توطئة
هل إن معركة الطف عثرة على الطريق أم مرحلة من الطريق؟
يقول الدكتور عبد العظيم الديب بعد أن يذكر الفتوحات الإسلامية: هذا هو تاريخ الإسلام، أما معركة الجمل وصفين وكربلاء... فتلك عثرات على الطريق( [1]).
وهذا البحث يناقش هذا الرأي من خلال دراسة حتمية الصراع التاريخي بين حركة التوحيد وحركة الشرك.
الصراع بين حركة التوحيد وحركة الشرك
إنّ قوام التاريخ هو الصراع بين (التوحيد والشرك) وبين (الحق والباطل)، وإن ضاقت مساحته، واختفى عن الرأي العام، ولم يستقطب اهتمام الناس على وجه الأرض.
والحتمية أهم قوانين وسنن هذا الصراع، فلا يمكن أن يمتد هذان الخطان على وجه الأرض وفي حياة الناس دون أن يتقاطعا، ودون أن يؤدي هذا التقاطع إلى المواجهة والصراع، فإن حركة التوحيد تقوم في المجتمع على أنقاض الكفر والشرك، ولا يقوم للشرك والكفر أساس ولا أثر في حياة الناس إلا بزوال التوحيد. فكل منهما يطرد الآخر. وهذا التناقض بين التوحيد والشرك هو الذي يؤكد حتمية الصراع بينهما.
وإذا أردنا أن نفهم التاريخ وسننه وقوانينه وأحكامه التي يرسمها الله تعالى لنا في كتابه الكريم فعلينا أن نقرأ تاريخ الأنبياء وحركتهم في ساحة المواجهة لأقوامهم.
إنّ حركة الأنبياء ترسم لنا المعنى الحقيقي لـ (الصراع) و(التاريخ)، وترسم سنن الصراع في جبهة التوحيد وفي جبهة الشرك، وما يتطلبه الصراع من الصبر والتضحية والعطاء في كل من الجبهتين، وما يتخلل الصراع من ألوان المحنة والعذاب، وما يتعقب الصراع من نصر القلة المؤمنة وسقوط جبهة الكفر والشرك، وما يرافق الصراع من تساقط وتخاذل في صفوف أنصار الحق، ومن تبادل المواقع في كل من الجبهتين( [2]).
ولا شك أن من واجب الأنبياء الدفاع عن المحرومين والمستضعفين ولا شك أن الأنبياء دافعوا ووقفوا إلى جنب المستضعفين وضد المستغلين والظالمين .
ــــــــــــــــــــــ
[1]ـ كتّاب النهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي :67 سلسلة كتاب الأُمة عدد:27 عبد العظيم محمود الديب.
[2]ـ في رحاب القرآن 9: 69 ـ 88 .
ولكن هذه المعركة ليست هي المعركة الأساسية والمحورية في حركة الأنبياء، وليست هي محور صراع معركة الأنبياء، وإنما محور هذه الحركة وهذا الصراع هو الصراع بين التوحيد والشرك والحق والباطل.
حركة موسى بن عمران
ضمن هذا التصور للتاريخ لابدّ أن ندرس حركة موسى بن عمران× في التاريخ.
إن تاريخ حركة كليم الله× هو في الصراع بين التوحيد والشرك. ومن خلال هذا الصراع نستطيع أن نفهم تاريخ موسى بن عمران× والمنعطفات الحساسة في حركته، والعقبات التي واجهها، والأسلوب الذي اتبعه في مواجهة هذه العقبات، والإنجازات التي حققها الله تعالى على يده، والمراحل التي اجتازها وتخطّاها في هذا الصراع.
ومن خلال هذه الرؤية نستطيع أن نفهم الفتن التي حدثت في مجتمع بني إسرائيل بعد أن نصرهم الله تعالى على فرعون وأنقذهم من الغرق، وكيف دبّ الشرك مرة ثانية، من خلال حركة السامري وتضليله لبني إسرائيل، ومن خلال استجابة بني إسرائيل لتضليل السامري واستضعافهم لهارون× وتمردهم عليه، وطلبهم للعكوف على عبادة الأصنام، عندما مرّوا على قوم يعبدون الأصنام، بعد أن أنقذهم الله من الغرق، وامتناعهم عن الاستجابة لدعوة موسى بن عمران×، لقتال القوم الجبارين، وابتلاء الله تعالى لهم بعد ذلك بالتيه أربعين سنة( [3]).
وهكذا تتلقى حركة التوحيد تحديات صعبة من الشرك، وقد واجه موسى بن عمران× هذه التحديات مرتين قبل غرق فرعون وبعده من خارج الجماعة المؤمنة من بني إسرائيل قبل الغرق والاجتياز، ومن داخل الجماعة المسلمة من قومه بعد الغرق والاجتياز، فإن الشرك لا يكفّ عن المقاومة بعد السقوط في المرحلة الأولى من المواجهة، وإنما يمارس هذه المرّة المقاومة من داخل الجهة المسلمة.
