فرق الزيدية في كتب تاريخ العقائد :
قد ذكر موَرخو العقائد ، للزيدية فرقاً بين مقتصر على الثلاثة ، وإلى مفيض إلى ستة ، وثمانية ، وإليك نصوصهم حسب التسلسل الزمني في التأليف :
1 ـ قال الاَشعري : « والزيدية » ست فرق :
فمنهم : الجارودية :
أصحاب « أبي الجارود » وإنّما سمّوا « جارودية » لاَنّهم قالوا بقول : « أبي الجارود » يزعمون أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصّ على علي بن أبي طالب بالوصف لا بالتسمية ، فكان هو الاِمام من بعده وأنّ الناس ضلّوا وكفروا بتركهم الاقتداء به بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم « الحسن » من بعد علي هو الاِمام ثم « الحسين » هو الاِمام من بعد الحسن.
وافترقت الجارودية فرقتين : فرقة زعمت أنّ علياً نصّ على إمامة « الحسن » وأنّ الحسن نص على إمامة « الحسين » ثم هي شورى في ولد الحسن وولد الحسين فمن خرج منهم يدعو إلى سبيل ربّه وكان عالماً فاضلاً فهو الاِمام ، وفرقة زعمت أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نص على « الحسن » بعد علي وعلى « الحسين » بعد الحسن ليقوم واحد بعد واحد.
وافترقت الجارودية في نوع آخر ثلاث فرق : فزعمت فرقة أنّ « محمد بن عبد اللّه بن الحسن » لم يمت وأنّه يخرج ويغلب ، وفرقة أُخرى زعمت أنّ « محمد بن القاسم » صاحب الطالقان حي لم يمت وأنّه يخرج ويغلب ، وفرقة قالت مثل ذلك « يحيى بن عمر » صاحب الكوفة.
والفرقة الثانية من الزيدية ، « السليمانية » :
أصحاب « سليمان بن جرير الزيدي » يزعمون أنّ الاِمامة شورى وانّها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين ، وانّها قد تصلح في المفضول وإن كان الفاضل أفضل في كل حال ، ويثبتون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر.
وحكى « زرقان » عن سليمان بن جرير أنّه كان يزعم أنّ بيعة أبي بكر وعمر خطأ لا يستحقان عليها اسم الفسق من قبل التأويل ، وانّ الاَُمّة قد تركت الاَصلح في بيعتهم أياهما ، وكان سليمان بن جرير يقدم على عثمان ويكفره عند الاَحداث التي نقمت عليه ، ويزعم أنّه قد ثبت عنده أنّ علي بن أبي طالب لايضل ولاتقوم عليه شهادة عادلة بضلالة ، ولايوجب علم هذه النكتة على العامة إذ كان إنّما تجب هذه النكتة من طريق الروايات الصحيحة عنده.
والفرقة الثالثة : من الزيدية : « البترية » :
أصحاب « الحسن بن صالح بن حي » وأصحاب « كثير النواء » وإنّما سمّوا « بترية » لاَنّ « كثيراً » كان يلقب بالاَبتر ، يزعمون أنّ علياً أفضل الناس بعد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأولاهم بالاِمامة ، وأنّ بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ ، لاَنّ علياً ترك ذلك لهما ، ويقفون في عثمان وفي قتلته ولايقدمون عليه بإكفار ، وينكرون رجعة الاَموات إلى الدنيا ، ولايرون لعلي إمامة إلاّ حين بويع ، وقد حكي أنّ « الحسن بن صالح بن حي » كان يتبرّأ من عثمان رضوان اللّه عليه بعد الاَحداث التي نقمت عليه.
والفرقة الرابعة من الزيدية :
« النعيمية » : أصحاب « نعيم بن اليمان » يزعمون أنّ علياً كان مستحقاً للاِمامة وأنّه أفضل الناس بعد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأنّ الاَُمّة ليست بمخطئة خطأ أثم في أن ولّت أبا بكر وعمر رضوان اللّه تعالى عليهما ، ولكنها مخطئة خطأ بيّناً في ترك الاَفضل وتبرّأوا من عثمان ومن محارب علي وشهدوا عليه بالكفر.
والفرقة الخامسة من الزيدية : يتبرّأون من أبي بكر وعمر ولا ينكرون رجعة الاَموات قبل يوم القيامة.
والفرقة السادسة من الزيدية : يتولّون أبا بكر وعمر ، ولايتبرّأون ممن برىء منهما ، وينكرون رجعة الاَموات ويتبرّأون ممن دان بها وهم « اليعقوبية » أصحاب رجل يدعى « يعقوب » (1).
2 ـ قال المسعودي : إنّ الزيدية كانت في عصرهم ثمانية فرق : أوّلها الفرقة المعروفة بـ « الجارودية » وهم أصحاب أبي الجارود زياد بن المنذر العبدي ، وذهبوا إلى أنّ الاِمامة مقصورة في ولد الحسن والحسين دون غيرهما ، ثم الفرقة الثانية المعروفة بـ « المرئية » ، ثم الفرقة الثالثة المعروفة بـ « الاَبرقية » ، ثم الفرقة الرابعة المعروفة بـ « اليعقوبية » وهم أصحاب يعقوب بن علي الكوفي. ثم الفرقة الخامسة المعروفة بـ « العقبية » ثم الفرقة السادسة المعروفة بـ « الاَبترية » وهم أصحاب كثير الاَبتر والحسن بن صالح بن حي. ثم الفرقة السابعة المعروفة بـ « الجريرية » وهم أصحاب سليمان بن جرير. ثم الفرقة الثامنة المعروفة بـ « اليمانية » وهم أصحاب محمد بن يمان الكوفي ، وقد زاد هوَلاء في المذاهب وفرّعوا مذاهب على ما سلف من أُصولهم (2).
3 ـ قال نشوان الحميري : افترقت الزيدية ثلاث فرق : بترية وجريرية
1 ـ الاَشعري : مذاهب الاِسلاميين : 66 ـ 69.
2 ـ المسعودي : مروج الذهب : 2/183.
وجارودية. فقالت البترية : إنّ علياً ( عليه السلام ) كان أفضل الناس بعد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأولاهم بالاِمامة ، وأنّ بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ ، لاَنّ علياً ( عليه السلام ) سلم لهما ذلك ، بمنزلة رجل كان له حقّ على رجل فتركه له ، ووقفت في أمر عثمان ، وشهدت بالكفر على من حارب علياً ، وسمّوا البترية ، لاَنّهم نسبوا إلى كثير النواء ، وكان المغيرة بن سعيد يلقب كثيراً بـ « الاَبتر ».
وقالت الجريرية : إنّ علياً كان الاِمام بعد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنّ بيعة أبي بكر وعمر كانت خطأ لا يستحق عليه اسم الكفر ، ولا اسم الفسوق ، وأنّ الاَُمّة قد تركت الاَصلح ، وبرئت من عثمان سبب أحداثه ، وشهدت عليه وعلى من حارب علياً بالكفر.
وقالت الجارودية : إنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصّ على علي ( عليه السلام ) بالاِشارة والوصف دون التسمية والتعيين ، وإنّه أشار إليه ووصفه بالصفات التي لم توجد إلاّ فيه ، وإنّ الاَُمّة ضلت وكفرت بصرفها الاَمر إلى غيره ، وإنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصّ على الحسن والحسين ( عليهما السلام ) بمثل نصّه على علي ، ثم إنّ الاِمام بعد هوَلاء الثلاثة ليس بمنصوص عليه ، ولكن الاِمامة شورى بين الاَفاضل من ولد الحسن والحسين ، فمن شهر منهم سيفه ودعا إلى سبيل ربّه وباين الظالمين ، وكان صحيح النسب من هذين البطنين ، وكان عالماً زاهداً شجاعاً ، فهو الاِمام.
وافترقت الجارودية في نوع آخر ثلاث فرق :
أ ـ فرقة زعمت أنّ محمد بن عبد اللّه النفس الزكية بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب لم يمت ولا يموت ، حتى يملاَ الاَرض عدلاً ، وأنّه القائم المهدي المنتظر عندهم ، وكان محمد بن عبد اللّه خرج على المنصور فقتل بالمدينة.
