عربي
Monday 23rd of December 2024
0
نفر 0

المُناظرة الخمسون /مناظرة السيد محمد تقي الحكيم مع أكابر علماء المؤتمر الإسلامي في مصر حول عصمة أهل البيت عليهم السلام وخلافتهم

المُناظرة الخمسون 

مناظرة السيد محمد تقي الحكيم مع أكابر علماء المؤتمر الإسلامي في مصر حول عصمة أهل البيت عليهم السلام وخلافتهم
مندوب الاِيمان.
س ـ في المواضيع التي ذكرتم أنها أُثيرت معكم من قبل العلماء الذين التقيتموهم هناك ما يتعلق بالشيعة والخلافة، وبما أن لهذا الموضوع ارتباطاً قوياً بما نشر في العدد السابق عن الشيعة والعصمة، فهل ترون أن نثير التحدث فيه لنربط بين حلقات هذه الاَحاديث الحساسة.
ج ـ لا مانع لديَّ شريطة أن لا نثقل على القراء ، كما أثقلنا عليهم في الحديث الماضي.
مندوب الاِيمان.
س ـ بالعكس إن القراء رحبوا بهذه الاَحاديث ترحيباً منقطع النظير، ولدينا كتب تشكر المجلة على اهتمامها باستقصاء كل ما دار في الندوات من أحاديث، وهم في أشد الشوق لمواصلة نشرها، وما أكثر ما تلقيت كلمات الحث والمطالبة والتشجيع من قبلهم، والآن هل تتذكرون أين جرى الحديث حول الشيعة والخلافة ومع مَنْ من أعلام الفكر هناك؟
ج ـ جرى هذا الحديث في أكثر من ندوة ـ وكان له في ندوتي الاِسكندرية والقاهرة ـ وهما اللتان سبق التحدث عنهما في موضوعنا السابق ـ مجال واسع.
وهناك جملة من الاَعلام شاركوا في الحديث عنهما ، وبخاصة بعض من شهدوا الندوتين ، ونحن نجمع ـ كما صنعنا في الحديث الماضي ـ جملة ما دار من أحاديث عنها سواء ما وقع منها في الندوتين المذكورتين ، أم غيرهما ملتزمين نفس الخطة التي سلكناها في الحديث الماضي.
س ـ هل تتذكرون كيف بدأ الحديث عن هذا الموضوع؟!
ج ـ بدأ الحديث فيما أتذكر في بعض الندوات عندما وجه إليَّ أحد الاَعلام هذا السؤال الهام: إذا كان في الاَدلة التي ذكرتموها ما ينهض بإثبات العصمة لاَهل البيت عليهم السلام ، فليس فيها ما يثبت الاِمامة بمفهومها العام الذي يتسع لخلافة الرسول صلى
الله عليه وآله وتخطئة مَنْ لم يعطهم هذا الحق، وأيُّ محذور في أن نؤمن بالفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ، فنعطي حق التشريع للاَئمة المعصومين : مثلاً، وحق التنفيذ لغيرهم ، ممن تختارهم الاُمة لاِدارة شؤونها العامة.
س ـ وماذا كان جوابكم على هذا السؤال؟
ج ـ قلت للسائل : إن سؤالك هذا مما يثير أمامنا عدة تساؤلات ، أظن أننا إذا قُدّر لنا أن نوفق للاِجابة عليها فستتضح وجهة نظر الشيعة في هذه المسألة، وربما تجمعت هذه الاَسئلة حول سؤالين رئيسين:
يتعلق أولهما في طبيعة الحكم في الاِسلام، وهل فيها ما يسيغ الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية؟ وعلى تقدير الفصل في هذه المسألة فهل هناك ما يلزم بإضفاء صفة العصمة على رأس الحكم، وما هي الاَسباب الداعية إلى ذلك؟ وهذه الاَسئلة كما ترون إنما تتعلق فيما يجب أن تكون عليه طبيعة الحكم من وجهة عقلية في التشريعات الاِسلامية.
وثانيهما: يتعلق في طبيعة ما هو كائن وهو التساؤل عن واقع ما صدر عن النبي صلى
الله عليه وآله وهل كان منسجماً مع ما ننتهي إليه في الاِجابة على الاَسئلة السابقة؟ ولماذا لم يتقبله كثير من المسلمين إذ ذاك؟
أما الجواب على السؤال الاَول: فإن الذي أعتقده أن طبيعة الحكم في الاِسلام تختلف جذرياً عما عليه طبيعة الحكم في الاَنظمة الاُخرى غير السماوية.
