إن اؤلئك السكارى بغررو القدرة والظفر ، الذين نسوا الأخلاق الإنسانية بسبب غلبة المغريات على عقولهم وأرواحهم ، قد تقدر الحوادث المرة في أطراف الأرض على أن تكون أرضية لتغيير أفكارهم ويقظتهم ، وأن تهتك الحواجز عن عقولهم ، وأن تهديهم إلى صراط مستقيم نحو كمال إنسانيتهم والبلوغ بهم من حالهم إلى مستقبل مثمر وسعيد ، وكثير من تحوّل من حاله السافل إلى مستقبل حافل على أثر هذه الحوادث والآلام .
إننا بالنظر إلى الآثار الضارّة والموحشة للغرور والغفلة ، والدروس التربوية الكثيرة التي يتلقاها البشر من هذه الحوادث ، نستطيع القول بأن هذه الحوادث والآفات ـ مع كونها شروراً نسبياً ـ تحتوي على نعم كثيرة وألطاف خفية توقظ الإنسان وتصنع له إرادته الواعية والجادّة .
إذن فالشدائد من مقدّمات التكامل في الوجود ، وهي التي تمهد الأرضية لتقييم القيم والمثل والإثابة عليها ، وبها تستبين مراتب الإخلاص والكمال أو الانحطاط في الإنسان ، ويقول القرآن الكريم بهذا الشأن : ( لقد خلقنا الإنسان في كبد )(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البلد : الآية .
( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ، وبشّر الصابرين * الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنّا لله وإنّا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون )(1) .
ويقول الفيلسوف المعروف : ( أمرسون ) :
« إن التغييرات الطبيعية التي قد تهدد بل تحطم سعادة الناس ، إنما هي إنذار من الطبيعة التي طبعت على النموّ والتكامل ، إذ حينما تظهر الحاجة إلى العبادة للخالق في روح الإنسان تترك الأرواح نظامها الرتيب المبنيّ على أساس المال والثروة والأصدقاء ، كما يترك صغير الحيتان مكانه الأوّل ليجد دوره اللائق .
إن أجر المصيبة يظهر على أفهام البشر بعد مرور الفواصل الزمنية الطويلة .
إن الأدواء ونقص الأعضاء وفقد الثراء وموت الأصدقاء واستيلاء اليأس والقنوط المفرط والبلاء ، مما لا يجبر كسره في حينه . . إلاّ أن مرور الزمان سيأتي على إظهار ما خفي علينا الآن من القوى والطاقات الكامنة ، في هذه الحوادث بل الحقائق الراهنة ! .
إن فقد الأحبة الذي ليس في البداية سوى الحرمان والمصاب ، سيجد صفة الهداية والإرشاد بعد قليل من الزمن ، فإن كل واحدة من هذه الحوادث تتكفل بإيجاد تحوّل في حياتنا لا محالة ، تنهي دوراً من الصبا والشباب المشرف على الأفول ، وتقطع سيرة مستمرة من الحياة والعمل الدائب الدائم ، إلاّ أنها تستحدث بمكانها سيرة جديدة تكون أكثر استعداداً للنموّ والكمال .
إن من يريد أن يعيش كالوردة الطرية سعيدة بعيدة عن الشمس المحرقة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة : الآيات 155 ـ 157 .
وغير آبهة برقة جلدتها وفرعها القائمة عليه ، حينما يهملها الفلاح وتتهاوى حيطان البستان ، تتبدّل إلى شجرة تين قوية في غابة ، تقوم بإفادة الناس بظلالها وثمارها »(1) .
لا ريب في أن الله قادر على خالق عالم لا ألم فيه ولا شقاء ، ولكنه لو كان إذ ذاك يسلب الإنسان حرية إرادته واختياره ، ويتركه بلا إرادة ودون اختيار وقدرة ، يتشكل في الطبيعه كسائر الموجودات ويتلون بألوانها ، فهل كان ـ إذ ذاك ـ يستحق اسم : « الإنسانية » أيضاً ؟ .
هل كان إذ ذاك يجد كماله ولا ينحدر إلى هاوية الانحطاط والسقوط مع افتقاده لاستعداده وحريته ؟ وهل كان العالم يشتمل إذ ذاك على ما فيه من الحسن والجمال الذي لا يتميز إلاّ بالقياس بأضداده ؟ .
إن الله الحكيم سبحانه أراد بحكمته المهيمنة على الوجود كله أن يدل على قدرته وحكمته في تجديد الحوادث وإتقانها بتفضّله على الإنسان بنعمة الاختيار والحرية التي لا تقدّر بثمن .
