تنزيه الائمة عليهم السلام
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
حول نص النبي صلى الله عليه وآله على خلافة علي ( ع ) وعدم منازعته للمتآمرين :
( مسألة ) : ان قال قائل اذا كان من مذهبكم يا معشر القائلين بالنص ان النبي صلى الله عليه وآله نص على علي بن ابي طالب امير المؤمنين عليه السلام بالخلافة بعده ، وفوض اليه امر أمته ، فما باله لم ينازع المتآمرين بعد النبي في الامر الذي وكل إليه وعول في تدبيره عليه أو ليس هذا منه اغفالا لواجب لا يسوغ اغفاله ؟ فإن قلتم انه لم يتمكن من ذلك فهلا اعذر وأبلى واجتهد ، فإنه اذا لم يصل إلى مراده بعد الاعذار والاجتهاد كان معذورا . او ليس هو عليه السلام الذي حارب اهل البصرة وفيهم زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وطلحة والزبير ، ومكانهما من الصحبة والاختصاص والتقدم مكانهما ، ولم يحشمه ظواهر هذه الاحوال من كشف القناع في حربهم حتى اتى على نفوس اكثر أهل العسكر ، وهو المحارب لاهل صفين مرة بعد أخرى مع تخاذل اصحابه وتواكل أنصاره ، وانه ( ع ) كان في اكثر مقاماته تلك وموقفه لا يغلب في ظنه الظفر ولا يرجو لضعف من معه النصر . وكان عليه السلام مع ذلك كله مصمما ماضيا قدما لا تأخذه في الله لومة لائم ، وقد وهب نفسه وماله وولده لخالقه تعالى ، ورضي بأن يكون دون الحق اما جريحا او قتيلا ، فكيف لم يظهر منه بعض هذه الامور مع من تقدم والحال عندكم واحدة ، بل لو قلنا انها كانت اغلظ وافحش لاصبنا لانها كانت مفتاح الشر واس الخلاف وسبب التبديل والتغيير ؟ .
وبعد ، فكيف لم يقنع بالكف عن التفكير والعدول عن المكاشفة والمجاهرة حتى بايع القوم وحضر مجالسهم ، ودخل في آرائهم وصلى مقتديا بهم ، وأخذ عطيتهم ونكح من سبيهم وانكحهم ، ودخل في الشورى التي هي عندكم مبنية على غير تقوى ، فما الجواب عن جميع ذلك اذكروه ، فإن الامر فيه مشتبه والخطب ملتبس ؟ .
( الجواب ) : قلنا أما الكلام على ما تضمنه هذا السؤال فهو مما يخص الكلام في الامامة ، وقد استقصيناه في كتابنا المعروف بالشافي في الامامة ، وبسطنا القول فيه في هذه الابواب ونظائرها بسطا يزيل الشبهة ويوضح الحجة ، لكنا لا نخلي هذا الكتاب من حيث تعلق غرضه بهذه المواضع من اشارة إلى طريقة الكلام فيها .
