عربي
Sunday 24th of November 2024
0
نفر 0

في بيعة علي للمتآمرين

في بيعة علي للمتآمرين :

فأما البيعة ، فإن اريد بها الرضا والتسليم ، فلم يبايع امير المؤمنين عليه السلام القوم بهذا التفسير على وجه من الوجوه . ومن ادعى ذلك كانت عليه الدلالة ، فإنه لا يجدها . وان اريد بالبيعة الصفقة واظهار الرضا ، فذلك مما وقع منه ( ع ) ، لكن بعد مطل شديد وتقاعد طويل علمهما الخاص والعام . وانما دعاه إلى الصفقة واظهار التسليم ما ذكرناه من الامور التي بعضها يدعو إلى مثل ذلك .

في حضوره مجالسهم :

واما حضور مجالسهم فما كان عليه الصلاة والسلام ممن يتعمدها ويقصدها ، وانما كان يكثر الجلوس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فيقع الاجتماع مع القوم هنا ، وذلك ليس بمجلس لهم مخصوص . وبعد ، فلو تعمد حضور مجالسهم لينهى عن بعض ما يجري فيها من منكر ، فإن القوم قد كانوا يرجعون اليه في كثير من الامور ، لجاز ولكان للحضور وجه صحيح له بالدين علقه قوية . فأما الدخول في آرائهم ، فلم يكن عليه السلام ممن يدخل فيها إلا مرشدا لهم ومنبها على بعض ما شذ عنهم ، والدخول بهذا الشرط واجب .

في الصلاة خلفهم :

وأما الصلاة خلفهم ، فقد علمنا ان الصلاة على ضربين : صلاة مقتد مؤتم بامامه على الحقيقة ، وصلاة مظهر للاقتداء والائتمام وان كان لا ينويها فإن ادعي على امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام انه صلى ناويا للاقتداء ، فيجب ان يدلوا على ذلك ، فإنا لا نسلمه ولا هو الظاهر الذي لا يمكن النزاع فيه . وان ادعوا صلاة مظهر للاقتداء فذلك مسلم لهم ، لانه الظاهر . إلا انه غير نافع فيما يقصدونه ، ولا يدل على خلاف ما يذهب اليه في امره ( ع ) ، فلم يبق إلا ان يقال فما العلة في اظهار الاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به ؟ فالعلة في ذلك غلبة القوم على الامر وتمكنهم من الحل والعقد ، لان الامتناع من اظهار الاقتداء بهم مجاهرة ومنابذة ، وقد قلنا فيما يؤدي ذلك اليه في ما فيه كفاية .

في أخذه أعطيتهم :

فأما أخذه الاعطية ، فما اخذ عليه السلام إلا حقه ولا سأل على من اخذ ما يستحقه ، اللهم الا ان يقال ان ذلك المال لم يكن وديعة له ( ع ) في أيديهم ولا دينا في ذممهم ، فيتعين حقه وياخذه كيف شاء وأنى شاء . لكن ذلك المال انما يكون حقا له اذا كان الجابي لذلك المال والمستفيد له ممن قد سوغت الشريعة جبايته وغنيمته ، ان كان من غنيمة . والغاصب ليس له ان يغنم ولا ان يتصرف التصرف المخصوص الذي يفيد المال . عن ذلك انا نقول : ان تصرف الغاصب لامر الامة اذا كان عن قهر وغاية ، وسوغت الحال للامة الامساك عن النكير خوفا وتقية يجري في الشرع مجرى تصرف المحق في باب جواز اخذ الاموال التي تفئ على يده ، ونكاح السبي وما شاكل ذلك . وان كان هو لذلك الفعل موزورا معاقبا ، وهذا بعينه عليه نص عن ائمتنا عليهم السلام لما سئلوا عن النكاح في دول الظالمين والتصرف في الاموال .

