عربي
Saturday 2nd of November 2024
0
نفر 0

اخبار الطينة وتفسيرها

اخبار الطينة وتفسيرها

ان مـن الاسئلة المثارة حول اختيارية الانسان مسالة خلقة الانسان من طينات مختلفة , فطينتهم امـا من عليين او من سجين , ومن الواضح ان لكل اثرا خاصا في مصير الانسان ,ومعه كيف يمكن ان يكون الانسان فاعلا مخيرا وانما يكون فاعلا مسيرا؟.
اقول : ان تحقيق الحق يتوقف على بيان امرين :
الاول : ان مـلاك الـمثوبة والعقوبة هو مخالفة البالغ العاقل التكليف الواصل اليه , فبالعقل يميز بين الحسن والقبيح , وبين اطاعة المولى ومخالفته , كما انه بالوقوف على التكليف يقف على مراد المولى مـمـا يـرضيه او يسخطه , فاذا خالف باختياره وارادته من دون ضرورة يكون هو تمام الموضوع عند العقلالصحة مؤاخذته وعقوبته بالوان العقوبات , فهذا هو ملاك العقوبات عند العقلا.
الثاني : يمتنع عليه سبحانه امساك الفيض وقبض الاحسان , لانه الفياض المطلق الذي لا يتصور فيه شائبة البخل وعلى ضؤذلك , فاذا كان الفاعل فياضا والموضوع قابلا للاخذ والموانع منتفية , فما هو الوجه عن منع الافاضة ؟.
وان شـئت قـلـت : ان واجـب الوجوب بالذات واجب من جميع الجهات والحيثيات , فلا يتصور فيه امكان ان يفعل اويترك , بل اما يجب فعله او يلزم تركه حتى لا يتطرق اليه الامكان المستلزم للمادة الـمـنزه عنها, والقول باللزوم في الفعل والترك لاينافي كونه مختارا, نظير لزوم ترك الظلم وعدم صدور القبيح الذي لا ينافي كونه مريدا قادرا مختارا في ترك الظلم والقبح .
نـعم يفاض الجود حسب قبول القابل , وعلى وفق قابلية السائل , فاذا تم الاستعداد في القوابل تفاض عليها الصور من المبادئ العالية , ويكون ما يفاض عليها اكملها وافضلها.
اذا عـرفـت ذلـك فـنقول : ان منشا اختلاف النفوس من بدنشوئها الى ارتقائها, رهن عوامل عديدة نـشير اليها, ولاجل ذلك نرى ان بعض النفوس تسارع الى الخيرات والاعمال الصالحة وبعضها تميل الـى الـشـرور والاعـمـال الـطالحة , فكان في جوهر الاولى حب الصلاح والفلاح , وفي جوهر الثانية حب الدنيا وزخارفها, واليك بيان تلك العوامل :
الاول : اخـتـلاف الناس في النفس المفاضة , واختلافها ناشئ عن اختلاف النطف المستعدة لقبول الصور الانسانية , واليك توضيحه :
ان مـن الـقـوى الـكامنة في الانسان : القوة المولدة وهي عبارة عن تهيئة المواد اللا زمة من جسم الانسان وجعله مبدا لانسان آخر اودعت فيه لحفظ نوعه .
وثـمـة قوة ثانية باسم القوة المغيرة وشانها تهيئة كل جز من المني في الرحم ليختص بايجاد اعضا خاصة بان يجعل بعضه مستعدا للعظمية وبعضها الاخر للعصبية , الى غير ذلك .
ثم ان مادة المني الذي هو اثر القوة المولدة عبارة عن الاغذية , بعد عمل القوى اعمالها وعبورها عن الـهـضـم الـرابـع ,ولكن الاغذية مختلفة غاية الاختلاف في الصفا والكدرواللطافة والكثافة وبتبعه يـخـتـلـف المني , ويعبر العلما عن اختلاف الاغذية باختلافها من حيث الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة , ويعبر عنها اليوم باشتمالها على فيتامينات وبروتينات مختلفة وغيرها.
