عربي
Thursday 26th of December 2024
0
نفر 0

حرّية الاختيار لدى الاِنسان داخل الدائرة الحتمية للقضاء والقدر

6 ـ حرّية الاختيار لدى الاِنسان داخل الدائرة الحتمية للقضاء والقدر :
وهذه النقطة بالذات هي عقدة البحث ، فإذا انحلّت هذه النقطة واتّضحت اتضح ما قبلها وبعدها .
إنّ الاِنسان يملك بصريح الوجدان والقرآن كامل حرّيته في الاختيار والفعل وإمارة حريته في الاختيار تردده في الانتخاب . ومسؤوليته عن فعله وإحساسه بالندم والراحة عند انتخاب ما يصلح وما لا يصلح . والوجدان أقوى شاهد على هذه الحقيقة . وقد رأينا في موضع سابق من هذا البحث أنّ القرآن يقرر حرّية اختيار الاِنسان في طوائف كثيرة من الآيات . ولسنا بصدد إثبات هذه الحقيقة الآن أكثر من ذلك . واختيار الاِنسان يقع على مفترق طرق يقف عنده الاِنسان غالباً أو دائماً . ولاَيّ سبيل من هذه السبل يختاره الاِنسان حكم قطعي وحتمي في دائرة القضاء والقدر المحكم والمتقن الّذي شرحناه من قبل .
____________
(1) أُصول الكافي 1 : 117 | 4 باب المشيئة والارادة ـ كتاب التوحيد .

 

 

فليس من سبيل للاِنسان أن يخرج عن دائرة (القضاء والقدر) وحكمه القطعي المتقن والدقيق ، وهو لا محالة يعيش ويتحرّك ويعمل ويختار في هذه كما ذكرنا . ولكنه يملك مطلق الاختيار دائماً أو غالباً في اختيار سبيل من هذه السبل المختلفة الّتي يجدها أمامه عن معرفة ووعي .
المريض إذا اهتم بمرضه وراجع الطبيب واتّخذ العلاج يشفى ، وإن أهمل مرضه يتضاعف المرض عنده . والطالب إذا نشط واجتهد ينجح وإذا كسل وأهمل دروسه يفشل . والعامل إذا عمل وتحرّك في السوق ، يغنيه الله ، وإذا تهاون في البحث عن العمل يفتقر . والاِنسان إذا عاشر الصالحين يصلح ويأخذ منهم الصلاح . وإذا عاشر الفاسدين يأخذ منهم الفساد .
وكلّ هذه النتائج من القضاء والقدر الحتم والمتقن الّذي لا سبيل للتشكيك فيه . فإنّ الاِنسان الّذي يجتهد في طلب العلم يكون عالماً بالضرورة والحتم ، وهذا هو (القضاء) وتكون معرفته في الحقل الّذي اجتهد فيه ، دون غيره من الحقول ، وبمقدار اجتهاده ودراسته ، وهذا هو (القدر).
إنّ اختيار الاِنسان في المباديء دائماً والاَحكام الفعلية الّتي قلنا إنّها من القضاء والقدر هي في النتائج دائماً .
وهذه المباديء تستتبع هذه النتائج دائماً بصورة قطعية ومتقنة . ولا سبيل للاِنسان للتخلّص من هذه النتائج القطعية ، وإن كان له مطلق الحرية في اجتناب واحد أو أكثر من هذه السبل في البدء .
ولعلّ الآية الكريمة من سورة الرعد ، لا تكون بعيدة عن هذا المعنى :

 

 

(إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ) (الرعد 13 : 11) وبهذه الصورة نرى أنّ الله تعالى مكّن الاِنسان أن يمارس اختياره وحرّيته في وسط نظام محكم ومتقن من القضاء والقدر في الحياة الاجتماعية وفي الكون . فلا يضرّ الاختيار بحتمية القضاء والقدر ولا يمس القضاء والقدر من حرّية الاِنسان في الاختيار على الاِطلاق . وإلى هذا المعنى الدقيق يشير حديث أميرالمؤمنين عليه السلام مع الشيخ الّذي سأله عن مسيرهم إلى أهل الشام بعد منصرفه من صفّين . وقد قدّمنا هذا الحديث في النقطة الاَولى من هذه النقاط . ففي بدء الحديث يقول له الاِمام عليه السلام : « أجل يا شيخ ما علوتم من تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر » وهذه الفقرة واضحة أنّهم في خروجهم إلى صفّين ومحاربتهم لمعاوية وعودتهم إلى الكوفة، كانوا يتحرّكون في دائرة القضاء والقدر ولم يخرجوا من دائرة القضاء والقدر إطلاقاً.
فلمّا فهم الشيخ من كلام الاِمام عليه السلام إنّ هذه الحتمية (القضاء) كان في مرحلتي المباديء والنتائج معاً ، وأنّهم لم يملكوا من أمرهم شيئاً في هذه المرحلة الطويلة ، فقال : (عند الله أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين) وضّح له الاِمام عليه السلام ما اشتبه عليه من الاَمر فقال : « أتظنّ قضاءً حتماً وقدراً لازماً؟! لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والاَمر والنهي... إنّ الله تعالى كلّف تخييراً ونهى تحذيراً » .
إنّ القضاء والقدر لن يكون إلاّ حتماً ومقدّراً بصورة دقيقة ، ولكن الّذي يملك الاختيار في المباديء يملك الاختيار في النتائج بالضرورة . فإنّ النتائج تتبع المباديء ، فإذا مكّن الله الاِنسان من المباديء مكّنه من النتائج أيضاً ، وإن احتفظت النتائج بصفتها الحتمية والمقدّرة في ظروفها

 

 

وشروطها . وهذا هو معنى كلام الاِمام عليه السلام للشيخ السائل « أتظنّ قضاءً حتماً وقدراً لازماً ؟ لو كان كذلك لبطل الثواب » .
وتعبير القرآن عن هذا التراوح الّذي يتمّ بين الاختيار في عمل الاِنسان والحتمية في النتائج المترتبة على عمله... تعبير دقيق يقول تعالى : ( كلّ نفس بما كسبت رهينة ) (المدّثر 74 : 38) .
فالعمل الّذي يعمله الاِنسان ويكسبه لنفسه باختياره وحرّيته ، ولكنّه لايملك التخلّص من النتائج القطعية المترتبة على هذا العمل فيبقى (رهيناً) له .
إذن الاِنسان وإن كان يعيش في وسط نظام محكم متقن ، ولكن بامكانه أن يتحوّل من قضاء إلى قضاء ، ومن قدر إلى قدر .
روى الاَصبغ بن نباته أنّ أمير المؤمنين عليه السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر ، فقيل له : يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء الله ؟
قال عليه السلام : « أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّ وجلّ » (1) .
وروى الصدوق باسناده عن إبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «في كلّ قضاء الله خيرة للمؤمنين » (2).
وروى الصدوق رحمه الله في الاعتقادات : انّه سئل الصادق عليه السلام عن الرُقى


____________

(1) التوحيد ، للصدوق : 369 | 8 .
(2) التوحيد ، للصدوق : 371 | 11 .

 

 

هل ترفع من القدر شيئاً ؟ فقال عليه السلام : « هي من القدر » .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه سُئل هل يغني الدواء والرُقية من القدر؟ فقال لمن سأله : « الدواء والرُقية من قدر الله » (1).
الله أرحم من أن يعذّب خلقه على ما أكرههم عليه :
ولمّا كانت هذه النقطة بالذات محور الصراع والخلاف الفكري مع الاَشاعرة الّذين كانوا يذهبون إلى حتمية السلوك لدى الاِنسان ، ويسلبون منه الاِرادة والاختيار فقد ورد التأكيد عليه كثيراً في نصوص أهل البيت ، كما ورد التأكيد كثيراً في النقطة المقابلة لها ، وهي رفض استقلال الاِنسان ورفض التفويض الّذي كانت المعتزلة تذهب إليه ، وهي النقطة الثالثة من هذه المجموعة من النقاط .
روى الكليني في الكافي ، والصدوق في التوحيد عن يونس بن عبدالرحمن عن غير واحد عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام قالا : « إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون » (2).
وروى الكليني رحمه الله عن الحسين بن علي الوشّاء ، عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « من زعم أنّ الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على الله » (3)


____________

(1) المختار في الجبر والاختيار ، للسيد محمد علي الصادقي : 123 .
(2) أُصول الكافي 1 : 121 | 9 باب الجبر والقدر ، والاَمر بين الاَمرين ـ كتاب التوحيد ، المكتبة الاِسلامية 1388 هـ .
(3) أُصول الكافي 1 : 120 | 2 باب الجبر والقدر ، والاَمر بين الاَمرين ـ كتاب التوحيد ، المكتبة الاِسلامية 1388 هـ .