في نكاح السبي :

فأما ما ذكر في السؤال من نكاح السبي فقد قلنا في هذا الباب ما فيه كفاية لو اقتصرنا عليه لكنا نزيد في الامر وضوحا ، بأن نقول ليس المشار بذلك فيه الا إلى الحنفية ام محمد رضي الله عنه ، وقد ذكرنا في كتابنا المعروف بالشافي انه عليه السلام لم يستبحها بالسبي بل نكحها ومهرها ، وقد وردت الرواية من طريق العامة فضلا عن طريق الخاصة بهذا بعينه فان البلاذري ( 1 ) روى في كتابه المعروف بتاريخ الاشراف ، عن علي بن المغيرة بن الاثرم وعباس بن هشام الكلبي ، عن هشام عن خراش بن اسمعيل العجلي ، قال اغارت بنو أسد على بني حنيفة فسبوا خولة بنت جعفر وقدموا بها المدينة في أول خلافة ابي بكر ، فباعوها من علي عليه الصلاة والسلام ، وبلغ الخبر قومها فقدموا المدينة على علي عليه السلام فعرفوها واخبروه بموضعها منهم ، فاعتقها ومهرها وتزوجها ، فولدت له محمدا وكناه أبا القاسم . قال وهذا هو الثبت لا الخبر الاول ، يعني بذلك خبرا رواه عن المدايني ، انه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام إلى اليمن ، فأصاب خولة في بني زبيدة وقد ارتدوا مع عمرو بن معد يكرب ، وصارت في سهمه ، وذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : ان ولدت منك غلاما فسمه بإسمي وكنه بكنيتي ، فولدت له ( ع ) بعد موت فاطمة صلوات الله وسلامه عليها فسماه محمدا وكناه أبا القاسم . وهذا الخبر اذا كان صحيحا لم يبق سؤال في باب الحنفية .
فأما انكاحه عليه السلام اياها ، فقد ذكرنا في كتابنا الشافي ، الجواب عن هذا الباب مشروحا ، وبينا انه ( ع ) ما أجاب عمر إلى انكاح بنته إلا بعد توعد وتهدد ومراجعة ومنازعة بعد كلام طويل مأثور ، اشفق معه من شؤون الحال ظهور ما لا يزال يخفيه منها ، وان العباس رحمة الله عليه لما رأى ان الامر يفضي إلى الوحشة ووقوع الفرقة سأله ( ع ) رد أمرها اليه ففعل ، فزوجها منه . وما يجري على هذا الوجه معلوم معروف انه على غير اختيار ولا إيثار . وبينا في الكتاب الذي ذكرناه انه لا يمتنع ان يبيح الشرع ان يناكح بالاكراه ممن لا يجوز مناكحته مع الاختيار ، لا سيما اذا كان المنكح مظهرا للاسلام والتمسك بسائر الشريعة . وبينا أن العقل لا يمنع من مناكحة الكفار على سائر انواع كفرهم ، وانما المرجع فيما يحل من ذلك او يحرم إلى الشريعة . وفعل امير المؤمنين عليه السلام اقوى حجة في احكام الشرع ، وبينا الجواب عن الزامهم لنا ، فلو اكره على انكاح اليهود والنصارى لكان يجوز ذلك ، وفرقنا بين الامرين بأن قلنا إن كان السؤال عما في العقل فلا فرق بين الامرين ، وان كان عما في الشرع فالاجماع يحظر ان تنكح اليهود على كل حال . وما اجمعوا على حظر نكاح من ظاهره الاسلام وهو على نوع من القبيح لكفر به ، اذا اضطررنا إلى ذلك واكرهنا عليه . فاذا قالوا فما الفرق بين كفر اليهودي وكفر من ذكرتم ؟ قلنا لهم : وأي فرق بين كفر اليهودية في جواز نكاحها عندكم وكفر الوثنية .
فأما الدخول في الشورى ، فقد بينا في كتابنا المقدم ذكره الكلام فيه مستقصى ، ومن جملته انه عليه السلام لولا الشورى لم يكن ليتمكن من الاحتجاج على القوم بفضائله ومناقبه . والاخبار الدالة على النص بالامامة عليه ، وبما ذكرناه في الامور التي تدل على ان اسبابه إلى الامامة اقوى من أسبابهم ، وطرقه إلى تناولها اقرب من طرقهم ، ومن كان يصغي لولا الشورى إلى كلامه المستوفى في هذا المعنى . وأي حال لولاها لكانت يقتضي ذكر ما ذكره من المقامات والفضائل ، ولو لم يكن في الشورى من الغرض الا هذا وحده لكان كافيا مغنيا .
وبعد ، فان المدخل له في الشورى هو الحامل له على اظهار البيعة للرجلين ، والرضا بامامتهما وامضاء عقودهما ، فكيف يخالف في الشورى ويخرج منها وهي عقد من عقود من لم يزل ( ع ) ممضيا في الظاهر لعقوده حافظا لعهوده ، وأول ما كان يقال له انك انما لا تدخل في الشورى لاعتقادك ان الامامة اليك ، وان اختيار الامة للامام بعد الرسول باطل ، وفي هذا ما فيه . والامتناع من الدخول يعود اليه ، ويحمل عليه . وقد قال قوم من أصحابنا انه انما دخل فيها تجويز ان ينال الامر منها . ومعلوم ان كل سبب ظن معه ، أو جواز الوصول إلى الامر الذي قد تعين عليه القيام به يلزمه ( ع ) التوصل به الهجرة له . وهذه الجملة كافية في الجواب عن جميع ما تضمنه السؤال .

