الشبهة الرابعة : السعادة والشقا الذاتيان
ربـما يتصور ان لكل من السعادة والشقا تاثيرا في مصيرالانسان وان السعيد بالذات يختار ما يناسبه والشقي بالذات ينتقي ما يلائمه , فالانسان يكون مجبورا ومكتوف اليدين امام مصيره .
هذه حاصل الشبهة لكن دفعها, وتحقيق معانيها يتوقف على بيان امور:
الاول : يطلق الذاتي ويراد منه معان مختلفة , ونذكر في المقام معنيين .
الاول : الذاتي ما ليس بخارج عن ذات الانسان فيكون اماجنسه او فصله او نوعه , ويطلق عليه الذاتي بالمعنى المصطلح في باب الايساغوجي .
الـثاني : ما ينتزع من ذات الشي وحاقه دون حاجة الى ضم حيثية وجودية الى منشا الانتزاع كلوازم الـمـاهية كالزوجية والامكان , وهذا ما يطلق عليه الذاتي في باب البرهان , فان افتراض الاربعة كاف فـي انـتـزاع الـزوجـيـة وكافتراض الانسان كاف في انتزاع الامكان , ويقابله العرضي مالا ينتزع من حاق الذات وانما ينتزع من حيثية وجودية منضمة الى منشا الانتزاع كانتزاع الابيض عن الجسم فلا ينتزع الا بعد انضمام حيثية وجودية ـ اعني البياض ـ اليه .
ويشير المحقق السبزواري الى ما ذكرنا بقوله :
كذلك الذاتي بذا المكان ليس هو الذاتي بالبرهان .
بل لاحق لذات شي , من حيث هي بلا توسط لغير ذاته .
الثاني : عرف الذاتي بانه الذي لا يعلل , قال الحكيم السبزواري :
ذاتي شي لم يكن معللا وكان ما يسبقه تعقلا.
وربما ينسبق الى الذهن بان الذاتي لا يحتاج الى علة موجدة وهو خطا محض , لان الذاتي امر ممكن , والـمـمكن لا يتحقق الا بعلة محدثة , فالذاتي بحاجة ماسة الى العلة في وجوده وتحققه ,لان نسبة الوجود الى موضوع لا يخلو عن حالات ثلاث : اما ان يكون وصفه به واجبا, او ممكنا, او ممتنعا والامر دائر بـيـن الـثـلاثـة والحصر فيه عقلي , فان كانت النسبة على النحو الاول والثالث وقلنا باستقلال الامـتناع في الجهة ولم نقل برجوعه الى جانب الوجوب , على ما هو المبين في محله كان مستغنيا عـن الـعـلـة والجعل , لان وجوب الوجوب او وجوب العدم مناطالاستغنا عن الجعل والعلة , كما ان الثاني هو مناط الاحتياج , اذالمفروض ان الممكن برزخ بينهما يصح ان يوصف به وان لايوصف , وما هو كذلك لا يوصف الا مع العلة .
وعـلـى ذلـك فـاذا قـلنا: الاربعة موجودة , فنسبة الوجود اليهايكون من قبيل الثاني , فهي في حد الاستوا لا يخرج عنه الا بسبب يضفي عليه وجوب الوجود, او وجوب العدم , وان كان يكفي في عدمه عـدم الـعـلة , ولكنه بعد تحقق الاربعة في الخارج ينتزع الزوجية من دون حاجة الى سبب آخر, بل سـبب وجودالاربعة كاف في انتزاعها عنه , لان المفروض انها لا تفارقها في وعا من الاوعية , ففرض وجود الاربعة كاف في فرض الزوجية .
هـذا كله في الذاتي في باب البرهان , ومنه يعلم حال الذاتي في باب الايساغوجي , فان نسبة الوجود الـى الانسان نسبة ممكنة فلا يخرج عن حد الاستوا الا مع العلة , ولكن بعدفرض وجوده في الخارج يـنـتزع منه الانسانية والحيوانية والناطقية بلا حاجة الى سبب خاص فان السبب المحقق للانسان , كاف في انتزاع المفاهيم الثلاثة بلا حاجة الى سبب آخر.
وعلى ذلك فالانسان , حيوان ناطق , بالضرورة , لكنه ممكن وجودا.
فظهر من ذلك ان المراد من عدم حاجة الذاتي الى العلة هواحد امرين على وجه مانعة الخلو:
1 ان فـرض الـمـوضـوع في عالم المفاهيم كاف في حمل المحمول عليه سوا كان داخلا في الذات كالذاتي المصطلح عليه في باب الايساغوجي , او خارجا عنها لكن لازما لهاكالذاتي في باب البرهان .
