استدراك خائب
بـعـد ان انـكشف للكثيرين من علما العامة بطلان القول بتقسيم ( البدعة ) على نحوالقطع واليقين , وانـحـصـار حقيقتها الشرعية في خصوص مورد الذم والحرمة , حاولوا ان يبرروا اطلاق لفظ ( الـبدعة ) على ( التراويح ) في مقولة : (( نعمت البدعة هذه )) من غيرالمنطلق الذي استند اليه القائلون بالتقسيم , ويعالجوها من زاوية جديدة تنسجم مع القول بنفي التقسيم .
فالقائلون بتقسيم ( البدعة ) الى مذمومة وممدوحة , لم يكونوا ليعانوا امرا من مسالة الاستعمال هنا , لانـهـم يـقولون ببساطة استنادا الى التقسيم المتقدم , بان المراد من (البدعة ) في هذا الحديث هو الـبدعة الممدوحة , وقد تقدم معنا ان مصدر القول بالتقسيم انما بني اساسا على هذا الحديث نفسه , فـالـحديث اذن يحمل بين طياته حجية القول بالتقسيم , ويتضمن مشروعية اطلاق لفظ ( البدعة ) عـلـى ما لم يكن مذموما , ثم يتخذالقول بالتقسيم الذي يدعى استفادته من هذا الحديث ذريعة لصحة اسـتـعمال ( البدعة )في غير مورد الذم , وبعبارة اخرى ان تقسيم ( البدعة ) قد بني على طبيعة الاستعمال المذكور في الحديث , ومن ثم خرج القول بصحة اطلاق لفظ ( البدعة ) على ( التراويح ) ,واستعمالها في غير مورد الذم ـ على ما يدعى في نفس الحديث ـ بناا على التقسيم المذكور.
فانظر ماذا ترى ؟ وامـا بقية الاعلام الذين اصابوا الواقع في القول بنفي التقسيم المذكور , فقد تحيرواحقا في توجيه هـذه الـمقولة , وتبرير اطلاق لفظ ( البدعة ) على ( التراويح ) , ومن ثم استحسانها , والاطرا عليها , فهل انها استعملت في المعنى الاصطلاحي الشرعي الذي يعني ( ادخال ما ليس من الدين فيه ) , فـيـتـم بذلك القضا المبرم على شرعية التراويح ؟ اوانها استعملت في المعنى اللغوي الذي يعني الـحادث الذي ليس له اصل سابق , فلا تكون النتيجة في هذا الفرض باحسن مما سبق ؟ او ان هناك استعمالا ثالثا لم نتمكن من الاهتدااليه ؟ هـذه الاسـئلـة اخـذت تـطـرح نفسها بالحاح امام النافين للتقسيم المذكور , وباتت تنتظر الاجابة الصريحة منهم , وفقا لما توصلوا اليه من نتائج تلك الابحاث .
ونـود ان نـلـفت نظر القارئ الكريم الى انـا لسنا بصدد اثبات صحه اطلاق لفظالبدعة الوارد في مقولة (( نعمت البدعة هذه )) على معنى دون معنى آخر , لانه سوا اصح هذا الاطلاق او ذاك , فان صـلاة ( الـتـراويح ) غير ثابتة لدينا , ولم يقم على مشروعيتها اي دليل شرعي , كما سنثبت ذلك مفصلا في فصل لاحق ان شا اللّه تعالى .
ولكن كلامنا يتجه نحو الطريقة التي يتعامل فيها الكثير من اعلام العامة مع مفردات الثقافة الاسلامية , وكـيـف تكون هذه المفردات الحساسة ضحية للتقولات والتبريرات , اذ يكون الاساس في البحث والطرح العلمي هو تبرير ما يراد تبريره ـ لاي دافع كان ـ حتى لو اقتضى الامر حرف المفهوم عن حـقيقته , واقصائه عن واقعيته التشريعية , وهذا ما لمسناه بشكل مباشر في الكلمات المتقدمة التي ب نـت تـقسيم ( البدعة ) على اساس مقولة (( نعمت البدعة هذه )) , على حساب المعنى الشرعي والواقعي لها ,والذي تداركه البعض الاخر من هؤلا الاعلام الذين ابطلوا القول بالتقسيم .