أودع في الإنسان القدرة على الخير والشر كليهما ، ومن دون أن يجبره على فعل أيهما ينتظر نمه الخير دائماً ، فإنه لا يرضى بالشر والقبيح ، وإنما يرضى بالحسن والجميل الذي قرر أجراً كثيراً لا يحصى على فعله وترك ضدّه ، وقد نهاه عن سوء السيره والإساءة بالاختيار ، وأوعده بالجزاء والعذاب الأليم ، فللإنسان أن يعمل بإرادته واختياره تحت هداية الله سبحانه فيكون شاكراً ، أو يترك فيكون كفوراً .
وقد فتح الله للإنسان طريق العودة إلى الطهارة والنور حتى إذا ما زلت به قدمه عاد إلى لطف الله ورحمته ، وهذا هو من لطف الله وعدله ورحمته .
إن من يبادر إلى عمل صالح إذا ما أثابه الله على عمله ومنجزاته ثواباً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الفلسفة الاجتماعية : ص 397 ـ 398 ( بالفارسية ) .
عاجلاً ، لم تكن له فضيلة على الفاسد ذي العمل غير الصالح ، وكذلك إذا ما عاقب الله ذوي الأعمال السيئة بالعذاب العاجل ، لم تبق أية مزية للفضيلة على الرذيلة ، وللطهارة على الخبث وسوء السريرة .
إن أساس العالم مبنيّ على وجود الأضداد ، وإن تحوّل المادة في صفاتها هو الذي يجري من خلاله فيض الوجود من الباري سبحانه على هذا العالم ، ولو لم تكن المادة تتشكل بأشكال مختلفة ، ولم تكن مستعدة لتقبل الصور الجديدة على أثر التضادّ بين الموجودات لما أمكن أن يتحقق التكامل والتطوّر لهذه الموجودات .
إن العالم الثابت غير المتغير كرأسمال راكد لا يفيد ربحاً ، وإنما تداول المال هو الذي يستتبع الربح والفائدة ، وقد يكون تداول رأسمال خاص يستتبع خسارة خاصة ، إلاّ أن جميع مواد العالم وكل هذا الرأسما لا ريب يربح في تداوله .
إن التضادّ الموجود في صور المادة يقود نظام الوجود إلى كماله المطلوب .
نحن إذا لاحظنا جيداً وجدنا أن « الشر » ليس وصفاً حيقيقياً بل إنما هو وصف نسبيّ ، فالأسلحة النارية بيد العدوّ شرّ لي وهى بيدي لمقابلته خير لي ، ولولا العداء بيني وبين عدوّي فلا هي شرّ ولا هي خير .
أضف إلى ذلك أن نظام العالم لا يلبي كل ما نريد ، ونحن نريد أن نحصل عى كل ما نريد مما لا يحصى من دون أيّ مزاحم أو مانع ، بينما العوامل الطبيعية لا تستجيب لما نحب مما لا أهمية له ولا قيمة ، ولا تستسلم لميولنا ، ولذلك فحينما نواجه في حياتنا الآلام نجزع ونفزع ونعبّر عما أصابنا بالشر ، وهذا التعبير إنما هو من عدم استيعابنا لشؤون الوجود في ذاتنا وعالمنا .
إن مـن يعلم بعدم وجود النفط في المصباح إذا أراد أن يوقده فلم
يتّقد ، لا يسب الأرض والسماء ولا ينادي بالويل والثبور .
إن عالم الوجود يسير نحو هدفه المرسوم له بسعي متواصل ، وحثيث خطوة خطوة ، ولا تحدث التحوّلات فيه حسب خواطر البشر ، بل بالعلل والأسباب .
على هذا لابدّ لنا من أن نخضع ونقبل بأن بعض مجريات هذا العالم لا توافق ميولنا ، إذن فلا يمكن أن نصف ما لا يلائمنا من هذا العالم بالظلم والجور والشر بالنظرة الفلسفية .
يقول أحد العلماء : « إن الطبيعة صادقة وعملاقة ، تعمل عملها بدقة وبلا أيّ زلل ، ولا يصدر الخطأ والغلط إلاّ من ناحيتنا . إن الطبيعة تحارب الضعف والعجز ، ولا يظهر شيء من أسرارها ورموزها إلاّ للطاهرين من المقتدرين المتقين » .
إن أميرالمؤمنين علياً ( عليه السلام ) يذمّ الدنيا ولكنه يراها : خير دار لمن أبصر بها واعتبر منها ، وكان يواجه في حياته أنواع الشدائد والآلام ولكنه يذكر الناس بعدالة الله المطلقة .