ب ـ وفرقة زعمت أنّ محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب ، حي لم يمت ولا يموت ، حتى يملاَ الاَرض عدلاً ، وأنّه المهدي المنتظر عندهم ، وكان محمد بن القاسم هذا خرج على المعتصم بالطالقان فأسره المعتصم ، فلم يدر بعد ذلك كيف خبره.
وفرقة زعمت أنّ يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حي لم يمت ، وأنّه القائم المنتظر عندهم ، ولايموت حتى يملاَ الاَرض عدلاً ، وكان يحيى بن عمر هذا خرج على المستعين ، فقتل بالكوفة. هذه رواية أبي القاسم البلخي عن الزيدية ، وليس باليمن من فرق الزيدية غير الجارودية ، وهم بصنعاء وصعدة وما يليهما (1).
دراسة حول فرق الزيدية :
قد تعرفت على كلمات الموَرّخين في فرق الزيدية ، فهي بين ما يحصرهم في ثلاث ، إلى آخر يعدهم ست فرق ، إلى ثالث يحسبهم ثماني فرق ، وهذا الاختلاف يكشف عن وجود غيوم تُلبّد سماء الواقع ، ولكن الذي يهمنا هنا ، مسألة أُخرى ، أنّ هذه الفرق ، كلها قد بادت وذهبت أدراج الرياح مع بقاء الزيدية في اليمن ، والذي يميز الزيدية عن سائر الفرق الاِسلامية ليس شيء مما ورد في عقائد هذه الفرق وإنّما هو عبارة عن القول بإمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ووجوب الخروج ـ الثورة ـ على الظلمة ، واستحقاق الاِمامة بالفضل والطلب لا بالوراثة مع القول بتفضيل علي كرم اللّه وجهه وأولويته بالاِمامة وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين (2)
1 ـ نشوان الحميري : الحور العين : 155.
2 ـ علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين : الزيدية نظرية وتطبيق : 11 المطبوع عام 1405 هـ ط. عمان.
ولايوجد اليوم في اليمن بين الزيدية من المفاهيم الكلامية المنسوبة إلى الفرق كالجارودية ، أو السليمانية ، أو البترية أو الصالحية ، إلاّ مفهوم واحد ، وهو المفهوم العام الذي تعرفت عليه وهو القول بإمامة زيد والخروج على وجه الظلمة واستمرار الاِمامة في بطن الحسنين ، وأنـّها بالطلب والفضل وأمّا أسماء تلك الفرق والعقائد المنسوب إليهم فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والموَلّفات في الفرق الاِسلامية كالملل والنحل ونحوها.
فإذا كانت الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين فالبحث عن هذه الفرق من ناحية إيجابياتها وسلبياتها ليس مهماً بعد ما أبادهم الدهر ، وإنّما اللازم دراسة المفهوم الجامع بين فرقهم ، نعم هناك أمرين هامين يجب التنبيه عليهما :
1 ـ في تسميتهم بالزيدية :
إنّ موَرخي العقائد يسمّونهم بالزيدية شأنهم شأن سائر الفرق التابعة لاِمامها من غير فرق بين كونه إماماً في الاَُصول والعقائد كالشيخ الاَشعري ، أو إماماً في الفقه والاَحكام كالحنفي والشافعي ، فتصور لنا هذه التسمية (الزيدية) أنّ هذه الفرق تلقّت أُصولها وفروعها من إمامهم زيد الشهيد ، كما أخذت الاَشاعرة أُصولها من الشيخ الاَشعري ، والحنفية من إمامها أبي حنيفة.
ولكن هذه التسمية بهذا المفاد خاطئة جداً ، لاَنّه لم تكن لزيد عقيدة خاصة في المسائل الكلامية حتى يكون أتباعه عيالاً له في هذا المجال ، كما أنّه لم يكن له كتاب فقهي استدلالي حتى يرجع المقلِّدون ، إليه في الفروع.
نعم إنّ الثابت عن زيد الشهيد ، أنّه كان يقول بالتوحيد والعدل شأن كل علوي يقتفي أثر الاِمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ). فليس القول بهذين الاَصلين دليلاً على أنّهم اقتفوا زيداً في هذين الاَصلين.
كما أنّ الثابت عنه في مجال الفقه يعود إلى المسند الذي تعرفت عليه ، وهو لا يتجاوز عن نقل أحاديث فقهية ، ولا يعلم منه مدى فقاهته واستطاعته في استخراج الفروع من الاَُصول ، وعلى فرض التسليم بذلك فالفقهاء المعروفون بالزيدية ابتداء من الاِمام أحمد بن عيسى ، إلى الاِمام القاسم الرسّـي ، إلى الاِمام يحيى الهادي ، إلى الناصر الاَطروش ، حتى تصل النوبة إلى الاِمام المجتهد يحيى بن حمزة والاِمام المهدي بن المرتضى موَلّف « البحر الزخار » إلى غيرهم من فقهاء كبار ، فهوَلاء لم يعلم من أحوالهم أنّهم اعتمدوا في فتاواهم على فتوى إمام مذهبهم زيد ، بل المعلوم خلافه ، فإنّ الفقه المعروف بالفقه الزيدي إنّما وصل إلى ما وصل من السعة نتيجة جهد هوَلاء الفقهاء الكبار ، فهذا الفقه عطاء بحوثهم الشخصية التي ليس لها صلة بزيد.
ويوَيد ذلك : إنّ المذهب الزيدي يحرم التقليد على كل متمكن من أخذ الحكم من كتاب اللّه وسنة رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو غيرهما من الاَدلّة الشرعية ، ولايبيحه في الفروع إلاّ لغير المتمكن من الاجتهاد ، لقوله تعالى : « فَاسألُوا أهلَ الذِّكْرِ إنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون » (النحل ـ 43) (1).
فإذا كان الاَمر كذلك فالعطاء الموجود في الفقه الزيدي وأُصوله يرجع إلى رجال المذهب الزيدي على اختلاف طبقاتهم ، وهم بين إمام في المذهب كالاِمام القاسم بن إبراهيم المتوفى عام 242 هـ وحفيده الاِمام الهادي يحيى بن الحسين المتوفى عام 298هـ والاِمام الناصر الاَطروش الحسن بن علي المتوفى عام 304هـ.
1 ـ علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين : الزيدية نظرية وتطبيق : 11.
إلى مخرّج للمذهب وهم الذين استخرجوا من كلام الاَئمة أو احتجاجاتهم أحكاماً لاتتعارض مع الكتاب والسنة ومن رجال هذه الطبقة :
1 ـ العلاّمة محمد بن منصور المردي المتوفى حوالي عام 290هـ.
2 ـ العلاّمة أبو العباس أحمد بن إبراهيم المتوفى سنة 353هـ.
3 ـ العلاّمة أحمد بن الحسين بن هارون الحسني المتوفى عام 416هـ.
4 ـ العلامـة أبو طالـب يحيى بـن الحسين بن هرون الحسني المتوفى سنة 424هـ.
إلى محصّل ، وهم الذين اهتموا بتحصيل أقوال الاَئمة وما استخرج منها ، ونقلوها إلى تلامذتهم بطريق الرواية أو المناولة لموَلفاتهم ، منهم :
العلاّمة القاضي زيد بن محمد الكلاوي الجيلي الملقب بحافظ أقوال العترة.
وسيأتي تفصيل طبقات رجال المذهب الزيدي في خاتمة المطاف ضمن الاَمر الثامن (1).
فإذا كان المذهب الزيدي قد نضج في هذه الاَعصار وتبلور في ظل جهود هوَلاء الفطاحل الاَعلام ، فهو عطاء علمائهم ومفكّريهم في الكتاب والسنّة وسائر القواعد الاجتهادية ، ولا يمت إلى إمامهم زيد بصلة.
فعلى ذلك ، فإنّ هوَلاء في فقههم قبل كونهم زيديين ، رسّيون ، انتساباً إلى الاِمام الاَوّل القاسم بن إبراهيم ، وهادويون انتساباً إلى الاِمام الثاني يحيى بن الحسين ، أو ناصريّون انتساباً إلى الاِمام الناصر الاَطروش الحسن بن علي.
