في بيعة علي للمتآمرين :
فأما البيعة ، فإن اريد بها الرضا والتسليم ، فلم يبايع امير المؤمنين عليه السلام القوم بهذا التفسير على وجه من الوجوه . ومن ادعى ذلك كانت عليه الدلالة ، فإنه لا يجدها . وان اريد بالبيعة الصفقة واظهار الرضا ، فذلك مما وقع منه ( ع ) ، لكن بعد مطل شديد وتقاعد طويل علمهما الخاص والعام . وانما دعاه إلى الصفقة واظهار التسليم ما ذكرناه من الامور التي بعضها يدعو إلى مثل ذلك .
في حضوره مجالسهم :
واما حضور مجالسهم فما كان عليه الصلاة والسلام ممن يتعمدها ويقصدها ، وانما كان يكثر الجلوس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فيقع الاجتماع مع القوم هنا ، وذلك ليس بمجلس لهم مخصوص . وبعد ، فلو تعمد حضور مجالسهم لينهى عن بعض ما يجري فيها من منكر ، فإن القوم قد كانوا يرجعون اليه في كثير من الامور ، لجاز ولكان للحضور وجه صحيح له بالدين علقه قوية . فأما الدخول في آرائهم ، فلم يكن عليه السلام ممن يدخل فيها إلا مرشدا لهم ومنبها على بعض ما شذ عنهم ، والدخول بهذا الشرط واجب .
في الصلاة خلفهم :
وأما الصلاة خلفهم ، فقد علمنا ان الصلاة على ضربين : صلاة مقتد مؤتم بامامه على الحقيقة ، وصلاة مظهر للاقتداء والائتمام وان كان لا ينويها فإن ادعي على امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام انه صلى ناويا للاقتداء ، فيجب ان يدلوا على ذلك ، فإنا لا نسلمه ولا هو الظاهر الذي لا يمكن النزاع فيه . وان ادعوا صلاة مظهر للاقتداء فذلك مسلم لهم ، لانه الظاهر . إلا انه غير نافع فيما يقصدونه ، ولا يدل على خلاف ما يذهب اليه في امره ( ع ) ، فلم يبق إلا ان يقال فما العلة في اظهار الاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به ؟ فالعلة في ذلك غلبة القوم على الامر وتمكنهم من الحل والعقد ، لان الامتناع من اظهار الاقتداء بهم مجاهرة ومنابذة ، وقد قلنا فيما يؤدي ذلك اليه في ما فيه كفاية .
في أخذه أعطيتهم :
فأما أخذه الاعطية ، فما اخذ عليه السلام إلا حقه ولا سأل على من اخذ ما يستحقه ، اللهم الا ان يقال ان ذلك المال لم يكن وديعة له ( ع ) في أيديهم ولا دينا في ذممهم ، فيتعين حقه وياخذه كيف شاء وأنى شاء . لكن ذلك المال انما يكون حقا له اذا كان الجابي لذلك المال والمستفيد له ممن قد سوغت الشريعة جبايته وغنيمته ، ان كان من غنيمة . والغاصب ليس له ان يغنم ولا ان يتصرف التصرف المخصوص الذي يفيد المال . عن ذلك انا نقول : ان تصرف الغاصب لامر الامة اذا كان عن قهر وغاية ، وسوغت الحال للامة الامساك عن النكير خوفا وتقية يجري في الشرع مجرى تصرف المحق في باب جواز اخذ الاموال التي تفئ على يده ، ونكاح السبي وما شاكل ذلك . وان كان هو لذلك الفعل موزورا معاقبا ، وهذا بعينه عليه نص عن ائمتنا عليهم السلام لما سئلوا عن النكاح في دول الظالمين والتصرف في الاموال .