فنقول : قد بينا في صدر هذا الكتاب ان الائمة عليهم السلام معصومون من كبائر الذنوب وصغائرها ، واعتمدنا في ذلك على دليل عقلي لا يدخله احتمال ولا تأويل بشئ ، فمتى ورد عن احدهم عليهم السلام فعل له ظاهر الذنب ، وجب ان نصرفه عن ظاهره ونحمله على ما يطابق موجب الدليل العقلي فيهم ، كما فعلنا مثل ذلك في متشابه القرآن المقتضي ظاهره ما لايجوز على الله تعالى ، وما لا يجوز على نبي من انبيائه عليهم السلام . فاذا ثبت ان أمير المؤمنين عليه السلام إمام فقد ثبت بالدليل العقلي أنه معصوم عن الخطأ والزلل ، فلابد من حمل جميع افعاله على جهات الحسن ونفي القبيح عن كل واحد منها . وما كان له منها ظاهر يقتضي الذنب علمنا في الجملة انه على غير ظاهره ، فإن عرفنا وجهه على التفصيل ذكرناه ، وإلا كفانا في تكليفنا ان نعلم ان الظاهر معدول عنه ، وأنه لابد من وجه فيه يطابق ما تقتضيه الادلة . وهذه الجملة كافية في جميع المشتبهة من افعال الائمة عليهم السلام واقوالهم ، ونحن نزيد عليها فنقول : ان الله تعالى لم يكلف انكار المنكر سواء اختص بالمنكر او تعداه إلى غيره الا بشروط معروفة ، اقواها التمكن . وان لا يغلب في ظن المنكر ان إنكارة يؤدي إلى وقوع ضرر به لا يحتمل مثله ، وأن لا يخاف في انكاره من وقوع ما هو افحش منه واقبح من المنكر . وهذه شروط قد دلت الادلة عليها ووافقنا المخالفون لنا في الامامة فيها واذا كان ما ذكرناه مراعي في وجوب انكار المنكر ، فمن اين أن أمير المؤمنين عليه السلام كان متمكنا من المنازعة في حقه والمجادلة ، وما المنكر من ان يكون عليه السلام خائفا متى نازع وحارب من ضرر عظيم يلحقه في نفسه وولده وشيعته ، ثم ما المنكر من ان يكون خاف من الانكار من ارتداد القوم عن الدين وخروجهم عن الاسلام ونبذهم شعار الشريعة ، فرأى ان الاغضاء اصلح في الدين من حيث كان يجر الانكار ضررا فيه لا يتلافى .
فان قيل : فما يمنع من ان يكون انكار المنكر مشروطا بما ذكرتم ، إلا انه لابد لارتفاع التمكن وخوف الضرر عن الدين والنفس من امارات لايحة ظاهرة يعرفها كل احد ، ولم يكن هناك شئ من امارات الخوف وعلامات وقوع الفساد في الدين . وعلى هذا فليس تنفعكم الجملة التي ذكرتموها لان التفصيل لا يطابقها .
قلنا : أول ما نقوله ان الامارات التي يغلب معها الظن بأن انكار المنكر يؤدي إلى الضرر ، انما يعرفها من شهد الحال وحضرها واثرت في ظنه ، وليست مما يجب ان يعلمها الغائبون عن تلك المشاهدة . ومن اتى بعد ذلك الحال بالسنين المتطاولة . وليس من حيث لم تظهر لنا تلك الامارات ولم نحط بها علما ، يجب القطع على من شهد تلك الحال لم تكن له ظاهرة ، فإنا نعلم ان للمشاهد وحضوره مزية في هذا الباب لا يمكن دفعها ، والعادات تقتضي بأن الحال على ما ذكرناه . فإنا نجد كثيرا ممن يحضر مجالس الظلمة من الملوك يمتنع من انكار بعض ما يجري بحضرتهم من المناكير ، وربما أنكر ما يجري مجراه في الظاهر ، فإذا سئل عن سبب اغضائه وكفه ذكر أنه خاف لامارة ظهرت له ، ولا يلزمه ان تكون تلك الامارة ظاهرة لكل أحد ، حتى يطالب بأن يشاركه في الظن والخوف كل من عرفه . بل ربما كان معه في ذلك المقام من لا يغلب على ظنه مثل ما غلب على ظنه من حيث اختص بالامارة دونه . ثم قد ذكرنا في كتابنا في الامامة من أسباب الخوف وامارات الضرر التي تناصرت بها الروايات ، ووردت من الجهات المختلفة ما فيه مقنع للمتأمل ، وانه ( ع ) غولط في الامر وسوبق اليه وانتهزت غرته ، واغتنمت الحال التي كان فيها متشاغلا بتجهيز النبي صلى الله وآله عليه ، وسعى القوم إلى سقيفة بني ساعدة ، وجرى لهم فيها مع الانصار ما جرى ، وتم لهم عليهم كما اتفق من بشير بن سعد ما تم وظهر ، وانما توجه لهم من قهرهم الانصار ما توجه ان الاجماع قد انعقد على البيعة ، وأن الرضا وقع من جميع الامة وروسل امير المؤمنين عليه السلام . ومن تأخر معه من بني هاشم وغيرهم مراسلة من يلزمهم بيعة قد تمت ووجبت لا خيار فيها لاحد ، ولا رأي في التوقف عنها لذي رأي ثم تهددوه على التأخر ، فتارة يقال له لا تقم مقام من يظن فيه الحسد لابن عمه ، إلى ماشاكل ذلك من الاقوال والافعال التي تقتضي التكفل والتثبت ، وتدل على التصميم والتتميم . وهذه امارات بل دلالات تدل على ان الضرر في مخالفة القوم شديد .