وهذه المقاومة أشقّ على الإسلام من المقاومة الأولى.
ويبقى أن نقول إذا كان التوحيد (والإسلام) حركة في التاريخ والمجتمع، فأن (الشرك) و(الجاهلية) أيضاً حركة في مواجهة حركة التوحيد والإسلام، ومتقاطعة معها، ومهمة هذه الحركة إعاقة حركة التوحيد والإسلام، وتعطيل حدود الله تعالى وفرائضه على وجه الأرض... والخصال والشروط المقوّمة للحركة موجودة فيها، إلا أنها في الجهة المعاكسة لحركة التوحيد والإسلام، في كلّ شيء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[3]ـ في رحاب القرآن: 9: 81 ـ 82 .
الفهم الصحيح للتاريخ:
واعتقد أن هذا الفهم هو أساس الفهم الصحيح للتاريخ.
فإن التاريخ صراع بين هاتين الحركتين. وليس من التاريخ كل صراع على وجه الأرض، مهما اتسعت رقعته، ومهما استهلك من الجهود والأموال والدماء، وإنما قوام التاريخ ـ كما قلنا ـ هو الصراع بين (التوحيد والشرك).
وفي المراحل الأولى من ظهور حركة التوحيد يكون الصراع من الخارج على كيان التوحيد، وعندما تنهزم حركة الشرك في الجبهة الخارجية أمام حركة التوحيد يتحول الصراع إلى الداخل.
والعدو عندما يعجز عن تسقيط حركة التوحيد من الخارج يبدأ العمل في تحريف مسار التوحيد من الداخل.
وبتعبير آخر يكون الصراع في المرحلة الأولى على التنزيل وفي المرحلة الثانية على التأويل.
والتوحيد بذلك يواجه خطرين خطر الاستئصال من الخارج وخطر التحريف والإفساد من الداخل، والأول يقوم به المشركون والثاني يقوم به المنافقون.
ولكل من هاتين المواجهتين من الخارج والداخل أثر تخريبي واسع في الدعوة، إلاّ أن الأثر التخريبي للمواجهة الثانية أوسع بكثير من الأثر التخريبي للمواجهة الأولى.
ذلك أن المواجهة الأولى تزيد الأمة في طريق تحمّل رسالة الدعوة إلى الله صلابة ومتانة وقوة، وتزيدهم استحكاماً وتماسكاً، أما المواجهة الثانية فهي تشقّق الأمة الداعية إلى الله، وتذرهم فرقاً وطوائف متناحرة، ويدخل التحريف إلى صلب الدعوة وتستهلك الدعوة وحملتها من الداخل، بينما كانت المواجهة الأولى من عوامل قوة العصابة المسلمة التي تحمل رسالة الدعوة إلى الله تعالى.
وهذه هي ظاهرة النفاق.
وقد واجه موسى بن عمران وأخوه هارون‘ بعد هلاك فرعون وجنده والهزيمة المنكرة التي لحقتهم... وبعد النصر الذي كتبه الله تعالى لبني إسرائيل على أعدائهم... واجه موسى بن عمران وأخوه هارون‘ هذه الحركة التخريبية الواسعة من الداخل بشكل فاعل وقوي، يندر مثله في حركة التوحيد في تاريخ الأنبياء^( [4]).
حتمية الصراع بين التوحيد والشرك
ما هي الأسباب التي تدعو إلى القول بحتمية الصراع بين التوحيد والشرك؟
قدّمنا سابقاً القول بأن حركة التوحيد تقوم في المجتمع على أنقاض الكفر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[4]ـ في رحاب القرآن: 9: 93 ـ 94 .
والشرك، ولا يقوم للشرك والكفر أساس ولا أثر في حياة الناس إلاّ بزوال التوحيد. فكل منهما يطرد الآخر، وهذا التناقض بين التوحيد والشرك هو الذي يؤكد حتمية الصراع بينهما.
ولابدّ أن يتحقق هذا الصراع، لأن حركة التوحيد تمتدّ على مساحة نفوذ الشرك وسلطانه كلّها، ولا تمتد في الفراغ، وتحتل مساحة سلطانه ونفوذه.
ومساحة الحياة لا تتسع للشرك والتوحيد معاً، فإذا تقدّم التوحيد شوطاً كان على الشرك أن ينسحب نفس الشوط.
إنّ حركة التوحيد تمتدّ على مواقع النفوذ والقوة في المجتمع، الإعلامية منها والسياسية، والمالية، والعسكرية، والثقافية، والإدارية، ويتحرّك التوحيد باتجاه بسط نفوذه على هذه المواقع جميعاً.
وذلك أن هذه المواقع هي التي تمكّن حركة التوحيد من إزالة العقبات التي تعيق إبلاغ خطاب الله إلى الناس، وتعيق تنفيذ حدود الله... أولاً، وتمكّنها من إبلاغ خطاب الله إلى الناس ثانياً، وتمكّنها من تنفيذ خطاب الله على وجه الأرض ثالثاً... وهذه ثلاث نقاط لا يمكن أن تتحقق بغير هذه المواقع.
