المُناظرة الخامس والعشرون
مناظرة الشيخ الكراجكي مع بعضهم في القول بأن أمير المؤمنين عليهم السلام اسلم
اعلموا ـ أيدكم الله ـ أن المخالفين لشدة عداوتهم لاَمير المؤمنين ألقوا شبهة موّهوا بها على المستضعفين، وجعلوا لها طريقاً، يسلكها من يروم نفي الاِسلام عن أمير المؤمنين عليه السلام .
وذلك أنهم قالوا: إنما يصح الاِسلام ممن كان كافراً، فأما من لم يك قط ذا كفر ولا ضلال، فلا يجوز أن يقال أنه أسلم، وإذا كان علي بن أبي طالب عليه السلام لم يكفر قط، فلا يصح القول بأنه أسلم .
وهذا ملعنة من النصاب لا تخفى على أولي الاَلباب، يتشبثون بها إلى القدح في أمير المؤمنين عليه السلام ، والراحة من أن يسمعوا القول بأنه أسلم قبل سائر الناس، وقد تعدتهم هذه الشبهة، فصارت في مستضعفي الشيعة، ومن لا خبرة له بالنظر والاَدلة، حتى إني رأيت جماعةً منهم يقولون هذا المقال، ويستعظمون القول بأن أمير المؤمنين عليه السلام أسلم أتم استعظام.
وقد نبهتهم على أن هذه الشبهة مدسوسة عليهم، وأن أعداءهم ألقوها بينهم، فمنهم من قبل ما أقول، ومنهم من أصر على ما يقول .
وقد كنت اجتمعت بأحد الناصرين لهذه الشبهة من الشيعة، فقلت له: أتقول إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مسلم؟
فقال: لا يسعني غير ذلك.
فقلت له: أفتقول إنه يكون مسلماً من لم يسلم؟
فقال: إن قلت بأنه أسلم، لزمني الاِقرار بأنه قبل إسلامه لم يكن مسلماً، ولكني أقول: إنه ولد مسلماً مؤمناً.
فقلت: هذا كقولك إنه ولد حياً قادراً، وهو يؤديك إلى أن الله تعالى خلق فيه الاِسلام والاِيمان، كما خلق فيه القدرة والحياة، ويدخل بك في مذهب أهل الجبر، ويبطل عليك القول بفضيلة أمير المؤمنين عليه السلام في الاِسلام، وما يستحق عليه من الاَجر .
فاختر لنفسك: إما القول بأن إسلامه وإيمانه فعل الله سبحانه، وأنه ولد مسلماً ومؤمناً، وإن ساقك إلى ما ذكرناه .
وإما القول بأن الله تعالى أوجده حياً قادراً ثم آتاه عقلاً، وكلَّفه بعد هذا، فأطاع، وفعل ما أمر به مما يستحق جزيل الاَجر على فعله، فإسلامه وإيمانه من أفعاله الواقعة بحسب قصده وإيثاره، وإن أدراك في وجوده قبل فعله إلى ما وصفناه.
فحَيَّره هذا الكلام، ولم يجد فيه حيلةً من جواب.
ومما يجب أن يكلم به في هذه المسألة أهل الخلاف، أن يقال لهم: لِمَ زعمتم أنه لم يسلم إلا من كان كافراً؟
فإن قالوا: لاَن من صح منه وقوع الاِسلام فهو قبله عارٍ منه، وإذا عري منه كان على ضده، وضده الكفر.
قيل لهم: لمَ زعمتم أنه إذا عري منه كان على ضده؟ وما أنكرتم من أن يخلو منهما، فلا يكون على أحدهما؟
فإن قالوا: إن ترك الدخول في الاِسلام هو ضده، لاَنه لا يصح اجتماع الترك والدخول، فمتى كان تاركاً كان كافراً، لاَن معه الضد.
قيل لهم: إنما يلزم ما ذكرتم، متى وجدت شريعة الاِسلام، ولزم العمل بها، وعلم العبد وجوبها عليه بعد وجودها، فأما إذا لم يكن نزل به الوحي، ولا لزم المكلف منها أمر ولا نهي، فإلزامكم الكفر جهل وغي.