ولكن هؤلا وان اصابوا في ابطال القول بالتقسيم , الا انهم وقعوا في نفس ما وقع فيه الاسبقون حين حـاولوا تبرير مقولة (( نعمت البدعة هذه )) , وتوجيه استعمال هذااللفظ فيها , مع الحرص على القول ببطلان التقسيم وان ( البدعة ) لا تطلق في مصطلح الشرع الا في مورد الذم والحرمة .
وان كـنـا نحتفط لانفسنا بالاعتقاد بان لفظ ( البدعة ) هنا قد استعمل في معناه الشرعي المصطلح , والمرتكز في اذهان المسلمين , والذي يعني ( ادخال ما ليس من الدين فيه ) , فنكون قد سجلنا دليلا من نفس الحديث المذكور على عدم شرعية صلاة ( التراويح ) ليضم الى الادلة والقرائن الاخرى التي سوف نذكرها لاحقا لاثبات صحة مانذهب اليه باذن اللّه تعالى .
ويـبـقـى علينا ان ننتحل العذر لامر الاعجاب بهذه ( البدعة ) , والاطرا عليها , لمارآه القائل من اسـتـجـابة مثالية من قبل المسلمين لقراراته , التي ينطلق فيها من اعتبارنفسه ناطقا باسم الرسالة والدين , وممسكا بزمام الاحكام الشرعية , ومؤهلا لرفعها , اووضعها من الاساس وقـبـل ان نستعرض بعض الاقوال التي بررت اطلاق لفظ ( البدعة ) على صلاة ( التراويح ) من قبل النافين للتقسيم , نشير الى ان هؤلا قد اتفقوا على امرين هما :
الامـر الاول : ان صـلاة ( الـتراويح ) ليست بدعة بالمعنى الشرعي , وانما هي سنة تمتلك الاصل الشرعي , من خلال ممارسة النبي (ص ) لها بضعة ليال , ثم تركها مخافة الافتراض على الامة .
وهذا الامر سوف نناقشه في بحثنا الخاص حول صلاة ( التراويح ) , ونثبت هناك ان ( التراويح ) لا تمتلك اية شرعية مطلقا , وليس لها اي اصل في الدين , وانما هي من اصدق مصاديق الابتداع .
الامـر الـثاني : ان لفظ ( البدعة ) الوارد في مقولة (( نعمت البدعة هذه )) , لا يمكن ان يراد منه الـمـعـنى الشرعي في نظر النافين للتقسيم لما ثبت لديهم بان ( البدعة ) لا تطلق شرعا الا في الذم والـحرمة , فلابد اذن من التماس مخرج آخر , يبرر الاستعمال المذكور ,وينسجم مع القول بنفي الـتـقـسـيـم , فـجـات الـتبريرات متعددة ومتنوعة , نذكر منها ثلاثة نماذج من كلمات المتقدمين والمتاخرين :
الـتبرير الاول : ما ذكره ( ابن تيمية ) الذي ينص صريحا على بطلان القول بالتقسيم , وانه يستند دلالة على حديث التراويح , حيث يقول :
(( ان مـن الـنـاس من يقول : البدع تنقسم الى قسمين : حسنة وقبيحة , بدليل قول عمر(رض ) في صـلاة التراويح (( نعمت البدعة هذه )) , والجواب : اما ان القول ( ان شرالامور محدثاتها , وان كـل بـدعة ضلالة , وكل ضلالة في النار ) , والتحذير من الامورالمحدثات , فهذا نص من رسول اللّه (ص ) , فلا يحل لاحد ان يدفع دلالته على ذم البدع ,ومن نازع في دلالته فهو مراغم ولا يحل لاحـد ان يـقـابـل هذه الكلمة الجامعة من رسول اللّه (ص ) الكلية , وهي قوله ( كل بدعة ضلالة ) بـسـلـب عمومها , وهو ان يقال : ليس كل بدعة ضلالة , فان هذا الى مشاقة الرسول اقرب منه الى الـتاويل , بل الذي يقال فيما يثبت به حسن الاعمال التي قد يقال هي بدعة : ان هذا العمل المعين مثلا ليس ببدعة , فلايندرج في الحديث )).