إنّ الصراع لدى حركة التوحيد على مواقع القوة والنفوذ ليس بَطَراً ولا رئاءاً، كما لدى الجاهلية، وإنما هو وسيلة لتحقيق رسالة التوحيد على وجه الأرض وهي هداية الناس وتطبيق حدود الله في حياة الناس.
وهذا هو تفسير صراع التوحيد والشرك (أو الإسلام والجاهلية) على مواقع القوة والقرار والمال والإعلام... والرأي القائل بأنّ كلمة التوحيد تتحرّك في حياة الناس وتتبعها إقامة الصلاة وإقامة حدود الله بالوعظ والنصح والإرشاد من دون حرب وقتال... تسطيح لهذه القضية الحضارية المعقدة، وتبسيط لها... ولو كان كذلك لم يدخل رسول الله2 في عشرات الغزوات والسرايا خلال عشرة سنوات قضاهن في المدينة بعد الهجرة.
إنّ مواقع السلطة والقرار لا يكتسبها الإسلام بغير القوّة، ولا يحافظ عليها من دون القوّة.
إذن، لكي تنطلق حركة التوحيد على وجه الأرض، لابدّ أن تنطلق من موقع القوة والسلطة والقرار، وهذه المواقع ليست شواغر وفراغات بطبيعة الحال، وإنما يحتلّها الشرك والجاهلية... فقد كانت مكّة موقعاً لنفوذ المشركين، والجزيرة العربية موقعاً لنفوذ المشركين واليهود والنصارى، وإيران موقعاً لنفوذ المجوس وسلاطين آل ساسان.
وبلاد الشام (الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان) موقعاً لنفوذ الروم الشرقية، وهكذا مصر وسائر بلاد شمال أفريقيا والمغرب الإفريقي وشرق أفريقيا، ولم يكن الإسلام يتقدّم في هذه الأرض العريضة بغير صراع وقتال على مواقع القوة. ولو كانت مواقع القوة في هذه البلاد العريضة التي حرّرها المسلمون خلال أقل من قرن باقية بيد أقطاب الجاهلية وأئمة الكفر، لم يكن بوسع الإسلام أن يزحف على هذه الأقاليم العريضة في آسيا وأفريقيا، ويحرر الناس من الإصر والأغلال في أقل من قرن.
ولا يتقدّم الإسلام إلى موقع من هذه المواقع إلاّ بانسحاب الجاهلية من نفس الموقع، فلا يجتمع الإسلام والجاهلية في موقع واحد للقوّة والقرار أبداً. والتعايش النصفي بين الإسلام والجاهلية في بعض مواقع القرار في واقعنا السياسي اليوم حالة مؤقتة تعبّر عن تقدم إحدى الحركتين وانسحاب الأخرى بالتدريج، وحالة التدرج حالة مؤقتة بالضرورة.
وعليه، فإن الصراع على موقع القوة، والقرار، والمال، والإعلام، والعسكر من حتميات التاريخ والمجتمع.
والقرآن الكريم يقرّر حتمية الصراع بين هذين المحورين بشكل جازم.
يقول تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}( [5]).
ولذلك فالتفكير في اللقاء والتفاهم والحلول النصفية مع الكفر والطاغوت تفكير فيه كثير من التسطيح وتبسيط القضايا والضعف والهزيمة النفسية.
وقد صدق ذلك الاعرابي الذي اكتشف بفطرته هذه الحقيقة حينما قال: (إن هذا الدين تخافه الملوك)، بعد ما سمع آيات من القرآن من رسول الله2.
الصراع بين التوحيد والشرك ليس على المال والسلطان:
وبناء على هذا الفهم فلا يمكن أن نقول: إن سبب الصراع بين حركة التوحيد وحركة الشرك هو المال والسلطان.
لأن الصراع بين التوحيد والشرك صراع حضاري، ليس على المال والسلطان، وليس على مساحة من الأرض وآبار من النفط ليمكن الوصول فيه إلى التفاهم والحلول الوسطية. وإنما الصراع فيه على نفي كل سلطان وحكم عن حياة الإنسان، وحصر الحكم والولاية لله تعالى في حياة الإنسان. ومثل هذا الصراع، صراع حضاري عميق، لا ينتهي إلاّ بهدم كل سلطان عدا سلطان الله، وتحكيم حكم الله وأمره على حياة الإنسان بشكل مطلق، وهذا الصراع يكون عادة صراعاً حضارياً شرساً، أشرس ما يكون الصراع في حياة الإنسان( [6]).
ولو كان هذا الصراع على المال والسلطان لأمكن أن يتفاهما، ويصلا إلى حدّ من التفاهم، ولكن الصراع حول حاكمية الله، وهذا صراع حضاري لا يمكن التفاهم حوله، فلا تنازل ولا تفاهم، ولا مصالحة، ولا مهادنة.
