عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

حول ايحاء ابليس لحواء بتسمية ولدها عبد الحارث

حول ايحاء ابليس لحواء بتسمية ولدها عبد الحارث :

( مسألة ) فان قال قائل فما قولكم في قوله تعالى ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما اثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما اتاهما فتعالى الله عما يشركون )   أو ليس ظاهر هذه الآية يقتضى وقوع المعصية من آدم ( ع ) لانه لم يتقدم من يجوز صرف هذه الكناية في جميع الكلام اليه إلا ذكر آدم ( ع ) وزوجته ، لان النفس الواحدة هي آدم وزوجها المخلوق منها هي حواء . فالظاهر على ما ترون ينبي عما ذكرناه ، على انه قد روي في الحديث أن إبليس لعنه الله تعالى ، لما ان حملت حواء عرض لها وكانت ممن لا يعيش لها ولد . فقال لها احببت ان يعيش ولدك فسميه عبدالحارث ، وكان أبليس قد سمي الحارث ، فلما ولدت سمت ولدها بهذه التسمية . فلهذا قال تعالى : ( جعلا له شركاء فيما اتاهما ) .
( الجواب ) : يقال له قد علمنا ان الدلالة العقلية التي قدمناها في باب أن الانبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكفر والشرك والمعاصي غير محتملة ، ولا يصح دخول المجاز فيها . والكلام في الجملة يصح فيه الاحتمال وضروب المجاز ، فلابد من بناء المحتمل على ما لا يحتمل ، فلو لم نعلم تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل ، لكنا نعلم في الجملة ان تأويلها مطابق لدلالة العقل . وقد قيل في تأويل هذه الآية ما يطابق دليل العقل ومما يشهد له اللغة وجوه .
( منها ) ان الكناية في قوله سبحانه : ( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) غير راجعة إلى آدم ( ع ) وحواء ، بل إلى الذكور والاناث من أولادهما ، أو إلى جنسين ممن اشترك من نسلهما . وان كانت الكناية الاولى تتعلق بهما ويكون تقدير الكلام : فلما آتى الله آدم وحواء الولد الصالح الذي تمنياه وطلباه جعل كفار أولادهما ذلك مضافا إلى غير الله تعالى . ويقوي هذا التأويل قوله سبحانه : ( فتعالى الله عما يشركون ) . وهذا ينبئ على ان المراد بالتثنية ما أردناه من الجنسين أو النوعين ، وليس يجب من حيث كانت الكناية المتقدمة راجعة إلى آدم ( ع ) وحواء ، أن يكون جميع ما في الكلام راجعا اليهما ، لان الفصيح قد ينتقل من خطاب مخاطب إلى خطاب غيره ، ومن كناية إلى خلافها . قال الله تعالى : ( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله )    فانصرف من مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله إلى مخاطبة المرسل اليهم ، ثم قال : ( وتعزروه وتوقروه )   يعني الرسول ، ثم قال ( وتسبحوه ) يعني مرسل الرسول . فالكلام واحد متصل بعضه ببعض والكناية مختلفة كما ترى . وقال الهذلي :
يا لهف نفسي كأن جدة خالد * وبياض وجهك للتراب الاعفر ولم يقل بياض وجهه . وقال كثير :
أسيئ بنا أو أحسني لا ملومة * لدينا ولا مقلية ان تقلت فخاطب ثم ترك الخطاب . وقال الآخر :
فدى لك ناقتي وجميع أهلي * ومالي انه منه أتاني ولم يقل منك أتاني . فإن قيل ، كيف يكنى عمن لم يتقدم له ذكر ؟ .
قلنا : لا يمتنع ذلك ، قال الله تعالى : ( حتى توارت بالحجاب )   ولم يتقدم للشمس ذكر ، وقال الشاعر : لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى * اذا حشرجت يوما وضاق بي الصدر ولم يتقدم للنفس ذكر .
والشواهد على هذا المعنى كثيرة جدا على انه قد تقدم ذكر ولد آدم ( ع ) ، وتقدم أيضا ذكرهم في قوله تعالى : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة )   ومعلوم ان المراد بذلك جميع ولد آدم عليه السلام . وتقدم أيضا ذكرهم في قوله تعالى : ( فلما أتاهما صالحا ) لان المعنى أنه لما أتاهما ولدا صالحا . والمراد بذلك الجنس ، وإن كان اللفظ لفظ وحدة . وإذا تقدم مذكوران وعقبا بأمر لا يليق بأحدهما ، وجب أن يضاف إلى من يليق به . والشرك لا يليق بآدم عليه السلام ، فيجب ان ننفيه عنه ، وإن تقدم ذكره وهو يليق بكفار ولده ونسله فيجب ان نعلقه بهم .
