إن عالمنا عالم التغير والتحول، فلا يبقى شيء ثابتاً؛ بل، انه سيتحول ويشيخ، وبعد ذلك يموت، وينطفئ، وينقضي عمره؛ فهل الدين كذلك؟
وهل للدين مرحلة زمنية معينة، إذا مرت، وانقضت فسوف ينقضي عمر الدين أيضاً، أم ليس الأمر كذلك؛ بل، هو دائم، باق بين الناس، وإذا حدث، إن ظهرت حركة، معادية للدين، تحاربه، وتحاول القضاء عليه، فالدين رغم ذلك، لا يموت، ولا ينطفئ؛ بل، انه سيبقى نابضاً، سيظهر، ويثبت وجوده، بأشكال وصور أخرى بعد فترة وجيزة؟
يقول ويل ديورانت ـ وهو لا يؤمن بأي دين ـ في كتابه (دروس التاريخ) في بحثه حول التاريخ والدين: (للدين مئة روح، كل شيء إذا قضي عليه، في المرة الأولى، فإنه سوف يموت وإلى الأبد، إلا الدين، فإنه لو قضي عليه مئة مرة، فإنه رغم ذلك، سيظهر وتنبعث فيه الحياة بعد ذلك).
ستكون دراستنا في حدود القوانين والنواميس الطبيعة؛ ما هي الأشياء، التي تبقى والأشياء التي تفنى وتموت؟ ولا يتعرض حديثنا للأمور الخارجة عن مدار الظواهر الاجتماعية، بل سيتحدد في هذا المجال.
ـ مقياس الخلود:
إن الظواهر الاجتماعية التي تحتفظ بوجودها خلال عمرها، لابد أن تكون متلائمة مع الرغبات والحاجات البشرية، أي إنها: إما أن تكون بنفسها حاجات بشرية، أو إنها وسائل لإشباع تلك الحاجات الانسانية، بمعنى: إن البشر في أعماق فطرتهم يبحثون عنها، ويرغبون فيها، أو إنها ليست كذلك فلا يرغب بها الانسان في عمق فطرته وغريزته، ولا تستهدفها الميول البشرية، ولكنها وسائل لإشباع حاجاته الفطرية الأولية.
وحاجات البشر على قسمين: حاجات طبيعية، وحاجات غير طبيعية، أي (العادات).
أما الحاجات الطبيعية: فإنها تعني تلك الأمور التي يحتاجها الانسان بما أنه انسان، ولم يكتشف سرها حتى الآن، كحب المعرفة، والاستطلاع، وحب الشهرة والجمال، والرغبة في الأسرة والنسل، فرغم أنه سوف يصيبه التعب والكلل في سبيلها ولكن رغم ذلك يرغب فيها، ويسعى في إشباعها وإرضائها.
وأما لماذا يرغب في المعرفة والجمال، وما هو واقع هذه الرغبات، ولماذا يلتذ بها؟ هذه أسئلة، تبحث عن الجواب، وسواء تمكنا من الجواب عليها أم لا، فإن هذه الرغبات والحاجات موجودة فعلاً في الطبيعة الانسانية.
وأما الحاجات غير الطبيعية، أي العادات، التي يعتاد عليها أكثر الناس، ولكنهم يتمكنون من التخلص منها، أو استبدالها، كالإدمان على شرب السجاير أو الشاي، أو الخمر، أو الهيروئين، وغيرها؛ والتي تصبح حاجات يحتاج إليها الانسان، ويرغب فيها بشدة كما يطالب بالحاجات الطبيعية، وتصبح بالتدريج طبيعة ثانوية له، ولكن رغم ذلك، فإنه يتمكن من هجرها والتخلص منها أو تربية الجيل القادم، وتنشأته نشأة لا يفكر معها بهذه الأشياء أبداً.
وأما الرغبات والدوافع الفطرية الطبيعية، فليست كذلك، إذ لا يتمكن الانسان من تركها، ولا نستطيع أن نربي الجيل القادم تربية يتناسى معها هذه الرغبات.
ومثاله الواضح، يظهر في تطبيقات الشيوعية، فالحكم الشيوعي؛ سعى لتحقيق فكرتين: إحداهما الاشتراكية، والثانية إبادة النظام العائلي الاختصاصي؛ ولكن باءت محاولاته بالفشل، فإنها لا تقبل التطبيق، إذ الدافع لتشكيل الأسرة دافع طبيعي فطري، فإن كل فرد في أعماقه يميل للأسرة، وإلى زوجة تختص به، حتى يكون الولد المتولد منهما، مختصاً به، وإنما يحب ولده ذلك الحب الشديد، لأن ولده امتداد لوجوده، وهذا الحب أمر فطري، وحين لا يكون له ولد، يشعر بأن وجوده سيزول، وينقطع بعد حياته.