وممن يدعم تلك الفكرة عالم اليمن الحالي السيد مجد الدين الموَيدي في تقديمه على كتاب « الزيدية نظرية وتطبيق » يقول : فأمّا المذهب الفقهي المعروف المتداول بين أهل الفقه في اليمن فليس المراد به المذهب الزيدي كما يتوهم ولا مذهب جملة أهل البيت ، بل المراد به في الاَصل كما نص عليه الاَعلام المحقّقون قواعد وأُصول أخذوها من أقوال الاِمام القاسم بن إبراهيم وأولاده وحفيده الهادي
1 ـ لاحظ ص 524.
إلى الحقّ وولديه المرتضى والناصر عليهم السلام نصاً أو تخريجاً ، ثم توسعوا في ذلك فصاروا يذهِّبون على ما ترجح عندهم على مقتضى تلك القواعد وإن خالف نصّ الاِمام الهادي إلى الحقّ ( عليه السلام ) ، الذي هو إمام المذهب على التحقيق فضلاً عن غيره ، ولهذا رجّح كثير من الاَئمة الاَعلام للمتابع أن يأخذ بالنص ويترك التخريج المخالف له ومنهم الاِمام المجدد للدين المنصور باللّه القاسم بن محمد فإنّه ضعف التخاريج غاية التضعيف وبسط القول في ذلك بما فيه الكفاية في كتابه الاِرشاد وكذا غيره من الاَئمة ( عليهم السلام ) (1).
والذي يثبت أنّ المذهب الزيدي حصيلة التفكير الحرّ في الكتاب والسنّة ولايمت إلى الاِمام زيد ، هو وجود الاجتهاد وعدم غلق بابه خلال العصور المتقدمة ، من دون أن يتخذوا آراء الاِمام الواحد حقاً غير قابل للخدش كما عليه الاَحناف والشوافع والحنابلة والمالكية.
يقول الفضيل شرف الدين : العلم المميز للمذهب الزيدي على امتداد التاريخ الاِسلامي هو التجديد المستمر دون التقيد باجتهاد فرد واحد من أئمته أو علمائه أو التمحور الفكري حول ما توصلوا إليه من اجتهادات. فإنّ المطّلع المتتبع لتاريخ الفكر الزيدي يعلم بأنّه بقي منفتحاً على جميع المذاهب الاِسلامية المعتبرة يأخذ منها ماله أساس ومستند من كتاب اللّه والصحيح من سنّة رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دونما تعصب ، أو جمود ، أو انغلاق ، بل أنّ من قواعد المذهب عدم جواز التقليد عند المتمكنين من العلماء القادرين على استنباط الاَحكام من الكتاب والسنّة. وبذلك بقي المذهب وعلماوَه روّاد تجديد وإصلاح يعملون لاِيجاد حلول لمختلف قضايا الحياة المتجدّدة في كل العصور إيماناً منهم بأنّ الدين الاِسلامي الحنيف الذي أُنزل على خاتم الاَنبياء ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليبلّغه إلى البشرية جمعاء هذا الدين قد
1 ـ تقديم السيد مجد الدين على كتاب الزيدية نظرية وتطبيق/ و ـ ز.
جاء واسعاً رحباً ليستوعب مختلف قضايا البشرية في مختلف المجتمعات والعصور ويضع لها الحلول الاِيجابية الناجعة ، وإلاّ لما كان القرآن آخر الكتب السماوية المنزلة ، ولما كان محمد خاتم الرسل والاَنبياء وآخرهم حتى قيام الساعة (1).
فإذا كان هذا هو الطابع الاَوّل للمذهب الزيدي فمن المستحيل نسبه إلى الاِمام الثائر زيد الشهيد الذي لم ترث منه الزيدية إلاّ بضع أحاديث من غير تحليل.
والكلام الحقّ إنّ الزيدي عبارة عن من يقول بالعدل والتوحيد وإمامة زيد ابن علي بعد الاَئمة ، الثلاثة علي والسبطين ( عليهم السلام ) ووجوب الخروج على الظلمة ، واستحقاق الاِمامة بالفضل والطلب ، هذا هو العنصر المقوم في كون الرجل زيدياً ، وأما سوى ذلك مما يوجد في كتبهم فهو عطاء علمائهم المفكرين طيلة القرون.
وهناك من أعلام الزيدية من يصرّ على خلاف تلك النظرية ، فيرى أنّ إطلاق اسم الزيدية على أتباع الاِمام زيد يرجع إليه مستدلاً بقول الاِمام محمد بن عبد اللّه النفس الزكية : « أما واللّه لقد أحيا زيد بن علي ما دثر من سنن المرسلين ، وأقام عموداً إذا اعوجّ ولم ننحو إلاّ أثره ولم نقتبس إلاّ من نوره » (2).
يلاحظ عليه : أنّ النص لا يدلّ على وجود التسمية ، كما لا يدل على أنّ هناك منهجاً كلامياً أو فقهياً لزيد الثائر ، وإنّما يدلّ على اتباع أثره في أصل واحد وهو الثورة على الظالمين لاِحياء ما اندثر من السنن ، ونحن بدورنا نجلّ زيد الشهيد عن أن يفرق وحدة المسلمين وبالاَخص شيعة جده أمير الموَمنين ويقسمهم إلى زيدي وغير زيدي فيوسع الصدع بدل رأبه ، قال سبحانه : « قُلْ هُوَ القَادِرُ على أن
1 ـ الفضيل شرف الدين : الزيدية نظرية وتطبيق/أ.
2 ـ تقديم السيد مجد الدين على كتاب الزيدية نظرية وتطبيق/د.
يَبعَثَ عَلَيكُمْ عَذاباً مِن فَوْقِكُم أوْ مِنَ تَحتِ أرْجُلِكُمْ أو يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلّهُمْ يَفْقَهُون » (الاَنعام ـ 65).
وفي نهاية المطاف إنّي أُرجح قول من يقول إنّ هذه النسبة لم يطلقها الاِمام زيد على أتباعه ولا أطلقها في البداية أتباعه على أنفسهم ، ولما جاء الثائرون بعد زيد ، ناهجين منهجه ، صارت اللفظة إشارة لمن يسلك مسلكه في مجال الخروج على الظلمة وإنقاذ المسلمين من كابوس الاَُمويين أو العباسيين ، من دون أن يكون فيه دلالة على مذهب كلامي أو فقهي. وعلى ذلك فالزيدية شعار حرية وعزة وكرامة ، وجهاد وتضحية في سبيل اللّه وليس شعاراً لمذهب خاص سوى ما عرفت من الاِيمان بإمامة الاِمام علي وسبطيه ( عليهم السلام ).
الفصل التاسع
في عقائد الزيدية
قد ساقنا الغور في حياة زيد الثائر الشهيد ، إلى الحكم بأنّه لم يكن صاحب منهج كلامي ، ولا فقهيّ فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ، ويكافح الجبر والتشبيه ، فلاَجل أنّه ورثهما عن أبيه وجده عن علي ( عليهم السلام ) وإن كان يفتي في مورد أو موارد فقد كان يصدر عن الحديث الذي يرويه عن الرسول الاَعظم عن طريق آبائه الطاهرين وهذا المقدار من الموَهلات لا يصيّر الاِنسان ، من أصحاب المناهج في علمي الكلام والفقه.
نعم جاء بعد زيد ، مفكرون وعاة ، وهم بين دعاة للمذهب ، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان ، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيديّ ، متفتحين في الاَُصول والعقائد مع المعتزلة ، وفي الفقه وكيفية الاستنباط مع الحنفية ، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الاَُصول والفروع وما أرسوه هوَلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.
