عربي
Tuesday 5th of November 2024
0
نفر 0

المُناظرة التاسعة والاربعون /مناظرة السيد محمد تقي الحكيم (1)مع أكابر علماء مؤثر البحوث الإسلامية في عصمة أهل البيت عليهم السلام -2

قال: يرجع إلى صحابته.
قلت: هب أنه وجد عاماً عند أحد الصحابة ، واحتمل أن يكون له مخصص عند غيره ، أو وجد حكماً واحتمل نسخه ، أو مطلقاً واحتمل تقييده ، فماذا يصنع إذ ذاك؟
قال: عليه الفحص من قبل بقية الصحابة.
قلت: كيف؟ والصحابة مشتتون أيظل هذا السائل ـ وافترضه ممن دخل الاِسلام جديداً ـ يبحث عنهم حتى يستوعبهم فحصاً ، وفيهم من هو في الحدود يحمي الثغور، وفيهم الحكام والولاة في البلاد المفتوحة بعيداً عن الحجاز، وفيهم المشتتون في قرى الحجاز وأريافها، وربما أنهى عمره قبل أن يصل إلى ما يريد؟!
وبعد عصر الصحابة ماذا يصنع الناس.
قال: يرجعون إلى مَنْ أخذ عن الصحابة من التابعين!
قلت: إذا امتنع استيعاب الفحص عن الصحابة مع قلتهم نسبياً ، فهل يمكن ذلك بالنسبة إلى من أخذ عنهم ، وهم أضعاف مضاعفة ، وكثير منهم مجهول، وإذا جاز ذلك في عصر التابعين ، فهل يجوز في العصور المتأخرة عنهم وكيف؟
ألا ترى معي ـ يا سيدي ـ أنه ليس من الطبيعي أن يفرض على الاُمة ـ أية أمة ـ مصدر تشريعي يلزمون بالاَخذ به ، وهو غير مجموع ومدوّن ومحدد المفاهيم ليمكن أن تقوم الحجة به عليهم.
ثم هل يمكن لاَية دولة متحضرة أن تعتبر تصرفات أحد حكامها قولاً وفعلاً وتقريراً في مدى حياته قانوناً يجب الرجوع إليه إلى جنب أحد قوانينها المدوّنة ، مع أن هذه الاَقوال والاَفعال والتقريرات لا تقع إلا أمام أفراد محدودين وغير معروفين تفصيلاً ، ولا الاَحاديث التي جرت أمامهم معروفة ، وهم لم يجمعوها بدورهم ولم ينسقوها ، كأن يضعوا إلى جنب العمومات قرائن التخصيص مثلاً وهكذا.
قال: وكيف نلائم إذن ، بين اعتقادنا بلزوم الرجوع إليها ، وبين الواقع الذي تذكره؟
قلت: الصور المتصورة في المسألة اربعة ، نعرضها ونختار أكثرها ملاءمة للواقع العقلي والتأريخي.
الاُولى: أن نسقط السنة عن الحجية ونكتفي بالكتاب ، وفي هذا محق للاِسلام من أساسه ، وأظن أن إخواني العلماء يؤمنون معي أن الكتاب وحده لا ينهض ببيان حكم واحد بجميع ما له من خصوصيات ، فضلاً على استيعاب جميع الاَحكام ، بكل ما لها من أجزاء وشرائط.
الثانية: أن نحمل النبي صلى
الله عليه وآله ـ وحاشاه ـ مسؤولية التفريط برسالته بتعريضها للضياع عندما لم يدونها ، أو يأمر الصحابة بالتدوين والتنسيق.
الثالثة: أن نحاشي النبي صلى
الله عليه وآله عن تعمد التفريط ونرميه بعدم العلم ، وحاشاه بما ينتج عن إهماله التدوين من مفارقات ، أيسرها ضياع كثير من الاَحكام الشرعية ، نتيجة موت قسم من الصحابة حملة السنة ، أو نسيانهم أو غفلتهم ـ وهم غير معصومين بالاتفاق ـ وهكذا، هذا بالاِضافة إلى ما يسببه الفحص عن الاَحكام من قبل المحتاجين إليها من المكلفين ، من عسر وحرج بسبب تشتت الصحابة وتشتت رواتهم بعد ذلك ، إن لم يكن متعذراً أحياناً.