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ* وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}( [7]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[5]ـ النساء: 76 .
[6]ـ في رحاب القرآن 9: 88 ـ 89 .
[7]ـ الكافرون: 1 ـ 6 .
والأنبياء^ في هذا الصراع يطلبون المال والسلطان، بلا ريب، ويستولون عليهما، ولكن ليس لأنهما غاية في هذا الصراع، بل لأنّ الصراع ليس صراعاً نظرياً، وإنما هو صراع ميداني، وبالمال والسلطان تتحقق حاكمية الله على وجه الأرض.
نعم هناك حالات سلام ومصالحة وتحالف مع الكفر والاستكبار، كما صنع رسول الله2، مع قبائل من اليهود ومع قريش، ولكن لا تحمل هذه الحالات نظرياً عندنا، معنى إمكانية الوصول إلى تفاهم دائم وصلح دائم مع الكفر... فإنّ الكفر لا محالة يخترق هذا العهود وينقضها، كما صنعوا بعهودهم مع رسول الله2... هذا أمر مؤكد، وفائدة الصلح والمصالحة أنها تهيئ لجبهة التوحيد فترة من الوقت، تستعيد منها ما استهلكت الحروب من قدراتها وكفاءتها.
فليس إذن معنى هذا الكلام: إن حركة التوحيد لا تدع السلاح، ولا يتقبل الصلح من أعدائها أو تنقض العهود والمواثيق الدولية... كلا، وإنما معنى ذلك أن تفهم هذه الجبهة حقيقية العلاقة بين الجبهتين، ولا تغرّها تصريحات العدو السلمية... وتبقى هذه الجبهة من ساحة الصراع تستجيب لنداءات الصلح لو وجدت في ذلك مصالحها، وتدخل في عهود هدنة وصلح، ولا تبادر بنقضها أبداً، ولكنها في نفس الوقت تعرف أن جبهة الاستكبار لا محالة تنقض هذه العهود وتمارس التخريب والإفساد والصد عن سبيل الله، وتعد العدة من الآن للجولة القادمة.
كيف واجه الإسلام هذين التحديين؟
تقدّم سابقاً أنّ حركة الأنبياء^ ترسم لنا المعنى الحقيقي لـ (الصراع) و (التاريخ)، وترسم سنن الصراع في جبهة التوحيد وفي جبهة الشرك، من خارج كيان الدعوة من داخله.
وقد واجه الإسلام التحدي الأول (من الخارج) في مكة والمدينة مع عتاة قريش، وبعد ذلك إتسعت دائرة المعركة وشملت اليهود والائتلاف الواسع بين مشركي قريش واليهود في الأحزاب، وانتهى هذا الشوط بهزيمة الشرك وتحالفاته ضد حركة التوحيد.
وفي هذه المرحلة عندما انهزمت الجبهة المعادية للتوحيد هزيمة منكرة، ولم تعد هذه الجبهة قادرة على المقاومة والصمود والمشاكسة في مسيرة الدعوة، كما حدثت هذه الهزيمة في صفوف المشركين والكفار، بعد فتح مكة والطائف، وكما حدثت هذه الهزيمة المنكرة في جيش فرعون وملأه بعد ما أهلك الله فرعون وجنده في البحر... أقول: عندما تنهزم جبهة الشرك في التقابل مع جبهة التوحيد لا تعطل مشروعها في التخريب والإفساد في جبهة التوحيد، وإنما تبادر هذه المرّة بحركة سريعة إلى تغيير موقعها في تخريب الدعوة ومهاجمتها إلى المواجهة من الداخل تحت غطاء الدين، وفي الحقيقة تنقل هذه الجبهة مهمتها التخريبية من خارج الدعوة إلى داخل الدعوة، بعد أن يتبين لهم أن محاربة الدعوة من الخارج أصبحت أمراً غير ممكن على الإطلاق( [8]).
وفي هذه المرحلة يكون الهدف القضاء على نقاوة الدين وسلامته وأصالته واستقامته وربانيته.
وأبرز مواقع صراع المرحلة الثانية في تاريخ الإسلام (صفين) و(الطف).
فإنّ معارك (صفين)، و(الطف) امتداد لــ (بدر)، و(الأحزاب)، و(حنين).
تحوّل بذلك المشركون إلى منافقين، يوجهون ضرباتهم إلى الإسلام من الداخل.
والآن نتساءل: أيهما أخطر على الإسلام: الذين حاربوا رسول الله2 تحت لواء أبي سفيان في بدر واُحد والأحزاب؟ أم الذين حاربوا وصيّ رسول الله وابن رسول الله2 في صفين والطف، تحت لواء نجل أبي سفيان وحفيده؟ وأيّهما أشرس؟
أحيل الجواب إلى عمار بن ياسر& في القضية التاريخية التالية التي يرويها نصر بن مزاحم في كتاب (صفين).