ثم يبرر ( ابن تيمية ) خروج ( التراويح ) من عموم البدع المذمومة بالقول :
(( اكـثـر مـا في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها , وهذه تسميه لغوية , لاتسمية شرعية , وذلك ان البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداا من غير مثال سابق ,واما البدعة الشرعية , فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي فلفظ ( البدعة ) في اللغة اعم من لفظ ( البدعة ) في الشريعة فالنبي (ص ) قد كـانـوا يـصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى , وقد قال لهم في الليلة الثالثة والرابعة لما اجتمعوا ( انه لم يمنعني ان اخرج اليكم الا كراهة ان يفرض عليكم , فصلوا في بيوتكم , فان افضل صـلاة الـمـر في بيته الا المكتوبة ) , فعلل (ص ) عدم الخروج بخشية الافتراض , فعلم بذلك ان المقتضي للخروج قائم , وانه لو لا خوف الافتراض لخرج اليهم )) ((464)) .
الـى هنا يكون ( ابن تيمية ) قد اثبت ـ حسب زعمه ـ ان لصلاة التراويح اصلا في الشرع , فيكون قـد تـنـاقض مع كلامه السابق الذي يدعي فيه استعمال لفظ ( البدعة ) هنافي المعنى اللغوي , لان الـمـعنى اللغوي حسب الاتفاق هو : ما لم يكن له مثال سابق , فكيف يمكن صحة الاستعمال اللغوي مع هذا الاصل المفترض ؟.
هذا ما يجيب عنه بالقول :
(( فـلما كان في عهد عمر جمعهم على قارئ واحد , واسرج المسجد , فصارت هذه الهيئة ـ وهي اجتماعهم في المسجد على امام واحد مع الاسراج ـ عملا لم يكونوايعملونه من قبل , فسمي بدعة , لانه في اللغة يسمى بذلك , وان لم يكن بدعة شرعية )) ((465)) .
فهل تعرف للتحميل والتعسف معنى غير هذا ؟ وهل ان ( ابن تيمية ) يعتقد في قرارة نفسه بصحة ما يقول ؟ وما دخل ( الاسراج ) فيما نحن فيه ؟.
فالملاحظ ان ( ابن تيمية ) يضم ( الاسراج ) الى اجتماع المصلين على امام واحدمن اجل ان يجعل الامر غير مسبوق بمثال , فيصح بذلك استعمال ( البدعة ) في معناهااللغوي الذي يعني الحادث الذي ليس له مثال سابق ففائدة ضم ( الاسراج ) اذن هي تبرير الاستعمال المذكور , والايحا بان هذه الهيئة باجمعها لم تكن موجودة سابقا , فيكون قد احتفظ لصلاة ( التراويح ) باصلهاالشرعي المزعوم , وبرر استعمال ( البدعة ) لغويا , لكي لا يقع الاصطدام بين الامرين .
وعـلـى هـذا الاساس يمكننا ان نضم عشرات الاوصاف والاحوال الاخرى الى هذه الهيئة الحاصلة لتبرير عدم مشابهتها لما سبق ونـكـتـفـي بالاشارة في المقام الى ان العودة الى الاستعمال اللغوي للفظ المنقول ,وتصحيح اطلاقه كذلك , ليس كما يصوره ( ابن تيمية ) في كلامه هذا , وخصوصا مثل كلمة ( البدعة ) التي ترسخ مـعـنـاهـا الاصـطـلاحـي الجديد في اذهان المسلمين , واقترن استعمالها الشرعي في موارد الذم والـحرمة , من خلال احاديث غفيرة على لسان صاحب الرسالة (ص ) , وكلمات بقية الصحابة , كما اسـتعرضنا قسما منها في سابق دراستنا هذه , ولاسيما اذا لاحظنا قول ( ابن تيمية ) المتقدم حول قـوله (ص ) : (( كل بدعة ضلالة )) : (( فهذانص من رسول اللّه (ص ) , فلا يحل لاحد ان يدفع دلالته على ذم البدع , ومن نازع في دلالته فهو مراغم )) ((466)) .