فإذا أمكن فصل السلطتين عن بعضهما في الاَنظمة الحديثة وبخاصة الديمقراطية منها، فإن ذلك غير ممكن بالنسبة إلى الاِسلام ، بل إذا أمكن تصوره في الاِسلام نفسه ـ بعد استكمال تشريعاته وتدوينها ـ فإن ذلك لا يمكن تصوره بالنسبة إليه في الفترة التي نؤرخ لها ، وهي أشبه بما يسمى في عرف الثورات الحديثة بفترات الانتقال.
قال أحدهم: وكيف؟
قلت: هذا واضح ، لاَن الاِسلام لا يعترف بوجود شخصية فرديةأو جماعية لها حق التشريع في مقابل ما تأتي به السماء من أنظمة وقوانين لاستئثار السماء في ذلك كله ، وحضرها ذلك على البشر جمعاء (
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ) (1).
وإذا عرفنا أن
الله جعل لكل حادثة حكماً ولم يغفل في تشريعاته شيئاً مما يحتاج إلى حكم من أفعال العباد إلا وشرع له حكمه الخاص، كما هو فحوى ما ورد في ذلك من حديث، اتضح لنا انعدام السلطة التشريعية في الدستور الاِسلامي وحصرها في الله عزوجل ، والاقتصار على السلطة التنفيذية لتلكم الاَنظمة والقوانين السماوية فيمن يدرك هذه الاَنظمة ويعرفها معرفة تامة من رسولٍ وغيره.
وهذا بخلاف الدساتير الوضعية ،لاِمكان فصلهما فيها ، وذلك بإعطاء حق التشريع ، مثلاً للبرلمانات أو مجالس الثورة، وحق التنفيذ لمجلس الوزراء، وعلى أن راس الحكم فيها لابد وأن يستقطب السلطتين معاً ، برجوعهما إليه لتوقف تحقيقهما على مصادقته وإقراره.
وهنا أود أن اسأل: ألا تعتقدون معي أن وظيفة رأس الدولة هي حماية الدستور وما يتفرع عليه ، من أنظمة دولته وقوانينها الخاصة ، والعمل على سلامة تطبيقها على جميع المواطنين؟
قال أحدهم: طبعاً.
قلت: ألا ترون أن طبيعة الحماية تستدعي إحاطة الحامي بواقع ما يحميه، والتوفر على معرفة كل ما يتصل به ، وإلا لما أمكن تصور معنى للحماية بدون ذلك، إذ لا معنى لحماية المجهول من التجاوز عليه ، وهو غير محدد له ، فحامي الدستور مثلاً كيف يمكن له حمايته ككل إذا كان يجهله كلاً أو بعضاً، وما يدريه تجاوز بعضهم على بعض ، ما يجهل منه ما دام مجهولاً لديه.
قال: بالطبع.
قلت: فحامي الاِسلام إذن يجب أن يكون محيطاً بكل ما يتصل بأنظمته وقوانينه.
قال: وما يمنع أن يكون ذلك متوفراً في غير أئمة أهل البيت عليهم السلام ؟
قلت: إن الذي يمنع عنه هو ما سبق التحدث فيه مفصلاً في المحاورة السابقة ، حيث تساءلنا ـ ونحن نتحدث عن عصمة أهل البيت عليهم السلام ـ عن مصادر المعرفة لحقائق الاِسلام في عصر الصحابة ، وانتهينا إلى أنهما الكتاب والسنة ، وقلنا: إن الكتاب ـ وإن دوّن على عهد الرسول صلى
الله عليه وآله وحُفظ ـ إلا أنه لم يحط بجميع خصائص التشريع، ومن هنا احتجنا إلى السنة لبيان ما أجمل فيه ، والتعرض لمختلف القيود والشرائط والموانع المعتبرة في أحكامه ، مما لم يتعرض لها بشيء من التفصيل ثم التعرف على الاَحكام التي لم يذكرها الكتاب العزيز.
وقلنا: إن السنة لم تدوّن على عهده ولم يلزم هو بتدوينها وتنسيقها بضم القيود إلى مطلقاتها والمخصصات إلى عموماتها،فالاِحاطة بها وبكل ما يتصل في شؤونها تكاد تكون ممتنعة لدى غير أهل البيت عليهم السلام حيث أودعها صلى
الله عليه وآله لديهم وألزم بالرجوع إليهم بأمثال أحاديث الباب والثقلين كما سبقت الاِشارة إليه.