فقد عاش عمار بن ياسر& المواجهتين، وعاش المعركتين، في مرحلة الصراع على التنزيل، وفي مرحلة الصراع على التأويل، فقد عاش بدراً واُحداً والأحزاب وعاش (صفين).
كان عمار بن ياسر يقول عن راية عمرو بن العاص في معركة صفين لمن تسرب إلى نفسه الشك بعد أن سمعهم يرفعون الآذان، ويقرأون القرآن، ويقيمون الصلاة، كما يرفع الناس في جيش علي الآذان، ويقرأون القرآن، ويقيمون الصلاة !!!
قال له عمار بن ياسر&:
هل تعرف صاحب الراية السوداء المقابلتي (المقابلة لي) فإنها راية عمرو بن العاص، قاتلتها مع رسول الله2 ثلاث مرات وهذه الرابعة، ما هي بخيرهن ولا أبرهن، بل هي شرّهن وأفجرهن.
ثم قال له:
أشهدت بدراً وأحداً وحنيناً أو شهدها لك أب فيخبرك عنها قال: لا.
قال: فإن مراكزنا على مراكز رايات رسول الله2 يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين، وإن هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب( [9]).
عودة إلى عاشوراء
عرفنا لحد الآن ثلاث نقاط هي:
1 ـ إن الصراع بين التوحيد والشرك صراع حضاري
ـــــــــــــــــــــــــ
[8]ـ في رحاب القرآن9: 92 .
[9]ـ وقعة صفين لنصر بن مزاحم: 321 .
وليس على المال والسلطان، وإذا كانت حركة التوحيد تطلب المال والسلطان فهو ليتوصل بهما إلى المبادئ والقيم والأصول.
2 ـ إن هذا الصراع صراع حتمي، لابدّ منه، ولا يخلو منه التاريخ.
3 ـ الصراع بين التوحيد والشرك يمر بمرحلتين، مرحلة التنزيل ومرحلة التأويل... ولا تَقِلّ خطورة وضراوة هذه المعركة، في مرحلة التأويل، عنها في مرحلة التنزيل.
والآن نقول: إن الذين حاربوا رسول الله2 في بدر وحنين لم يتغيّروا عن مواقعهم ومراكزهم كما يقول عمار& في صفين، وتعبير عمارK دقيق (على مراكزهم يوم بدر وأحد).
هؤلاء دخلوا الإسلام مرغمين، لكنهم التفّوا على الإسلام في صفين والطف، وحاولوا أن يستعيدوا أمرين:
1 ـ مواقعهم التي سلبها الإسلام عنهم.
2 ـ القيم الجاهلية، والعشائرية، والطبقية، والمنكرات التي كانوا يمارسونها قبل الإسلام، ومنعها الإسلام.
حاولوا أن يستعيدوا كل ذلك من خلال الإسلام، وباسم الإسلام والتوحيد، وتحت غطاء الإسلام لا باسم الجاهلية.
وهذا الخطر هو الخطر الحقيقي الذي كان يهدد الإسلام والذي عرفه علي والحسن والحسين^، فحاولوا مواجهته في (صفين) و(كربلاء).
الدور التخريبي لبني أميّة في الإسلام
بنو أمية لم يكونوا تجمعاً ساذجاً وبسيطاً وإنما كانوا تجمعاً سياسياً وحركياً.
وكانوا حركة سياسية بالتعبير الدقيق لهذه الكلمة، تخطط لاستعادة مواقعها السياسية والسلطوية في المجتمع الإسلامي. وأبو سفيان كان الرأس، والعقل المخطط لهذا الأمر، والعقل الثاني معاوية، وعمر بن العاص العقل الثالث حيث كان في خدمة بني أمية وان لم يكن منهم.
كان أبو سفيان عقلاً سياسياً، يخطط لكي يصل الأمويون إلى الحكم.
وعندما تولى الخليفة الثالث أمور المسلمين دخل أبو سفيان على عثمان وقال: قد صارت إليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك ولا أدري ما جنة ولا نار. فصاح به عثمان: قم فعل الله بك وفعل( [10]).
وعمل بنو أمية على عزل الطبقة المستضعفة التي رفعها الإسلام إلى قمة الهرم
ــــــــــــــ
[10]ـ الاستيعاب لابن عبد البر4: 87 .
الاجتماعي مثل سلمان وأبي ذر وعمار، فقد وضع بنو أمية هذه الشريحة مرّة أخرى وعزلوها عزلاً كاملاً.
وأعادوا إلى قمة الهرم الطبقة التي وضعها الإسلام، واستعادت هذه الطبقة كل مواقعها في عهد معاوية ويزيد، وما بعد ذلك واستعادت قيم الجاهلية ومنكراتها.
والفرق بين معاوية ويزيد أن يزيد كان يشرب الخمر ويعلن ذلك، وكان يأتي بالمنكرات جهاراً، ولكن معاوية كان يمارسها بالخفاء.