وكذلك الانسان فطرياً، يمتلك الرغبة في معرفة تاريخه وماضيه، ومَن هو أبوه وأمه، ولا يمكن أن يعيش الانسان سعيداً، وسوياً، وهو لا يعرف أباه أو أمه، وكيف يمتد وجوده بعد حياته، وأي الأولاد ولده؟ ولذلك لم يستجب البشر لهذه الفكرة، فماتت وقذف بها في سلة المهملات؛ وقد اقترح أفلاطون قبل 2600 عاماً، أمثال هذه الفكرة، ولكنه بنفسه قد ندم على ذلك، بعد أن لمس آثارها السيئة، وقد ظهرت الدعوة لإلغاء النظام العائلي، في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ ولكن رفضها البشر، لماذا؟ لأنها خلاف الطبيعة البشرية.
وللحكماء قاعدة فلسفية وهي (أن القسر لا يدوم)؛ ويعني ذلك: ان التيار غير الطبيعي، لا يبقى ولا يدوم، ويقابل ذلك التيار الطبيعي، فإنه يدوم، وله الاستعداد على البقاء والثبات، وأما غير الطبيعي، فلا يمتلك القابلية على البقاء.
وإذا أردنا أن نثبت بأن الدين يبقى ويدوم، فلابد أن يكون أحد هذين الأمرين: إما أن يكون بنفسه حاجة طبيعية، أو يكون وسيلة لإشباع الحاجة الطبيعية، ولكن يشترط أن يكون هو الوسيلة الوحيدة لإشباع هذه الحاجة أو الحاجات الفطرية الطبيعية، ولا توجد وسيلة أخرى أفضل منها، فنه لو وجدت وسيلة أخرى غير الدين، تشبع تلك الحاجة، بصورة أفضل، وأكثر فائدة وتأثيراً، فحينئذ سوف تزول الحاجة للدين، ويهجر ليتمسك بتلك الوسيلة الأخرى وبالخصوص إذا كانت الوسيلة الأخرى أفضل من الدين.
ونلاحظ مثل هذه الظاهرة في العصر الحديث كثيراً؛ فإن السلع، تتغير بين يوم وآخر مثلاً، وتهجر السلعة القديمة، ليندفع الناس لشراء الجديدة، وإن كانت تُشبع نفس الحاجة التي تشبعها القديمة.
والدين يمتلك كلتا الميزتين، فإنه بنفسه حاجة فطرية وشعورية للبشر، وكذلك هو الوسيلة الوحيدة لإشباع الحاجات الفطرية للبشر، بحيث لا يمكن لغيره أن يحل محله، وبعد الدراسة التالية، سيتضح لنا، بأنه يستحيل على أي شيء أن يقوم مقام الدين، في إرضاء هذه الرغبات الفطرية.
ـ فطرية الدين:
القرآن الكريم يصرح بأن الله قد أودع الدين في قرارة الانسان وأعماقه، كما في قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها).
وحين يتحدث الإمام علي (ع) عن الأنبياء؛ يذكر، بأنهم قد بعثوا، لأجل أن يذكروا الناس بذلك العهد، الذي عقدته فطرتهم، لأجل مطالبتهم بالوفاء بذلك العهد، الذي لم يكتب على ورقة ـ ولم ينطق به لسان، وإنما كتب على صفحة القلب وفي عمق الفطرة الانسانية، بقلم الخليقة ـ على صفحة الضمير، وفي أعماق الشعور الباطن.
ولم أذكر ذلك للاستشهاد والاستدلال؛ بل، استهدف من ذلك أن أثبت، أن الاسلام كان أول مَن اكتشف أن الدين حاجة فطرية، ولم يعرف البشر هذه الفكرة سابقاً، ولكن ظهر في العصر الحديث مَن ينادي بها ويدعو إليها. وقد ظهرت الكثير من النظريات والآراء حول هذه الفكرة في القرن السابع عشر، والقرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر الميلادي، والقرآن الكريم يصرح: (فطرة الله التي فطر الناس عليها).
source : البلاغ