فـاذا كـانـت دلالة الحديث على ذم البدع بهذا المستوى من الوضوح , وقد اصبح هذا المعنى نتيجة لعملية النقل الشرعي هو المتبادر الى اذهان المسلمين , فكيف يصح استعمال لفظ ( البدعة ) بعد ذلك فـي مـعـنـاها اللغوي الاسبق , من دون الاتيان بقرينة تصرف اللفظ عن معناه المرتكز , لا سيما اذا لاحـظـنا ان كلمة ( البدعة ) قد وردت في هذاالحديث بشكل مطلق , بل وسياق الحديث يابى هذا التحميل , ويشهد بخلافه , ابتداامن ذكره (( هذه )) او (( هي )) وقوله : (( والتي ينامون عنها افـضل )) , المنصرف الى خصوص هذه الصلاة من دون قيد او شرط , ومرورا بعدم الاشارة الى امر ( الاسراج )من قريب او بعيد في عمدة الاحاديث التي يستدل بها على ثبوت ( التراويح ) , بما فـي ذلـك روايـتـي ( الـبخاري ) و ( الموطا ) , وانتهاا بقوله : (( اني ارى لو جمعت هؤلا على قارئ واحد لكان امثل )).
وهـل يـرتضي ( ابن تيمية ) لشخص ان يقول بشان صلاة العشا مثلا التي تقام جماعة في مسجد ذا سراج بانها ( بدعة ) , ويطلق القول بهذه العفوية , من دون ان يقيم قرينة على اثبات ما يقصد اليه ؟ وهل يلام من يحمل كلمة ( البدعة ) في هذا الكلام على معناها الشرعي المنقول عند الاستماع اليها بهذه الطريقه المطلقة ؟.
فـكـيـف اذا حف الامر بقرائن توحي بالعكس , وكيف اذا صدرت هذه الكلمة بهذاالتسامح من انسان جلس في الموقع الذي يحاسب فيه على الصغيرة والكبيرة من اطراف الكلام ؟.
وعـلـى ايـة حال فان ما تكلفه ( ابن تيمية ) امر مرفوض من الناحية العلمية بالدرجة الاولى , ومن نـاحـيـة كونه التفافا معلنا على الحقائق , وتزوير المفاهيم الاسلامية , بما يصب في صالح الاحقاد المذهبية , والتعصب الذميم .
التبرير الثاني : ما ذكره ( ابو اسحاق الشاطبي ) , في ( الاعتصام ) حيث يقول :
(( فـان قـيـل : فـقد سماها عمر(رض ) عنه بدعة , وحسنها بقوله : نعمت البدعة هذه ,واذا ثبت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت , مطلق الاستحسان في البدع .
فالجواب : انما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول اللّه (ص ) ,واتفق ان لم تقع في زمان ابي بكر , لا انها بدعة في المعنى , فمن سماها بدعة بهذا الاعتبارفلا مشاحة في الاسامي )) ((467)) .
فـالـشـاطـبي هنا يجعل ( التراويح ) من حيث اصلها ذات وجهين , فهي عنده ذات اصل في الدين , بـاعـتبار ان النبي (ص ) قد صلاها ليال ثم انقطع عنها كما يدعى , وبهذاتخرج عن كونها بدعة في الاصطلاح الشرعي , لان المعنى المصطلح والمذموم هو ما لم يكن له اصل شرعي يستند اليه .
وهي في نفس الوقت لا تمتلك اصلا , وليس لها سابق مثال , باعتبار ان النبي (ص )قد انقطع عنها ولم يصلها ابو بكر , وبهذا يصح اطلاق لفظ ( البدعة ) عليها بهذا الاعتبار ,اي باعتبار انها لم تصل في برهة زمنية معينة .
ومـن الواضح ان كلام ( الشاطبي ) هنا لا يسلم من المعارضة السابقة لكلام ( ابن تيمية ) المتقدم , وان كـان ( الـشـاطبي ) لم يصرح هنا بان ( البدعة ) قد استعملت في معناهااللغوي كما فعل ( ابن تيمية ) , وانما ترك الكلام غائما , ومشوبا بالغموض والابهام .