في نكاح السبي :
فأما ما ذكر في السؤال من نكاح السبي فقد قلنا في هذا الباب ما فيه كفاية لو اقتصرنا عليه لكنا نزيد في الامر وضوحا ، بأن نقول ليس المشار بذلك فيه الا إلى الحنفية ام محمد رضي الله عنه ، وقد ذكرنا في كتابنا المعروف بالشافي انه عليه السلام لم يستبحها بالسبي بل نكحها ومهرها ، وقد وردت الرواية من طريق العامة فضلا عن طريق الخاصة بهذا بعينه فان البلاذري ( 1 ) روى في كتابه المعروف بتاريخ الاشراف ، عن علي بن المغيرة بن الاثرم وعباس بن هشام الكلبي ، عن هشام عن خراش بن اسمعيل العجلي ، قال اغارت بنو أسد على بني حنيفة فسبوا خولة بنت جعفر وقدموا بها المدينة في أول خلافة ابي بكر ، فباعوها من علي عليه الصلاة والسلام ، وبلغ الخبر قومها فقدموا المدينة على علي عليه السلام فعرفوها واخبروه بموضعها منهم ، فاعتقها ومهرها وتزوجها ، فولدت له محمدا وكناه أبا القاسم . قال وهذا هو الثبت لا الخبر الاول ، يعني بذلك خبرا رواه عن المدايني ، انه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام إلى اليمن ، فأصاب خولة في بني زبيدة وقد ارتدوا مع عمرو بن معد يكرب ، وصارت في سهمه ، وذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : ان ولدت منك غلاما فسمه بإسمي وكنه بكنيتي ، فولدت له ( ع ) بعد موت فاطمة صلوات الله وسلامه عليها فسماه محمدا وكناه أبا القاسم . وهذا الخبر اذا كان صحيحا لم يبق سؤال في باب الحنفية .
فأما انكاحه عليه السلام اياها ، فقد ذكرنا في كتابنا الشافي ، الجواب عن هذا الباب مشروحا ، وبينا انه ( ع ) ما أجاب عمر إلى انكاح بنته إلا بعد توعد وتهدد ومراجعة ومنازعة بعد كلام طويل مأثور ، اشفق معه من شؤون الحال ظهور ما لا يزال يخفيه منها ، وان العباس رحمة الله عليه لما رأى ان الامر يفضي إلى الوحشة ووقوع الفرقة سأله ( ع ) رد أمرها اليه ففعل ، فزوجها منه . وما يجري على هذا الوجه معلوم معروف انه على غير اختيار ولا إيثار . وبينا في الكتاب الذي ذكرناه انه لا يمتنع ان يبيح الشرع ان يناكح بالاكراه ممن لا يجوز مناكحته مع الاختيار ، لا سيما اذا كان المنكح مظهرا للاسلام والتمسك بسائر الشريعة . وبينا أن العقل لا يمنع من مناكحة الكفار على سائر انواع كفرهم ، وانما المرجع فيما يحل من ذلك او يحرم إلى الشريعة . وفعل امير المؤمنين عليه السلام اقوى حجة في احكام الشرع ، وبينا الجواب عن الزامهم لنا ، فلو اكره على انكاح اليهود والنصارى لكان يجوز ذلك ، وفرقنا بين الامرين بأن قلنا إن كان السؤال عما في العقل فلا فرق بين الامرين ، وان كان عما في الشرع فالاجماع يحظر ان تنكح اليهود على كل حال . وما اجمعوا على حظر نكاح من ظاهره الاسلام وهو على نوع من القبيح لكفر به ، اذا اضطررنا إلى ذلك واكرهنا عليه . فاذا قالوا فما الفرق بين كفر اليهودي وكفر من ذكرتم ؟ قلنا لهم : وأي فرق بين كفر اليهودية في جواز نكاحها عندكم وكفر الوثنية .
فأما الدخول في الشورى ، فقد بينا في كتابنا المقدم ذكره الكلام فيه مستقصى ، ومن جملته انه عليه السلام لولا الشورى لم يكن ليتمكن من الاحتجاج على القوم بفضائله ومناقبه . والاخبار الدالة على النص بالامامة عليه ، وبما ذكرناه في الامور التي تدل على ان اسبابه إلى الامامة اقوى من أسبابهم ، وطرقه إلى تناولها اقرب من طرقهم ، ومن كان يصغي لولا الشورى إلى كلامه المستوفى في هذا المعنى . وأي حال لولاها لكانت يقتضي ذكر ما ذكره من المقامات والفضائل ، ولو لم يكن في الشورى من الغرض الا هذا وحده لكان كافيا مغنيا .