وعـلـى ايـة حـال فـلو كانت النطفة حصيلة الاغذية اللطيفة ,يكون استعدادها لقبول الصور مغايرا لاسـتعداد النطف الحاصلة من الاغذية الكثيفة , ومهما تصاعد اختلاف الاغذية تصاعد الاختلاف في الـمـنـي صـفا وكدرا ايضا, وقد مضى ان الافاضة حسب قابلية المواد, فكما لا يمكن منع المواد من نورالوجود, كذلك يمتنع افاضة صور قوية على المادة الضعيفة .
الـثـانـي : ان لـشـموخ الاصلاب وعلوها ونورانيتها وكذامقابلاتها, مدخلية تامة في اختلاف الفيض الـمـفـاض واسـتـعدادالمواد للنفوس الطاهرة وخلافها ولذلك وردت في زيارة الامام الحسين بن علي (ع ): ((اشهد انك كنت نورا في الاصلاب .
الـشـامخة والارحام المطهرة )) فسميت النطفة لكمال لطافتهانورا وانها لم تختلط بقذارة الارحام ونجاستها بل اودعت في الارحام الطيبة .
الثالث : ان لمراعاة آداب النكاح والجماع والحمل ورعاية شرائط الرضاع وسلامة مزاج الزوج والزوجة وصفا روحهما,تاثيرا خاصا في صفا النفس وكدرها, وقد ورد في هذا الصددروايات .
يقول الرسول 6 : ((انظر في اي شي تضع ولدك فان العرق دساس ))
((52)) .
والمراد من الدساس ان اخلاق الابا تصل الى الابنا.
ويقول الرسول 6: ((اياكم وخضرا الدمن , قيل : يا رسول اللّه وما خضرا الدمن ؟ قال : المراة الحسنا في منبت سؤ))((53)).
يقول الامام علي7 : ((حسن الاخلاق برهان كرم الاعراق ))
((54)) .
الـرابـع : ان عـنصر التربية من العوامل المؤثرة في تكوين شخصية الانسان وتكامله فهو يلازمه منذ نـعومة اظفاره الى بلوغه , فان دور الوالدين في تلقين الخير والشر لطفلهما امرغير خفي على احد, ويـلـيـه فـي الاهمية عنصر التعليم الذي يتلقاه الانسان في المدارس والمعاهد, الى غير ذلك من العوامل المؤثرة في النفس الانسانية .
الـخـامـس : نشوؤها في البيئات الصالحة البعيدة عن المعاصي وفساد الاخلاق التي تترك بصمات واضحة على خلق الانسان واخلاقياته , وهذا امر واضح لا يشوبه شك .
وحـصـيـلـة الـبحث : ان ثمة عوامل كثيرة مؤثرة في تكوين شخصية الانسان منذ تكون نطفته في الارحـام الى ان يصبح انسانا كاملا, ولكن هذه الاسباب خيرها وشرها ليست على حديسلب الاختيار عـن الانـسـان ويـجـعـلـه مـكتوف اليد امامها, بل كلها مقربات ومعدات لهما وفي مقابلها اختيار الانسان وانتخابه وحريته في العمل .
نـعـم مـن اجتمع له صفا المراد وشموخ الاصلاب وعلوهاوطهارة الارحام والبيئات يجد في نفسه مـيـلا نـحـو العمل الصالح , كما ان من اجتمع فيه خلافها ومقابلاتها يجد في نفسه ميلا نحو العمل الطالح , ومع ذلك كله فليس كل انسان ملجئا الى ما يميل اليه , فالعبد بعد باسط اليدين وهو مختار في فعله لدى العقلا وان اختلفت طينته .