وعـلى اية حـال فان ذكـر ( الشاطبي ) لهـذه الفترة الوسطيـة التي لم تصل فيها( التراويح ) على ما قال ان كان المراد انها تسوغ الاستعمال اللفظي لـ( البدعة ) في الحادث الذي ليس له مثال سابق , فهو ما لا يصح هنا , لان ترك العمل لمدة معينة غير كاف في انطباق عنوان ( ما ليس له مثال سابق ) عليه , فلو ان رسول اللّه (ص ) كان قد صلى صلاة الاستسقا مثلا لقحط اصاب المسلمين , وندرة في الامطار , ثم ترك الصلاة الى ان ارتحل الى الرفيق الاعلى , ثم صليت هذه الصلاة بعد عشرين عاما لـنـفس السبب السابق , فهل يسوغ لنا ان نقول هنا بان صلاة الاستسقا ( بدعة ) , ونطبق اللفظ لغويا عـلـى هـذاالمعنى المتاخر زمانا ؟ وهل لنا ان نبرر هذا الاستعمال اللغوي باعتبار الفترة الوسطية التي تخللت الفعلين ؟ هذا كله بالاضافة الى ما ذكرناه سابقا من حاجة مثل هذا الاستعمال الى قرينة صارفة تعين المقصود , وتصحح الاستعمال .
واذا كـان مـراد ( الـشـاطبي ) من ذكر الفترة الوسطية بين الفعلين ان اطلاق لفظ( البدعة ) هنا اطـلاق تـسـامـحـي , وانـه من باب ما يعبر عنه بالقول : (( فلا مشاحة في الاصطلاح )) , فهو مرفوض ايضا لسببين :
الـسبب الاول : ان هذا المعنى ان تم واستقام في شي , فهو لا يتم في التعامل مع مصطلحات الشريعة الاسـلامية , وخصوصا مثل مفهوم ( البدعة ) الذي يعد من المفاهيم الاسلامية الدقيقة والحساسة , الـتـي لا يـمـكن التسامح في امر تناولها , وتطبيقها على المواردالمختلفة , من دون تثبت , ودقة , واستقصا , وخصوصا من قبل الاشخاص الذين يعتلون المواقع الحساسة التي تطمح اليها الابصار , اذ ان اية مسامحة من هذا القبيل ,سوف تعرض مفاهيم الشريعة الاصطلاحية الى التذبذب والارتباك .
والـسبب الثاني : ان هذا الامر الذي ذكره ( الشاطبي ) يمكن ان يجري في اطلاق لفظ ( البدعة ) عـلـى غير موارد الذم والحرمة ايضا مما لم يكن له وجود في عهد رسول اللّه (ص ) بمثل الاعتبار الـمـذكـور , اي يقال بانه ( بدعة ) باعتبار انه لم يكن موجودا في عهدرسول اللّه (ص ) , ويعتذر لـذلـك بـالـقول بانه لا مشاحة في الاصطلاح , فيرجع الامر في النتيجة الى تقسيم ( البدعة ) الى مـذمـومـة ومـمدوحة , اذ يمكن ان نوجد لحاظا واعتبارالكل الامور الحادثة الممدوحة , ونبرر تـطـبيق لفظ ( البدعة ) عليها على هذا الاساس ,وهذا ما رفضه ( الشاطبي ) اشد الرفض , حين اكد بطلان القول بالتقسيم بشكل مطلق .
الـتبرير الثالث : ما ذكره الشيخ ( صالح الفوزان ) الذي كان يرفض القول بتقسيم ( البدعة ) رفضا قـاطـعـا حيث يقول : (( كل بدعة في الدين فهي محرمة وضلالة لقوله (ص ) : (واياكم ومحدثات الامور فان كل محدثة بدعة , وكل بدعة ضلالة ) , وقوله (ص ) : ( من احدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) , وفي رواية : ( من عمل عملا ليس عليه امرنافهو رد ).
فـدل الـحـديث على ان كل محدث في الدين فهو بدعة , وكل بدعة ضلالة مردودة ,ومعنى ذلك ان الـبـدع فـي العبادات والاعتقادات محرمة من قسم البدعة الى بدعة حسنة وبدعة سيئة فهو غالط ومـخـطـئ ومخالف لقوله (ص ) : ( فان كل بدعة ضلالة ) , لان الرسول حكم على البدع كلها بانها ضلالة , وهذا يقول : ليس كل بدعة ضلالة , بل هناك بدعة حسنة )).
ثم اردف قائلا :
(( ولـيس لهؤلا حجة على ان هناك بدعة حسنة الا قول عمر(رض ) في صلاة التراويح : ( نعمت البدعة هذه ) )) ((468)) .