أين زيد ربيب البيت العلويّ ، من القول بالاَُصول الخمسة التي تبناها واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ، ومن جاء بعدهما من أعلام المعتزلة ، حتى صارت مندسّة في مذهب الزيدية ، بلا زيادة ونقيصة إلى يومنا هذا؟
أين زيد الذي انتهل من المعين العذب العلويّ الذي رفض العمل بالقياس والاستحسان ، من القول بأنّهما من مصادر التشريع الاِسلامي كما عليه المذهب الفقهي للزيدية؟
ومن ألمّ بحياة أئمة أهل البيت ابتداءًَ بالاِمام علي ( عليه السلام ) وانتهاءً إلى حياة الاَئمة كالصادقين والكاظم والرضا ، يقف على أنهم ( عليهم السلام ) في منتأى من القول بهذا وذاك ، كيف وكان النزاع بينهم وبين مشايخ المعتزلة قائماً على قدم وساق وقد حفظت كتب الحديث والسير ، لفيفاً منها ، وكان الرفض للقياس والاستحسان والظنون التي ما أُنزل بها من سلطان ، شعار مذهبهم ، به كانوا يُعرفون وبه كانوا يمُيزون لكن ـ للاَسف ـ نجد دخول هذه العناصر في مذهب الزيدية الذي ينتمي إلى أئمة أهل البيت ، عليّ ( عليه السلام ) ومن بعده.
اتفقت الاَُمّة الاِسلامية ولا سيما الاِمامية والزيدية على أنّ الرسول أوصى بالتمسك بالثقلين وأنّه لا يعدل بهما إلى غيرهما ، وشبّه الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أهل بيته بسفينة وقال : « مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ». وبالتالي أمر بركوبها في تمام الطريق ، ولايشك أحد في أنّ الباقرين والكاظمين من أئمة أهل البيت ، ومع ذلك فقد فارقت الزيدية هوَلاء في حياتهم العلمية والعملية وبالتالي اقتدوا ببعض الاَئمة دون البعض الآخر ، وركبوا السفينة في بعض الطريق لا في جميعها وصار هذا وذاك سبباً لحدوث شقة كبيرة بين المذهب الزيدي ، وماكان عليه متأخرو أئمة أهل البيت الذي وعاه عنهم شيعتهم من عصر الاِمام علي إلى آخر الاَئمة الاثني عشر ( عليهم السلام ) ، واشتهر باسم المذهب الاِمامي.
ولا أُغالي إذا قلت : إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة ساقتهم إلى ذلك ، الظروف السائدة عليهم وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد ، و إن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.
ومن ثم التقت الزيدية في العدل والتوحيد ، مع شيعة أهل البيت جميعاً ، إذ شعارهم في جميع الظروف والاَدوار ، رفض الجبر ، والتشبيه ، والجميع في التديّن بذينك الاَصلين عيال على الاِمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).
كما أنّهم التقوا في الاَُصول الثلاثة :
1 ـ الوعد والوعيد.
2 ـ المنزلة بين المنزلتين.
3 ـ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الاَُصول في مذهبهم ، وحكموا بخلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة ، وحرمانه من الشفاعة لاَنّها للعدول دون الفساق ، فهي إذاً بمعنى ترفيع الدرجة لا الحط من الذنوب كل ذلك أخذاً بالاَصل الاَوّل ، كما جعلوا الفاسق ، في منزلة بين المنزلتين فهو عندهم لا موَمن ولا كافر بل هو فاسق ، أخذاً بالاَصل الثاني ، ولكنّهم تخبّطوا في الاَصل الثالث وزعموا أنّه أصل مختص بالمعتزلة والزيدية ، مع أنّ الاِمامية يشاركونهم في هذه الاَُصول عند اجتماع الشرائط ، أي وجود دولة إسلامية يرأسها الاِمام المعصوم أو النائب عنه بإسم الفقيه العادل.
إنّ الزيدية التقت في القول بحجّية القياس والاستحسان والاِجماع بما هو هو ، دون كونه كاشفاً عن قول المعصوم ، وحجية قول الصحابي وفعله ، مع أهل السنّة ولذلك صاروا أكثر فرق الشيعة اعتدالاً ـ عند أهل السنّة ـ وميلاً إلى التفتح معهم.
ولكنّ العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة التي تميز هذا المذهب عما سواه من المذاهب ، ويسوقهم إلى التفتح مع الاِمامية والاِسماعيلية هو القول بإمامة علي والحسنين بالنص الجلي أو الخفي عن النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والقول بأنّ تقدم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.
هذا هو واقع المذاهب ، وعموده الفقري ، فقد أخذوا من كل مذهب ضغثاً.
نعم كانت عناية مشايخ الزيدية في العصور الاَوّلية ، بالنقل عن الصادقين والاَخذ بقولهما أكثر من الذين جاءوا بعدهم. وهذا أحمد بن عيسى بن زيد ، موَلف الاَمالي فقد أكثر فيها النقل عنهما وعن غيرهما من أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ولكن أين هو من البحر الزخار لابن المرتضى (764 ـ 840هـ) أو سبل السلام للاَمير محمد بن إسماعيل الاَمير اليمني الصنعاني (1059 ـ 1182هـ) أو الروض النضير للسباعي ، أو نيل الاَوطار في شرح منتقى الاَخبار للشوكاني (1173 ـ 1250هـ) ، فإنهم لايصدرون في عامـة المسائل إلاّ ما شذ ، إلاّ عما يصدر عنه فقهاء أهل السنة ، فالمصادر الحديثية هي الصحاح والمسانيد ، والحجج الفقهية بعد الكتاب والسنّة ، هي القياس والاستحسان ، وكأنّه لم يكن هنا باقر ولا صادق ، ولاكاظم ولا رضا ( عليهم السلام ) ونسوا وتناسوا مقاماتهم وعلومهم.
نحن نأتي في هذه العجالة بأُصول عقائدهم مستندين إلى ما ألفه الاِمام المرتضى في مقدمة البحر الزخار ، مقتصرين على الروَوس دون الشعب المتفرقة منها. وفي هذه القائمة لعقائدهم يتجلى مدى انتمائهم ، للمعتزلة أو للسنّة والشيعة ، والنص لابن المرتضى بتلخيص منّا.
1 ـ صفاته عين ذاته ، ويستحق بها صفاته لذاته لا لمعان (زائدة) خلافاً للاَشعرية حيث يقول : « لمعان قديمة بذاته ليست إياه ولا بعضه ولا غيره ».
وقد أشار بذلك إلى المعاني الزائدة التي أثبتها الاَشعري وهي ثمانية مجموعة في قول بعضهم :
حياة ، وعلم ، وقدرة ، وإرادة
كلام وإبصار وسمع مع البقاء
2 ـ لا يُرى سبحانه ، ولا يجوز عليه الروَية وإلاّ لرأيناه الآن لارتفاع الموانع
الثمانية (1). ولا اختص بجهة يتصل بها الشعاع.
3 ـ ليس بذي ماهية : وعليه المعتزلة والزيدية وأكثر الخوارج والمرجئة.
4 ـ حسن الاَشياء وقبحها عقليان ، وأكثر الزيديـة على أنّه يقبح الشيء لوقوعه على وجه من كونه ظلماً أو كذباً أو مفسدة إذ متى علمناه كذلك ، علمنا قبحه.
5 ـ مريد بإرادة حادثة : هو سبحانه مريد بإرادة حادثة. خلافاً للكلابية والاَشعرية حيث قالوا بإرادة قديمة ، وقالت النجارية بإرادة نفس ذاته ، قلنا : إذاً للزم إيجاده جميع المرادات ، إذ لا اختصاص لذاته ببعضها.
6 ـ متكلم بكلام : وكلام اللّه تعالى فعله الحروف والاَصوات.
7 ـ فعل العبد غير مخلوق فيه : وخالفت الجهمية وجعلت نسبته إلى العبد مجازاً كطال وقصر.
وقالت النجارية والكلابية وضرار ، وحفص : خلق للّه وكسب للعبد ، لنا وقوعه بحسب دواعيه وانتفاوَه بحسب كراهيته مستمراً بذلك يعلم تأثير الموَثر (العبد) سلمنا لزوم سقوط حسن المدح والذم ، وسبّه لنفسه ، تعالى اللّه عن ذلك.
