لقد ورد عن فاطمة الزهراء (ع) أنّها كانت تزور قبر حمزة سيّد الشهداء وسائر شهداء أُحد كل جمعة، أو بالاسبوع مرّتين وهذا كان على عهد أبيها (ص)، ثم بعد أبيها إلى أن توفيت. ولم يرد نهي لها لا من النبي (ص) ولا من علي (ع) ولا من أي من الصحابة، وهي أعرف بدِين أبيها من غيرها. فزارت القبور مرّات عديدة.
وكما جاء في الأحاديث: "كانت فاطمة تزور قبر عمّها حمزة كل جمعة فتصلّي وتبكي عنده". وفي رواية: "كانت تزور قبور الشهداء بأُحد بين اليومين والثلاثة، فتصلّي هناك وتدعو وتبكي".
مناقشة الحديث المروي:
و أما ما نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "لعن الله زائرات القبور".
أولا: ففيه مضافًا إلى أنه منسوخ بحديث بريدة كما صرّح بذلك الحاكم والذهبي أنه معارض بما روته عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله): "نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن زيارة القبور ثم أمرَ بزيارتها". وصحّحه الذهبي في حاشية المستدرك وقال: "الحديث صحيح".
ثانيًا: معارض بفعل عائشة أيضًا حيث كانت تزور قبر أخيها عبدالرحمن، فإنّه مات فُجأة سنة 53 للهجرة بجبل بقرب مكة فأدخلته الحرم ودفنته. فهل كانت عائشة تريد مخالفة سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتستحق «اللعن» كما في هذا الحديث!!
ثالثًا: إنّه مخالف لما ثبت عن فعل فاطمة (عليها السلام) من زيارتها لقبر النبي (صلى الله عليه وآله) بعد دفنه وزيارة قبر حمزة والشهداء كل جمعة أو كل اسبوع مرّتين. فهل يا تُرى فاطمة تريد مخالفة سنّة ثابتة عن النبي (صلى الله عليه وآله)؟! أو أنها -نعوذ بالله- غير عارفة بالسنّة؟! وأهل البيت أدرى بما في البيت مع أن زيارتها قبور شهداء أُحد كانت على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) واستمرّت الزيارة سبع سنوات من حياة النبي (صلى الله عليه وآله) فكيف لم ينهَها النبي (صلى الله عليه وآله)؟ وكذلك زارت قبر النبي (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته; فعن علي (عليه السلام): "لما رمس رسول الله (صلى الله عليه وآله) جاءت فاطمة (عليها السلام) فوقفت على قبره (صلى الله عليه وآله) وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعت على عينها وبكت وأنشأت تقول...".
فكيف لم يعارضها علي (عليه السلام) ولا أحد من الصحابة إن كانت زيارة النساء للقبور محرّمة.
رابعًا: إن فتوى علماء السنة على الجواز وأمّا اللعن يفيد تحريم زيارتهن لقلّة صبرهن، وإلاّ فزيارة النساء للقبور بشرط الصبر جائزة، كما في التاج:
1. "واللعن يفيد تحريم زيارتهن لقلّة صبرهن وكثرة جزعهن وكل حديث يحرِّم خروجهن للجنازة أو زيارتهن للقبور فمحمول على ذلك، وإلاّ فزيارة النساء للقبور جائزة بشرط الصبر وعدم الجزع وعدم التبرّج. وأن يكون معها زوج أو محرم منعًا للفتنة، لعموم الحديث الأوّل". ولقول عائشة في الحديث الثاني: "كيف أقول؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله..".
ولزيارة عائشة لقبر أخيها عبدالرحمن، فلما اعترضها عبد الله، قالت: "نهى رسول الله عن زيارة القبور ثم أمر بزيارته".
2. قال الملاّ علي قاري: "ظاهر هذا الحديث -نهيتكم عن زيارة القبور فزورها- العموم، لأن الخطاب في «نهيتكم» كما أنّه عام للرجال والنساء على وجه التغليب أو أصالة الرجال فكذلك الحكم في - فزوروها -. مع أن ما قيل من أن الرخصة عامة لهنّ. فهذه الأحاديث بتعليلاتها تدل على أنّ النساء كالرجال في حكم الزيارة. إذا زِرْنَ بالشروط المعتبرة في حقهنّ، ويؤيّده الخبر السابق أنّه عليه الصلاة والسلام، مرَّ بالمرأة فأمرها بالصبر، ولم ينهها عن الزيارة..".
3. وقال ابن عبدالبر: "احتج من أباح زيارة القبور للنساء بما حدّثناه عبدالله بن محمد، قال: حدّثنا عبدالحميد.. . عن ابن أبي مليكة إنّ عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: "يا اُمّ المؤمنين من أين أقبلتِ؟ قالت: من قبر أخي عبدالرحمن، فقلت لها: أليس كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى عن زيارتها ثم أمرَ بزيارتها".
وعن ابن أبي مليكة: قال: زارت عائشة قبر أخيها في هودج.
قال أبو بكر: وحدّثنا مسرد، قال: حدّثنا نوح بن دراج، عن ابان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال: "كانت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) تزور قبر حمزة بن عبدالمطلب كلَّ جمعة وعلَّمته بصخرة".
كلام القسطلاني ذيل رواية أنس:
"مرّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) بامرأة تبكي عند قبر فقال: إتقي الله واصبري، قالت: إليك عنّي، فإنّك لم تُصب بمصيبتي ولم تعرفه...".
فقد يتبادر سؤال وهو: من أين تؤخذ مطابقة الحديث للترجمة؟ فإجابته:
من حيث أنّه (صلى الله عليه وآله) لم ينه المرأة المذكورة عن زيارة القبور سواء كان الزائر رجلا أو امرأة، وسواء كان المزور مسلمًا أو كافرًا لعدم الاستفصال في ذلك.