 

 

والنقطة الاَولى إشارة إلى الاتّجاه الجبري الّذي كان يتبنّاه الاَشاعرة حيث ينسبون ما يأتي من الاِنسان من المعاصي إلى الله تعالى مباشرة . والنقطة الثانية إشارة إلى ما يتبنّاه المفوّضة من نسبة قضاء الخير وقضاء الشرّ إلى الاِنسان مباشرة .
والنصوص عن أهل البيت عليهم السلام كثيرة بهذا الصدد .
7 ـ مسؤولية الاِنسان في فعله :
وهذه النقطة تتبع النقطة السابقة ، والاِنسان لو كان هو الّذي يختار (في مرحلة المباديء) السبيل الّذي يسلكه يتحمّل بالضرورة ، نتائج ومسؤوليات كلّ ما يترتّب على فعله من آثار ونتائج قطعية ومتقنة . والمسؤولية هي نتيجة الاختيار ، وفي نفس الوقت فإنّ الاحساس الوجداني الواضح عند الاِنسان بالمسؤولية هو أمارة الاختيار والقرآن يعمّق الاحساس بالمسؤولية عند الاِنسان يقول تعالى :
( وقفوهم إنّهم مسؤولون ) (الصافّات 37 : 24) .
( فلنسألنّ الّذين أُرسل اليهم ولنسألنّ المرسلين ) (الاَعراف 7 : 6) .
( فوربّك لنسألنّهم أجمعين ) (الحجر 15 : 92) .
( ولتسألنّ عمّا كنتم تعملون ) (النحل 16 : 93) .
( ثمّ لتسألنّ يومئذ عن النعيم ) (التكاثر 102 : 8) .

 

 

إذن لوجود عامل الاختيار في سلوك الاِنسان تنسب أعمال الاِنسان إليه ، كما يتحمّل هو مسؤولية نتائج أعماله .
روى الكليني في الكافي والصدوق رضي الله عنه في التوحيد عن الحسين بن علي الوشّاء ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال سألته : فقلت : الله فوّض الاَمر إلى العباد ؟
قال عليه السلام : « الله أعزّ من ذلك » .
قلت : فجبرهم على المعاصي ؟
قال عليه السلام : « الله أعدل وأحكم من ذلك » .
ثمّ قال عليه السلام : « قال الله عزّ وجلّ : يا ابن آدم ، أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي . عملتَ المعاصي بقوتّي الّتي جعلتها فيك (1).
8 ـ الهيمنة الاِلهية على حركة القضاء والقدر في الكون والتاريخ :
عرفنا من قبل أنّ نظام (القضاء والقدر) هو النظام الحاكم على الكون والتأريخ . وبعد ذلك عرفنا أنّ هذا النظام هو نظام ربّاني من خلق الله تعالى وإبداعه . ثمّ قلنا إنّ هذا النظام قائم بالله تعالى في كلّ لحظة ، وفي كلّ حال ، ولم ينفصل ولم يستقلّ عن الله في لحظة واحدة والله تعالى هو القيّوم والقيّم على هذا النظام ويتّصل سلطانه ونفوذه وقيمومته على الكون . هذا ما ذكرناه من قبل ، والآن نقول : إنّ علاقة الله تعالى بالكون لا تقف عند حدود القيمومة ، وحفظ النظام ولكن الله تعالى هو (المهيمن)


____________

(1) الكافي 1 : 157 | 3 باب الجبر والقدر والاَمر بين الاَمرين ـ كتاب التوحيد .

 

 