8 ـ تكليف ما لا يطاق قبيح : وكانت المجبرة لا تلتزمه حتى صرح الاَشعري بجوازه ، لنا تكليف الضرير بنقط المصحف ومن لا جناح له بالطيران ، معلوم قبحه ضرورة وقوله تعالى : « إلاّ وسعها ».
9 ـ المعاصي ليس بقضاء اللّه.
10 ـ لا يطلق على اللّه أنّه يضل الخلق.
11 ـ الوعد والوعيد : وهو أصل في كلام المعتزلة والزيدية وقد عقد ابن المرتضى باباً وفرع عليه فروعاً والغاية المتوخاة منها ، الحكم بخلود المسلم الفاسق في النار ، وإن شئت قلت : خلود مرتكب الكبيرة الذي مات بلا توبة فيها
1 ـ أشار في التعليقة إلى الموانع الثمانية فلاحظ.
ولم أعثر على نصّ في كلام ابن المرتضى ، ولكن صرّح به غير واحد من علمائهم ونأتي بنص العالم المعاصر الزيدي في كتابه « الزيدية نظرية وتطبيق » قال :
أمّا الزيدية وسائر العدلية فقالوا : من مات موَمناً فهو من أصحاب الجنّة خالداً فيها أبداً ، ومن مات كافراً أو عاصياً لم يتب فهو من أصحاب السعير خالداً فيها أبداً لقوله تعالى : « ومَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيها أبَداً » (الجن ـ 23) وقوله : « وإنّ الفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَها يَومَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ » (الانفطار ـ 16) وقوله تعالى : « بَلى مَنْ كسَبَ سَيِّئَةً وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئتُهُ فَأُوْلئِكَ أصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدونَ » (البقرة ـ 81) (1).
13 ـ مرتكب الكبيرة لا موَمن ولا كافر : بل فاسق وفي منزلة بين المنزلتين وهذا أحد أُصول المعتزلة لكن الزيدية أدخلوه في الاَصل السابق الوعد والوعيد ، قال ابن المرتضى :
والفاسق (مرتكب الكبيرة) ليس بكافر ، خلافاً للخوارج ، ولا موَمن خلافاً للمرجئة إذ هو مدح والفسق ذم فلا يجتمعان (2).
14 ـ الاِمامة تجب شرعاً لا عقلاً وعليه إجماع الصحابة.
15 ـ النص على إمامة عليّ والحسنين : الاَشعرية : لم ينص ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على إمام بعده ، وقالت الزيدية : بل نصّ على عليّ والحسنين (3) وقالت البكرية على أبي بكر.
16 ـ عقد الاِمامة : وتعقد الاِمامة بالدعوة مع الكمال ولا تنعقد بالغلبة خلاف الحشوية.
1 ـ علي بن عبد الكريم : الزيدية نظرية وتطبيق : 76 وقد أوضحنا عدم دلالة الآيات على مايرونه في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند البحث عن هذا الاَصل عند المعتزلة فلاحظ.
2 ـ عزب عن المرتضى إنّما لا يجوز الجمع بين المدح والذم إذا كان المبدأ واحداً أي إذا ذمّ ومدح لاَجل ملاك واحد. دونما إذا كان المبدأ مختلفاً والحيثيات ، متعددة فهو من حيث إيمانه في القلب ممدوح ومن حيث اقترافه المعصية مذموم.
3 ـ وقال محقق الكتاب : ومنها قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما » رواه الاَمير الحسين في كتاب الشفا ورواه الاَمير الحسن بن بدر الدين في العقد الثمين.
وأوضحه المحقّق في هامش الكتاب وقال مع عدم المنازع فيفوز بذلك أو بأن تحصل له البيعة من الاَكثرية مع وجود المنازع ، وكل ذلك بعد سبق ترشيحه من ذوي الحل والعقد لمعرفة حصوله على الشروط الموَهلة له.
17 ـ معدن الاِمامة البطنان : الزيدية : على أنّ معدن الاِمامة البطنان ، للاِجماع على صحتهما ولا دليل على غيرهما ، وقالت الاِمامية : بل أولاد الحسين وقالت الاَشعرية بل قريش.
18 ـ الاِمامان في زمان واحد : أكثر الزيدية لا يصلح إمامان في زمان فقالت الكرامية والزيدية : يصح ، لنا إجماع الصحابة بعد قول الاَنصار : منّا أمير ومنكم أمير وإذا عقد لاِثنين في وقت واحد بطلا ويستأنف كنكاح وليّين.
19 ـ ومن اعتبر العقد : كفى بيعه واحد برضا أربعة من أهل الحل والعقد وقال أبو القاسم البلخي : يكفي واحد وإن لم يرض غيره ، لنا لم يعقد عمر و أبو عبيدة لاَبي بكر إلاّ برضا سالم وبشير وأُسيد وبايع عبد الرحمن عثمان ، برضا الباقين (1).
20 ـ الاِمام بعد الرسول عليّ ، ثم الحسن ثم الحسين ( عليهم السلام ) للاَخبار المشهورة.
21 ـ القضاء في فدك صحيح خلافاً للاِمامية وبعض الزيدية. لنا : لو كان باطلاً لنقضه علي ولو كان ظلماً لاَنكره بنو هاشم والمسلمون. (2).
22 ـ خطأ المتقدمـين على علـيّ في الخلافة قطعي ، لمخالفتهم ، ولا يقطع
1 ـ أُنظر كيف يستدل بفعل من ترك وصية الرسول حسب اعترافه على مسألة أُصولية.
2 ـ ولعله لم يبلغه قول علي ( عليه السلام ) في فدك : « نعم قد كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء ، فشحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عليها نفوس قوم آخرين ونعم الحكم اللّه » كما تبلغه خطبة الصديقة الطاهرة حول فدك التي كان بنو هاشم يحفظونها ويعلّمونها أولادهم.
لفسقهم إذ لم يفعلوه تمرداً بل لشبهة فلا تمنع الترضية عليهم لتقدم القطع بإيمانهم فلا يبطل بالشك فيه.
23 ـ خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعي لبغيهم على إمام الحقّ.
24 ـ توبة الناكثين : الاَكثر أنّه قد صحت توبتهم ، وقالت الاِمامية وبعض الزيدية : لا.
25 ـ الاَكثر أنّ معاوية فاسق لبغيه ، لم تثبت توبته فيجب التبرّي منه.
26 ـ يجب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر : بالقول والسيف مع اجتماع الشروط قالت الحشوية : لا وقالت الاِمامية : بشرط وجود الاِمام لنا : « وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّة » (آل عمران ـ 104) « فَقاتِلُوا الَّتي تَبْغِي » (الحجرات ـ 10).
هذه روَوس عقائد الزيدية استخرجناها من كتاب القلائد في تصحيح الاعتقاد ، المطبوع في مقدمة البحر الزخار ص 52 ـ 96 والموَلف ممن يشار إليه بين علماء الزيدية ، وهو موَلف البحر الزخار ، ومن أحد أئمة الفقه والاجتهاد في القرن التاسع.
النص بالجلي أو الخفي على إمامة علي ( عليه السلام ) :
إنّ كتب تاريخ العقائد طفحت بهذا العنوان ، فمثلاً نقلوا بأنّ الجارودية ذهبت إلى أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصّ على إمامة عليّ بالوصف دون النص (1) ومعنى هذا أنّ النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد بيّن الملامح العامة للاِمام ، وكان علي ( عليه السلام ) هو المصداق الوحيد لهذه الملامح.
1 ـ الاَشعري : مقالات الاِسلاميين : 67 ، البغدادي : الفرق بين الفرق : 30.
وقال النوبختي عن الجارودية : إنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصّ على عليّ ( عليه السلام ) بالوصف دون التسمية ، والناس مقصرون إذا لم يتعرفوا الوصف ولم يطلبوا الموصوف (1).
وربما يعبرون بأنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصّّ على ولاية الاِمام نصاً خفياً غير جلي.
هذه الكلمات ونظائرها توجد ، في التعبير عن المذهب الجارودي في مقام الاِمامة.
