قال : فأمّا ما ورد في القرآن من قوله تعالى : ( لقد رضيَ الله عن المؤمنين )(67) ، وقوله : ( محمّدٌ رسولُ الله والذين معه )(68).
وقول النبي صلى الله عليه وآله : إنّ الله اطّلع على أهل بدر؛ إن كان الخبر صحيحاً فكلّه مشروط بسلامة العاقبة، ولا يجوز أن يخبر الحكيم مكلّفاً غير معصوم بأنّه لا عقاب عليه، فليفعل ما شاء .
قال هذا المتكلّم : ومَن أنصف وتأمّل أحوال الصحابة وجدهم مِثلنا، يجوز عليهم ما يجوز علينا، ولا فرق بيننا وبينهم إلاّ بالصحبة لا غير، فإنّ لها منزلةً وشرفاً ولكن لا إلى حدٍّ يمتنع على كلّ من رأى الرسول أو صحبه يوماً أو شهراً أو أكثر من ذلك أن يخطىء ويزلّ، ولو كان هذا صحيحاً ما احتاجت عائشة إلى نزول براءتها من السماء، بل كان رسول الله صلى الله عليه وآله من أوّل يومٍ يعلم كذب أهل الاِفك، لاَنّها زوجته، وصحبتها له آكد من صحبة غيرها ، وصفوان بن المعطّل أيضاً كان من الصحابة، فكان ينبغي ألاّ يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وآله ولا يحمل ذلك الهمّ والغمّ الشديدين اللذين حملهما ويقول : صفوان من الصحابة، وعائشة من الصحابة، والمعصية عليهما ممتنعة .
وأمثال هذا كثير، وأكثر من الكثير؛ لمن أراد أن يستقرىء أحوال القوم، وقد كان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك ، ويقولون في العصاة منهم مثل هذا القول، وإنّما اتخذهم العامّة أرباباً بعد ذلك .
قال : ومن الذي يجترىء على القول بأنّ أصحاب محمد لا تجوز البراءة من أحدٍ منهم وإن أساء وعصى بعد قول الله تعالى للذي شُرِّفوا برؤيته : ( لَئِنْ أشركتَ ليحبطَنّ عملُك ولَتَكُونَنّ من الخاسِرين )(69)بعد قوله : ( قُلْ إنّي أخافُ إنْ عَصيتُ رَبّي عذابَ يومٍ عظيمٍ )(70)وبعد قوله : ( فاحكُمْ بَينَ الناس بالحقِّ وَلا تتّبعِ الهَوى فَيُضلَّك عَن سبيلِ اللهِ إنَ الذين يَضِلُّون عَنْ سبيلِ اللهِ لهم عَذَابٌ شَديدٌ )(71) إلا من لا فهم له ولا نظر معه، ولا تمييز عنده.
قال : ومَن أحب أن ينظر إلى اختلاف الصحابة، وطعن بعضهم في بعض وردِّ بعضهم على بعض، وما ردّ به التابعون عليهم واعترضوا به أقوالهم، واختلاف التابعين أيضاً فيما بينهم، وقدح بعضهم في بعض، فلينظر في كتاب النَّظَّام(72)، قال الجاحظ : كان النظّام أشدَّ الناس إنكاراً على الرافضة، لطعنهم على الصحابة، حتى إذا ذكر الفُتيا وتنقُّل الصحابة فيها، وقضاياهم بالاَُمور المختلفة، وقول من استعمل الرأي في دين الله، انتظم مطاعن الرافضة وغيرها، وزاد عليها؛ وقال في الصحابة أضعاف قولها.
قال : وقال بعض رؤساء المعتزلة : غَلطُ أبي حنيفة في الاَحكام عظيم، لاَنّه أضل خلقاً ، وغلط حمّاد(73)أعظم من غلط أبي حنيفة، لاَنّ حمّاداً أصلُ أبي حنيفة الذي منه تفرّع، وغلط إبراهيم أغلظ وأعظم من غلط حمّاد، لاَنّه أصل حمّاد وغلط علقمة(74) والأسود (75)أعظم من غلط إبراهيم لاَنّهما أصله الذي عليه اعتمد، وغلط ابن مسعود أعظم من غلط هؤلاء جميعاً، لاَنّه أوّل من بدر إلى وضع الاَديان برأيه، وهو الذي قال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمنّي .
قال : واستأذن أصحاب الحديث على ثمامة(76)بخراسان حيث كان مع الرَّشيد بن المهدي، فسألوه كتابه الذي صنّفه على أبي حنيفة في اجتهاد الرأي، فقال : لستُ على أبي حنيفة كتبت ذلك الكتاب، وإنّما كتبته على علقمة والاَسود وعبدالله بن مسعود لاَنهم الذين قالوا بالرأي قبل أبي حنيفة .
قال : وكان بعض المعتزلة أيضاً إذا ذكر ابن عبّاس استصغره وقال : صاحب الذؤابة يقول في دين الله برأيه .
وذكر الجاحظ في كتابه المعروف « بكتاب التوحيد » أنّ أبا هريرة ليس بثقة في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : ولم يكن عليٌّ عليه السلام يوثّقه في الرّواية، بل يتهمه، ويقدح فيه، وكذلك عمر وعائشة(77).