قال النووي: وبالجواز قطع الجمهور... .
وقال: وبالجملة: فتستحب زيارة قبور المسلمين للرجال، لحديث مسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّها تذكِّر الآخرة.
.. وتكرة للنساء لجزعهن. وأما حديث أبي هريرة المروي عند الترمذي، وقال حسن صحيح: لعن الله زوارات القبور، فمحمول على ما إذا كانت زيارتهن للتعديد والبكاء والنوح على ما جرت به عادتهن.
وقال القرطبي: وحمل بعضهم حديث الترمذي في المنع على من تكثر الزيارة لأن زوارات للمبالغة.
والحاصل: إن زيارة النساء للقبور جائز عند القسطلاني لكن على كراهية، وأما رواية اللعن، فمحمول على ما كان فيه التعديد والنوح..
4. قال ابن عبدالبر - بعد نقل هذه الأحاديث - قال أبو بكر: وسمعت أبا عبدالله - يعني أحمد بن حنبل - يُسئل عن المرأة تزور القبر، فقال: أرجو إن شاء الله أن لا يكون به بأس.
عائشة زارت قبر أخيها. قال: ولكن حديث ابن عباس: إنّ النبي لعن زوارات القبور". ثم قال: "هذا أبو صالح ماذا؟ كأنه يضعفه، ثم قال: أرجو إن شاء الله أن عائشة زارت قبر أخيها".
5. الحافظ الألباني: فإنّه أورد حديث "لعن رسول الله زائرات القبور". ثم قال: فلم نجد في الأحاديث ما يشهد له، فهذا القدر من الحديث (لعن الله المتخذين عليها السرج، ضعيف وان لهج اخواننا السلفيون بالاستدلال به، ونصيحتي إليهم أن يمسكوا عن نسبته إليه لعدم صحّته).
6. قال ابن عابدين، المتوفى عام 1253: "هل تستحب زيارة قبره (صلى الله عليه وآله) للنساء؟ الصحيح: نعم بلا كراهة بشروطها على ما صرّح به بعض العلماء، أمّا على الأصحّ من مذهبنا وهو قول الكرخي وغيره: من أن الرخصة في زيارة القبور ثابتة للرجال والنساء جميعًا فلا إشكال، وأما على غيره فذلك نقول بالاستحباب لإطلاق الأصحاب. بل قيل: واجبة، ذكره في شرح اللباب".
7. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح. وقد رأى بعض أهل العلم أنّ هذا كان قَبْلَ أن يُرخِّصَ النبي (صلى الله عليه وآله) في زيارة القبور فلما رخّص دخل في رخصته الرجال والنساء".
وقال بعضهم: "إنّما كَرِه زيارة القبور للنساء، لقلّة صبرهن وكثرة جزعهن".
8. القسطلاني: "... ولا يكره لهن زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) بل تندب، وينبغي كما قال ابن الرفعة والقمولي - أن تكون قبور سائر الأنبياء والأولياء كذلك".
بحث في السند:
إنّ حديث لعن رسول الله زائرات القبور ورد بطرق ثلاث:
1. عن حسان بن ثابت.
2. عن ابن عباس.
3. عن أبي هريرة.
أ- وقد أورد ابن ماجة الحديث بطرقه الثلاثة.
ب- كما أورد أحمد الحديث بطريقين من الثلاثة: (أ) حسّان بن ثابت، (ب) وطريق أبي هريرة.
ج- كما أورد الترمذي الحديث عن طريق أبي هريرة فقط.
د- وأورد أبو داود الحديث، عن طريق ابن عباس فقط.
وأما البخاري ومسلم فلم يخرجا الحديثين بالمرّة، كما أن أصحاب السنن لم يتفقوا على طريق من الطرق، نعم الطريق الثالث: وهو حديث أبي هريرة اتفق عليه ابن ماجه وأحمد والترمذي.
وأما الطريق الأوّل: فاتفق عليه ابن ماجة وأحمد.
وأما الطريق الثاني: ابن عباس: اتفق عليه أبو داود وابن ماجة.
المناقشة في الطرق:
أما الطريق الأوّل، الذي نقله ابن ماجه وأحمد، والذي ينتهي إلى حسّان بن ثابت، ففي السند: عبدالله بن عثمان بن خثيم: "وأحاديثه ليست بالقوية كما روى ابن الدورقي عن ابن معين ولأبي حاتم فيه رأيان: أحدهما أنّه: لا يحتج به. وعن النسائي: انّه ليّن الحديث".
وفي الطريق: "عبدالرحمن بن بَهمان، ولم يحدث عنه سوى ابن خثيم، وقال ابن المديني: لا نعرفه".
وأما الطريق الثاني، فيه أبو صالح وهو باذان، وقال أبو حاتم: "لايحتج به، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن عدي: ولم أعلم أحداً من المتقدّمين رضيه".
أما الطريق الثالث - عن أبي هريرة: ففيه عمر بن أبي سلمة، قال النسائي: "ليس بالقوي، وقال ابن خُزيمة: لايحتج بحديثه".
وقال ابن معين: "هو ضعيف". وقال أبو حاتم: لايحتج به".
فالحديث بكل طرقه مورد للإشكال السندي، ولعلّه لهذا لم يخرجّهُ الشيخان في صحيحيهما.
أضف إلى الإشكالات والمعارضات التي أوردناها. وكلام الفقهاء في شرح الحديث، وفتواهم في جواز بل استحباب زيارة القبور للنساء والرجال.
source : حوزة الإمام أمير المؤمنين