وأمّا السليمانية أو الجريرية فأظهروا المرونة أكثر من الجارودية ، فقد قالوا : إنّ الاِمامة شورى وأنّها تنعقد بعقد رجلين من خيار الاَُمّة ، وأجازوا إجازة المفضول وأثبتوا إمامة أبي بكر وعمر ، وزعموا أنّ الاَُمّة تركت الاَصل في البيعة لها ، لاَنّ علياً كان أولى بالاِمامة منهما ، إلاّ أنّ الخطأ في بيعتهما لم يوجب كفراً ولافسقاً (2).
والذي أظن ـ وظنّ الاَلمعي صـواب ـ أنّ النظرتين قد صدرتا تقية وصيانة لوجودهم بين أهل السنّة. ومع أنّ الزيدية يرفضون التقية كما سيوافيك ، ولكنّهم عملوا بها حيث لا يشاوَون ، فإنّهم قد عاشروا أهل السنّة في بيئة واحدة ومجتمع واحد تربطهم أحكام واحدة ، حيث رأوا أنّ التعبير عن واقع المذهب أي وجود النصّ على الاسم وإن شئت قلت : وجود النصّ الصريح يستلزم تفسيق الصحابة ، وهذا لا يتلائم وطبيعة حياتهم ، فلذلك جعلوا من هذا التعبير واجهة لعقيدتهم الواقعية فجمعوا ـ حسب زعمهم ـ بين العقيدة والهدف في الحياة. كيف وأئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) عن بكرة أبيهم يرون النصّ على خلافة علي ( عليه السلام ) وهذا المميز لشيعة أئمة أهل البيت عن غيرهم. والذي يميز الشيعة عن غيرهم من الفرق هو هذا العنصر فقط ، وما سوى ذلك عقائد كلامية مستخرجة من الكتاب والسنّة.
1 ـ النوبختي : فرق الشيعة : 74.
2 ـ الاَشعري : مقالات الاِسلاميين : 68 ، البغدادي : الفرق بين الفرق : 32.
فإن كان ما ذكرناه مقبولاً لدى القارىَ وإلاّ فإنّ هذا النوع من التفكير تطرّق إلى المذهب الزيدي في العصور السابقة عن طريق معاشرتهم مع معتزلة بغداد ، الذين قالوا بأفضلية الاِمام علي ( عليه السلام ) وجواز تقديم المفضول على الفاضل.وقد مرّ تحقيق القول في ترجمة حمزة بن عبد اللّه فلاحظ.
العقد الثمين في معرفة ربّ العالمين
تأليف الاَمير الحسين بن بدر الدين محمد
(582 ـ 662)
بعد أن أخرجت عقائد الزيدية من كتاب البحر الزخار ، وقفت على رسالة مختصرة باسم العقد الثمين في معرفة ربّ العالمين لموَلّفه العلامة الاَمير الحسين بن بدر الدين محمد المطبوع باليمن ، نشرته دار التراث اليمني صنعاء ، و مكتبة التراث الاِسلامي بصعده وهي من أوائل الكتب الدراسية في حقل أُصول الدين والموَلّف من أجلّ علماء الزيدية ، وأكثرهم تأليفاً وتعد كتبه من أهم الاَُصول التي يعتمد عليها علماء الزيدية ويدرسونها كمناهج (1) وإليك نصها :
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه المختصّ بصفات الاِلهية والقدم ، المتعالي عن الحدوث والعدم ، الذي لم يسبقه وقت ولا زمان ، ولاتحويه جهة ولا مكان ، جلّ سبحانه. دلّ على ذاته بما ابتدعه من غرائب مصنوعاته ، وعجائب مخلوقاته ، حتى نطق صامتها بالاِقرار بربوبيته بغير مَذْوَد ، وبرز مجادلاً لكل من عطّل وألحد.
وصلواته وسلامه على سيدنا محمد الذي هو بالمعجزات موَيد ، وفي المرسلين مرَجّب ومسوّد ، وعلى آله الغرّ الهداة ، والولاة على جميع الولاة ، وعلى صحابته المكرّمين الموَيدين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
1 ـ إقرأ ترجمته في : تاريخ اليمن الفكري : 3/289 و 308 ، والاعلام : 2/255 ، التحف شرح الرلف : 178.
التوحيد
[الدلالة على أن اللّه تعالى خالق العالم]
أيّها الطالب للرشاد ، والهارب بنفسه عن هُوّة الاِلحاد.
فإذا قيل لك : من ربك؟
فقل : ربي اللّه.
فإن قيل لك : بم عرفت ذلك؟
فقل : لاَنّه خلقني ، ومن خلق شيئاً فهو ربّه.
فإن قيل لك : بمَ عرفت أنّه خلقك؟
قل : لاَنّي لم أكن شيئاً ثم صرتُ شيئاً ، ولم أكن قادراً ثم صرت قادراً ، و [كنت] صغيراً ثم صرت كبيراً ، ولم أكن عاقلاً ثم صرت عاقلاً ، وشاهدت الاَشياء تحدث بعد أن لم تكن؛ فرأيت الولد يخرج ولا يعلم شيئاً ، ثم يصير رضيعاً ، ثم طفلاً ، ثم غُلاماً ، ثم بالغاً ، ثم شاباً ، ثم كهلاً ، ثم شيخاً. ثم رأيت نحو ذلك من هبوب الرياح بعد أن لم تكن ، وسكونها بعد هبوبها ، وطلوع الكواكب بعد أُفولها ، وأفولها بعد طلوعها ، وظهور السحاب وزواله ، وكذلك المطر والنبات والثمار المختلفات. وكل ذلك دلائل الحدوث.
وإذا كانت محدَثة فلا بد لها من محدِث ، لاَنّها قد اشتركت في الجسميّة ، ثم افترقت هيئاتها وصورها؛ فننظر سماءً ، وأرضاً ، وثماراً ، وأشجاراً ، وآباراً ، وبحوراً ، وأنهاراً ، وإناثاً ، وذكوراً ، وأحياءً ، وأمواتاً ، وجمعاً ، وأشتاتاً.
وكذلك ننظر إلى الاَعراض الضروريات المعلومات ، فإنّها اشتركت في كونها أعراضاً ، ثم افترقت وانقسمت بين شهوةٍ ونفرةٍ ، وحياةٍ وقدرةٍ ، ويبوسةٍ ورطوبة ، وطُعومٍ مكروهة ومحبوبة ، وروائح شتى ، وحرّ وبرد ، ووجاء وفناء ، وألوان متضادّة على المحل ، وموت يقطع الرزق والاَمل.
فنعرف أنّه لابد من مخالف خالف بينها ، وأحدث ماشاهدنا حدوثه منها ، وأنّه غيرٌ لها ، لاَنّها لاتُحدِث نفسها ، إذ الشيء لايُحدثُ نفسه ، لاَنّه يُوَدّي إلى أن يكون قَبلَ نفسه ، وغيراً لها ، وكذلك لاتصوّر أنفسها ، ولاتخالف بين هيئتها ، ولايقع ذلك بشيء مما يقوله الجاهلون ، من طبع أو مادّة ، أو فلك ، أو نجم ، أو علّة ، أو عقل ، أو روح ، أو نفس ، أو غير ذلك مما يقولونه؛ لاَنّ ذلك إن كان من قبيل الموجبات لم تخلُ : أن تكون موجودة ، أو معدومة. والموجودة لا تخل : أن تكون قديمة ، أو محدثة. ولايجوز ثبوت ذلك لعلّة قديمة ولامعدومة ، لاَنّه لو كان كما زعموا لكان يلزم وجود العالم بما فيه في الاَزل ، واستغناوَه عن تلك العلل.
ولا يجوز أن يكون ثبوت ذلك لعلّة محدثة ، لاَنّها لاتخلو : إمّا أن تكون مماثلة لما تقدم [منها] ، أو مخالفة [له] ، إن كانت مماثلة وجب أن يكون معلولها متماثلاً ، وفي علمنا باختلاف ذلك العالم دلالة على بطلان القول بأنّه عن علة مماثلة أو علل متماثلات.