وبعد ، فان المدخل له في الشورى هو الحامل له على اظهار البيعة للرجلين ، والرضا بامامتهما وامضاء عقودهما ، فكيف يخالف في الشورى ويخرج منها وهي عقد من عقود من لم يزل ( ع ) ممضيا في الظاهر لعقوده حافظا لعهوده ، وأول ما كان يقال له انك انما لا تدخل في الشورى لاعتقادك ان الامامة اليك ، وان اختيار الامة للامام بعد الرسول باطل ، وفي هذا ما فيه . والامتناع من الدخول يعود اليه ، ويحمل عليه . وقد قال قوم من أصحابنا انه انما دخل فيها تجويز ان ينال الامر منها . ومعلوم ان كل سبب ظن معه ، أو جواز الوصول إلى الامر الذي قد تعين عليه القيام به يلزمه ( ع ) التوصل به الهجرة له . وهذه الجملة كافية في الجواب عن جميع ما تضمنه السؤال .
عن عدم افتائه بمذاهبه في أيام المتآمرين :
( مسألة ) : فإن قيل : اذا كنتم تروون عنه ( ع ) وتدعون عليه في احكام الشريعة مذاهب كثيرة لا يعرفها الفقهاء له مذهبا ، وقد كان عليه السلام عندكم يشاهد الامر يجري بخلافها ، فإلا افتى بمذاهبه ونبه عليها وارشد اليها . وليس لكم ان تقولوا انه ( ع ) استعمل التقية كما استعملها فيما تقدم ، لانه ( ع ) قد خالفهم في مذاهب استبد بها وتفرد بالقول فيها ، مثل قطع السارق من الاصابع ، وبيع امهات الاولاد ، ومسائل في الحدود ، وغير ذلك مما مذهبه ( ع ) فيه إلى الآن معروف . فكيف اتقى في بعض وأمن في آخر ؟ وحكم الجميع واحد في انه خلاف في احكام شرعية لا يتعلق بإمامة ولا تصحيح نص ولا ابطال اختيار ؟
( الجواب ) : قلنا : لم يظهر امير المؤمنين عليه السلام في احكام الشريعة خلافا للقوم إلا بحيث كان له موافق وان قل عدده ، او بحيث علم ان الخلاف لا يؤول إلى فساد ولا يقتضي إلى مجاهرة ولا مظاهرة . وهذه حال يعلمها الحاضر بالمشاهدة او يغلب على ظنه فيها ما لا يعلمه الغائب ولا يظنه ، واستعمال القياس فيما يؤدي إلى الوحشة بين الناس ونفار بعضهم من بعض لا يسوغ ، لانا قد نجد كثيرا من الناس يستوحشون في ان يخالفوا في مذهب من المذاهب غاية الاستيحاش ، وان لم يستوحشوا من الخلاف فيما هو اعظم منه وأجل موقعا ، ويغضبهم في هذا الباب الصغير ولا يغضبهم الكبير . وهذا انما يكون لعادات جرت وأسباب استحكمت ، ولاعتقادهم ان بعض الامور وان صغر في ظاهره ، فإنه يؤدي إلى العظائم والكبائر . أو لاعتقادهم ان الخلاف في بعض الاشياء وان كان في ظاهر الامر كالخلاف في غيره ، لا يقع الا مع معاند منافس . واذا كان الامر على ما ذكرناه لم ينكر أن يكون امير المؤمنين ( ع ) انما لم يظهر في جميع مذاهبه التي خالف فيها القوم اظهارا واحدا ، لانه ( ع ) علم او غلب في ظنه ان اظهار ذلك يؤدي من المحتمل الضرر في الدين إلى ما لا يؤدي اليه اظهار ما اظهره ، وهذا واضح لمن تدبره . وقد دخل في جملة ما ذكرناه الجواب عن قولهم : لم لم يغير الاحكام ويظهر مذاهبه ، وما كان مخبوا في نفسه عند افضاء الامر اليه وحصول الخلافة في يديه ، فإنه لا تقية على من هو أمير المؤمنين وإمام جميع المسلمين ، لانا قد بينا ان الامر ما افضى اليه ( ع ) إلا بالاسم دون المعنى ، وقد كان عليه السلام معارضا منازعا مغصصا طول ايام ولايته إلى ان قبضه الله تعالى إلى جنته ، وكيف يأمن في ولايته الخلاف على المتقدمين عليه ( ع ) رجل من تابعه وجمهورهم شيعة اعدائه ( ع ) . ومن يرى انهم مضوا