على الكون.
وتحتاج هذه الفقرة إلى شيء من التوضيح : أنّ نظام القضاء والقدر الحاكم في الكون ليس نظاماً ذا بعد واحد وإنّما هو نظام متعدّد الابعاد ، وكلّ بُعد منه يجري بموجب النظام بشكل قطعي ومتقن . والله تعالى مهيمن على هذه الاَبعاد جميعاً . يمحو منها ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب .
إذن : نظام القضاء والقدر في الوقت الّذي لا يتخلّف ولا يتزعزع ، نظام خاضع لسلطان الله تعالى وهيمنته بالمحو والاثبات ، فيثبت منه ما يشاء ويمحو منه ما يشاء ويغيره ، وليس معنى المحو إلغاء نظام القضاء والقدر أو تعطيله ، وإنّما معناه تبديله بغيره . وهذا أمر يدخل في حيّز سلطان الله تعالى المطلق . يقول تعالى : ( يمحواْ الله ما يشاء ويثبت وعنده أُمّ الكتاب) (الرعد 13 : 39) والاِنسان يتعامل مع نظام القضاء والقدر ، ويتحرّك ويعمل ، ويختار ضمن هذا النظام الخاضع لقيمومة الله تعالى وهيمنته المطلقة . فلا يمكن أن ينفصل أو يستقلّ عن إرادة الله ومشيئته في حركته وعمله في دائرة هذا النظام . كيف وهذا النظام وسيط متّصل بالله تعالى . وخاضع لقيمومته ، وهيمنته في كلّ لحظة .
روى الصدوق في (التوحيد) عن عبدالله بن ميمون القداح ، قال : دخل على أبي عبدالله الصادق عليه السلام أو أبي جعفر الباقر عليه السلام رجل من أتباع بني أميّة فخفنا عليه ، فقلنا له : لو تواريت ، وقلنا : ليس هو هـهنا . قال عليه السلام : « بل أئذنوا له فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنّ الله عزّ وجلّ عند لسان كلّ قائل ويد كلّ باسط . فهذا القائل لا يستطيع أن يقول إلاّ ما شاء الله ، وهذا الباسط

 

 

لا يستطيع أن يبسط يده إلاّ بما شاء الله » . فدخل عليه فسأله عن أشياء وآمن بها وذهب (1).
9 ـ قانون الاِمداد والخذلان الاِلهي في حياة الناس :
لاشكّ أنّ الله تعالى وهب أفراد الاِنسان الاختيار في الفعل عند مفارق الطرق ، ووهبهم العقل والوعي والتمييز ، وأتاهم البيّنات ، كلّ ذلك صحيح . ولسنا نتصور رحمة فوق هذه الرحمة ، ولكنّ الله تعالى وهو المهيمن على الكون ، والاِنسان ، يمد الاِنسان عند كلّ مفترق طريق ، وكلّما يشقّ على الاِنسان الاختيار ، وعند كلّ خيار صعب من خيارات الهدى... يمده من عنده بالتوفيق والتأييد والتسديد إذا أراد الطاعة .
وإذا أراد المعصية لم يتركه لنفسه ، وانما يخذله عن المعصية ، ويدفعه عنها .
فإذا أصرّ وأبى وركب رأسه وعاند تخلّى عنه وأوكله إلى نفسه وأضلّه الله تعالى .
روى الصدوق رضي الله عنه في (عيون أخبار الرضا) عن تميم القرشي ، عن أبيه، عن أحمد بن علي الانصاري ، عن يزيد بن عمير بن معاوية الشامي، قال : دخلت على علي بن موسى الرضا عليه السلام بمرو فقلت له : يابن رسول اللّه روي لنا عن الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام انّه قال : « لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين » فما معناه ؟ فقال عليه السلام : « من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر ، ومن زعم أنّ الله عزّ وجلّ


____________

(1) التوحيد ، للصدوق : 337 | 3 .

 

 

فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام فقد قال بالتفويض ، فالقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك » . فقلت له : يابن رسول الله فما أمر بين أمرين ؟ فقال عليه السلام : « وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به وترك ما نهوا عنه » . فقلت له : فهل لله عزّ وجلّ مشيئة وإرادة في ذلك ؟ فقال عليه السلام : « أمّا الطاعات فارادة الله ومشيئته فيها الامر بها والرضا لها والمعاونة عليها ، وإرادته ومشيئته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها» . قلت : فلله عزّ وجلّ فيها القضاء ؟ قال عليه السلام : « نعم ، ما من فعل يفعله العباد من خير وشرّ إلاّ ولله فيه قضاء » . قلت : فما معنى هذا القضاء ؟ قال عليه السلام : « الحكم عليهم بما يستحقّونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة ، ولكن العبد إذا أصرّ على العصيان والتمرّد أحاله الله تعالى إلى نفسه ، وأوكله إليها ، وحجبه عن الايمان » .
روي من طريق الصدوق رضي الله عنه في (العيون) أنّه قال : حدّثنا عبد الواحد ابن محمد بن عبدوس العطار رضي الله عنه قال : حدّثنا محمّد بن علي بن قتيبة النيسابوري ، عن حمدان بن سليمان النيسابوري قال : سألت الرضا عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاِسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً ) (الانعام 6 : 125) قال عليه السلام : « من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا إلى جنّته ودار كرامته يشرح صدره للتسليم لله والثقة به والسكون على ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا يجعل صدره ضيّقاً حرجاً ، يشكّ في كفره ، ويضطرب من اعتقاده قلبه حتى يصير كأنّما يصّعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لايؤمنون » ، وقد عرفت فيما مضى المراد من شرح الصدر وضيقه .

