الخط الثاني : سعة دائرة الحلال
عـمـدت الشريعة الاسلامية الى توسعة المساحة التي يمكن للانسان ان يتحرك في حدودها خارج اطار الالزام الشرعي الى اقطى حد ممكن , عن طريق اطلاق عنان المكلف في الامور التي لم تبين له , ولم يرده بشانها دليل او بيان خاص :
قال تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ((70)) .
وقال تعالى : ( لا يكلف اللّه نفسا الا ما آتاها ) ((71)) .
وورد في الحديث عن رسول اللّه (ص ) انـه قال :
(( الـحلال ما احل اللّه في كتابه , والحرام ما حرم اللّه في كتابه , وما سكت عنه فهومما عفا عنه )) ((72)) .
وعنه (ص ) انه قال :
(( ان اللّه فـرض فـرائض فـلا تضيعوها , وحد حدودا فلا تعتدوها , وحرم اشيا فلاتقربوها , وترك اشيا عن غير نسيان فلا تبحثوا عنها )) ((73)) .
وعن ابي عبداللّه الصادق (ع ) انه قال :
(( ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم )) ((74)) .
وعن عبد الاعلى بن اعين قال :
(( سالت ابا عبداللّه (ع ) عمن لم يعرف شيئا هل عليه شي ؟ قال : لا )) ((75)) .
وعنه (ع ) انه قال :
(( كل شي فيه حلال وحرام فهو لك حلال ابدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه )) ((76)) .
وعنه (ع ):
(( ان اللّه عزوجل احتج على الناس بما آتاهم وما عرفهم )) ((77)) .
وفي الحقيقة ان الافعال المباحة قد تنشا في واقع الامر من ملاكات اقتضائية ,فتكون رغبة المولى سبحانه وتعالى متوجهة الى اطلاق عنان المكلف فيها , وعدم تعامله معها على نمط التعامل مع الاحكام الالزامية .
مـن هنا نرى ان الشريعة الاسلامية تحافظ دائما على توفير هذا الجو الاختياري للمكلف , وتكييف الـعـوامـل الـملائمة له , لكي يتوازن السلوك الانساني , ولا يتعرض الى التخلخل والاضطراب , ويروى : ان النبي (ص ) صنع شيئا ترخص فيه , وتنزه عنه القوم , فحمد اللّه ثم قال :
(( ما بال اقوام يرغبون عما رخص لي فيه فواللّه لانا اعلمهم باللّه واشدهم له خشية )) ((78)) .
وقـد دعى الاسلام من خلال اصوله ومبانيه الثابتة الى ان ياخذ الانسان نصيبه من الحياة الدنيا , عن طريق الممارسات المحللة , والتصرفات المشروعة , واكدعلى ضرورة ان يستوفي كل عضو من اعـضـا الانسان حظه من الراحة والاستجمام , وان تعطى النفس حقها من الالتذاذ والتنعم بما اباحه اللّه لعباده , قال تعالى :
( قـل مـن حرم زينة اللّه التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آم نوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة .. ) ((79)) .
وفـي واقـع الامـر ان هذه التوسعة تعبر عن واحد من اهم المقومات الاساسية التي تساهم في اثرا حـركـة الانسان التكاملية نحو اللّه تعالى , واعطائها صورة متكافئة , لاتتحجم في الجانب العبادي الـخـاص وتذوب فيه الى درجة الانهماك التام , ولا تنساب مع الملاذ من دون قيود وحدود , ولذا نرى ان الاسلام يشجب حالة الرهبنة والانعزال عن المجتمع , ويحارب ظاهرة القسوة بحق النفس الانسانية , وتحميلها المشاق والصعوبات ,ويوجه الانسان بدلا عن ذلك نحو السلوك المتوازن الذي يـحـفـظ حـق اللّه وحـق الـنفس معا , ولا يناى عن الحياة الاجتماعية الى حيث الاذكار والاوراد والعبادات الخالية من روح النفع والعطا.