على أني لا أعرف أحداً من الصحابة قد ادعى لنفسه المعرفة المستوعبة سواء منهم الخلفاء أم غيرهم، بل رأيت فيهم من يحتاج إلى أن يدل على معنى آية في كتاب
الله، ومَنْ يجمع الصحابة لاستشارتهم في حكم من الاَحكام يجهل واقعه، وما أكثر ما أرسل الخليفة عمر قولته المشهورة لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن. (2)
قال أحدهم: ألا ترى أن هذا منتهى الحرص والمحافظة على أحكام الشريعة من قبل هؤلاء الخلفاء، وإلا لما كانت أية ضرورة للاستفسار من قبل الاِمام والصحابة عما يجهلون من أحكام.
قلت: إن الذي يبدو لي أننا نسينا مواقع النقض من كلامنا، فالفحص والحرص على تطبيق ما يعلم من الاَحكام بعد العثور عليها لا ينافيان الجهل أحياناً، وقد قلنا إن حماية المجهول لا يمكن تصورها مطلقاً.
والسؤال في بعض الاَحيان عما يجهل من الاَحكام لا يعني السؤال في جميع الاَحيان، ولا استيعاب كل ما يتصل بأحكام الشريعة، وكيف ندفع احتمال السهو والغفلة ، وحمل الصحة لتصرفات الآخرين ، مما يوجب عدم الفحص عنها.
ومن أراد من السادة الاَعلام أن يتتبع ما صدر عن الخلفاء من الاَحكام التي لا تلتقي مع النصوص ـ كتاباً وسنة ـ فليرجع إلى أمثال كتاب الحجة شرف الدين (النص والاجتهاد) و(الغدير) للحجة الاَميني ليعرف مدى ما استدرك عليهم المعاصرون لهم من الصحابة وغيرهم في ذلك كله.
قال أحدهم: إن ما ذكرتموه لا يفرض أكثر من ضرورة توفر صفة العلم في الحماة ، لا العصمة كما افترضتموها لهم.
قلت: هذا صحيح ، لو كان عنصر الحماية لا يحتاج إلى أكثر من العلم ، أما إذا ضممنا إليه ـ لضمان وجودها واستمرارهاـ ضرورة تمثل المسؤول لواقعها تمثلاً نفسياً يأبى عليه التنكر لها مهما كانت البواعث له ، احتجنا إلى العصمة.
قال أحدهم: وماذا يعني هذا الكلام؟
قلت: إن الذي أعنيه أن لا يختلف الشخص ـ الذي يقوم بدور الحماية ـ في واقعه النفسي عنه في واقعه العقلي ، أي أن لا يحمل في أعماقه من الرواسب ما يتنافى مع طبيعة الرسالة التي آمن بها عقلياً ، لئلاً تستأثر بعض الرواسب في توجيهه الوجهة المعاكسة في حالات غفلة الرقيب ، أو تخديره بغضب أو غيره.
وأنتم ولا شك تعلمون أن الاِسلام جاء بثورة مستوعبة لمختلف أبعاد الاِنسان ، وقد شنها حرباً لا هوادة فيها على جملة ما كان سائداً في عصره من مفارقات، وإن الكثير ممن عاشوا تلكم المفارقات هم الذين اعتنقوا الاِسلام وناضلوا ودافعوا عنه ، وأكثرهم كانوا قد اعتنقوه ببواعث عقلية لا تمت إلى الواقع النفسي بصلة.
ولكن الرسالة ـ أية رسالة ـ لا يمكن أن تأتي من بداية ثورتها على جذور ما قامت عليه من مفارقات ، وبخاصة ما ترسب منها في أعماق الاِنسان ، بل هي تحتاج إلى أن تمر بأجيال يتخفف كل جيل لاحق من رواسب جيله السابق ، بعد تعويضه بما جد من قيم ومفاهيم نتيجة لقيام الثورة الرسالية الجديدة، ووظيفة الرسالة في بداية أمرها كبت تلكم الرواسب المعاكسة بإعطاء طاقة جديدة للضمير، أو الاَنا ليمنع من تسربها إلى الشعور ، والاستئثار بكل مجالات السلوك، وإلا فإن استئصالها لا يمكن أن يتم بعد أن أخذت مكانها بين عوالم اللاشعور.
ومن هنا كنا نرى بروز الكثير من الرواسب إذا تخدر الضمير ، أو وقف تأثيره بفعلٍ من بعض العوامل النفسية كالغضب مثلاً ، وهنا ذكرت مضمون كلام لاَحمد أمين يحسن أن نرجع إلى نصه في فجر الاِسلام.
مندوب الاِيمان ـ ثم تناول السيد كتاب فجر الاِسلام من أحد رفوف المكتبة واستخرج منه ص97 وقرأ فيها ما يلي « وبعد فإلى أي حد تأثر العرب بالاِسلام، وهل أمحت تعاليم الجاهليةونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الاِسلام، ألحق أن ليس كذلك ، وتاريخ الاَديان والآراء يأبى ذلك كل الاِباء ».