2 عدم حاجته في مجال التحقق الى سبب ورا السبب الذي اوجد الموضوع , فالسبب الموجد له كاف في انتزاع جميع الذاتيات بلا فرق بين الذاتي في البرهان او باب الايساغوجي .
الثالث : الفرق بين الجهة التعليلية والتقييدية
قـد اشـتهر في كلماتهم تقسيم الجهة الى تعليلية وتقييدية ,والمراد من الاولى هو حاجة الشي في خـروجـه عـن حدالاستوا الى علة وجودية تضفي عليه الوجود والتحقق ,والممكن بعامة اقسامه لا يستغني عن حيثية تعليلية .
وامـا الـحيثية التقييدية , فالمراد ضم حيثية وجودية الى الموضوع تصحح حمل المحمول عليه ورا حاجته الى علة موجدة للموضوع , وهذا يتجلى في المثال التالي :
اذا قلنا البياض ابيض .
او قلنا الجسم ابيض .
فالاول رهن حيثية تعليلية تخرج البياض من حد الاستواالى جانب الوجود, وهذه الحيثية كافية في حـمـل الـمـحمول على الموضوع , ولا يتوقف الحمل الى ضم حيثية تقييدية الى البياض بل وضعه يـصـحـح حـمل الابيض , وهذا بخلاف الثاني فان حمل الابيض على الجسم رهن حيثيتين : حيثية تـعـلـيلية تخرج الجسم عن الاستوا الى جانب الوجود, وحيثية تقييدية كالبياض منضمة الى جانب الجسم حتى تكون مصححا لحمل الابيض عليه .
هـذا هو حال الممكنات , فلا يستغني اي ممكن في حمل محمول عليه من حيثية تعليلية في عامة الاقسام وتقييدية في بعضها.
واما الواجب جل ذكره فبما انه واجب الوجود ولازم الثبوت , فهو في غنى عن الحيثية التعليلية .
كـمـا انـه في غنى عن الحيثية التقييدية , لان الذات عين الوجود والكمال , فلا حاجة في حمل اي كمال عليها لشي ورا الذات .
فـتـبـيـن بـذلك ان الواجب لا يحتاج الى الجهات التعليلية والتقييدية , كما ان الماهيات الممكنة بالنسبة الى اعراضهاكالجسم بالنسبة الى البياض رهن كلتا الحيثيتين .
وامـا الـوجـود المنبسط الذي بسطه اللّه سبحانه على هياكل الماهيات فبما انه صرف الوجود عين الـتـعـلـق والفقر, فهومحتاج الى حيثية تعليلية حتى يحققه ولا يحتاج في حمل الوجود عليه الى حيثية تقييدية .
وان شئت قلت : ليس في نظام الوجود شي يوصف بالوجود بلا جهات تعليلية وتقييدية سوى الواجب فهو غيرمفتقر ولا معلل , واما الموجودات الامكانية فهي بين ما يتوقف على كلتا الحيثيتين , كقولنا: الـجـسم ابيض , واخرى على حيثية واحدة , كقولنا: الوجود موجود, او البياض موجود فلوازم الوجود والماهية معللة في التحقق والثبوت غير معللة في اللزوم والايجاب .
الثالث : الوجود هو اصل الكمال ومبدؤه
الـماهيات بما انها امور انتزاعية من حدود الموجود فلا اثرلها ولا اقتضا وانما الاثر والشرف والكمال كـلـه لـلـوجود, وهوالاصيل في عالم التحقق , اذ العلم بوجوده يكشف عن المعلوم لا بماهيته , وهو بـوجـوده ايـضـا كـمـال وجمال لا بمفهومه , ومثله القدرة والحياة والارادة فكلها شرف بالوجود لا بـمـفاهيمها,ولذلك كلما اشتد الموجود, وقلت حدوده الوجودية اشتدكماله , وكلما ضعف الوجود وكـثرت حدوده الوجودية ضعف كماله الى ان يصل الى حد ليس له حظ من الوجود سوى كونه امرا بالقوة تسمى بالهيولى .
وعـلـى ضـؤ ذلك فصرف الوجود, مبدا كل كمال وجمال ,والموجودات الامكانية لها حظ من الاثار حسب حظها من الوجود المنبسط, ولماهياتها خواص بالعرض تبع وجوداتها.
فتلخص من ذلك ان الماهية مع قطع النظر عن تنورها بنورالوجود, منعزلة عن الاثار منخلعة عن الخواص , وما ربماينسب الى الماهية من الاثار فانما هي للوجود اولا وبالذات وللماهية ثانيا وبالعرض .