وكان الجاحظ يفسِّق عمر بن عبد العزيز ويستهزىء به ويكفِّره، وعمر بن عبد العزيز وإن لم يكن من الصحابة فأكثر العامّة يرى له من الفضل ما يراه لواحدٍ من الصحابة.
وكيف يجوز أن نحكم حُكماً جزماً أنّ كل واحد من الصحابة عدل، ومن جملة الصحابة الحكم بن أبي العاص ! وكفاك به عدوّاً مُبغضاً لرسول الله صلى الله عليه وآله ! ومن الصحابة الوليد بن عُقبة الفاسق بنصّ الكتاب، ومنهم حبيب بن مسلمة الذي فعل ما فعل بالمسلمين في دولة معاوية، وبُسر بن أبي أرطأة عدوّ الله وعدوّ رسوله، وفي الصحابة كثير من المنافقين لا يعرفهم الناس، وقال كثير من المسلمين : مات رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يُعرِّفه الله سبحانه كلَّ المنافقين بأعيانهم، وإنّما كان يعرف قوماً منهم، ولم يعلم بهم أحداً إلاّ حذيفة فيما زعموا، فكيف يجوز أن نحكم حُكماً جزماً أن كل واحد ممّن صحب رسول الله أو رآه أو عاصره عدل مأمون، لا يقع منه خطأ ولا معصية، ومن الذي يمكنه أن يتحجّر واسعاً كهذا التحجّر، أو يحكم هذا الحكم !
قال : والعجب من الحشويّة وأصحاب الحديث إذ يجادلون على معاصي الاَنبياء، ويثبتون أنّهم عصوا الله تعالى، وينكرون على من ينكر ذلك، ويطعنون فيه، ويقولون : قَدَري معتزلي، وربما قالوا : مُلحد مخالف لنصّ الكتاب؛ وقد رأينا منهم الواحد والمائة والاَلف يُجادل في هذا الباب، فتارةً يقولون : إنّ يوسف قعد من امرأة العزيز مقعد الرّجل من المرأة، وتارةً يقولون : إن داود قتل أوريا لينكح امرأته، وتارةً يقولون : إنّ رسول الله كان كافراً ضالاًّ قبل النبوّة، وربما ذكروا زينب بنت جَحش وقصّة الفداء يوم بدر.
فأمّا قَدحهم في آدم عليه السلام ، وإثباتُهم معصيته ومناظرتهم من يذكر ذلك فهو دأبهم ودَيدنهم، فإذا تكلّم واحد في عمرو بن العاص أو في معاوية وأمثالهما ونسبهم إلى المعصية وفعل القبيح، احمرّت وجوههم، وطالت أعناقهم، وتخازرت أعينهم ، وقالوا : مبتدع رافضي، يسبّ الصحابة، ويشتم السَّلف، فإن قالوا : إنّما اتّبعنا في ذكر معاصي الاَنبياء نصوص الكتاب؛ قيل لهم : فاتّبعوا في البراءة من جميع العصاة نصوص الكتاب، فإنّه تعالى قال : ( لا تَجِدُ قوماً يُؤمِنون باللهِ واليومِ الآخرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللهَ ورَسولَهُ )(78)، وقال : ( فإنْ بَغَت إحداهما على الاَُخرى فقاتلوا التي تَبغي حتى تَفيء إلى أمرِ اللهِ )(79)، وقال : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الاَمر منكم )(80).
ثمّ يسألون عن بيعة علي عليه السلام هل هي صحيحة لازمة لكلّ الناس ؟ فلا بدّ من « بَلَى » ، فيقال لهم : فإذا خرج على الاِمام الحقّ خارجٌ أليس يجب على المسلمين قتاله حتى يعود إلى الطاعة ؟ فهل يكون هذا القتال إلاّ البراءة التي نذكرها لاَنّه لا فرق بين الاَمرين، وإنّما برئنا منهم لاَنّا لسنا في زمانهم، فيُمكننا أن نقاتل بأيدينا ، فقصارى أمرنا الآن أن نبرأ منهم ونلعنهم، وليكون ذلك عوضاً عن القتال الذي لا سبيل لنا إليه.
قال هذا المتكلّم : على أنّ النظَّام وأصحابه ذهبوا إلى أنّه لا حجّة في الاِجماع، وأنّه يجوز أن تجتمع الاَُمّة على الخطأ والمعصية، وعلى الفسق، بل على الرِّدة، وله كتابٌ موضوع في الاِجماع يطعن فيه في أدلة الفقهاء، ويقول : إنّها ألفاظ غير صريحة في كون الاِجماع حجّة ، نحو قوله : ( جعلناكم أُمّة وَسَطاً )(81) وقوله : ( كنتم خيرَ أُمّةٍ )(82)وقوله : ( ويتّبع غيرَ سبيلَ المؤمنينَ )(83).
وأمّا الخبر الذي صورته : « لا تجتمع أُمّتي على الخطأ »(84)فخبرٌ واحد، وأمثل دليل للفقهاء قولهم : إنّ الهمم المختلفة، والآراء المتباينة، إذا كان أربابُها كثيرة عظيمة، فإنّه يستحيل اجتماعهم على الخطأ، وهذا باطل باليهود والنصارى وغيرهم من فرق الضلال.
هذه خلاصة ما كان النَّقيب أبو جعفر علَّقه بخطّه من الجزء الذي أقرأناه(85).
____________