الرابعة: أن نفترض له جمعها وتنسيقها وإيداعها عند شخص مسؤول عنها، عالم بجميع خصائصها ليسلمها إلى من يحتاج اليها من المسلمين ، ثم يورثها من بعده لمن يقوى على القيام بها من بعده ، كما ورثها هو ، حتى تستوعب من قبل المسلمين تدويناً ، ويسهل الاِعتماد عليها من قبلهم ، ولو بالطرق الاجتهادية.
فإذا اعتبرنا السنة ـ بحكم الضرورة ـ من مصادر التشريع ، ونزهنا النبي صلى
الله عليه وآله عن الجهل والتفريط برسالته ، تعين الاَخذ بالفرض الرابع.
ومن هنا نعلم أن النبي صلى
الله عليه وآله ما كان مسوقاً بدوافع عاطفية ، وهو يؤكد ويحث ويلزم بالرجوع إلى أهل بيته ، بأمثال هذه النصوص، « إنما مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق » (7) . « إن مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل ، من دخله غفر له » (8) « إني تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الاَرض، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفونني فيهما » (9) .
وقوله في تحذيرهم ، وهو يمهد لاِعلان النص على الاِمام يوم الغدير : « كأني دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب
الله وعترتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، ثم قال: إن الله عزوجل مولاي ، وأنا مولى كل مؤمن ، ثم أخذ بيد علي عليه السلام فقال: من كنت مولاه فهذا وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه » (10) .
وقوله ـ صلى
الله عليه وآله في خصوص الاِمام علي عليه السلام ـ : « علي باب علمي ، ومبين لاَمتي ما اُرسلت به من بعدي » (11) .
وقال له : « أنت أخي ووارثي ، قال : وما أرث منك ؟ قال صلى
الله عليه وآله : ما ورّث الاَنبياء من قبلي » (12) .
وفي رواية كنز العمال « ما ورث الاَنبياء من قبلي ، كتاب ربهم وسنة نبيهم » (13) .
قال أحدهم ـ وقد قطع عليّ سلسلة الكلام والتوسع برواية الاَحاديث ـ : نحن لا ننكر علم أهل البيت أو الاِمام علي ، ولا لزوم محبتهم والتمسك بهم ، بل نحن أكثر تمسكاً بهم منكم ، وإنما حديثنا في ثبوت العصمة لهم!!
قلت: صحيح أن حديثنا كان عن العصمة وليس عن العلم ، وما أظن أننا بعدنا عن الحديث لو تركتموني أتم الكلام وأربط بين حلقاته وما أدري ما دخل المفاضلة هنا ، والتماس أكثرنا تمسكاً بأهل البيت ، والحديث ليس مسوقاً لهذه الناحية العاطفية!
وهنا التفت أكثرهم إلى القائل بنظرة عتب ، ثم التفتوا اليّ وقالوا : تفضل فاستمر بالحديث.
قلت: فاذا كنتم قد اكتفيتم بهذاالمقدار من الاَحاديث ـ وفيها فعلاً بعض الكفاية لِما نريد ـ فإني أحب أن أعود إلى السؤال الاَول الذي وجهناه في بداية الحديث ما هو السر في التزامنا بعصمة النبي صلى
الله عليه وآله
قال: أحدهم: سدُ فجوات الشك في أن ما يأتي به النبي صلى
الله عليه وآله من قول أو فعل أو تقرير فإنما هو من الله عزوجل ، لا مجال فيه لرأي أو شبهة أو سهو أو غفلة أو تعمد كذب.