 

 

 


( 99 )



الخاتمة

والنتيجة الّتي ننتهي إليها بعد هذه الجولة في كلمات أهل البيت عليهم السلام ، في هذه المسألة الحسّاسة : إنّ الاِنسان يقع وسطاً بين (الجبر) و(التفويض) وهو ما أسماه أهل البيت عليهم السلام بـ (الاَمر بين الاَمرين) وليس الاَمر بين الاَمرين تلفيقاً بين الجبر والتفويض بمعنى أن في سلوك الاِنسان شيء من الجبر وشيء من التفويض . بل بمعنى نفي الجبر والتفويض و (الاستقلال) في سلوك الاِنسان .
فهو من جانب : حرٌّ في الاختيار يختار بكامل حرّيته ، ومنحه الله تعالى كلّ المواهب التي تتطلبه هذه الحرّية من العقل والتمييز والرشد .
ومن جانب آخر : يرتبط ويتعامل في اختياره وفعله مع نظام القضاء والقدر الخاضع لقيمومة الله تعالى وهيمنته ، ويقع هو واختياره وفعله وسط هذه القيمومة ، والهيمنة والرعاية الاِلهية .
روى الصدوق عن حريز بن عبدالله ، عن الصادق عليه السلام قال : « إنّ الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم أنّ الله عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله في حكمه ، فهو كافر .
ورجل يزعم أنّ الاَمر مفوّض إليهم ، فهذا قد أوهن الله عزّ وجلّ في سلطانه ، فهو كافر .
ورجل يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم مالا يطيقون، وإذا

 

 

أحسن حمد الله واذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ » .
وروى الصدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري ، عن الرضا عليه السلام قال : ذكر عنده الجبر والتفويض ، فقال عليه السلام : « ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ، ولا تخاصمون عليه أحداً إلاّ كسرتموه » ؟ قلنا : إن رأيت ذلك ، قال عليه السلام : « إنّ الله عزّ وجلّ لم يطع بإكراه ، ولم يعصَ بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صاداً ، ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل . وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الّذي أدخلهم فيه ـ ثمّ قال عليه السلام ـ من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه » (1).
وروى الصدوق عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الاَمرين »، قال: فقلت وما أمر بين الاَمرين؟
قال عليه السلام : « مثل ذلك : مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ، ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الّذي أمرته بالمعصية » (2).
وقد يتصوّر الاِنسان أن مساحة الاَمر بين الاَمرين مساحة محدودة في حياة الاِنسان . وأمّا مساحة الجبر والتفويض فهي أوسع مساحة في حياته، فإنّ الاِنسان يتعامل فعلاً مع نظام القضاء والقدر بشكل مباشر من


____________

(1) التوحيد ، للصدوق : 361 | 7 .
(2) التوحيد ، للصدوق : 361 | 7 . وانظر اُصول الكافي 1 : 122 | 13 ، منشورات المكتبة الاِسلامية 1388هـ .

 

 

خلال اختياره ولا يشعر بالرعاية الاِلهية وهيمنة الله تعالى على حركته وحياته إلاّ نادراً . وهو لاشكّ إحساس خاطىء ينشأ من احتجابه عن الله تعالى وألطافه الخفية ، وإلاّ فإنّ مساحة الاَمر بين الاَمرين هي كلّ مساحة حياة الاِنسان ، وهو في كلّ شؤونه وأعماله وحركاته يتعامل مع الله تعالى ، ويأخذ من الله من حيث لايشعر ، ولله تعالى في حياة الاِنسان إمدادات غيبيّة وألطاف خفية لا يشعر بها الاِنسان ، إلاّ من آتاه الله تعالى من عنده بصيرة وفقهاً ومعرفة .
روى الكليني رحمه الله في (الكافي) والصدوق في (التوحيد) عن يونس بن عبد الرحمن ، عن غير واحد ، عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام ـ قالا : «إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون » . فسئُلا هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا عليهما السلام : « نعم ، أوسع مما بين السماء والاَرض » (1).
وفي رواية اُخرى للكليني رحمه الله في (الكافي) عن يونس ، عن عدّة عن أبي عبدالله عليه السلام قال له رجل : جعلت فداك ، أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال عليه السلام : « الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثمّ يعذّبهم عليها » . فقال له : جُعلت فداك ، ففوّض الله إلى العباد ؟ قال عليه السلام : « لو فوّض إليهم لم يحصرهم بالاَمر والنهي » . فقال له : جعلت فداك ، فبينهما منزلة ؟ قال : فقال عليه السلام : « نعم أوسع ما بين السماء والاَرض » (2).
وهذه الاَحاديث والنصوص تبيّن لنا حقيقة هامّة يجب أن نأخذها بنظر