عن عدم افتائه بمذاهبه في أيام المتآمرين :

( مسألة ) : فإن قيل : اذا كنتم تروون عنه ( ع ) وتدعون عليه في احكام الشريعة مذاهب كثيرة لا يعرفها الفقهاء له مذهبا ، وقد كان عليه السلام عندكم يشاهد الامر يجري بخلافها ، فإلا افتى بمذاهبه ونبه عليها وارشد اليها . وليس لكم ان تقولوا انه ( ع ) استعمل التقية كما استعملها فيما تقدم ، لانه ( ع ) قد خالفهم في مذاهب استبد بها وتفرد بالقول فيها ، مثل قطع السارق من الاصابع ، وبيع امهات الاولاد ، ومسائل في الحدود ، وغير ذلك مما مذهبه ( ع ) فيه إلى الآن معروف . فكيف اتقى في بعض وأمن في آخر ؟ وحكم الجميع واحد في انه خلاف في احكام شرعية لا يتعلق بإمامة ولا تصحيح نص ولا ابطال اختيار ؟
( الجواب ) : قلنا : لم يظهر امير المؤمنين عليه السلام في احكام الشريعة خلافا للقوم إلا بحيث كان له موافق وان قل عدده ، او بحيث علم ان الخلاف لا يؤول إلى فساد ولا يقتضي إلى مجاهرة ولا مظاهرة . وهذه حال يعلمها الحاضر بالمشاهدة او يغلب على ظنه فيها ما لا يعلمه الغائب ولا يظنه ، واستعمال القياس فيما يؤدي إلى الوحشة بين الناس ونفار بعضهم من بعض لا يسوغ ، لانا قد نجد كثيرا من الناس يستوحشون في ان يخالفوا في مذهب من المذاهب غاية الاستيحاش ، وان لم يستوحشوا من الخلاف فيما هو اعظم منه وأجل موقعا ، ويغضبهم في هذا الباب الصغير ولا يغضبهم الكبير . وهذا انما يكون لعادات جرت وأسباب استحكمت ، ولاعتقادهم ان بعض الامور وان صغر في ظاهره ، فإنه يؤدي إلى العظائم والكبائر . أو لاعتقادهم ان الخلاف في بعض الاشياء وان كان في ظاهر الامر كالخلاف في غيره ، لا يقع الا مع معاند منافس . واذا كان الامر على ما ذكرناه لم ينكر أن يكون امير المؤمنين ( ع ) انما لم يظهر في جميع مذاهبه التي خالف فيها القوم اظهارا واحدا ، لانه ( ع ) علم او غلب في ظنه ان اظهار ذلك يؤدي من المحتمل الضرر في الدين إلى ما لا يؤدي اليه اظهار ما اظهره ، وهذا واضح لمن تدبره . وقد دخل في جملة ما ذكرناه الجواب عن قولهم : لم لم يغير الاحكام ويظهر مذاهبه ، وما كان مخبوا في نفسه عند افضاء الامر اليه وحصول الخلافة في يديه ، فإنه لا تقية على من هو أمير المؤمنين وإمام جميع المسلمين ، لانا قد بينا ان الامر ما افضى اليه ( ع ) إلا بالاسم دون المعنى ، وقد كان عليه السلام معارضا منازعا مغصصا طول ايام ولايته إلى ان قبضه الله تعالى إلى جنته ، وكيف يأمن في ولايته الخلاف على المتقدمين عليه ( ع ) رجل من تابعه وجمهورهم شيعة اعدائه ( ع ) . ومن يرى انهم مضوا على اعدل الامور وأفضلها ، وأن غاية من يأتي بعدهم ان يتبع آثارهم ويقتفي طرائقهم . وما العجب من ترك امير المؤمنين عليه السلام ما ترك من اظهار بعض مذاهبه التي كان الجمهور يخالفه فيها ، وانما العجب من اظهار شئ من ذلك مع ما كان عليه من شر الفتنة وخوف الفرقة ، وقد كان ( ع ) يجهر في كل مقام يقومه بما هو عليه من فقد التمكن وتقاعد الانصار وتخاذل الاعوان ، بما ان ذكرنا قليله طال به الشرح وهو ( ع ) القائل : " والله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين اهل الانجيل بانجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، حتى يظهر كل كتاب من هذه الكتب ويقول يارب ان عليا قد قضى بقضائك " . وهو القائل عليه السلام وقد استأذنه قضاته فقالوا بم نقضي يا امير المؤمنين فقال ( ع ) : " اقضوا بما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة او اموت كما مات اصحابي " يعني ( ع ) من تقدم موته من اصحابه والمخلصين من شيعته الذين قبضهم الله تعالى وهم على احوال التقية والتمسك باطنا بما أوجب الله جل اسمه عليهم التمسك به . وهذا واضح فيما قصدناه . وقد تضمن كلامنا هذا الجواب عن سؤال من يسأل عن السبب في امتناعه عليه السلام من رد فدك إلى يد مستحقها لما افضى التصرف في الامامة اليه ( ع ) .