قلت: فإذا افترضنا أن أهل البيت عليه السلام كانوا هم الامناء على السنة وهم ورثتها بمقتضى هذه الاَحاديث ، ونحن مأمورون بالرجوع إليهم باعتبارهم الورثة لها، أفلا ترون أن الباعث الذي دعانا إلى الاَلتزام بعصمة النبي صلى
الله عليه وآله ما يزال قائما بالنسبة اليهم ، وهو سدُ فجوات الشك في أن ما يؤدون إنما هو السنة الموروثة، لا آراؤهم الخاصة، ولا ما ينتجه الخطأ والنسيان والسهو وتعمد الكذب.
وإن شئتم أن تقولوا : إن فكرة الاِمامة امتداداً لفكرة النبوة وبقاءً لها باستثناء ما يتصل بعوالم الاتصال بالسماء من طريق الوحي ، فإذا احتاجت النبوة لاَداء أغراضها ـ بحكم العقل ـ إلى تحصينها بالعصمة ، احتاجتها الاِمامة لنفس السبب ما دامت الاِمامة امتداداً لها من حيث أداء الوظائف العامة كاملة ، وأهمها تبليغ السنة وإيصالها إلى الناس.
على أنا في غنى عن هذا النوع من الاستدلال بالعودة بكم إلى مضمون نفس هذه الاَحاديث ، ليكون استدلالنا بالسنة نفسها على عصمة أهل البيت عليهم السلام بدلاً من دليل العقل ، ولنختر من هذه الاَحاديث ما فيه تعميم لجميع أهل البيت عليهم السلام كحديث السفينة أو الثقلين، والاَفضل أن نتحدث عن:
حديث الثقلين
للتسالم على صحته عند جل المسلمين ، ولوفرة رواته بل ثبوت تواتره، وحسبه أن تصل طرقه لدى الشيعة إلى اثنين وثمانين طريقاً ، ولدى السنة إلى تسعة وثلاثين (14) ٍ. وما أظن أن حديثاً من الاَحاديث التي ادعي تواترها بلغ من وفرة الرواة ما بلغه هذا الحديث.
ثم ما أظن أن كتب الحديث والتأريخ والتفسير على اختلافها قد عنيت بمثل ما عنيت بهذا الحديث ، حتى بلغت الكتب التي روته في مختلف العصور المئات وألّفت فيه رسائل مستقلة (15) .
والظاهر أن سر هذه العناية البالغة بهذا الحديث هو عناية النبي صلى
الله عليه وآله واهتمامه البالغ به ، فقد صدع به في حجة الوداع بعرفة ، وفي غدير خم ، وبعد انصرافه من الطائف ، وفي الحجرة قبيل وفاته ، وهكذا.
قال أحدهم: وما نصنع بحديث (وسنتي) لو أخذنا بحديث الثقلين ، ولماذا تقدم حديث الثقلين عليه ، وهو معارض له.
قلت: إنما نقدم حديث الثقلين لاَنه حديث متواتر ، ولا أقل من شهرته وصحة طرقه ، وعناية الصحاح والمسانيد به ، بينما لم يرو حديث وسنتي إلا أفراد محدودون ، ورواياتهم لم تخضع لشرائط الاعتبار ، لوقوع الاِرسال فيها.
وعلى فرض صحتها ، فأين موقع المعارضة بين الحديثين ، وليس لها منشأ إلا توهم التدافع بين مفهوميهما، وهما لا يخرجان على كونهما من مفهومي العدد واللقب، وكلاهما ليسا بحجة في دفع الزائد، فأي محذور في أن يخلف الكتاب والسنة والعترة، وهو ما يقتضيه الجمع العرفي بينهما.
على أن أحدهما يرجع إلى الآخر، لما سبق أن قلنا من أن أهل البيت لا يأتون بغير السنة، لاَنهم ورثتها والمسؤولون عن تبليغها، وكلام أئمة أهل البيت عليهم السلام صريح في ذلك، وما أكثر ما تردد مضمون هذا الكلام على السنة قائلهم: حديثي هو حديث أبي ، وحديث أبي هو حديث جدي رسول
الله ، فحديثنا واحد (16) .