« فالنزاع بين القديم والجديد والدين الموروث والحديث يستمر طويلاً، ويحل الجديد محل القديم تدريجاً ، وقل أن يتلاشى بتاتاً ».
« وهذا ما كان بين الجاهلية والاِسلام فقد كانت النزعات الجاهلية تظهر من حين إلى حين ، وتحارب نزعات الاِسلام ، وظل الشأن كذلك أمداً بعيدا ولنقصُ طرفاً من مظاهر هذا النزاع ».
« جاء الاِسلام يدعو إلى محو التعصب للقبيلة والتعصب للجنس ، ويدعو إلى أن الناس جميعاً سواء (
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (3) وفي الحديث « المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم » (4) ، وخطب النبي صلى الله عليه وآله في خطبة الوداع « يا أيها الناس إن الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وفخرها بالاَباء ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى (5)، وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله قال : « من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية ، أو يدعو إلى عصبية ، أو ينصر عصبية ، فقتل قتل قتلة جاهلية » (6) وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله بين المهاجرين والاَنصار بعدما كان بين المكيين والمدنيين من عداء ».
« ومع كل هذه التعاليم لم تمت نزعة العصبية ، وكانت تظهر بقوة إذا بدا ما يهيجها، أنظر إلى ما روي في غزوة بني المصطلق أن رسول
الله صلى الله عليه وآله خرج في جماعة من المهاجرين والاَنصار فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الاَنصار، فكان بينهما قتال إلى أن صرخ يا معشر الاَنصار ، وصرخ المهاجر يا معشر المهاجرين ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فقال: ما لكم ولدعوة الجاهلية، فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الاَنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : دعوها فإنها منتنة، فقال عبدالله بن أبي أبن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاَعز منها الاَذل » (7) .
« أفلست ترى أن نزاعاً تافهاً ، لسبب تافه هيج النفوس ودعاهم إلى النزعة الجاهلية وتذكر العصبية المكية والمدنية ».
ومن يتصفح التأريخ يجد المئات من الشواهد أمثال ما ذكره الدكتور أحمد أمين ، ولعل أهم نقاط الضعف التي أجهز بها الخليفة أبو بكر على الاَنصار في سقيفة بني ساعدة هو إثارة هذه النزعة في أعماقهم ، عندما ذكرهم بالقتلى والجراح التي لا تداوى ما بينهم في الجاهلية ، وكان قد خدرها الاِسلام عندما ألف بين قلوبهم، ولقد ذكرت هنا مضمون حديث رواه الجاحظ يحسن أن نعود إلى نصه ففيه أعظم الدلالة على صدق ماذكره الدكتور أحمد أمين.
وهنا تناول السيد كتاب البيان والتبيين واستخرج ص181 من جزئه الثالث وقرأ فيها عيسى بن نذير قال : قال أبو بكر : نحن أهل
الله ، وأقرب الناس بيتاً من بيت الله ، وأمسهم رحماً برسول الله صلى الله عليه وآله إن هذا الاَمر إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الاَوس، وإن تطاولت إليه الاَوس لم تقصر عند الخزرج، وقد كان بين الحيين قتلى لا تنسى، وجراح لا تداوى، فإن نعق منكم ناعق فقد جلس بين لحيي أسد يضغمه المهاجري ويجرحه الاَنصاري ».
قال ابن دأب فرماهم و
الله بالمسكتة. (8)
وكان من نتائج تأثير هذه الخطبة التي دللت على مدى ما يملكه الخليفة من خبرة بالواقع النفسي أن حولت ذلك الواقع الذي أبعده الاِسلام إلى أعماق اللاشعور ، بفضل تأليفه بينهم إلى واقع شعوري متجسد يعمل عمله في الفرقة بينهم، وهكذا أجهز عليهم من أقرب نقطة ضعف ، وحملهم على التسابق إلى بيعته خشية أن يستأثر بالخلافة أحد الفريقين ، وكان أسرع الفريقين إليها أبناء الاَوس لاَن المرشح الوحيد للاَنصار إذ ذاك كان سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج كما تعلمون.
فإذا صح هذا من وجهة نفسية عدناإلى ما سبق أن قلناه من أن عنصر الحماية الذي يجب توفره في رأس الدولة يستدعي أن لا يحمل رأس الدولة في أعماقه أية رأسية على خلاف المفاهيم الثورية الحديثة ، وإلا لكانت الرسالة هي أو بعض مفاهيمها عرضة للتصدع متى استأثر الباعث اللاشعوري في توجيه صاحبه الوجهة المعاكسة.