على اعدل الامور وأفضلها ، وأن غاية من يأتي بعدهم ان يتبع آثارهم ويقتفي طرائقهم . وما العجب من ترك امير المؤمنين عليه السلام ما ترك من اظهار بعض مذاهبه التي كان الجمهور يخالفه فيها ، وانما العجب من اظهار شئ من ذلك مع ما كان عليه من شر الفتنة وخوف الفرقة ، وقد كان ( ع ) يجهر في كل مقام يقومه بما هو عليه من فقد التمكن وتقاعد الانصار وتخاذل الاعوان ، بما ان ذكرنا قليله طال به الشرح وهو ( ع ) القائل : " والله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين اهل الانجيل بانجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، حتى يظهر كل كتاب من هذه الكتب ويقول يارب ان عليا قد قضى بقضائك " . وهو القائل عليه السلام وقد استأذنه قضاته فقالوا بم نقضي يا امير المؤمنين فقال ( ع ) : " اقضوا بما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة او اموت كما مات اصحابي " يعني ( ع ) من تقدم موته من اصحابه والمخلصين من شيعته الذين قبضهم الله تعالى وهم على احوال التقية والتمسك باطنا بما أوجب الله جل اسمه عليهم التمسك به . وهذا واضح فيما قصدناه . وقد تضمن كلامنا هذا الجواب عن سؤال من يسأل عن السبب في امتناعه عليه السلام من رد فدك إلى يد مستحقها لما افضى التصرف في الامامة اليه ( ع ) .
في مسألة التحكيم :
( مسألة ) : فان قيل : فما الوجه في تحكيمه عليه السلام أبا موسى الاشعري وعمرو بن العاص ؟ وما العذر في ان حكم في الدين الرجال . وهذا يدل على شكه في امامته وحاجته إلى علمه بصحة طريقته ؟ ثم ما الوجه في تحكيمه فاسقين عنده عدوين له . أو ليس قد تعرض لذلك ان يخلعا امامته ويشككا الناس فيه وقد مكنهما من ذلك بأن حكمهما ، وكانا غير متمكنين منه ولا أقوالهما حجة في مثله ؟ ثم ما العذر في تأخره جهاد المرقة الفسقة وتأجيله ذلك مع امكانه واستظهاره وحضور ناصره ؟ ثم ما الوجه في محو اسمه من الكتاب بالامامة وتنظيره لمعاوية في ذكر نفسه بمجرد الاسم المضاف إلى الاب كما فعل ذلك به ، وانتم تعلمون ان بهذه الامور ضلت الخوارج مع شدة تخشنها في الدين وتمسكها بعلائقه ووثايقه ؟ .
( الجواب ) : قلنا كل أمر ثبت بدليل قاطع غير محتمل فليس يجوز ان نرجع عنه ونتشكك فيه لاجل امر محتمل ، وقد ثبت امامة أمير المؤمنين عليه السلام وعصمته وطهارته من الخطأ وبراءته من الذنوب والعيوب بأدله عقلية وسمعية ، فليس يجوز ان نرجع عن ذلك اجمع ، ولا عن شئ منه ، لما وقع من التحكيم للصواب بظاهره ، وقبل النظر فيه كاحتماله للخطأ ولو كان ظاهره اقرب إلى الخطأ وأدنى إلى مخالفة الصواب ، بل الواجب في ذلك القطع على مطابقة ما ظهر من المحتمل لما ثبت بالدليل ، او صرف ماله ظاهر عن ظاهره ، والعدول به إلى موافقة مدلول الدلالة التي لا يختلف مدلولها ولا يتطرق عليها التأويل . وهذا فعلنا فيما ورد من آي القرآن التي تخالف بظاهرها الادلة العقلية مما يتعلق به الملحدون او المجبرة او المشبهة ، وهذه جملة قد كررنا ذكرها في كتابنا هذا لجلالة موقعها من الحجة ، ولو اقتصرنا في حل هذه الشبهة عليها لكانت مغنية كافية ، كما انها كذلك فيما ذكرناه من الاصول . لكننا نزيد وضوحا في تفصيلها ولا نقتصر عليها كما لم نفعل ذلك فيما صدرنا به هذا الكتاب من الكلام في تنزيه الانبياء عليهم السلام عن المعاصي .