ورواية السنة لا يمكن الاَخذ بها على ظاهرها ، لامتناع جعل مصدر تشريعي تسأل الاُمة على اختلاف عصورها عن العمل به، وهو لم يدوّن ولم ينسق على عهده ، ولا العهود القريبة منه، لما في ذلك من التفريط بالرسالة وتعجيز المكلفين دون أداء وظائفها كما سبق شرحه.
فالظاهر أن الحديثين يعضد بعضهما بعضاً ، ويؤديان ـ بعد الجمع بينهما ـ وظيفةً واحدةً ، مرجعها إلزام المسلمين بالرجع إلى السنة المودعة لدى أهل البيت عليهم السلام ، وعدم جواز إغفالهم لها.
قال أحدهم: ومعنى ذلك أنكم لا تأخذون بغير روايات أهل البيت عليهم السلام ، وتلقون بأحاديث أهل السنة ، ولا تعتمدونها؟!
قلت: يا أخي ومن قال ذلك ؟! إن السنة حجة على كل حال ، ثبتت من طريق أهل البيت عليهم السلام أو من طرق غيرهم، شريطة أن تشتمل على ما يوجب الاطمئنان بالصدور ، ولكن أهل البيت عليهم السلام معصومون عن الخطأ في أدائها، ومستوعبون لكل ما يتصل بها، بحكم هذه الاَحاديث التي مرت عليك.
قال: المعروف عنكم أنكم لا تأخذون بأحاديث غير الاِمامية ، ولا تعتمدونها!!
قلت: لا أعرف مصدراً لهذا القول ، كيف وفي كتب الدراية ما يسمى بالحديث الموثّق (17) وهو ما كان في طريقه غير إمامي، واعتماد الموثقات عندنا أشهر من أن يتحدث عنه، وحسبك أن تفتح أي كتاب فقهي شيعي لترى مدى الاعتماد عليه، وما أكثر ما اعتمد فقهاء الشيعة على الاَحاديث النبوية التي لم يقع في طريقها إمامي واحد إذا ثبتت لديهم وثاقتها، والمقياس في الاعتماد على الحديث عندهم حصول الاطمئنان لديهم بصدوره عن المعصوم نبياً كان أو إماماً، من أي طريق حصل، ومزية أهل البيت عليهم السلام ـ كما قلنا ـ استيعابهم لكل ما يتصل بالسنة وعصمتهم في أدائها.
وبتعبير أدل إن الرجوع إلى أهل البيت عليهم السلام قاطع للعذر وموقر للحجة ، فإذا حصلت الحجة من غير طريقهم لزم الاَخذ بها، نعم إذا تعارض كلام أهل البيت عليهم السلام مع غيرهم قدم كلام أهل البيت عليهم السلام ، نقدم كلام المعصوم على غيره للقطع بحجيته بحكم أدلة العصمة، والشك ـ على الاَقل ـ في حجية معارضه، والشك في الحجية من أسباب القطع بعدمها، لما ذكر وقرب في الاُصول من أن القطع مقوم للحجيّة، فمع الشك فيها يقطع بعدمها ، لعدم توفر عنصر العلم فيها.
قال: وحديث الثقلين أين موقع دلالته من العصمة ، وفي أي موقع من فقراته وجدتم ذلك؟
قلت: إن جل فقرات الحديث تدل عليها .
منها : اعتبارهم في الحديث قرناء للكتاب « إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب
الله وعترتي » (18) وحيث أن الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فكذلك قرناؤه.
ومنها : جعل العصمة للاُمة بالتمسك بهم عن الضلالة « ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي » وفاقد الشيء لا يعطيه، بداهةً، وهنا أحب أن أقف قليلاً عند هذه الفقرة ، لاَنبه على ما سبق أن أشرنا إليه من أن الاكتفاء بأحدهما عن الآخر ـ أعني الكتاب والعترة ـ لا يكفي في توفير الحجة القاطعة غالباً ، حيث اعتبرت العاصمية على الاِطلاق للتمسك بهما معاً لا بأحدهما، بل وجدت في الضمير العائد على الموصول فيما إن تمسكتم كناية عن تكوينهما وحدة ، لا تتحقق المعذرية أو المنجزية في الجميع إلا بها.
