخالق العظيم ، ولا يمكن أن يجد الظلم مصداقاً في تلك الحقيقة التي يبدو فيض جوده وقداسة ذاته جلية على جبهات الوجود .
والقرآن الكريم ينفي عن الله الظلم وكل عمل مما لا يتناسب وساحته المقدسة فيقول :
( فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )(1) .
ينفي الله في هذه الآية عن نفسه الظلم وينسبه إلى المخلوقين أنفسهم .
ومن ناحية أخرى : كيف يمكن أن يدعو الله الناس إلى إقامة العدل وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، ثم هو يرتكب الظلم ويتجاوز العدل ؟ ! ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، يعظكم لعلكم تذكرون )(2) .
إن القرآن الكريم يولي العدل أهمية خاصة ، ويرفع من مقام العدل حتى يجعله هدف بعث الأنبياء ويقول :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الروم : الآية 9 .
2 سورة النحل : الآية 90 .
( لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط )(1) .
ولمعرفة نظرة الإمام أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) إلى العدالة الاجتماعية نقرأ في نهج البلاغة :
« قال عبدالله بن عباس : دخلت على أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) بذي قار وهو يخصف نعله ، فقال لي : ما قيمة هذه النعل ؟ فقلت : لا قيمة لها ، فقال ( عليه السلام ) : والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً »(2) .
ويرفع الإسلام مقام العدالة الاجتماعية حتى يحكم على المسلمين أن إذا انحرفت طائفة من المسلمين عن جادة العدالة الاجتماعية واتخذت طريق العدوان والتجاوز على حقوق الآخرين ، وجب إحباط محاولاتهم العدوانية حتى ولو استلزم ذلك مجاربتهم وقتالهم :
( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمرالله ، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا ، إنّ الله يحبّ المقسطين )(3) .
وفي الآية نقطة مهمة ، هي أنها تؤكّد على وسائط الصلح أن يلاحظوا بدقة كي ينهوا النزاع بالعدالة التامة وبدون أيّ تغافل عن الحق والعدل ، إذ في الموارد التي بدأت الحرب والنزاع فيها بين الطرفين بالعدوان من أحدهما على الآخر ، فلو جعل هؤلاء الوسطاء الذين يريدون إنهاء المشكلة بالمصالحة ، لو جعلوا ضغطهم على العفو والصفح ، وحاولوا أن يكتسبوا رضا أحد الطرفين بأن يرفع اليد عن حقه ، كان من المحتمل أن يؤيد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحديد : الآية 25 .
2 نهج البلاغة / الخطبة : 33 .
3 سورة الحجرات : الآية 9 .
هذا العفو والتجاوز الجائر روح العدوان والتجبر ، فيمن حاز على شيء بالحرب والعدوان ، وهذا هو الغالب في المصالحات البشرية فهم يحاولون إرضاء المعتدي بإعطائه بعض ما يريد على الأقل .
إن غض الطرف عن بعض الحقوق ، وإن كان حسناً في نفسه ، إلاّ أنه يخلف أثراً غير حسن في نفس المعتدي في هكذا مواقع ، في حين يحاول الإسلام أن يطرد شبح الظلم والعدوان عن أوساط المجتمع الإسلامي ، وأن يثق الناس بعدم الإمكان لأحد أن يظفر بشيء بالعدوان والتجاوز على حقوق الآخرين .
بإمكاننا أن ندرك بملاحظة نظام الوجود أنّ هناك توازناً يحكم على جميع الظواهر الفلكية ، توازناً شاملاً ، إن انتظام الذرّات والألكترونات وحركة جميع الأجسام ، ومنها دوران المجرّات والسيارات ، وفي عالم الجماد والنبات ، والانسجام الكامل بين أعضاء الموجود الحيّ وكل القوانين الدقيقة ، التي يسعى العلم لمعرفتها ، كل ذلك دليل على وجود الانتظام التام في جميع أجزاء العالم ، وقد بيّن نبينا ( صلى الله عليه وآله ) هذه العدالة الشاملة والتوازن التام وأن لا شيء بلا حساب ، في بيان موجو وبليغ : « إن العدل هو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا » .
ويقول القرآن الكريم على لسان موسى ( عليه السلام ) :
( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى )(1) ، إن موسى ( عليه السلام ) يصوّر لفرعون بهذه الجملة القصيرة ، كيفية خلق العالم الفيّاض باللطف والجمال والنظام التام ، الذي هو من آيات الله سبحانه وتعالى ، بين له ذلك ( لعله يتذكّر أو يخشى ) أو يدرك ذلك النظام العادل والدقيق في جميع أجزاء الوجود .
إنّ النظام والاعتدال من السنن الحاكمة على الطبيعة بصورة قسرية ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة طه : الآية 50 .
وكل شيء من أجزاء الطبيعة يتحرك في إطار السنن والقوانين الطبيعية نحو كماله ومسيرته الخاصة ، وإن أيّ انحراف عن النظام العام والعاقلات السائدة عليه يؤدي إلى الاضطراب والاختلال في نظام الكون .
طبيعي أن ظواهر الطبيعة تؤدي نوعاً من ردّ الفعل أمام ظهور أيّ اختلال في الطبيعة ، وتحاول طرد العوامل التي تمانع دون مسيرة التكامل من الخارج أو الداخل ، وتفتح الطريق لاستمرار مسيرة الرشد والتكامل وسيادة النظام والقانون .
فحينما يصاب البدن بحملات العوامل الممرضة والميكروبات ، تحاول الكريات الدموية البيضاء ، أن تحبط عمل تلك الميكروبات مكافحة لفسادها وفق سنة طبيعية قسرية ، والمعالجة الطبية التي تتخذ عن طريق العقاقير ، إنما هي مساعدة خارجية تمدّ تلك الكريات البيضاء بالعون والتأييد ، وتحاول إرجاع الاعتدال إلى البدن ، ولكن يختلف الحال بالنسبة إلى حكومة العدل في الإنسان ذلك لتمتع الإنسان بقدرة الاختيار .
أما الله الرحمان الرحيم المنعم الكريم ، فمحال أن يصدر منه ما لا ينبغي له مما يخالف العدل المطلق ، وهذا نداء القرآن الكريم :
( الله الذي جعل لكم الأرض قراراً ، والسماء بناءً ، وصورّكم فأحسن صوركم ، ورزقكم من الطيّبات ، ذلكم الله ربّكم )(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المؤمن : الآية 64 .