أقرأوا (الأغاني) لأبي الفرج، و(تاريخ دمشق) لابن عساكر لكي تعرفوا كيف حاولوا أن يضعوا من مكان (رسول الله2).
وسوف تقرأون أن الحجاج كان يقول: إن خليفة أحدكم خير من رسوله( [11])، مشيراً إلى أن الخليفة أفضل من رسول الله2.
وكيف حاولوا إثارة النعرة القومية فيما بين المسلمين والتمييز فيما بين المسلمين العرب وغير العرب من الموالي، ومحاولة طرد المسلمين من غير العرب من الساحة السياسية، بل من حواضر العالم الإسلامي أحياناً، كما حدث في عهد معاوية والحجاج، وعدم الاعتراف بإسلامهم لئلاّ تسقط عنهم الجزية.
وكانوا يقولون: لا يقطع الصلاة إلاّ ثلاثة: كلب أو حمار أو مولى( [12]).
وكانوا يمارسون إذلال الأمة بالإرهاب.
فقد سلك حكام بني أمية مسالك عجيبة في إذلال الأمة وتحطيم شخصيتها المعنوية لغرض السيطرة عليها، وتمكين قبضتهم منها، وتصفية كل حالات المعارضة والتمرد ضد النظام.
وبلغ بهم الأمر أنهم كانوا يمارسون استرقاق المسلمين، وسبي المسلمات المؤمنات، واسترقاقهن، وعرضهن في الأسواق.
وبسر بن أرطأة هو أول من اقترف هذه الجريمة في تاريخ الإسلام، فسبى المؤمنات من همدان المعروفة بولائها لأهل البيت^، وعرَضَهُنْ في الأسواق للبيع، وكان الناس يكشفون عن سيقانهن ليشتروهن، كما يصنع تجار الرقيق في أسواق النخاسة والرقيق، وكما فعل ذلك بسر بن أرطأة عندما أرسله معاوية إلى اليمن بالمسلمات المؤمنات اليمانيات، سباهن وأقامهن في الأسواق للبيع.
وهكذا كانت سيرة بني أمية في إذلال المسلمين، واسترقاقهم، واستعبادهم، كالمشركين تماماً، وقد أسرفوا في ذلك أيّما إسراف، حتى قالوا: إن بني أمية كانت تبيع الرجل في دين يلزمه، وترى إنه يصير بذلك رقيقاً( [13]).
ــــــــــــــ
[11]ـ تهذيب تاريخ دمشق 4: 72، شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد15: 242.
[12]ـ وارث الأنبياء: 164 .
[13]ـ شرح النهج لابن أبي الحديد 15: 241 ـ 242 .
وأفظع من ذلك كله وأبلغ في إذلال المسلمين، ما كان من فعل مسلم بن عقبة (وكان يسمى بمسرف) قائد جيش بني أميّة في عهد يزيد بن معاوية إلى المدينة المنورة، في وقعة الحرة المعروفة ... عندما احتل يزيد المدينة المنورة، وأباحها لجيشه، حيث دعا المسلمين إلى بيعة يزيد بن معاوية على دمائهم وأموالهم وأهليهم. وأنهم عبيد ليزيد بن معاوية يقضي في دمائهم وأموالهم وأنفسهم بما شاء( [14]). وعلى هذه الطريقة جرى بنو أمية في إذلال المسلمين وإخضاعهم لنزواتهم، ورغباتهم، وتصفية حالات المعارضة السياسية والعسكرية، وتحكيم قبضتهم على مصائر الناس وأقدارهم( [15]).
وكانوا يمارسون ألوان الدعارة والابتذال في قصورهم.
ولعل الخلاعة والمجون يعتبر من أبرز سمات بني أمية.
وقد دخل الغناء والطرب والشرب والسكر والاستهتار على أيدي بني أمية إلى الإسلام من باب واسع، حتى أنهم كانوا يمارسون الغناء والطرب واستدعاء المغنين والمطربين في نوادي مفتوحة للطرب في خيام في (قلعة التوحيد والعبادة) وفي سرادقات منى.
وزاول الحكام من بني أمية ألواناً مختلفة من اللهو والمجون والخلاعة على مرأى ومسمع من المسلمين وبصورة مكشوفة وعارية، وأدخلوا الفساد إلى قصر الخلافة بأبشع صوره وأشكاله.
وكان الشرب والسكر أمراً شائعاً في قصور الخلفاء من بين أمية، وكان معاوية يمارس هذا المنكر في الخفاء، فلما تولّى يزيد ابنه أمر الخلافة أعلن هذا المنكر إعلاناً، وجرى من بعده خلفاء بني أمية على طريقته، إلاّ ما كان من أمر عمر بن عبد العزيز. وكان معاوية أول خليفة يدخل الخمر في قصره( [16]).
يقول الجاحظ: وكان يزيد لا يمسي إلاّ سكراناً، ولا يصبح إلاّ مخموراً.