والفقرة الثالثة وهي قوله : « ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » فإنها من أدل ما يمكن أن يساق في هذا المجال عن العصمة.
قال: أحدهم وكيف؟
قلت: أسألك إذا صدر الذنب من العبد ، أو سها عن أحد الاَحكام ، مثلاً ، فهل هو متفق في حالة سهوه أو عصيانه مع الكتاب ، أو مفترق عنه.
قال: بل هو مفترق ، لاَن الالتقاء لا يكون إلا مع التوافق والانسجام بين الحكم المتبني في الكتاب ، والسلوك الذي صدر عنه ، ومع المخالفة ـ مهما كان شأنها ـ لانسجام بينها ولا وفاق.
قلت: وأضيف إلى ما تفضلتم به أن السهو والغفلة وإن أوجبا لاَصحابهما المعذرية شرعا، إلا أنهما لا يمنعاه من صدق الافتراق، لاَن الافتراق المعنوي كالافتراق الحسي، مداره ابتعاد أحدهما عن الآخر، فالشخص الذي يُقسر على ترك صديقه والابتعاد عنه يصدق عليه الافتراق عنه، وإن كان معذوراً في مفارقته، وهكذا من يخالف الكتاب.
وإذا صح هذا ، عدنا إلى تذكر ما سبق أن اتفقنا عليه ، من مفهوم العصمة التي أوجبناها للنبي صلى
الله عليه وآله بحكم العقل ، وهي استحالة صدور الكذب أو الخطأ أو السهو عليه، في مقام التبليغ، لنسأل على ضوئه هل يجوز وقوع افتراق العترة عن الكتاب لاَي سبب كان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله عن عدم وقوعه بمفاد لن التأبيدية « لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ».
قال: أحدهم وما في ذلك من محذور؟
قلت: أليس في تجويز وقوع الافتراق عليهما تجويز للكذب أو السهو على الرسول صلى
الله عليه وآله الذي أخبر عن عدم الافتراق ـ وهو في معرض التبليغ لاِلزامه صلى الله عليه وآله بالتمسك بهما ، وهو ما سبق أن اتفقنا على منافاته لعصمة النبي صلى الله عليه وآله ، فأهل البيت عليهم السلام إذن بمقتضى هذا الحديث معصومون ، وبخاصة فقرته الاَخيرة.
وما يقال عن هذا الحديث يقال عن حديث السفينة (19) وباب حطة (20) والكثير من نظائرهما.
والواقع يا سيدي أن هذه الاَحاديث وأمثالها مما ورد في أهل البيت عليهم السلام كانت مبعث حيرة ومعاناة لي في التماس بواعثها ، عندما حاولت أكثر من مرة أن أتحلل من رواسب العقيدة ، التي درجت عليها في أهل البيت عليهم السلام ، وأخضعها للمقاييس المنطقية التي أفهمها.
وكان أكثر ما يقف أمامي ويلح عليَّ في طلب التفسير هو اختصاص النبي صلى
الله عليه وآله هذه اللمة من بين أمته، بل من بين أهل بيته بالذات ، وفيهم أعمامه وأولاد عمه ، ليؤكد كل هذا التأكيد على لزوم اتباعهم والتمسك بهم بالخصوص، ويعتبرهم أعدال الكتاب تارة، وسفن النجاة اُخرى، والعروة الوثقى (21) ثالثة، والاَمان لاَهل الاَرض من الاختلاف (22) رابعة، ويختصهم بالتطهير من الرجس، ولا يكتفي دون أن يؤكد ذلك بمختلف صور التأكيد ، ويتخذ شتى المحاولات لاِبعاد كل من يحتمل في حقه شبهة المشاركة ، حتى يبلغ به الحال أن يبعد زوجته أم سلمة ـ وهي مَنْ هي في مقامها من الاِيمان والتقوى ـ عن المشاركة في الدخول تحت الكساء الذي طرحه عليهم ، وهو يتلو : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) (23) ثم لا يكتفي أيضاً دون أن يقف في كل يوم على باب علي وفاطمة عليهما السلام في أوقات الصلوات ، ليرفع صوته بتلاوته لهذه الآية ، وقد أحصيت عليه تسعة أشهر (24) وهو يكررها دون انقطاع.