وضمان هذه الناحية موقوف على أن يتولى دور الحماية شخص لا يملك اية راسبةفي أعماقه على خلاف هذه المفاهيم الثورية ، بالاِضافة إلى إيمانه العقلي بكل ما صدعت به من أفكار وأحكام.
قال أحدهم: وكيف يتهيأ مثل ذلك الشخص ليقوم بهذا الدور ، وهل في المسلمين إذ ذاك شخص لم يعش فترة من حياته في الجاهلية ليتولى دور الحماية كما تريدون.
قلت: يا سيدي ـ إذا كانت الفكرة سليمة فإن على الاِسلام أن يهيء مثل ذلك الشخص إذا كان يريد لنفسه ضمان التطبيق السليم ، وأنتم تعلمون أن قيمة الرسالة لا تبرز بمجرد التشريع ، وما قيمة تشريع لا يضمن له تطبيق سليم يتمشى مع الاَهداف الاَساسية التي تبرر وجوده ، وتقديم آلاف الضحايا في سبيل تركيز ذلك الوجود.
قال أحدهم: إن هذا صحيح جداً ولكن على الصعيد النظري فحسب ، لما فيه من طوبائية تتجافى مع الواقع العملي لنوع الناس.
قلت: قد يكون ذلك كما تقولون لو كانت الرسالة غير سماوية ، وكانت المخططات لها من صنع بشر عادي يكون معرضاً للخضوع للعوامل الذاتية في تصرفاته ولا أقل من خطئه واشتباهه.
أما وأن الرسالة سماوية ومخططها هو
الله عزوجل فليس هناك ما يمنع من وضع مخطط لتهيئة مثل أولئك الاَشخاص وإيداع ذلك إلى النبي لتنشئتهم وفق ذلك المخطط.
على أن دعوى الطوبائية لا أفهم لها دلالة في أمثال هذه المواضع مع إدراكنا لدور التربية السليمة في بناء الاَشخاص وفق المفاهيم التي يراد لها التطبيق ، ونحن نعرف أن الشخص الذي يُربى على أسس معينة لمفاهيم وقيم خاصة ، إذا أبعد عن كل ما يتجافى مع تلكم المفاهيم منذ صغره يكاد يستحيل عليه أن يصدر في تصرفاته عما يخالفها ، وأمامنا في واقعنا المعاش كثير من القيم الحضارية السائدة في بعض البلدان المتحضرة كالدول الاَسكندنافية مثلاً لا يمكن لاَهلها أن يخرجوا عليها ، وبعض هذه القيم انتزعت من واقع مفاهيمنا الاِسلامية كالصدق والاَمانة وغيرهما.
على أن الذي يكفينا الآن ـ ونحن نتحدث عما يجب أن يكون ـ هو اعترافنا بصحة هذه الفكرة على الصعيد النظري لننتقل بعد ذلك إلى دراسة ما هو كائن ثم نرى مدى انسجامه مع هذا الواقع الذي انتهينا إليه.
وأول ما يلفت نظرنا ونحن نستعرض هذا الجانب أن نرى في بعض تصرفات النبي صلى
الله عليه وآله ما يبحث عن تفسير ما دامت تصرفاته ـ بحكم رسالته ـ تصرفات كلها هادفة.
وأول ما يبحث عن التفسير احتضانه للاِمام علي عليه السلام من بداية حياته والاِشراف على تربيته بنفسه وهو صبي ، ثم وضع مخطط لاِبعاده عن جميع الاَجواء المعاشة إذ ذاك لاَمثاله من صبيان قريش ، يقول الاِمام علي عليه السلام وهو يتحدث في نهجه الخالد عن لون تربيته في هذه الفترة: « وضعني في حجره ـ يعني رسول
الله صلى الله عليه وآله ـ وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده ، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر اُمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة حراء (9) ، فأراه ولا يراه غيري » (10).

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ألاِیمان وعلامات المؤمن
المُناظرة الثالثة والسبعون /مناظرة الشيخ محمد ...
حقوق الإنسان في نظر أهل البيت ( عليهم السلام )
لماذا السجود على التربة ؟
الاَحاديث الواردة في بيان أهمية التقية :
تعظيمُ شعائر الله في أوليائه
العقل والروح مسيرة إحيائية واحدة
الامامة الابراهيمية في القرآن الكريم (القسم ...
الخمس... فريضة إلهيّة (1)
یوم دحو الارض

 
user comment