وكان عبد الملك بن مروان يسكر في كل شهر مرة حتى لا يعقل في السماء هو أو في الماء.
وكان الوليد بن عبد الملك يشرب يوماً ويدع يوماً.
وكان سليمان بن عبد الملك يشرب في كل ثلاث ليال ليلة
ــــــــــــــــــــ
[14]ـ الكامل لابن الأثير4: 118، ط 1385هـ ، الإمامة والسياسة لابن قتيبة1: 214، ط. 1388هـ، وتاريخ اليعقوبي2: 237، ط 1394هـ ، ومروج الذهب3: 70، ط 1404هـ .
[15]ـ وارث الأنبياء: 65 ـ 67 .
[16]ـ وارث الأنبياء: 49 .
وكان هشام يشرب في كل جمعة.
وكان يزيد بن الوليد، والوليد بن يزيد يدمنان اللهو والشراب. فأما يزيد بن الوليد فكان دهره بين حالتي سكر وخمار، ولا يوجد أبداً إلاّ ومعه إحدى هاتين، وكان مروان بن محمد يشرب ليلة الثلاثاء، وليلة السبت( [17]).
وقد خرجت ظاهرة الشرب والسكر عند الخلفاء في عهد يزيد بن معاوية من طور الكتمان إلى طور الإعلان والاجهار، وكان يزيد بن معاوية أول خليفة يعلن اقتراف هذا المنكر إعلاناً، ويتحدى به مشاعر المسلمين( [18]).
وأما الغناء، فقد ولع به حكام بني أمية وكان يحمل إلى قصر الخليفة المغنون من سائر البلاد، فيستمع إليهم الخليفة فيجيزهم من أموال بيت مال المسلمين المبالغ الكبيرة، ويستبقي عنده من ينتقي منهم، ويصرف منهم من يشاء.
وأما عن مجون الخلفاء من بني أمية وخلاعتهم واستهتارهم فحدّث ولا حرج، وما نقرأه في التاريخ لا يكاد أن يصدقه الإنسان، لولا أن المؤرخين من كل المذاهب يتفقون على مجمل ما كان يجري في قصر الخلافة الأموية من مجون وخلاعة( [19]).
وكان كل ذلك يتم من خلال موقع الخلافة الإسلامية، خلافة رسول الله2.
لقد كان هذا الخط الأموي تهديداً حقيقياً للإسلام في الصميم... وقد عرف الحسين× هذه الحقائق جميعاً.
كيف ولماذا واجههم الحسين× في كربلاء؟
وكان هَمُّه× إسقاط آل أمية ويزيد، وسلب الصفة الشرعية عنهم، وتجريدهم عن موقع الشرعية.
وذلك أن هذا الانحراف كان ينحدر من موقع الخلافة الإسلامية، الذي كان يمتلك في نفوس المسلمين رصيداً كبيراً من الشرعية والقدسية، وقد كان بنو أمية يعتمدون كثيراً عنصر الشرعية في موقعهم السياسي والاجتماعي، وكانوا يوحون إلى الناس بطريق أو آخر أن موقع الخلافة أرفع من موقع الرسالة فيقول قائلهم: (إن خليفة أحدكم أفضل من رسوله) كما ذكرنا سابقا.
وكانوا يرون في هذا الموقع أداةً لتنفيذ طموحاتهم ورغباتهم، بأيسر الطرق، وأسهلها... فلذلك دأب معاوية على التسلط على هذا الموقع لنفسه ولابنه يزيد من بعده ولبني أمية من بعد يزيد.
وكان هذا الموقع الذي حرص عليه حكّام بني أمية من أكبر الأخطار التي تلحق
ــــــــــــــــــــــــــ
[17]ـ التاج في أخلاق الملوك: 151 .
[18]ـ وارث الأنبياء: 51 .
[19]ـ راجع البداية والنهاية لابن كثير 8: 140، والأغاني للأصفهاني7: 17، 47، 59، 60، 61. ط. دار الكتب.
[20]ـ مقتل الحسين× للخوارزمي (المتوفى 568هـ) تحقيق الشيخ محمد السماوي:1: 184.
الإسلام من جانب حكومة بني أمية. فقد كان الانحراف ينحدر إلى الناس من قصور الخلفاء، في إطار من الشرعية، ومن موقع خلافة رسول الله2.
وكان هناك في قصور الخلفاء من يبرّر ويوجّه هذا الانحراف، ويعطيه الصبغة الشرعية من علماء البلاط... وبالتالي كان هذا الانحراف ينعكس وينسحب على الإسلام، ويفقد الإسلام بذلك أصالته ونقاءه على أوسع صعيد وهو وسط الأمة.
وقد حرص الإمام× في حركته على كسر هذا الإطار الشرعي الذي كان يحتمي به حكام بني أمية، وسلب صفة الشرعية من حكومة بني أمية، وتجريدها عن القدسية الشرعية التي كان يحرص عليها بنو أمية كل الحرص... وبالتالي تفويت الفرصة على الحكم الأموي في تحريف الإسلام.