هـذه هي العوامل التي تختلف بها الطينة تباعا, فما ورد في الماثورات حول الطينة وخلقة الانسان فـمـا كـان مـوافـقـا لـما ذكرنافيؤخذ به , واما المخالف لما ذكرنا الدالة على الجبر فلابد من تاويله وتـفسيره او حمله على التقية , فان الامر بين الامرين من ضروريات مذهب الامامية فلا يقدم عليه الخبر الواحد.
ان ثمة ماثورات وروايات ربما تقع ذريعة للقول بالجبر مع انها لاصلة لها به وانما تشير الى المعدات التي اشرنا اليها في الدراسة السابقة , واليك بعض هذه الماثورات :
1 ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ))
((55)) .
والحديث بصدد بيان اختلاف جوهر النفوس في الصفاوالكدر كاختلاف المعادن في الصور النوعية والاثـاروالـخـواص , والـجـمـيع من نوع واحد لكن اختلافها حسب اختلاف الامكنة وحرارة الارض وجـفـافـهـا واشـراق الـشمس وعدمها, مما لها مدخلية في تكون المعادن وصلابتهاوخلوصها عن الشوائب .
وهـكذا المواد المكونة للنطفة والظروف المحيطة بها لهاتاثير في صفا نفس الانسان , ومع ذلك لا تسلب الاختيار عنه .
2 مـا اثـر عـن رسـول اللّه6 قـال : ((الـشـقـي مـن شـقى في بطن امه والسعيد من سعد في بطن امه ))((56)) وفي رواية اخرى :((الشقي شقي في بطن امه , والسعيد سعيد في بطن امه ))((57)).
ولا دلالـة لـلـحـديـث عـلـى ما يرتئيه الجبري , وذلك لان النفس المفاضة على المادة المستعدة الـنـورانـية , طاهرة وسعيدة منذاول امرها لعدم تدنسها من ناحية العوامل المدنسة كالاباوالاجداد وغـيـرهما, ولكن النفس المفاضة على المواد الكثيفة دنسة ونجسة وشقية منذ بدوها واول نشوئها لـكـن لا طـهارة النطفة موجبة الى الخيرات والسعادات , ولا قذارة المادة وكثافتها موجبة لاختيار الشرور والشقا, بل كل يحن الى مايناسبه من الخيرات والشرور ولكن الميل شي والالجا شي آخر.
ويمكن ان يكون الحكم بالسعادة او الشقا باعتبار ما يؤول اليه امر الشخص فمن ينتهي مل امره الى الجنة , فهو محكوم بالسعادة منذ اوان حياته , فكني عن اوان الحياة ببطن الام , ولعله الى ذلك يشير الـحـديث الشريف الذي رواه الصدوق باسناده عن محمد بن ابي عمر, قال : سالت ابا الحسن موسى بـن جعفر7 عن معنى قول رسول اللّه6 : ((الشقي من شقي في بطن امه والسعيد من سعد في بطن امـه )) فـقال : الشقي من علم اللّه وهو في بطن امه انه سيعمل اعمال الاشقيا, والسعيد من علم اللّه وهـو في بطن امه انه سيعمل اعمال السعدا, قلت له : ومامعنى قوله6 : ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له ))؟.
فقال : ((ان اللّه عز وجل خلق الجن والانسن ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله عز وجل : (وما خـلقت الجن والانس الا ليعبدون ) فيسر كلا لما خلق له , فالويل لمن استحب العمى على الهدى ))
((58)) .
فـتـرى انـه سـلام اللّه عـلـيه دفع الشبهه كلها بان العباد مختارون وان ما خلقوا لاجله من العبادة مـيـسـور لهم , وان علمه تعالى بعمل السعدا والاشقيا او اتخاذ النطف من الامور الصفوة والكدرة لا تسلب الاختيار.
هذا بعض ما يمكن ان يقال في اخبار الطينة وما يشبهها.