____________

(1) الكافي 1 : 159 | 9 باب الجبر والقدر والاَمر بين الاَمرين ـ كتاب التوحيد .
(2) الكافي 1 : 159 | 11 باب الجبر والقدر والاَمر بين الاَمرين ـ كتاب التوحيد .

 

 

الاعتبار ، ونلتزم بها ، وهي أن نلمس يد الله تعالى ورعايته لنا في حياتنا ، ونستشعر معيّة الله تعالى لنا في كلّ حركة وسكون . والاِنسان عندما يتجرّد عن الحوار العقائدي القائم في التأريخ العقلي الاِسلامي ويعود إلى نفسه يؤمن بشكل واضح ـ ومن غير ترديد ـ إنّ الله تعالى لم يتخلّ عنه في لحظة من لحظات حياته ، ولم ينفرد الاِنسان ولم يستقل عن رعاية الله ويد الله في شيء من حياته .
ولو أنّ الله تعالى تخلّى عن الكون لتلاشى الكون . ولو أنّ الله تعالى تخلّى عن الاِنسان وأوكله إلى نفسه ، وإلى نظام القضاء والقدر لبلغ الاِنسان منذ أمد بعيد طريقاً مسدوداً .
ولكن رعاية الله تعالى تواكب مسيرة الاِنسان وحركته الفردية والتأريخية ، وترعاه عند كلّ منعطف ، وفي كلّ مشكلة ، وتسدّده ، وتهديه، وتعينه ، وتلطف به ، وتستر عليه ، وتحفظه .
إنّ قراءة عامّة لكتاب الله تعالى تعمّق فينا هذا الاحساس بشكل واضح، وتشعرنا أنّ القرآن يريد أن يربط مسيرتنا وحياتنا بالمعية والرعاية الاِلهية ، ويربّينا على الاحساس بالستر الدائم المتّصل لله علينا ، وبحفظ الله لنا وإمداده المتّصل، وليس في القرآن كلّه رغم حرص القرآن على تثبيت مبدأ الاختيار إشارة أو إيهام بأنّ الاِنسان يستقل عن الله تعالى في الاختيار والقرار والفعل ، أو أنّ الله تعالى أوكل الاِنسان إلى نفسه في الاختيار والفعل والقرار . وويل للانسان إذا أوكله الله تعالى إلى نفسه .
ومن غير الممكن في نظام الوجود وقانون العلّية والاِمكان من الناحية العقلية أن يستقلّ الانسان عن الله تعالى في القرار ، والفعل والاختيار ،

 

 

ولكن لو فرضنا إمكان ذلك من الناحية العقلية واستقلّ الاِنسان عن الله تعالى ، وأوكل الله أمر الاِنسان إليه وإلى نظام القضاء والقدر لسقط الاِنسان منذ أمد بعيد ووصل إلى طريق مسدود لاخلاص له منه في بعض هذه المآزق والاَزمات .
وبعد ، فبالاستناد إلى ما تقدم نستطيع أن نجد منها ـ إن شاء الله ـ العناصر الاَساسية لصياغة نظرية أهل البيت عليهم السلام المقتبسة من القرآن في القضاء والقدر والسلوك الفردي والتأريخي للانسان .
اللّهمّ إنّنا آمنّا بك وبرحمتك وسترك وإمدادك ورعايتك لعبادك ، وطالما لمسنا هذه الرعاية والستر والحفظ والتوفيق منك ـ عزّ شأنك ـ لنا في حياتنا فاكتبنا مع المؤمنين ، واكتبنا مع الشاهدين .

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الخروج من القبر
القوانين المحدودة والحاجات غير المتناهية
عدلُ اللهِ الشّاملْ
قلب المؤمن عرش الله
عقيدتنا في ان الامامة بالنص
كيف تكتب بحثا أو رسالة ماجستير أو دكتوراه
موقف الفكر الشيعي من الحركات الباطنية
واقعية المنهج الكلامي ودورها في مواجهة التحديات ...
الظاهر أن أهل الجنة أكثر من أهل النار
نظرية الصدفة في خلق العالم:

 
user comment