فنقول : إن امير المؤمنين عليه السلام ما حكم مختارا ، بل احوج إلى التحكيم وألجئ اليه لان اصحابه ( ع ) كانوا من التخاذل والتقاعد والتواكل إلا القليل منهم على ما هو معروف مشهور ، ولما طالت الحرب وكثر القتل وجل الخطب ملوا ذلك وطلبوا مخرجا من مقارعة السيوف ، واتفق من رفع أهل الشام المصاحف والتماسهم الرجوع اليها واظهارهم الرضا بما فيها ما اتفق ، بالحيلة التي نصبها عدو الله عمروبن العاص ، والمكيدة التى كادبها لما احس بالبوار وعلو كلمة أهل الحق ، وأن معاوية وجنده مأخوذون قد علتهم السيوف ودنت منهم الحتوف ، فعند ذلك وجد هؤلاء الاغنام طريقا إلى الفرار وسبيلا إلى وقوف أمر المناجزة . ولعل فيهم من دخلت عليه الشبهة لبعده عن الحق وغلط فهمه ، وظن ان الذي دعى اليه أهل الشام من التحكيم وكف الحرب على سبيل البحث عن الحق الاستسلام للحجة لا على وجه المكيدة والخديعة ، فطالبوه عليه السلام بكف الحرب والرضا بما بذله القوم فامتنع ( ع ) من ذلك امتناع عالم بالمكيدة ظاهر على الحيلة ، وصرح لهم بأن ذلك مكر وخداع ، فأبوا ولجوا فأشفق ( ع ) في الامتناع عليهم والخلاف لهم وهم جم عسكره وجمهور اصحابه من فتنة صماء هى اقرب اليه من حرب عدوه ، ولم يأمن ان يعتدى ما بينه وبينهم إلى ان يسلموه إلى عدوه او يسفكوا دمه ، فأجاب إلى التحكيم على مضض . ورد من كان قد اخذ بخناق معاوية وقارب تناوله وأشرف على التمكن منه ، حتى انهم قالوا للاشتر رحمه الله تعالى وقد امتنع من ان يكف عن القتال وقد احس بالظفر وايقن بالنصر ، أتحب انك ظفرت ها هنا وامير المؤمنين عليه السلام بمكانه قد سلم إلى عدوه وتفرق اصحابه عنه . وقال لهم اميرالمؤمنين عليه السلام عند رفعهم المصاحف اتقوا الله وامضوا على حقكم ، فإن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وانا اعرف بهم منكم ، قد صحبتهم اطفالا ورجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال ، انهم والله ما رفعوا المصاحف ليعملوا بها وانما رفعوها خديعة ودهاء ومكيدة . فأجاب ( ع ) إلى التحكيم دفعا للشر القوي بالشر الضعيف ، وتلافيا للضرر الاعظم بتحمل الضرر الايسر ، وأراد ان يحكم من جهته عبدالله بن العباس رحمة الله عليه فأبوا عليه ولجوا كما لجوا في أصل التحكيم ، وقالوا لابد من يماني مع مضري . فقال ( ع ) فضموا الاشتر وهو يماني إلى عمرو ، فقال الاشعث بن قيس : الاشتر هو الذي طرحنا فيما نحن فيه . واختاروا أبا موسى مقترحين له ( ع ) ملزمين له تحكيمه ، فحكمهما بشرط ان يحكما بكتاب الله تعالى ولا يتجاوزاه ، وانهما متى تعدياه فلا حكم لهما .
هذا غاية التحرز ونهاية التيقظ ، لانا نعلم انهما لو حكما بما في الكتاب لاصابا الحق . وعلمنا ان اميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام أولى بالامر ، وانه لا حظ لمعاوية وذويه في شئ منه . ولما عدلا إلى طلب الدنيا ومكر أحدهما بصاحبه ونبذا الكتاب وحكمه وراء ظهورهما ، خرجا من التحكيم وبطل قولهما وحكمهما ، وهذا بعينه موجود في كلام اميرالمؤمنين عليه السلام لما ناظر الخوارج واحتجوا عليه في التحكيم . وكل ما ذكرناه في هذا الفصل من ذكر الاعذار في التحكيم والوجوه المحسنة له مأخوذة من كلامه عليه السلام . وقد روي ذلك عنه عليه السلام مفصلا مشروحا .
