حقيقة الاثني عشر
إذن، ما هي الحقيقة ؟
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن يعرّف الائمّة من بعده ويعيّن عددهم على وجه التحديد، وقد فعل هذا، لكن اللغط والصياح والضجّة من حوله، كلّ ذلك منع من سماع الحاضرين صوته ونقلهم ما سمعوا من رسول الله، فكان السبب في خفاء صوته في الحقيقة هذه الضجّة من حوله، لا أنّ صوته ضعف، أو حصل مثلاً انخفاض في صوته، ورسول الله ـ كما جاء في بعض ألفاظ هذا الحديث ـ قد قال: «كلّهم من بني هاشم».
يقول جابر بن سمرة: كنت مع أبي عند النبي، فسمعته يقول: «بعدي اثنا عشر خليفة»، ثمّ أُخفي صوته، [ لاحظوا: ثمّ أُخفي صوته ] فقلت لابي: ما الذي أخفى صوته ؟ قال: قال: «كلّهم من بني هاشم»، وعن سماك بن حرب أيضاً مثل ذلك.
|
|
|
ثمّ نلاحظ القرائن الموجودة في لفظ الحديث، والقرائن ذكرتها في خلال البحث، أُكرّرها مرّةً أُخرى بسرعة:
«لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة».
يكون لهذه الاُمّة اثنا عشر قيّماً لا يضرّهم من خذلهم»، يظهر: إنّ هناك من الاُمّة خذلاناً، ومن الذي خذل معاوية ؟ ومتى خذل يزيد ؟ ومتى خذل مروان وغير أُولئك ؟ أهل البيت هم الذين خُذلوا، هم الذين خولفوا.
ويظهر من كلمة «القيّم» أنّ المراد هو الامامة بالمعنى الحقيقي، أي الامامة الشرعية، وليس المراد هو الحكومة وبسط اليد ونفوذ الكلمة والسيطرة على السلطة الاجرائية.
وإذا رجعنا إلى أحاديثنا وأسانيدنا المتصلة إلى جابر بن سمرة وغيره وجدنا أشياء أُخرى، فلاحظوا الرواية:
عن سلمان: «الائمّة بعدي اثنا عشر»، ثمّ قال: «كلّهم من قريش، ثمّ يخرج المهدي ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ فيشفي صدور قوم مؤمنين، ألا إنّهم أعلم منكم فلا تعلّموهم، ألا إنّهم عترتي ولحمي ودمي، ما بال أقوام يؤذونني فيهم، لا أنالهم الله
|
|
|
شفاعتي»(1) فهذا لفظ من ألفاظ الحديث.
ومن ألفاظ الحديث عن أبي هريرة: «أهل بيتي ـ الائمّة بعدي اثنا عشر كذا ـ أهل بيتي عترتي من لحمي ودمي، هم الائمّة بعدي، عدد نقباء بني إسرائيل»(2) .
عن حذيفة بن أسيد: «الائمّة بعدي عدد نقباء بني إسرائيل، تسعة من صلب الحسين ومنّا مهدي هذه الاُمّة، ألا إنّهم مع الحق والحق معهم، فانظروا كيف تخلفوني فيهم»(3) .
وهذه من ألفاظ حديث الائمّة إثنا عشر، والالفاظ هذه موجودة في كتاب كفاية الاثر في النص على الائمّة الاثني عشر.
وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أخبر بعدد الائمّة من بعده وعيّنهم بهذه الاوصاف، وأنّهم من العترة، وأنّهم أعلم، وأنّهم كذا، وأنّهم كذا، ثمّ قال: «فانظروا كيف تخلفوني فيهما»، فيكون قد أشار (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حديث الثقلين، والحديث يفسّر بعضه بعضاً، فقد كان هذا من مداليل حديث الثقلين.
____________
(1) كفاية الاثر في النص على الائمة الاثني عشر: 44 ـ انتشارات بيدار ـ قم ـ 1401.
(2) كفاية الاثر: 89.
(3) كفاية الاثر: 130.
|
|
|
وحينئذ ننتقل إلى مفاد حديث الثقلين، لنفهم معنى حديث الثقلين بما يتعلّق في بحثنا هذه الليلة، وليكون حديث الثقلين مفسّراً لحديث الائمّة الاثني عشر:
لاحظوا، رسول الله عندما يقول: «إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عَلَيّ الحوض»، معنى ذلك: إنّ الائمّة من العترة باقون ما بقي القرآن لا يفترقان ولا يتفرَقان، والحديث ـ كما قرأنا في تلك الليلة التي خصّصناها للبحث عن هذا الحديث ـ حديث صحيح مقطوع صدوره ومقبول عند الطرفين، فعندما يقول رسول الله: «إنّي تارك فيكم الثَقَلين أو الثقْلين»، فقد قرن رسول الله الائمّة من العترة بالقرآن، والقرآن مادام موجوداً فالعترة موجودة، فالعترة موجودة ما دام القرآن موجوداً، أي إلى آخر الدنيا، فالعترة موجودة إلى آخر الدنيا، لذا قال في حديث الاثني عشر: «حتّى تقوم الساعة».
وإن كنتم في شك ممّا قلته في معنى حديث الثقلين، فلاحظوا نصوص عبارات القوم في شرح حديث الثقلين من هذه الناحية:
يقول المنّاوي في فيض القدير في شرح حديث الثقلين: تنبيه: قال الشريف ـ يعني السمهودي الحافظ الكبير ـ هذا الخبر يُفهم
|
|
|
وجود من يكون أهلاً للتمسّك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كلّ زمان إلى قيام الساعة، حتّى يتوجّه الحث المذكور إلى التمسّك به، كما أنّ الكتاب كذلك، فلذلك كانوا أماناً لاهل الارض، فإذا ذهبوا ذهب أهل الارض(1) .