إلى عشرات ، بل مئات ، من أمثال هذه الاَحاديث التي ينهى بعضها عن مخالفتهم، ويحذر من عدائهم وبغضهم، ويلزم باتباعهم وأخذ العلم عنهم، « فلا تقدموهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم (25)
والصور العقلية التي تصورتها في مجالات التفسير ثلاثة ، نعرضها لنختار أمثلها وأكثرها اتساقاً ، مع ما اتفقنا عليه من إثبات العصمة للنبي صلى
الله عليه وآله بالمفهوم الذي حررناه في بداية الحديث.
أولاها: الاِجمال في كلامه وعدم إعطائه اية دلالة تشريعية، وهذا ما تأباه صراحة النصوص بلزوم اتباعهم والتمسك بهم، والتعلم منهم وإثبات العصمة لهم، وقد مرت نماذج منها قبل قليل، وهي ليست موضعاً لنقاش.
الثانية: أن نسلم الدلالة التشريعية ، إلا أننا لا نسلم صدورها عن
الله عزوجل، بل نعتبرها صادرة عن النبي صلى الله عليه وآله ، لاَسباب عاطفية محضة اقتضتها علقته القريبة بهذا النفر من أهل بيته عليهم السلام .
وهذا النوع من الحمل مما تأباه أدلة العصمة، لاَن دخول العاطفة وتحكمها في مجالات التشريع مما يهير فكرة العصمة من أساسها، وأي ذنب أعظم من أن يفتري على
الله عزوجل ما لم يقله ، مجاراة لعواطفه وميوله وحاشاه.
على أن هذا النوع من الاِغراق في العاطفة تجاه نفر معين ، مع وجود غيرهم من أهل بيته عليهم السلام لو كان له ما يبرره في الواقع النفسي ، فليس هناك ما يبرر التعبير عنه ـ بهذه الاَساليب ـ لمجافاته، لما عرف به النبي صلى
الله عليه وآله من الخلق العظيم، وهل من الخلق أن يجحف في إبراز عاطفته تجاه نفر معين ، ليس فيهم ما يميزهم عن سائر أقربائه ، وفيهم مَنْ هو أكبر منهم، كالعباس مثلاً، أليس في هذا النوع من إبراز العاطفة تحدّ لهم لا مبرر له، وهو لا يصدر من أقل الناس عادة.
الثالثة: أن نسلم دلالتها التشريعية ونعود بها إلى أسبابها المنطقية، وأهمها ما توقروا عليه من العلم والعصمة، وهذه المحاولات التأكيدية كان مبعثها تركيز هذا المعنى في النفوس وترويضها لتقبله...
فإذا امتنع الفرض الاَول لصراحة النصوص، وامتنع الثاني لاَدلة العصمة في النبي صلى
الله عليه وآله تعين الاَخذ بالفرض الثالث والتعبد به.
قال أحدهم: وهل كانت هذه الصفات ـ أعني العلم والعصمة ـ واضحة لدى معاصريهم ، أي أن واقعهم التأريخي هل ينسجم مع ما يفهم من هذه النصوص.
قلت: هذا أهم سؤال يمكن أن يوجه ـ يا أخي ـ لاَنه يفتح أمامنا مجال التطوير في الاجابة على أمثال هذا النوع من الاستدلال.
فقد كان نوع الباحثين في الشؤون العقائدية ، عندما يريدون أن يتحدثوا أو يستدلوا على أية مسألة من مسائل الفكر التي ترتبط بشؤون العقيدة فإنما يتحدثون عما يجب أن يكون ولا يفكرون فيما هو كائن، وإذا فكروا فيه فإنما يفكرون في إخضاع ما هو كائن لما يجب أن يكون.