وقد ورد في هذا الشان :
(( ان ثلاثة رهط جاؤوا الى بيوت ازواج النبي (ص ) يسالون عن عبادته (ص ) ,فلما اخبروا كانهم تقالوها , فقالوا : واين نحن من النبي (ص ) وقد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تاخر ؟ فقال احدهم :
امـا انـا فاني اصلي الليل ابدا , وقال الاخر : اني اصوم الدهر ولا افطر , وقال الاخر : اني اعتزل الـنـسـا فـلا اتـزوج ابـدا , فجا رسول اللّه (ص )فقال : انتم الذين قلتم كذا وكذا , اما واللّه اني لاخـشـاكـم للّه واتـقاكم له , لكني اصوم وافطر , واصلي وارقد , واتزوج النسا , فمن رغب عن سنتي فليس مني )) ((80)) .
وجا عن الامام الرضا(ع ) انه قال :
(( ان امراة سالت ابا جعفر(ع ) فقالت : اصلحك اللّه اني متبتلة , فقال لها : وماالتبتل عندك ؟ قالت : لا اريـد التزويج ابدا, قال : ولم ؟ قالت : التمس في ذلك الفضل , فقال :انصرفي فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمة (ع ) احق به منك , انه ليس احد يسبقها الى الفضل )) ((81)) .
الى غير ذلك من الاحاديث التي شجبت ظاهرة الانزوا والرهبنة والانعزال عن المجتمع البشري , والتي سناتي على شطر منها في لاحق دراستنا هذه ان شا اللّه تعالى .
ومن اجل تحقيق هذه التوسعة , وخدمة هذه الغاية , نلاحظ ان الشريعة تؤكدايضا على ترك الالحاح في السؤال , والتكلف في الاستقصا , وقد اوصت المسلمين بان يتركوا الامور تاخذ مجاريها الطبيعية , لان نـفس الانسان قد تنزع الى البحث عن تفاصيل الاحكام وجزئياتها , وتغرق في السؤال عن ذلك مـن بـاب الـتنصل , او التعجيز ,او الاختبار , او التسامح ... او غير ذلك من الاغراض والغايات , وغـالـبا ما نرى انه عندماينكشف للانسان واقع الامر يبدا بمحاولة التهرب من ادائه , والتنصل من القيام بواجب اللّه تعالى فيه , ولذا نرى ان الشريعة الاسلامية من باب الرحمة بالانسان والارفاق به قدنهته عن تكلف الامور واستقصائها , وامرته بالاكتفا بما يحصل عليه من الطرق الطبيعية الجارية , لان الـشـارع لـو كـان يريد الزيادة على ما هو موجود لبين تلك الزيادة الى الناس , ولو كانت هناك ضـرورة لان يرتكب الانسان سلوكا خاصا في حياته على نحوالالزام او ما دون ذلك لما كان يجدر بـالـشريعة ان تتهاون في توضيحه وبيانه , فما سكتت عنه الشريعة ولم تتطرق له من قريب او من بعيد فهو عفو , لا يؤمر الانسان بالتحري عنه , والالحاح في متابعته .
من هنا نرى انه (ص ) كان يقول :
(( اتـركـونـي مـا تـركـتـكـم فاذا حدثتكم فخذوا عني , فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على انبيائهم )) ((82)) .
وعنه (ص ) انه قال :
(( ان اعظم المسلمين في المسلمين جرما من سال عن امر لم يحرم فحرم على الناس من اجل مسالته )) ((83)) .
ان كـل مـا تقدم انما هو ناشي من كون الشريعة الاسلامية شريعة سهلة سمحا , لاتضييق فيها على المر ولا قهر ولا اكراه .
وقال تعالى : ( يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ((84)) .
وقال تعالى : ( يريد اللّه ان يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا ) ((85)) .
وقـال تـعـالـى : ( يا ايها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما احل اللّه لكم ولا تعتدوا ان اللّه لا يحب المعتدين # وكلوا مما رزقكم اللّه حلالا طيبا واتقوا اللّه الذي انتم به مؤمنون ) ((86)) .
وقـال تعالى : ( الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوباعندهم في التوراة والانجيل يـامـرهـم بـالـمـعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم .
) ((87)) .
وفي الحديث عن رسول اللّه (ص ) انه قال :
(( اني لم ابعث باليهودية ولا بالنصرانية , ولكن بعثت بالحنيفية السمحة )) ((88)) .
وعن ابي جعفر(ع ) عن رسول اللّه (ص ) انه قال :
(( ان هذا الدين متين فاوغلوا فيه برفق , ولا تكرهوا عبادة اللّه الى عباد اللّه ,فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفرا قطع ولا ظهرا ابقى )) ((89)) .