خاتمة المطاف :

ان لـلـعـلما الربانيين والعرفا الشامخين من اهل الكشف واليقين هنا كلمة قيمة هي عصارة الكتب المنزلة , والماثورات الشرعية , مدعمة بالبرهان الا وهو البحث عن احكام الفطرة ,فطرة اللّه التي فطر الـنـاس عـلـيـهـا ووصفها وبيان حقيقتها ومايدور حولها من بحوث , ونحن نشير الى بعضها بنحو الاجمال والاختصار.
ان اللّه جـلت عظمته خلق العباد بقدرته , وافاض عليهم من نوروجوده وفيض علمه وسائر كمالاته مـا هـو الـلائق بـحالهم وحسب قابلية المواد القابلة من غير ضنة وبخل , تعالى عن ذلك علوا كبيرا, وفطر النفس على اختلافها في القبول والاستعدادبفطرتين طيبتين لتكونا جناحيها نحو معراجها الى فاطرها,لتطير الى وكرها وتصل الى ربها حسب معرفتهاوعرفانها.

الفطرة الاولى :

هـي الـعـشق للكمال المطلق والجمال المحض , اعني : النورالذي ليس فيه ظلمة , والعلم الذي لا يـدانيه جهل وريب ,والقدرة التي لا يشوبها عجز, ومن هو صرف كل جمال وكمال ,فنور قلب عبده بـجمال معرفته , وهو توحيده وكمال تنزيهه حتى يتوجه الى بارئه القدير, وخالقه العزيز, ويصل الى فـنائه ويستشعر بعلو جبروته وملكوته في جميع الانات والاوقات قام في محراب عبادته , اوغاروا في عـباب عصيانه فهو في جميع الحالات , شاهد لربه بفطرته , عارف خالقه بخميرته ,ناظر الى كبريائه وجـلالـه بـعين ذاته ونور حقيقته , ولا يتطرق الزوال الى هذه المعرفة الذاتية الحاصلة له من صقع فيض خالقه .
نعم ربما تقع تحت حجاب المعاصي وظلمة الكفروالشرك , ويسدل عليها باسدال الالحاد والخروج عليها, لكنهاباقية ببقا ذاته تجيش في كيانه .

الفطرة الثانية :

هـي كـراهـة النقص وبغضه والفرار من الشر ونبذه , فيتركه ويذره على حاله ويتنفر عن جواره , كل ذلك لكي تكتمل فطرة التوحيد عنده وينتهي سيره الى ربه , ويتوجه الى غاية الغايات ونهاية المرب (الا بذكر اللّه تطمئن القلوب ) ((59)) .
اذ لا يـرى مـصداقا لها سوى ذات ربه المحفوف بالكمال ,المحجوب عن خلقه بالجمال المنزه عن العيوب .
ثم انه سبحانه لعلمه بان عبده سيحجب عن هذه الفطرة بابتلائه بالقوى الحيوانية التي لا مناص له منها في بقا نوعه وحفظ نسله , شفع الفطرة بارسال الرسل وانزال الكتب لكي يكتمل سيره وسلوكه , بـرفـع الـحـجـب عـن طـريـق الوعد والوعيدلهم , لان مغزى شريعة ما جا به الانبيا والرسل يعود الـى الـفـطـرة واحكامها, فاصولها عين الفطرة كالدعوة الى التوحيدواسمائه وصفاته , وفروعها مل الفطرة , فان النفس تكتسب الفضائل والكمالات بالصلاة التي هي معراجها الى ربها,وبالحج الذي هو وفود الى كعبة آمالها.
فـان الاحـكـام جـلـها بل كلها على طبق الفطرة , والهدف الاسنى والمقصود الاعلى من ورائها هو معرفته وتوحيده والفنا في جماله وجلاله .
فما جات به الرسل من وعد ووعيد انما هو لتطهيرالنفوس وتنزيه القلوب , فلا يزال سفرا بيت الوحي والـهـدى يداوون الارواح العليلة بهذه الادوية التي هي الطاف الهية خفية حتى تتطهر النفوس من خبث الادناس .
فامام الانسان عقبات كؤود لابد من الورود عليها اماتزحزحه عن العذاب او تقحمه في النار الموقدة التي تطلع على الافئدة .
اعـاذنـا اللّه مـن امـثـال هذا الدا كي لا نحتاج الى دوا بحق نبيه الكريم وآله صلواته وسلامه عليهم اجمعين .
حـررت الـرسالة بيد مؤلفها الفقير محمد جعفر بن الشيخ العالم البارع التقي الميرزا محمد حسين الـتـبريزي (دامت بركاته العالية ) في شهر رجب المرجب من شهورعام 1371 ه وفرغ من تبييضها يوم الخميس المصادف 21 شهر ذي القعدة الحرام سنة 1373 من الهجرة النبوية الشريفة .
 

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

المُناظرة الثاني والخمسون /مناظرة السيد محمد ...
قاعدة التسليط
البَضْعة الزكيّة
محبة الرسول واله صلى الله عليه وآله
سؤال القبرفي کلام امير المؤمنين
إبراهيم عليه السلام أول الموحدين
مما يهوِّن هول المحشر
مفهوم الإنتظار
نظرة متطورة الى الاقتصاد عند الطهطاوي
ما يصح السجود عليه

 
user comment