ولست أعرف فيهم من حاول تقييم أدلته على أساس من عرضها على الواقع المحسوس ـ فيما يكون له واقع محسوس منها ، ويلتمسون مدى انسجامها معه ، ثم ينطلقون من وراء ما ينتهون إليه إلى الحكم على صحة الدليل وعدمه.
وقد كانت لي محاولة ـ عندما كنت مدرساً لمادة التأريخ الاِسلامي ـ في كلية الفقه ـ أن أجعل من وسائل النقد المضموني لبعض الاَحاديث عرضها على طبيعة زمنها ، ثم بيئتها ، ثم الشخص الذي قيلت فيه ، فإن انسجمت معها جميعاً أمنت بصحتها ، إذا لم يكن في أسانيدها ما يوجب التوقف.
وكأنك ـ يا أخي ـ تريد أن تشير إلى نفس هذا المقياس في إيمانك بهذه الاَحاديث.
ومثل أدلة عصمة أهل البيت عليهم السلام آيات وأحاديث إذا كان فيها مجال لتردد ما من قبل بعض من عاصروا ولادتها، حيث أنها افترضت في الاَئمة واقعاً لم يخضع إذ ذاك لتجربة كاملة ، فهي أشبه بالتحدث عن عوالم الغيب ، فلا يقتضي أن يظل التردد قائماً بعد أن أخذ الاَئمة من أهل البيت عليهم السلام واقعاً تاريخياً عرضهم في مختلف مجالات السلوك والمعرفة، وبوسع الباحث أن يقطع تردده بدراسة سيرهم، والحكم لهم أو عليهم ، على ضوء ما ينتهي إليه.
والشيء الذي وددت التنبيه عليه أن التأريخ لم يكن في يوم ما ملكاً لهم ولشيعتهم وأتباعهم يسيرونه كيفما يريدون ، وإنما كان ـ كشأنه في أي عصرـ ملكاً للفئة الحاكمة تسيره كيف ما تريد.
ونحن نعلم أن أهل البيت عليهم السلام كانوا يشكلون في جميع أدوار حياتهم جبهة المعارضة للسلطة الزمنية ، المعارضة الشريفة التي لا يمكن أن تهادن على منكر تراه، كما لا تبخل في إرسال كلمة معروف في مشورة أو سلوك.
وكانت السلطة تعلم منهم ذلك وتحسب له حسابه وربما حسبت له أكثر من حسابه، فاتخذت له الحيطة الكاملة، وكثيراً ما تستبد بها الاَوهام والظنون فتوسع في تخيلاتها إلى أن هذا البيت ما يزال يعد عدته للعمل على الاستيلاء على السلطة والنهوض بالحكم ، وهم يعلمون أن الحكم حق من حقوقه المفروضة.
وكان من وسائل الحيطة التي اتخذتها السلطات على اختلافها محاربة شيعتهم وأتباعهم ، وضرب نطاق الحصار الاقتصادي عليهم ، ومنع وصول الحقوق والاَموال إليهم جهد ما يستطيعون ، وجعل العيون والرقباء لاِحصاء حتى عدد أنفاسهم، وربما توسعوا فحملوا أئمة أهل البيت عليهم السلام إلى عواصمهم ليكونوا تحت الرقابة المباشرة، وقد يدخلونهم السجن ، ليحولوا بينهم وبين ما يتخيلونه من نشاط وقد أنهت حياة أكثرهم بالاغتيال والقتل.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

البداء والإرادة المُناظرة الخامسة
المعتزلة
الاستعاذة بالله طريق النجاة من الشيطان
المُناظرة الثالثة والستّون /مناظرة الشيخ المفيد ...
اللغة والكلام وأثرهما في المدارس اللسانية
في معنى المولى
موقف القرآن من مسألة : (الحتمية) و (استقلال ...
اصل في معرفة ذوات المعصومين (ع ) وحياتهم بالاجمال ...
حقدت على الشيعة في البداية وكتب الشيخ المفيد سبب ...
حقيقة الشفاعة وأقسامها

 
user comment