فـان قلت : كيف لا اثر للماهية مع ان اللوازم تنقسم الى لوازم الماهية , ولوازم الوجود؟ فالحرارة من لوازم وجود النار ولكن الزوجية من لوازم الماهية , فماهية الاربعة مع قطع النظر عن الوجود الذهني والوجود الخارجي تلازم الزوجية , فهي ثابتة لها في وعا الماهيات .
قـلـت : ان هذا التفسير للازم الماهية تفسير خاطئ , اذ ليست الزوجية ثابتة للاربعة في حال عدمها وانـمـا تثبت لها في ظرف وجود الاربعة في احد الموطنين : اما الذهن او الخارج , ومع ذلك فليست الـزوجـيـة مـن لـوازم الوجودين : الذهني اوالخارجي , بل من لوازم الماهية ومعنى كونه من لوازم الـمـاهـيـة لامـن لوازم الوجود, ان الانسان يدرك الاربعة مع الزوجية حتى مع غفلته عن تحصلها بـالـوجـود الـذهـنـي , وهـذا دلـيـل على ان للوجود الذهني تاثيرا في ظهور الملازمة لا في نفس الـمـلازمـة ,والا فـلو كان الوجود الذهني مؤثرا في الملازمة لامتنع تلازمهمامع الغفلة عن الوجود الـمـقـترن بهما والمحصل لهما, وهذا هوالفرق بين لازم الماهية ولازم الوجود, فالوجود في الاول سبب لظهور الملازمة بخلاف الثاني فهو سبب لها.
اذا عرفت ما ذكرنا من المقدمات , فاعلم ان للسعادة والشقااطلاقات ثلاثة :
الاول : مـا اصـطلح عليه اهل المعرفة والكمال من ان السعادة هي الكمال المطلق والخير المحض , وهو مساوق للوجودالذي اليه مرجع الكمالات فالوجود الاتم المطلق خير وسعيدمطلق وكلما تنزل عـن اطـلاقـه وشـدتـه وقـوتـه , اخـتـلـفت سعادته وخيريته والشقا في مقابلها وهو الشر المحض والعدم المطلق ظلمات بعضها فوق بعض ولها عرض عريض .
الـثـانـي : ما هو المعروف لدى العرف وابنا الدنيا ان من توفرت له في هذه الدنيا الدنية وسائل اللذة والشهوة فهو سعيد,ومن ادبرت عنه وتركته في نكبة ومحنة ولا يجد ما يسد به رمقه فهو شقي .
الـثـالث : ما عليه المليون , اعني : الذين لهم عقيدة راسخة بالمبداوالمعاد, والجنة ودرجاتها والنار ودركـاتها, فمن نال الجنة ونعيمها فهو من السعدا, ومن دخل النار وجحيمها فهو من الاشقيا, وهذا ما يشير اليه قوله سبحانه :
(فـاما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق # خالدين فيهامادامت السموات والارض الا ما شا ربك ان ربك فعال لما يريد#واما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السموات والارض الا ما شا ربك عطا غير مجذوذ) ((51)) .
فـمـن دخـل الـجنة , فهو السعيد, وان كان في الدنيا رهين الفقروالفاقة , ومن دخل الجحيم , فهو شقي , وان كان في الدنيا حليف العيش الرغيد.
اذا وقفت على هذه المعاني الثلاثة للسعادة والشقا, فاعلم ان المراد منهما في هذا المقام هو المعنى الثالث لخروج الاولين عما يرتئيه الحكيم او المتكلم في ذلك المقام , ولا وجه لجعل السعادة والشقا بـالـمـعـنـى الثالث من الذاتيات غير المعللة كماعليه المحقق الخراساني وتبعه بعضهم , اذا ليستا جـنـس الانـسـان ولا فـصـلـه ولا مـن اللوازم المنتزعة من حاق الذات , بل ينتزعان من الحيثيات الوجودية التي يكتسبها العبد باختياره , والمرادمن الحيثيات الوجودية هي العقائد الحقة والاعمال الـصـالحة اونقيضها من العقائد الفاسدة والاعمال القبيحة , الى غير ذلك ممايعد مبدا لانتها مسير الانسان الى الجنة او النار.
ولو قلنا بان الثواب والعقاب يرجع الى الانسان حسب مااكتسب من ملكات الخير والشر, فهو يخلق صورا بهية وروضة غنا, يلتذ بها, او يخلق صورا قاتمة وحفرة من النيران يعذب بها ـ ولو قلنا بذلك ـ فليست السعادة والشقا من الامور الذاتية وانما هي من لوازم الملكات التي يكتسبها العبد في طول حياته تحت ظل ممارسة الفكر والعمل .
الى هنا تمت الشبهات المطروحة حول اختيارية الانسان المتجلي عندنا في المذهب الحق اي الامر بين الامرين .