في مسألة التحكيم :

( مسألة ) : فان قيل : فما الوجه في تحكيمه عليه السلام أبا موسى الاشعري وعمرو بن العاص ؟ وما العذر في ان حكم في الدين الرجال . وهذا يدل على شكه في امامته وحاجته إلى علمه بصحة طريقته ؟ ثم ما الوجه في تحكيمه فاسقين عنده عدوين له . أو ليس قد تعرض لذلك ان يخلعا امامته ويشككا الناس فيه وقد مكنهما من ذلك بأن حكمهما ، وكانا غير متمكنين منه ولا أقوالهما حجة في مثله ؟ ثم ما العذر في تأخره جهاد المرقة الفسقة وتأجيله ذلك مع امكانه واستظهاره وحضور ناصره ؟ ثم ما الوجه في محو اسمه من الكتاب بالامامة وتنظيره لمعاوية في ذكر نفسه بمجرد الاسم المضاف إلى الاب كما فعل ذلك به ، وانتم تعلمون ان بهذه الامور ضلت الخوارج مع شدة تخشنها في الدين وتمسكها بعلائقه ووثايقه ؟ .
( الجواب ) : قلنا كل أمر ثبت بدليل قاطع غير محتمل فليس يجوز ان نرجع عنه ونتشكك فيه لاجل امر محتمل ، وقد ثبت امامة أمير المؤمنين عليه السلام وعصمته وطهارته من الخطأ وبراءته من الذنوب والعيوب بأدله عقلية وسمعية ، فليس يجوز ان نرجع عن ذلك اجمع ، ولا عن شئ منه ، لما وقع من التحكيم للصواب بظاهره ، وقبل النظر فيه كاحتماله للخطأ ولو كان ظاهره اقرب إلى الخطأ وأدنى إلى مخالفة الصواب ، بل الواجب في ذلك القطع على مطابقة ما ظهر من المحتمل لما ثبت بالدليل ، او صرف ماله ظاهر عن ظاهره ، والعدول به إلى موافقة مدلول الدلالة التي لا يختلف مدلولها ولا يتطرق عليها التأويل . وهذا فعلنا فيما ورد من آي القرآن التي تخالف بظاهرها الادلة العقلية مما يتعلق به الملحدون او المجبرة او المشبهة ، وهذه جملة قد كررنا ذكرها في كتابنا هذا لجلالة موقعها من الحجة ، ولو اقتصرنا في حل هذه الشبهة عليها لكانت مغنية كافية ، كما انها كذلك فيما ذكرناه من الاصول . لكننا نزيد وضوحا في تفصيلها ولا نقتصر عليها كما لم نفعل ذلك فيما صدرنا به هذا الكتاب من الكلام في تنزيه الانبياء عليهم السلام عن المعاصي .
فنقول : إن امير المؤمنين عليه السلام ما حكم مختارا ، بل احوج إلى التحكيم وألجئ اليه لان اصحابه ( ع ) كانوا من التخاذل والتقاعد والتواكل إلا القليل منهم على ما هو معروف مشهور ، ولما طالت الحرب وكثر القتل وجل الخطب ملوا ذلك وطلبوا مخرجا من مقارعة السيوف ، واتفق من رفع أهل الشام المصاحف والتماسهم الرجوع اليها واظهارهم الرضا بما فيها ما اتفق ، بالحيلة التي نصبها عدو الله عمروبن العاص ، والمكيدة التى كادبها لما احس بالبوار وعلو كلمة أهل الحق ، وأن معاوية وجنده مأخوذون قد علتهم السيوف ودنت منهم الحتوف ، فعند ذلك وجد هؤلاء الاغنام طريقا إلى الفرار وسبيلا إلى وقوف أمر المناجزة . ولعل فيهم من دخلت عليه الشبهة لبعده عن الحق وغلط فهمه ، وظن ان الذي دعى اليه أهل الشام من التحكيم وكف الحرب على سبيل البحث عن الحق