فإن قالوا: قد سمعناكم تقولون: إن الوحي لما نزل على النبي صلى الله عليه وآله بتبليغ الاِسلام دعا إليه أمير المؤمنين عليه السلام فلم يجبه عند الدعاء، وقال له: أجلني الليلة، وتعدون هذا له فضيلة، وفيه أنه قد ترك الدخول في الاِسلام بعد وجوده.
قلنا: هو كذلك، لكنه قبل علمه بوجوبه، وهذه المدة التي سأل فيها الاِنظار هي زمان مهلة النظر، التي أباحها الله تعالى للمستدل، ولو مات قبل اعتقاد الحق لم يكن على غلط، وهكذا رأيناكم تفسرون قول إبراهيم عليه السلام لما ( رَأَى كَوْكَبَاً قَالَ هَذَا رَبِّي، فَلَمّاَ أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ ) (1) ، إلى تمام قصته عليه السلام .
وقوله: ( إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَا تُشْركُونَ * إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالاَرْضَ حَنِيفَاً وَمَا أنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ) (2) ، وتقولون: إن هذا منه كان استدلالاً، وهي في زمان مهلة النظر التي وقع عقيبها العلم بالحق .
فإن قالوا: فما تقولون في أمير المؤمنين عليه السلام قبل الاِسلام ؟ وهل كان على شيء من الاعتقادات؟
قيل لهم: الذي نقول فيه أنه كان في صغره عاقلاً مميزاً، وكان في الاعتقاد على مثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله قبل الاِسلام، من استعماله عقله، والمعرفة بالله تعالى وحده، وإن ذلك حصل من تنبيه الرسول صلى الله عليه وآله ، وتحريك خاطره إليه، وحصل للرسول من ألطاف الله تعالى، التي حركت خواطره إلى الاِسلام والاعتبار، ولم يكن منهما من سجد لوثن، ولا دان بشرع متقدم .
فأما الاَمور الشرعية فلم تكن حاصلةً لهما، فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وآله لزم أمير المؤمنين عليه السلام الاِقرار به، والتصديق له، وأخذ الشرع منه.
وإنما قال له: أجلني الليلة ليعتبر فيقع له العلم واليقين مع اعتقاد التصديق لرسول رب العالمين، فلما ثبت له ذلك أقَرَّ بالشهادتين، مجدداً للاِقرار بالله سبحانه، وشاهداً ببعثة رسول الله صلى الله عليه وآله .
فإن قالوا: فأنتم إذاً تقولون إن رسول الله صلى الله عليه وآله أسلم؟ وهذا أعظم من الاَُولى.
قيل لهم: إن العظيم في العقول هو الانصراف من هذا القول، فإن لم تفهموا فيه حجة العقل فما تصنعون في دليل السمع، وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله: ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ ) (3) وقوله سبحانه: ( قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهُدَى وأُمِرْنَا لِنُسْلمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ ) (4) ، وقوله: ( فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهيَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَني، وَقُل لّلَّذِينَ أوتُوا الكتَابَ وَالاَمِّييِّنَ أأسلَمتم فإنْ أَسلموا فقد اهتدوا وَإن تَوَلَّوا فإنَّما عَليكَ البلاغُ واللهُ بصيرٌ بالعبادِ ) (5) .
ونظير ذلك كثير في القرآن، فكيف يصح هذا الاِسلام من الرسول ولم يكن قط كافراً، وهل بعد هذا البيان شك يعترض عاقلاً ؟؟
ثم يقال لهم: إذا كان لا يسلم إلاّ من كان كافراً، فما تقولون في إسلام إبراهيم الخليل عليه السلام ولم يكن قط كافراً، ولا عبد وثناً، حين ( قالَ لهُ رَبُّه أَسلِم قال أسلمتُ لِربِّ العالمينَ * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بَنيَّ إنَّ اللهَ اصطفى لكُمُ الدِّين فَلا تَموتُنَّ إلاّ وأنتم مُسلمون ) (6) .
فقد تبين لكم ـ أيها الاَخوة ثبتكم الله على الاِيمان ـ ما تضمنه هذا الفصل من البيان عن صحة إسلام أمير المؤمنين عليه السلام .
وأنا أتكلم بعد هذا على الذين قالوا إنه عليه السلام قد أسلم، ولكن لم يكن السابق الاَول ، وزعمهم أن المتقدم على جميع الناس أبو بكر (7) .
____________