وكان الإمام يجاهر بهذه الحقيقة جهاراً، ويعلن برأيه في يزيد، وعدم أهليته للخلافة، وينال منه، كلما واتته فرصة.
وقد أعلن رأيه هذا في يزيد عندما دعاه الوليد بن عتبة للبيعة، ومروان حاضر، قال× لـه بعد كلام طويل، وهو يريد أن يسمع مروان رأيه في يزيد، وموقفه من البيعة:
>أيها الأمير إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الرحمة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل النفس، معلن بالفسق، فمثلي لا يبايع مثله<( [20]).
وخاطب معاوية، عندما خاطبه معاوية في أمر ولاية العهد ليزيد من بعده، ومَدَحَهُ للحسين×:
>وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمة محمد2 أتريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه. فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن والقينات ذوات المعازف وضروب الملاهي تجده باصراً ودع عنك ما تحاول.
وما أغناك أن تلقى الله عزّوجل (من) جور هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه... وما بينك وبين الموت إلا غمضة<( [21]).
وقد كان لخروج الإمام× على يزيد، ومحاربته لجيش ابن زياد بعد رفض البيعة ليزيد، واستشهاده هو وأهل بيته وأصحابه بتلك الصورة المفجعة على يد جيش الخلافة... كان لذلك كله أثر كبير في إسقاط شرعية الخلافة، وتجريدها
ــــــــــــــــــ
[20]ـ مقتل الحسين× للخوارزمي (المتوفى 568هـ) تحقيق الشيخ محمد السماوي:1: 184.
[21]ـ الإمامة والسياسة 1: 186، تاريخ اليعقوبي 2: 228، أعيان الشيعة 1: 583، الغدير 10: 248 .
[22]ـ وارث الأنبياء: 219 ـ 221 .
عن الشرعية والقدسية التي كانت الخلافة تتمتع بها( [22]).
وبذلك يمكن القول أن مُهَمّة عاشوراء وكربلاء كانت بالدقة انتزاع الصفة الشرعية من آل أمية، وتجريدهم من الشرعية الإسلامية.
عودة إلى الدكتور عبد العظيم الديب
يقول الدكتور عبد العظيم الديب أنَّ كربلاء عثرة على الطريق، فكيف نفسر ذلك؟
أقول: إذا كان يقصد بالعثرة بني أمية فإنه لم يفهم دور بني أمية في تخريب الإسلام.
بنو أمية لم يكونوا عثرة وإنما كانوا عقبة.
وإذا كان يقصد بذلك وقعة كربلاء، فهو لم يفهم التاريخ ولا الإسلام.
فلو كان بنو أمية يمضون في طريقهم، ويستبدلون ما شاءوا من قيم الإسلام وأفكاره، من موقع الشرعية، لم يبق اليوم من الإسلام شيء.
إنّ نقاء الإسلام الذي يعرفه المسلمون جميعاً شيعة وسُنّة بمفاهيمه النقية الناصعة، هو من بركات نهضة الحسين× .
إن الحسين× أفلح في إسقاط شرعية بني أمية، واستطاع أن ينتزع الشرعية من بني أمية ويجرّدهم عنها.
ومنذ عاشوراء نجد في الإسلام خطين: خط الخلفاء، وخط الفقهاء.
ونجد أن الخط الثاني يحاول أن يبتعد عن خط الأول.
بينما كان الأمر قبل كربلاء على شاكلة أخرى، فقد كانت الخلافة تمثل كلّ الشرعية الإسلاميةّ وتمثل السيادة والشرعية في وقت واحد... تمثل شرعية الفقيه والحاكم معاً.
كان الخليفة يمثل دورين متضامنين، الفقاهة والحاكمية.
وبعد حادث كربلاء تجردت الخلافة الأموية عن الجانب الفقهي، (الشرعي)، وبقى الخلفاء يمارسون السلطان والسيادة الزمنية، كما يمارسه الحكام في سائر الأنظمة، وتكوّن إلى جانب الخلفاء خط آخر هو خط الفقهاء.
وكان الناس يستمدون الشرعية من هذا الخط، وكان الفقهاء يحرصون أن يبتعدوا عن الخلفاء، وعلى قدر بعدهم من الخلفاء كان الناس يقبلون عليهم، وهكذا جرّدت كربلاء خلفاء بني أمية من صبغة خلافة رسول الله2 ولم يبق لهم من هذا العنوان الرفيع إلا الاسم، وهذا هو الأمر الذي حصل في كربلاء، وقد حفظت كربلاء (الإسلام) من تسرّب الانحراف والفساد من جانب خلفاء أمية، وقصورهم، ولهوهم، وفجورهم، وظلمهم، واستهتارهم.
ــــــــــــــــــــــــ
[22]ـ وارث الأنبياء: 219 ـ 221 .
source : الشيخ محمد مهدي الآصفي