وهنا نقطة أخرى هي : أن الخير والشرّ ، في نظام الوجود ليسا مستقلين بعضهما عن بعض ، بل الخير هو الموجود والشر هو المعدوم ، فحينما يأتي الكلام عن الفقر والجهل والمرض ليس الفقر إلاّ فقدان الثروة وليس الجهل سوى عدم العلم ، وليس المرض غير انعدام السلامة أو اختلالها .
وحبنما نحسب الآفات والسباع والمصائب شروراً ليست هي إلاّ أعداماً ، أو ليست شراً إلاّ لأنها أعدام في أمور أخرى ، وإلاّ فلا يمكن أن نعدّ الشيء الموجود بما هو موجود شراً ، فلو لم تستتبع الأمور هذه المرض والموت ولم تسبب في فقدان أجزاء من الوجود ، أو لم تمنع عن نموّ بعض الاستعدادت الإنسانية وغيرها ، لم تكن شراً أصلاً ، فإنما الشرّ بالذات هو
ما ينشأ من هذه الأمور من الخسائر والتلفات .
فما هو موجود في العالم ، إنما هو خير ، والشرّ إنما هو من نوع العدم ، وليس العدم نوعاً من الوجود ، فليس الشرّ نوعاً من الوجود .
وليس مثل الوجود والعدم إلاّ كمثل الشمس والظلّ ، فإذا واجه الجسم الشمس أوجد ظلاً ، ولكن ما هو هذا الظلّ ؟ ليس له شيء من الوجود ، وليس هو سوى عدم شمول النور المباشر لوجود المانع ، وإلاّ فليس مستقلاً في وجوده .
إن الأشياء بما أنها قد تعلق بها الخلق ، ووجدت لنفسها حظاً من الوجود ، ليست شراً من هذه الجهة ، بل الوجود في الفلسفة الإلهية يساوي الخير والإحسان ، فكل شيء خير في وجوده وبالنسبة إلى نفسه ، ولو كان شراً فإنما هو بالنظر إلى وجوده النسبي والإضافي بالنسبة إلى الأشياء الأخرى ، وليس الوجود النسبيّ وجوداً حقيقياً وإنما هو وجود اعتباري لم يتعلق به الوجود بالذات .
فبعوض الملاريا ليس شراً في نفسه لنفسه ، وإنما يوصف بالسوء بالنظر إلى إساءته إلى الإنسان وتسبيبه له المرض والموت ، والذي يتعلق به الخلق إنما هو وجود الشي لنفسه الذي هو وجوده الواقعي ، وأما الوجودات الاعتبارية فبسبب عدم واقعيتها في الوجود لا يصحّ أن نسأل : لماذا خلق الله هذه الوجودات الاعتبارية الإضافية ، فإن الأمور الانتزاعية والإضافية تلازم ملزوماتها ولا تنفك منها قط ، بل هي من اللوازم القسرية للأمور الحقيقية الواقعية ، أما نفس هذه الوجودات الإضافية فبما أنها لاحظ لها من الوجود لا يمكن السؤال عن وجودها .
إنما الموجود بالوجود الواقعي يجد وجوده من الخالق الموجد ، والأشياء والأوصاف الحقيقية لها وجود في خارج أذهاننا ، أما الأوصاف النسبية فإنما هي مخلوقة لأذهاننا ولا حقيقة لها في خارج أذهاننا ، فلا يصحّ أن نسأل عن خالقها .
لقد اقتضت الحكمة الإلهية وجود هذا العالم بنظامه هذا الموجود بجميع لوازمه وأوصافه التي تشكل بمجموعها هذا الكلّ المتشكل . أما العالم بلا نظام ، أو بلا نظام العلية ، أو مع استقلال الخير عن الشرور الإضافية النسبية ، فليس إلاّ وهماً محالاً ، إذ ليس الكلام على جزء من النظام دون جزء آخر ، بل كل الوجود كالبدن الواحد ، وحينذاك يصبح عالماً آخر غير هذا العالم ويخرج عن مورد الكلام .
إن الله غنيّ بالإطلاق ، وذلك يلازم فيض الخلق والإيجاد ، كما يلازم البذل الجواد ، من دون أن يريد بذلك جزاءً أو شكوراً ، أو كالفنان الماهر الذي يلازم الفنّ والإبداع الدائم ، فالخلق والإيجاد من لوازم أوصاف ذات الخالق البارئ سبحانه .