الاستسلام للحجة لا على وجه المكيدة والخديعة ، فطالبوه عليه السلام بكف الحرب والرضا بما بذله القوم فامتنع ( ع ) من ذلك امتناع عالم بالمكيدة ظاهر على الحيلة ، وصرح لهم بأن ذلك مكر وخداع ، فأبوا ولجوا فأشفق ( ع ) في الامتناع عليهم والخلاف لهم وهم جم عسكره وجمهور اصحابه من فتنة صماء هى اقرب اليه من حرب عدوه ، ولم يأمن ان يعتدى ما بينه وبينهم إلى ان يسلموه إلى عدوه او يسفكوا دمه ، فأجاب إلى التحكيم على مضض . ورد من كان قد اخذ بخناق معاوية وقارب تناوله وأشرف على التمكن منه ، حتى انهم قالوا للاشتر رحمه الله تعالى وقد امتنع من ان يكف عن القتال وقد احس بالظفر وايقن بالنصر ، أتحب انك ظفرت ها هنا وامير المؤمنين عليه السلام بمكانه قد سلم إلى عدوه وتفرق اصحابه عنه . وقال لهم اميرالمؤمنين عليه السلام عند رفعهم المصاحف اتقوا الله وامضوا على حقكم ، فإن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وانا اعرف بهم منكم ، قد صحبتهم اطفالا ورجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال ، انهم والله ما رفعوا المصاحف ليعملوا بها وانما رفعوها خديعة ودهاء ومكيدة . فأجاب ( ع ) إلى التحكيم دفعا للشر القوي بالشر الضعيف ، وتلافيا للضرر الاعظم بتحمل الضرر الايسر ، وأراد ان يحكم من جهته عبدالله بن العباس رحمة الله عليه فأبوا عليه ولجوا كما لجوا في أصل التحكيم ، وقالوا لابد من يماني مع مضري . فقال ( ع ) فضموا الاشتر وهو يماني إلى عمرو ، فقال الاشعث بن قيس : الاشتر هو الذي طرحنا فيما نحن فيه . واختاروا أبا موسى مقترحين له ( ع ) ملزمين له تحكيمه ، فحكمهما بشرط ان يحكما بكتاب الله تعالى ولا يتجاوزاه ، وانهما متى تعدياه فلا حكم لهما .
هذا غاية التحرز ونهاية التيقظ ، لانا نعلم انهما لو حكما بما في الكتاب لاصابا الحق . وعلمنا ان اميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام أولى بالامر ، وانه لا حظ لمعاوية وذويه في شئ منه . ولما عدلا إلى طلب الدنيا ومكر أحدهما بصاحبه ونبذا الكتاب وحكمه وراء ظهورهما ، خرجا من التحكيم وبطل قولهما وحكمهما ، وهذا بعينه موجود في كلام اميرالمؤمنين عليه السلام لما ناظر الخوارج واحتجوا عليه في التحكيم . وكل ما ذكرناه في هذا الفصل من ذكر الاعذار في التحكيم والوجوه المحسنة له مأخوذة من كلامه عليه السلام . وقد روي ذلك عنه عليه السلام مفصلا مشروحا .
فأما تحكيمهما مع علمه بفسقهما فلا سؤال فيه ، اذ كنا قد بينا ان الاكراه وقع على اصل الاختيار وفرعه ، وأنه عليه السلام ألجئ اليه جملة ثم إلى تفصيله ، ولو خلى عليه السلام واختياره ما أجاب إلى التحكيم اصلا ، ولا رفع السيوف عن أعناق القوم . لكنه أجاب اليه ملجأ كما اجاب إلى ما اختاروه بعينه كذلك . وقد صرح ( ع ) بذلك في كلامه حيث يقول : لقد أمسيت أميرا واصبحت مأمورا ، وكنت أمس ناهيا وأصبحت اليوم منهيا .