ولا يجوز أن يكون لعلة مخالفة ، ولا علل مخالفة ، لاَنّها حينئذ تكون قد شاركت العالم في الاختلاف؛ الذي لاَجله احتاج إليها ، فيدور الكلام إلى ما لا يعقل ولا ينحصر من العلل.
فيجب الاقتصار على المحقّق المعلوم ، والقضاء بأنّ الذي أحدثها وصوّرها ، وخالف بينها هو الفاعل المختار ، وهو الحيّ القيوم.
فصل [في أنّ اللّه تعالى قادر]
فإن قيل : ربّك قادر ، أم غير قادر؟
فقل : بل هو قادر؛ لاَنّه أوجد هذه الاَفعال التي هي العالم ، والفعل لا يصح إلاّ من قادر.
أوجده تعالى لا بمماسّة ، ولا بآلة : « إنَّما أَمْرُهُ إِذَا أَرادَ شَيْئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون » [يس : 82].
فصل [في أنّ اللّه تعالى عالم]
فإنّ قيل : أربك عالم ، أم غير عالم؟
فقل : بل هو عالم ، وبرهان ذلك ما نشاهده فيما خلقه من بدائع الحكمة ، وغرائب الصنعة؛ فإنّ فيها من الاِحكام والترتيب ، ما يعجز عن وصفه اللبيب ، [وكل ذلك لا يصح إلاّ من عالم ، كما أنّ الكتابة المحكمة لا تصح إلاّ من عالم بها ، وهو تعالى لا يختص بمعلوم دون معلوم ، فيجب أن يعلم جميع المعلومات ، على كل الوجوه التي يصح أن تعلم عليها.
وهو سبحانه يعلم ما أجنّه الليل ، وأضاء عليه النهار ، ويعلم عدد قطر الاَمطار ، ومثاقيل البحار ، ويعلم السرّ ـ وهو ما بين اثنين ـ وما هو أخفى ـ وهو ما لم يخرج من بين شفتين ـ « مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أكْثَرَ إلاّ هُوَ مَعَهُمْ » [المجادلة : 7] بعلمه لايلاصقهم ، وهو شاخص عنهم ولايفارقهم].
فصل [في أنّ اللّه تعالى حي]
فإن قيل : أربك حيّ ، أم لا ؟
فقل : بل حيٌّ ، لاَنّه تعالى لو لم يكن حيّاً لم يكن قادراً ، ولا عالماً ، لاَن الميّت والجماد لا يفعلان فعلاً ، ولايحدثان صنعاً.
فصل [في أنّ اللّه تعالى قديم]
فإن قيل : أربّك قديم ، أم غير قديم؟
فقل : هو موجود لا أوّل لِوجوده؛ لاَنّه لو كان لوجوده أوّلٌ لكان محدَثاً ، ولو كان محدثاً لاحتاج إلى محدِث ، إلى ما لا يتناهى ، وذلك محالٌ ، فهو قديم ، قادر ، حيٌّ ، عليم ، لم يزل ولا يزال ، ولايخرج عن ذلك في حال من الاَحوال ، لاَنّه لو لم يكن كذلك لم يكن له بدٌّ من فاعل فعله ، وجاعلٍ ـ على صفات الكمال ـ جعله ، أو يكون لعلّة ، وقد ثبت أنّه تعالى قديم؛ فلايصح القول بشيء من ذلك.
فصل [في أنّ اللّه تعالى سميع بصير]
فإن قيل : أربك سميع بصير؟
فقل : أجل لاَنّه حيٌّ كما تقدم ، ولايعتريه شيء من الآفات ، لاَنّ الآفات لاتجوز إلاّ على الاَجسام ، وهو تعالى ليس بجسم ، لاَنّ الاَجسام محدَثة كما تقدم ، وهو تعالى قديم أيضاً.
فصل [في أنّ اللّه تعالى لايشبه الاَشياء]
فإن قيل : أربّك مشبه الاَشياء؟
فقل : ربّي لايشبه الاَشياء؛ لاَنّ الاَشياء سواه : جوهرٌ ، وعرَضٌ ، وجسم. ولايجوز أن يكون جوهراً ، ولا عرضاً؛ لاَنّهما غير حيّين ولاقادرين ، وهو تعالى حيّ قادر ، ولاَنّهما محدَثان وهو قديم ولا يجوز أن يكون جسماً ، لاَنّا قد بيّنا أنّه خالق الاَجسام ، والشيء لايخلق مثله ، ولاَنّ الجسم موَلّف مصنوع ، يفترق ويجتمع ، ويسكن ويتحرّك ، ويكون في الجهات ، وتسبقه الاَوقات ، وكل ذلك شواهد الحدوث ، وقد ثبت أنّه تعالى قديم ، فلا يجوز أن يكون محدَثاً بل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وإذا لم يكن جوهراً ولاجسماً ولاعرضاً لم يوصف بالكيف ، ولا الاَين ، ولا الحيث ، ولا البين ، ولا الوجه ، ولا الجنب ، ولا اليدين ، لم يقطعه بعد ، ولم يسبقه قبل ، ولم يجزّئه بعضٌ ، ولا جمعه كلٌّ ، ليس في الاَرض ولا في السماء ، ولا حلّ في متحيّز أصلاً ، ولا حدّه فوقٌ ولاتحت ، ولايمين ، ولا شمال ، ولا خلفٌ ، ولا أمام ، ولا يجوز عليه المجيء ولا الذهاب ، ولا الهبوط ولا الصعود.
كان قبل خلق العالم ولا مكان ، ويكون بعد فناء العالم ولا مكان ، وهو خالق المكان مستغن عن المكان ، وخالق الزمان فلم يتقدمه زمان ، ليس بنور ولا ظلام ، لاَنّ جميع ما ذكر فان في القدم.
ولاَجل ذلك نقول : إنّه لا يجوز أن يقال : هو طويل ، ولا قصير ، ولا عريض ولا عميق ، ولا شويه ولامليح ، ولا أن يقال : هو يسترّ أو يغتمّ ، أو يظنّ أو يهتمّ ، أو يعزمُ ، أو يوَلّم ، أو يلتذّ أو يشتهي ، أو ينفرُ ، لاَنّ ذلك كلّه شواهد الوجود بعد العدم ، ومنافٍ لما هو عليه من صفات الكمال والعظمة والجلال.
فصل [في آيات الصفات]
فإن قيل : إنّه قد ذكر في القرآن : « يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ » (المائدة : 64) ، وإنّ له جنباً ، وعيناً ، وأعيناً ، ونفساً ، وأيدٍ ، لقوله : « مِمّا عَمِلَتْهُ أَيْدِينا » [يس : 71] ووجهاً.
فقل : يداه نعمتاه ، ويَدُهُ قُدْرَتُه ، والاَيدي هي : القدرة ، والقوة أيضاً.
وجنباً في قوله تعالى : « يَاحَسْرَتى عَلَى مَافَرَّطْتُ فِيْ جَنْبِ اللّه » [الزمر : 56] ، أي : في طاعته.
ونفساً في قوله تعالى : « تَعْلَمُ مَا فِيْ نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ » [المائدة : 116] ، المراد به : تعلم سرّي وغيبي ، ولا أعلم سرّكَ وغيبك.
ووجهه : ذاته ، ونفسه : ذاته ، وقوله تعالى : « فَثَمَّ وَجْهُ اللّه » [البقرة : 115] ، أي الجهة التي وجّهكم إليها.
وما ذكر من العين والاَعين فالمراد به الحفظ والكَلاءَة والعلم.
وقوله : « اسْتَوى عَلَى العَرْشِ » [الاَعراف : 54] ، استواوَه : استيلاوَه بالقدرة والسلطان ، ليس كمثله شيء ، ولا يشبهه ميّت ولا حي.