وبعد ، فان الذي نذهب اليه من سبب التقية والخوف مما لابد منه ، اذا فرضوا ان مذهبنا في النص صحيح ، لانه اذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد نص على امير المؤمنين ( ع ) بالامامة في مقام بعد مقام وبكلام لا يحتمل التأويل ، ثم رأى المنصوص عليه اكثر الامة بعد الوفاة بلا فصل ، اقبلوا يتنازعون الامر تنازع من لم يعهد اليه بشئ فيه ، ولا يسمع على الامامة نصا لان المهاجرين قالوا نحن احق بالامر ، لان الرسول صلى الله عليه وآله منا ولكيت وكيت . وقال الانصار نحن آويناه ونصرناه فمنا امير ومنكم أمير . هذا ، والنص لا يذكر فيما بينهم . ومعلوم ان الزمان لم يبعد فيتناسوه ومثله لا يتناسى ، فلم يبق إلا أنه عملوا على التصميم ووطنوا نفوسهم على التجليح ، وأنهم لم يستيجزوا الاقدام على خلاف الرسول صلى الله عليه وآله في اجل اوامره واوثق عهوده ، والتظاهر بالعدول عما اكده وعقده ، إلا لداع قوي وامر عظيم يخاف فيه من عظيم الضرر ، ويتوقع منه شديد الفتنة . فأي طمع يبقى في نزوعهم بوعظ وتذكير ؟ وكيف يطمع في قبول وعظه والرجوع إلى تبصيره وارشاده من رآهم لم يتعظوا بوعظ يخرجهم من الضلالة وينقذهم من الجهالة ؟ وكيف لا يتهمهم على نفسه ودينه من رأى فعلهم بسيدهم وسيد الناس أجمعين فيما عهده وأراده وقصده ؟ وهل يتمكن عاقل بعد هذا ان يقول اي امارة للخوف ظهرت ؟ اللهم الا ان يقولوا ان القوم ما خالفوا نصا ولا نبذوا عهدا ، وإن كل ذلك تقول منكم عليهم لا حجة فيه ، ودعوى لا برهان عليها ، فتسقط حينئذ المسألة من اصلها ، ويصير تقديرها اذا كان أمير المؤمنين ( ع ) غير منصوص عليه بالامامة ولا مغلوب على الخلافة ، فكيف لم يطالب بها ولم ينازع فيها ؟ ومعلوم انه لا مسألة في ان من لم يطالب بما ليس له ، ولم يجعل اليه ، وإنما المسألة في ان لم يطالب بما جعل اليه . واذا فرضنا ان ذلك اليه ، جاء منه كل الذي ذكرناه . ثم يقال لهم اذا سلمتم ان وجوب انكار المنكر مشروط بما ذكرناه من الشروط ، فلم انكرتم ان يكون امير المؤمنين عليه السلام انما أحجم عن المجاهدة بالانكار ، لان شروط انكار المنكر لم تتكامل ، إما لانه كان خائفا على نفسه او على من يجري مجرى نفسه ، أو مشفقا من وقوع ضرر في الدين هو اعظم مما انكره . وما المانع من ان يكون الامر جرى على ذلك ؟
فان قالوا أن امارات الخوف لم تظهر .