ومثلها عبارة ابن حجر المكي في الصواعق: وفي حديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع مستأهل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك(2) .
وقال الزرقاني المالكي في شرح المواهب اللّدنيّة: قال القرطبي: وهذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام آله وبرّهم وتوقيرهم ومحبّتهم، ووجوب الفرائض التي لا عذر لاحد في التخلّف عنها، هذا مع ما علم من خصوصيّتهم به (صلى الله عليه وسلم)، وبأنّهم جزء منه، كما قال: «فاطمة بضعة منّي»، ومع ذلك فقابل بنو أُميّة عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق، فسفكوا من أهل البيت دماءهم، وسبوا نساءهم، وأسروا صغارهم، وخرّبوا ديارهم، وجحدوا شرفهم وفضلهم، واستباحوا سبّهم ولعنهم، فخالفوا وصيّته وقابلوه بنقيض قصده، فوا خجلتهم إذا وقفوا بين
____________
(1) فيض القدير 3/15.
(2) الصواعق المحرقة: 232.
|
|
|
يديه، ويا فضيحتهم يوم يعرضون عليه، فالوصيّة بالبرّ بآل البيت على الاطلاق، وأمّا الاقتداء فإنّما يكون بالعلماء العاملين منهم، إذ هم الذين لا يفارقون القرآن. قال الشريف السمهودي: هذا الخبر يفهم وجود من يكون أهلاً للتمسّك به من عترته في كلّ زمان إلى قيام الساعة(1) .
فيكون حديث «إنّي تارك فيكم الثقلين» دليلاً على إمامة أئمّتنا، وعددهم في حديث الائمّة بعدي إثنا عشر، وفي ذلك الحديث أيضاً تصريح بأنّهم موجودون إلى قيام الساعة.
هذا بنحو الاختصار، وقد تركت بعض القضايا الاُخرى التي كنت قد سجّلتها هنا فيما يتعلّق بالنص على الائمّة الاثني عشر.
فكان دليلنا على إمامة الائمّة الاثني عشر من النصوص: حديث الائمّة بعدي إثنا عشر، وحديث الثقلين.
____________
(1) شرح الزرقاني على المواهب اللّدنيّة 7/7 ـ 8 ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ 1414.
|
|
|
وأمّا العصمة:
فحديث «إنّي تارك فيكم الثقلين» يدلّ على عصمة الائمّة من العترة النبويّة بكلّ وضوح، كما سنذكر ذلك في بحث العصمة إنْ شاء الله تعالى.
وأمّا الافضليّة:
أي: أفضليّة أئمّتنا سلام الله عليهم، فإنّه يدلّ على أفضليّتهم حديث الثقلين من جهات عديدة، لانّ حديث الثقلين دلّ على تقدّمهم في العلم وغير العلم، وهذه جهات تقتضي الافضليّة بلا شك، وإن كنتم في شك فأقرأ لكم بعض العبارات:
قال التفتازاني في شرح المقاصد ـ وأرجو الملاحظة بدقة ـ: وفضّل العترة الطاهرة، لكونهم أعلام الهداية وأشياع الرسالة، على
|
|
|
ما يشير إليه ضمّهم ـ أي ضمُّ العترة إلى كتاب الله ـ في إنقاذ المتمسّك بهما عن الضلالة(1) .
ولو راجعتم شرّاح حديث الثقلين، وحتى اللغويين ـ لو تراجعونهم في معنى ثِقْل أو ثَقَل حيث يتعرضون لحديث الثقلين ـ يقولون: إنّما سمّاهما ـ أي الكتاب والعترة ـ بالثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما.
وقد نصّ شرّاح الحديث، كالمنّاوي في فيض القدير، والقاري في المرقاة في شرح المشكاة، والزرقاني المالكي في شرح المواهب اللدنية، وغير هؤلاء: على أنّ حديث الثقلين يدلّ على أفضليّة العترة.
ولاحظوا كلام نظام الدين النيشابوري في تفسيره المعروف، يقول بتفسير قوله تعالى: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُه)(2) .
(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) استفهام بطريق الانكار والتعجب، والمعنى من أين يتطرّق إليكم الكفر والحال أنّ آيات الله تتلى عليكم على لسان الرسول غضّة، في كلّ واقعة، وبين أظهركم
____________
(1) شرح المقاصد 5/303 ـ الشريف الرضي ـ قم ـ 1409.
(2) سورة آل عمران: 101.
|
|
|
رسول الله يبيّن لكم كلّ شبهة، ويزيح عنكم كلّ علة [ فرسول الله إنّما يكون بين الاُمّة ويبعثه الله الى الناس لهذه الغاية وهي: يبيّن لكم كلّ شبهة ويزيح عنكم كلّ علّة ] قلت: أمّا الكتاب فإنّه باق على وجه الدهر، وأمّا النبي فإنّه وإن كان قد مضى إلى رحمة الله في الظاهر، ولكن نور سرّه باق بين المؤمنين، فكأنّه باق، على أنّ عترته ورثته يقومون مقامه بحسب الظاهر أيضاً، فيكونون ـ أي العترة ـ يبيّنون كلّ شبهة ويزيحون كلّ علّة، ولهذا قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين»(1) .
فمسألة الافضليّة أيضاً واضحة على ضوء أحاديث القوم وكلمات علمائهم.
وأمّا حديث السفينة، فذاك دليل آخر على أفضليّتهم وعلى عصمتهم أيضاً، ولربّما نتعرّض للبحث عن حديث السفينة في مباحث العصمة إن شاء الله تعالى.