وكيف يكون التحكيم منه ( ع ) دالا على الشك ، وهو ( ع ) ناه عنه وغير راض به ومصرح بما فيه من الخديعة ؟ وانما يدل على شك من حمله عليه وقاده اليه ، وانما يقال ان التحكيم يدل على الشك اذا كنا لا نعرف سببه والحامل عليه ، أو كان لا وجه له إلا ما يقتضي الشك . فأما اذا كنا قد عرفنا ما اقتضاه وادخل فيه ، وعلمنا انه ( ع ) ما أجاب عليه إلا لدفع الضرر العظيم ، ولان تزول الشبهة عن قلب من ظن به ( ع ) أنه لا يرضى بالكتاب ولا يجيب إلى تحكيمه ، فلا وجه لما ذكروه . وقد أجاب ( ع ) عن هذه الشبهة بعينها في مناظرتهم لما قالوا له : اشككت ؟ فقال عليه السلام : أنا اولى بأن لا أشك في دينى أم النبي صلى الله عليه وآله ؟ او ما قال الله تعالى لرسوله : ( قل فأتوا بكتاب من عندالله هو اهدى منهما أتبعه ان كنتم صادقين ) ( 2 ) .
واما قول السائل ، فإنه ( ع ) تعرض لخلع امامته ومكن الفاسقين من ان يحكما عليه بالباطل ، فمعاذ الله ان يكون كذلك ، لانا قد بينا انه ( ع ) انما حكمهما بشرط لو وفيا به وعملا عليه ، لاقرا امامته واوجبا طاعته ، لكنهما عدلا عنه فبطل حكمهما ، فما مكنهما من خلع امامته ولا تعرض منهما لذلك . ونحن نعلم ان من قلد حاكما او ولى اميرا ليحكم بالحق ويعمل بالواجب فعدل عما شرط عليه وخالفه ، لا يسوغ القول بأن من ولاه عرضه لباطل ومكنه من العدول عن الواجب ، ولم يلحقه شئ من اللوم بذلك ، بل كان اللوم عائدا على من خالف ما شرط عليه .
فأما تأخيره جهاد الظالمين وتأجيل ما يأتي من استيصالهم ، فقد بينا العذر فيه ، وان اصحابه ( ع ) تخاذلوا وتواكلوا واختلفوا ، وان الحرب بلا أنصار وبغير اعوان لا يمكن . والمتعرض لها مغرر بنفسه وأصحابه .
فأما عدوله عن التسمية بأمير المؤمنين واقتصاره على التسمية المجردة ، فضرورة لحال دعت اليها . وقد سبق إلى مثل ذلك سيد الاولين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وآله في عام الحديبية ، وقصته مع سهل بن عمرو ، وأنذره عليه السلام بأنه : ستدعى إلى مثل ذلك وتجيب على مضض . فكان كما أنذر وخبر رسول الله صلى الله عليه وآله . واللوم بلا اشكال زايل عما اقتدى فيه بالرسول صلى الله عليه وآله . وهذه جملة تفصيلها يطول ، وفيها لمن انصف من نفسه بلاغ وكفاية .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الاسس الاسلامية في خطب الوداع
الحثّ على الجهاد
الارتباط بين الفكر الأصولي والفلسفي
الآيات الدالّة على الشفاعة التكوينية
بعض اقوال علماء اهل السنة والجماعة في يزيد ابن ...
الله سبحانه وتعالى احيا الموتى لعزير
کيف نشأة القاديانية و ماهي عقيدتها
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكرَى تَنفَعُ ...
العلاقة بين رجل الدين والمجتمع
مسؤوليات الشباب في كلام القائد

 
user comment