قلنا : وأي امارة للخوف هي اقوى من الاقدام على خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله في اوثق عهوده واقوى عقوده ، والاستبداد بأمر لاحظ لهم فيه . وهذه الحال تخرج من ان يكون امارة في ارتفاع الحشمة من القبيح إلى ان يكون دلالة ، وإنما يسوغ أن يقال لا امارة هناك تقتضي الخوف وتدعو إلى سوء الظن اذا فرضنا ان القوم كانوا على أحوال السلامة متضافرين متناصرين متمسكين بأوامر الرسول صلى الله عليه وآله ، جارين على سنته وطريقته . فلا يكون لسوء الظن عليهم مجال ولا لخوف من جهتهم طريق . فأما اذا فرضنا انهم دفعوا النص الظاهر وخالفوه وعملوا بخلاف مقتضاه ، فالامر حينئذ منعكس منقلب وحسن الظن لا وجه له ، وسوء الظن هو الواجب اللازم . فلا ينبغي للمخالفين لنا في هذه المسألة ان يجمعوا بين المتضادات ، ويفرضوا ان القوم دفعوا النص وخالفوا موجبه ، وهم مع ذلك على أحوال السلامة المعهودة منهم التي تقتضي من الظنون بهم أحسنها وأجملها على أنا لا نسلم انه ( ع ) لم يقع منه إنكار على وجه من الوجوه ، فإن الرواية متظافرة بأنه عليه السلام لم يزل يتظلم ويتألم ويشكو أنه مظلوم ومقهور في مقام بعد مقام وخطاب بعد خطاب . وقد ذكرنا تفصيل هذه الجملة في كتابنا الشافي في الامامة واوردنا طرفا مما روي في هذا الباب ، وبينا ان كلامه ( ع ) في هذا المعنى يترتب في الاحوال بحسب ترتبها في الشدة واللين ، فكان المسموع من كلامه عليه السلام في أيام أبي بكر لا سيما في صدرها ، وعند ابتداء البيعة له ما لم يكن مسموعا في أيام عمر ، ثم صرح عليه السلام وبين وقوى تعريضه في أيام عثمان ، ثم انتهت الحال في أيام تسليم الامر إليه إلى انه ( ع ) ما كان يخطب خطبة ولا يقف موقفا الا ويتكلم فيه بالالفاظ المختلفة والوجوه المتباينة ، حتى اشترك في معرفة ما في نفسه الولي والعدو والقريب والبعيد . وفي بعض ما كان ( ع ) بيديه ويعيده اعذار وافراغ للوسع ، وقيام بما يجب على مثله ممن قل تمكنه وضعف ناصره .
فأما محاربة أهل البصرة ، ثم أهل صفين ، فلا يجري مجرى التظاهر بالانكار على المتقدمين عليه ( ع ) ، لانه وجد على هؤلاء اعوانا وانصارا يكثر عددهم ويرجي النصر والظفر بمثلهم ، لان الشبهة في فعلهم وبغيهم كانت زايلة عن جميع الاماثل وذوي البصائر ، ولم يشتبه امرهم إلا على اغنام وطغام ولا إعتبار بهم ولا فكر في نصرة مثلهم . فتعين الغرض في قتالهم ومجاهدتهم للاسباب التي ذكرناها . وليس هذا ولا شئ منه موجودا فيمن تقدم ، بل الامر فيه بالعكس مما ذكرناه لان الجمهور والعدد الجم الكثير ، كانوا على موالاتهم وتعظيمهم وتفضيلهم وتصويبهم في اقوالهم وافعالهم . فبعض للشبهة وبعض للانحراف عن أمير المؤمنين عليه السلام والحبة لخروج الامر عنه ، وبعض لطلب الدنيا وحطامها ونيل الرياسات فيها . فمن جمع بين الحالتين وسوى بين الوقتين كمن جمع بين المتضادين . وكيف يقال هذا ويطلب منه ( ع ) من الانكار على من تقدم مثل ما وقع منه ( ع ) متأخرا في صفين والجمل ، وكل من حارب معه ( ع ) في هذه الحروب ، إلا القليل كانوا قائلين بامامة المتقدمين عليه ( ع ) ومنهم من يعتقد تفضيلهم على سائر الامة ، فكيف يستنصر ويتقوى في اظهار الانكار على من تقدم بقوم هذه صفتهم ، وابن الانكار على معاوية وطلحة وفلان وفلان من الانكار على ابي بكر وعمر وعثمان لولا الغفلة والعصبية ، ولو انه ( ع ) يرجو في حرب الجمل وصفين وسائر حروبه ظفرا ، وخاف من ضرر في الدين عظيم هو اعظم مما ينكره ، لما كان إلا ممسكا ومحجما كسنته فيمن تقدم .