ولكن ( الفوزان ) بعد ان ينتهي الى هذه النتيجة يواجه الاشكال الذي يقول : بان الامر اذا كان كذلك , وان كـل بـدعة ضلالة من دون اي استثنا , فهذا يعني ان من حقنا ان نحمل كلمة ( البدعة ) الواردة في مقوله : (( نعمت البدعة هذه )) على الضلالة المحرمة , لان كل بدعة ضلالة , وهذه ( بدعة ) , فهي اذن ضلالة , وهذا لون من الوان القياس العقلي الذي لا يقبل التشكيك .
فيعود ( الفوزان ) الى خلفيات هذه الصلاة المحدثة , ويحاول ان يعالج الامر من الجذور , بعد الياس من درجها ضمن دائرة المندوب او المباح , كما كان يفعل القائلون بالتقسيم .
وقد عمد الى تبرير اطلاق لفظ ( البدعة ) هنا بانتهاج سبيلين :
الـسبيل الاول : انه ادعى ان لفظ ( البدعة ) الوارد في الحديث المتقدم محمول على معناه اللغوي لا الاصـطـلاحـي , فـيـقول : (( وقول عمر : ( نعمت البدعة ) , يريد البدعه اللغوية لا الشرعية )) ((469)) .
وقـد حـاول ان يضيق من المدلول اللغوي لهذه الكلمة , ويتصرف في اصل وضعهابما ينسجم مع هذه الـمـقـوله , فاضاف : (( فما كان له اصل في الشرع يرجع اليه اذا قيل انه بدعة , فهو بدعة لغة لا شرعا )) ((470)) .
فـالملاحظ انـه يجعل الفعل الذي يكون له اصل في الشرع من افراد المعنى اللغوي للبدعة , وهذا ما لـم يـتـفـوه به احد من السابقين او اللاحقين , وهو خلاف فاضح لما ذكره قبل صفحتين من موضع كـلامـه هـذا , عـنـدما تعرض لذكر المعنى اللغوي لـ ( البدعة ) حيث يقول : (( البدعة في اللغة مـاخـوذة مـن الـبدع وهو الاختراع على غير مثال سابق , ومنه قوله : ( بديع السموات والارض ) ((471)) , اي مـخـتـرعها على غير مثال سابق , وقوله ـ تعالى ـ ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) ((472)) , اي ما كنت اول من جا بالرسالة من اللّه الى العباد , بل تقدمني كثير من الرسل , ويقال ابتدع فلان بدعة , يعني ابتدا طريقة لم يسبق اليها )) ((473)) .
فـمـن الـواضـح ان المعنى اللغوي لـ ( البدعة ) يابى التفسير الذي ذكره ( الفوزان ) لهاعلى نحو الـتـحميل , وذلك حسب اقراره هو , وتصريحه بذلك , اذ ( البدعة ) لغة هي : ( مالم يكن له مثال سـابق ) حسب قول ائمة اللغة وعلمائها بالاتفاق , فكيف يمكن ان تطبق على ما كان له اصل سابق في الشريعة ؟ وهل ان بامكان احد ان يوسع او يضيق المداليل اللغوية للالفاظ متى شا وانى اراد ؟.
ان هذا الا عبث سافر بالالفاظ , وخلط واضح التهاتر والبطلان .
الـسـبـيل الثاني : انه ادعى ان صلاة ( التراويح ) كانت قائمة في عهد النبي (ص ) ,وانه (ص ) قد صـلاهـا باصحابه مدة , ثم انقطع عنها , حيث يقول : (( والتراويح قد صلاهاالنبي باصحابه ليالي , وتخلف عنهم في الاخير , خشية ان تفرض عليهم , واستمرالصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ يصلونها اوزاعا متفرقين في حياة النبي (ص ) , وبعد وفاته , الى ان جمعهم عمر بن الخطاب (رض ) خلف امام واحد كما كانوا خلف النبي , وليس هذا بدعة في الدين )) ((474)) .
فـهـل حـقـا ان الـنبي الاكرم (ص ) قد صلى التراويح جماعة , وتخلف عنها خشية ان تفرض على اصحابه , فيكون لهذه الصلاة جذور شرعية تربطها بالدين , او ان الامرعلى خلاف ذلك ؟ هذا ما سنتعرض له بتفصيل عندما نتناول خلفيات هذه الصلاة في موضعهاالخاص باذن اللّه تعالى .