فأما تحكيمهما مع علمه بفسقهما فلا سؤال فيه ، اذ كنا قد بينا ان الاكراه وقع على اصل الاختيار وفرعه ، وأنه عليه السلام ألجئ اليه جملة ثم إلى تفصيله ، ولو خلى عليه السلام واختياره ما أجاب إلى التحكيم اصلا ، ولا رفع السيوف عن أعناق القوم . لكنه أجاب اليه ملجأ كما اجاب إلى ما اختاروه بعينه كذلك . وقد صرح ( ع ) بذلك في كلامه حيث يقول : لقد أمسيت أميرا واصبحت مأمورا ، وكنت أمس ناهيا وأصبحت اليوم منهيا .
وكيف يكون التحكيم منه ( ع ) دالا على الشك ، وهو ( ع ) ناه عنه وغير راض به ومصرح بما فيه من الخديعة ؟ وانما يدل على شك من حمله عليه وقاده اليه ، وانما يقال ان التحكيم يدل على الشك اذا كنا لا نعرف سببه والحامل عليه ، أو كان لا وجه له إلا ما يقتضي الشك . فأما اذا كنا قد عرفنا ما اقتضاه وادخل فيه ، وعلمنا انه ( ع ) ما أجاب عليه إلا لدفع الضرر العظيم ، ولان تزول الشبهة عن قلب من ظن به ( ع ) أنه لا يرضى بالكتاب ولا يجيب إلى تحكيمه ، فلا وجه لما ذكروه . وقد أجاب ( ع ) عن هذه الشبهة بعينها في مناظرتهم لما قالوا له : اشككت ؟ فقال عليه السلام : أنا اولى بأن لا أشك في دينى أم النبي صلى الله عليه وآله ؟ او ما قال الله تعالى لرسوله : ( قل فأتوا بكتاب من عندالله هو اهدى منهما أتبعه ان كنتم صادقين ) ( 2 ) .
واما قول السائل ، فإنه ( ع ) تعرض لخلع امامته ومكن الفاسقين من ان يحكما عليه بالباطل ، فمعاذ الله ان يكون كذلك ، لانا قد بينا انه ( ع ) انما حكمهما بشرط لو وفيا به وعملا عليه ، لاقرا امامته واوجبا طاعته ، لكنهما عدلا عنه فبطل حكمهما ، فما مكنهما من خلع امامته ولا تعرض منهما لذلك . ونحن نعلم ان من قلد حاكما او ولى اميرا ليحكم بالحق ويعمل بالواجب فعدل عما شرط عليه وخالفه ، لا يسوغ القول بأن من ولاه عرضه لباطل ومكنه من العدول عن الواجب ، ولم يلحقه شئ من اللوم بذلك ، بل كان اللوم عائدا على من خالف ما شرط عليه .
فأما تأخيره جهاد الظالمين وتأجيل ما يأتي من استيصالهم ، فقد بينا العذر فيه ، وان اصحابه ( ع ) تخاذلوا وتواكلوا واختلفوا ، وان الحرب بلا أنصار وبغير اعوان لا يمكن . والمتعرض لها مغرر بنفسه وأصحابه .
فأما عدوله عن التسمية بأمير المؤمنين واقتصاره على التسمية المجردة ، فضرورة لحال دعت اليها . وقد سبق إلى مثل ذلك سيد الاولين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وآله في عام الحديبية ، وقصته مع سهل بن عمرو ، وأنذره عليه السلام بأنه : ستدعى إلى مثل ذلك وتجيب على مضض . فكان كما أنذر وخبر رسول الله صلى الله عليه وآله . واللوم بلا اشكال زايل عما اقتدى فيه بالرسول صلى الله عليه وآله . وهذه جملة تفصيلها يطول ، وفيها لمن انصف من نفسه بلاغ وكفاية .