( ومنها ) ما ذكره أبومسلم محمد بن بحر الاصفهاني ، فإنه يحمل الآية على ان الكناية في جميعها غير متعلقة بآدم ( ع ) وحواء ، فيجعل الهاء في ( تغشيها ) والكناية في ( دعوا الله ربهما ) و ( اتاهما صالحا ) راجعين إلى من اشرك . ولم يتعلق بآدم ( ع ) من الخطاب إلا قوله تعالى : ( خلقكم من نفس واحدة ) قال : والاشارة في قوله : ( خلقكم من نفس واحدة ) إلى الخلق عامة . وكذلك قوله : ( وجعل منها زوجها ) ثم خص منها بعضهم ، كما قال الله تعالى : ( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة )   فخطاب الجماعة بالتسيير ، ثم خص راكب البحر . وكذلك هذه الآية أخبرت عن جملة أمر البشر بأنهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها ، وهما آدم وحواء . ثم عاد الذكر إلى الذي سأل الله تعالى ما سأل فلما أعطاه إياه ، أدعى له الشركاء في عطيته . قال وجايز أن يكون عنى بقوله : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) المشركين خصوصا ، إذا كان كل بني آدم مخلوقا من نفس واحدة وزوجها ، ويكون المعنى في قوله تعالى : ( خلقكم من نفس واحدة ) . وهذا قد يجئ كثيرا في القرآن وفي كلام العرب .
قال الله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة )   والمعنى فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة . وهذا الوجه يقارب الوجه الاول في المعنى وان خالفه في الترتيب .
( ومنها ) ان تكون الهاء في قوله : ( جعلا له شركاء ) راجعة إلى الولد لا إلى الله تعالى ، ويكون المعنى انهما طلبا من الله تعالى أمثالا للولد الصالح ، فشركا بين الطلبتين . ويجري هذا القول مجرى قول القائل : طلبت مني درهما فلما أعطيتك شركته بآخر ، أي طلبت آخر مضافا اليه . فعلى هذا الوجه لا يمتنع ان تكون الكناية من أول الكلام إلى آخره راجعة إلى آدم وحواء عليهما السلام .
فان قيل : فأي معنى على هذا الوجه لقوله : ( فتعالى الله عما يشركون ) وكيف يتعالى الله عن ان يطلب منه ولد بعد آخر .
( قلنا ) لم ينزه الله تعالى نفسه عن هذا الاشراك ، وإنما نزهها عن الاشراك به ، وليس يمتنع ان ينقطع هذا الكلام عن حكم الاول ، ويكون غير متعلق به ، لانه تعالى قال : ( أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون )   فنزه نفسه تعالى عن هذا الشرك دون ما تقدم ، وليس يمتنع انقطاع اللفظ في الحكم عما يتصل به في الصورة ، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب   ، لان من عادة العرب ان يراعوا الالفاظ اكثر من مراعاة المعاني ، فكأنه تعالى لما قال جعلا له شركاء فيما اتاهما ، وأراد الاشتراك في طلب الولد ، جاء بقوله تعالى عما يشركون على مطابقة اللفظ الاول ، وان كان الثاني راجعا إلى الله تعالى ، لانه يتعالى عن اتخاذ الولد وما اشبهه . ومثله قول النبي قد سئل عن العقيقة فقال : " لا أحب العقوقة ، ومن شاء منكم ان يعق عن ولده فليفعل " . فطابق اللفظ وان أختلف المعنيان وهذا كثير في كلامهم .
فاما ما يدعي في هذا الباب من الحديث فلا يلتفت اليه ، لان الاخبار يجب ان تبنى على أدلة العقول ، ولا تقبل في خلال ما تقتضيه أدلة العقول . ولهذا لا تقبل أخبار الجبر والتشبيه ، ونردها أو نتأولها ان كان لها مخرج سهل . وكل هذا لو لم يكن الخبر الوارد مطعونا على سنده مقدوحا في طريقه ، فإن هذا الخبر يرويه قتادة عن الحسن عن سمرة وهو منقطع ، لان الحسن لم يسمع من سمرة شيئا في قول البغداديين . وقد يدخل الوهن على هذا الحديث من وجه آخر ، لان الحسن نفسه يقول بخلاف هذه الرواية فيما رواه خلف بن سالم عن اسحاق بن يوسف عن عوف عن الحسن في قوله تعالى : ( فلما أتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما أتاهما ) قال هم المشركون . وبازاء هذا الحديث ما روي عن سعيد بن جبير وعكرمة والحسن وغيرهم ، من ان الشرك غير منسوب إلى آدم وزوجته عليهما السلام وان المراد به غيرهما وهذه جملة واضحة .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الإمامة والخلافة بإختصار
كتاب الغيبة
عُبادة بن الصامت
موقف القرآن من مسألة : (الحتمية) و (استقلال ...
مرجعية المسلمين بعد النبي صلی الله عليه وآله وسلم
مقدمة عامة في نبوة النبي محمد
الوضع النفسي لدي المراهق
هل أن الإمامة أصل قرآني (2)
طبیعة التدخّل الإلهی
استثنا ما ورد فيه دليل عام

 
user comment