فصل [في أنّ اللّه تعالى غني]
فإن قيل : أربك غني أم لا ؟
فقل : إنّه غنيٌّ لم يزل ولا يزال ، ولاتجوز عليه الحاجة في حال من الاَحوال ، لاَنّ الحاجة لاتجوز إلاّ على من جازت عليه المنفعة والمضرة ، واللّذة والاَلم ، وهذه الاَُمور لاتجوز إلاّ على من جازت عليه الشهوة والنفرة ، وهما لا يجوزان إلاّ على الاَجسام؛ فيسترُّ الجسم بإدراك ما يشتهيه ويلتذ به ، وينمو ويزداد بتناوله ،
ويغتم بإدراك ما ينفر عنه ويتضرر به ، وينقص بتناوله. وقد ثبت أنّه تعالى ليس بجسم ، بل هو خالق الجسم ، فكيف يخلق مثل ذاته ، أو تشاركه الاَجسام في صفاته؟! بل لا يجوز عليه شيء من ذلك.
فصل [في أنّ اللّه لا يُرى بالاَبصار]
فإن قيل : أربك يرى بالاَبصار ، أم لا يرى؟
فقل : هذه مقالة باطلة عند أُولي الاَبصار ، لاَنّه لو رئي في مكان لدل ذلك على حُدُوثه ، لاَنّ ما حواه محْدُودٌ محدث.
فإن قيل : إنّه يرى في غير مكان. فهذا لا يعقل ، بل فيه نفي الروَية ، وقد قال تعالى : « لاتُدْرِكُهُ الاََبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاََبْصَارَ » [الاَنعام : 103] ، فنفى نفياً عاماً لجميع المكلفين ، و [لجميع] أوقات الدنيا والآخرة.
وقال اللّه تعالى لموسى ـ لما سأله الروَية ـ : « لَنْ تَرَانِي » [الاَعراف : 143] ، ولم يسأل موسى ( عليه السلام ) الروَية لنفسه ، بل عن سوَال قومه ، كما حكاه اللّه في قصص قومه : « فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوْا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ » [النساء : 153] ، ولو سألها لنفسه لصعق معهم. ولما لم يقع منه خطيئة إلا سوَاله لهم الروَية من دون إذن ، قال لربه عزّ وجلّ : « أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنّا » [الاَعراف : 155].
فصل [في أنّ اللّه تعالى واحد]
فإن قيل : أربّك واحدٌ لا ثاني له ، أم لا ؟
فقل : بلى هو واحد لا ثاني له في الجلال ، متفرد هو بصفات الكمال؛ لاَنّه لو
كان معه إله ثان لوجب أن يشاركه في صفات الكمال على الحد الذي اختصّ بها ، ولو كان كذلك لكان على ما قدر قادراً ، ولو كان كذلك لجاز عليهما التشاجر والتنازع ، ولصح بينهما التعارض والتمانع ، ولو قدّرنا هذا الجائز لاَدى إلى اجتماع الضدين من الاَفعال ، أو عجز القديم عن المراد ، وكل ذلك محال ، تعالى عنه ذو الجلال؛ لقوله : « لَوْ كَان فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاّ اللّه لَفَسَدَتا » (الاَنبياء : 22) ، ولقوله عزّ قائلاً : « أَم جَعَلُوا للّه شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ » [الرعد : 16] فتبين أنّ الخلق يشهد بإله واحد ، وأنّه ليس هناك خلق ثانٍ يشهد بإله ثان ، وهذا واضح؛ فإنّ هذا العالم دليلٌ على إله واحد وهو الذي أرسل الرسل ، وأوضح السبُل.
ويَدُل على ذلك قوله عزّ وجلّ : « فَاعْلَمْ أَنّهُ لا إِلهَ إلاّ اللّه » [محمد : 19] ، وقوله : « شَهِدَ اللّه أَنّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوْا العِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ » [آل عمران : 18] ، وقوله : « وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌج » البقرة : 163] ، وقوله : « قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ » [الصمد : 1].
(العدل)
[فصل في أنّ اللّه تعالى عدل حكيم]
فإن قيل : أربّك عدل حكيم؟
فقل : أجل ، فإنّه لا يفعل القبح ولا يُخِلُّ بالواجب من جهة الحكمة ، وأفعاله كلّها حسنة.
وإنّما قلنا : إنّه لا يفعل القبيح لاَنّه إنّما يقع ممن جهلَ قُبْحَه ، أو دعته حاجة إلى فِعْلِه وإن عَلِمَ قبحَه ، وهو تعالى عالم بقبح القبائح؛ لاَنّها من جملة المعلومات وهو عالم بجميعها كما تقدم ، وغنيّ عن فعلها كما تقدم أيضاً ، وعالم باستغنائه عنها ، وكل من كان بهذه الاَوصاف فإنّه لا يفعل القبيح ، ألا ترى أنّ من مُلْكُه ألفي ألف قنْطارٍ من الذَّهب؛ فإنّه لا يسرق الدّانق ، لعلمه بقبح السرق ، وغناه عن أخذ الدانق ، وعلمه باستغنائه عنه ، وكذلك لو قيل للعاقل : إن صدقت أعطيناك درهماً ، وإن كذبت أعطيناك درهماً ، فإنّه لا يختار الكذب ـ في هذه الحال ـ على الصدق ، [وهما] على وتيرة واحدة ، وطريقة مستمرة ، ولاعِلّة لذلك إلاّ ما ذكرناه.
فصل [في أنّ أفعال العباد منهم] (1).
فإن قيل : هل ربّك خَلَق أفعال العباد؟
فقل : لا يقول ذلك إلاّ أهل الضلال والعناد ، كيف يأمرهم بفعل ما قد خَلَق وأمضى ، أو ينهاهم عن فعل ما قَدْ صَوَّر وقضى ، ولاَنّ الاِنسان يلحقه حكم فعله من المدح والثّناء ، والذمّ والاستهزاء ، والثواب والجزاء ، فكيف يكون ذلك من العلي الاَعلى؟! ولاَنّه يحصل بحسب قصدِه ودواعيه ، وينتفي بحسب كراهته وصرفه على طريقة واحدة ، ولاَن اللّه تعالى قد أضاف أفعال العباد إليهم ، فقال :
« يَكْسِبُونَ » ، و « يَمْكُرُونَ » ، و « يَفْعَلُونَ » ، و « يَصْنَعُونَ » ، و « يَكْفُرون » ، و « يَخْلُقُونَ إِفْكاً » ، ونحو ذلك في القرآن كثير ، ولكنّه تعالى أمَرَ تخييراً ، ونهى تحذيراً ، أَقدَرَهُم على فعل الضِّدين ، وهداهم النجدين ، ومكّنهم في الحالين ، لم يمنعهم عن فعل المعاصي جبراً ، ولا قهرهم على فعل الطاعات قهراً ، ولو شاء لفعل كما قال عزّ وجلّ : « وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الاََرْضِ جَمِيعاً » [يونس : 99ج يريد به مشيئة الاِجبار لا مشيئة الاختيار ، لاَنّه لو أكرههم لم يكونوا مكلّفين ، ولَبَطل الغرض ببعثة المرسلين.
1 ـ التعبير موهم للتفويض وهنا تفترق الزيدية عن الاِمامية ، فانّ لاَفعال العباد عند الاِمامية نسبتين : نسبة إلى اللّه سبحانه ، ونسبة إلى العبد ، ولاَجل وجود النسبة ، فأفعالهم منسوبة إليهم بالمباشرة وهم الفاعلون حقيقة ، وإلى اللّه سبحانه بنحو من النسب إمّا بالتسبيب ، أو اللطف منها ، ولاَجل ذلك روى عن الاَئمة ( عليهم السلام ) أنّه : « لا جبر ولاتفويض ».
فصل [في أنّ اللّه لا يعذب أحداً إلاّ بذنبه]
فإن قيل : ربّك يعذب أحداً بغير ذنبه؟
فقل : لا يعذب أحداً إلاّ بذنبه؛ لاَنّ عقاب من لا ذنب له ظلم ، والظلم قبيح ، وهو تعالى لا يفعل القبيح ، وقد قال تعالى : « وَلاَتَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى » [الاَنعام : 164].
فصل [في أنّ اللّه لا يقضي إلاّ بالحق] (1).
فإن قيل : أربك يقضي بغير الحق؟
فقل : كلاّ ، بل لا يقضي بالكفر والفساد ، لما في ذلك من مخالفة الحكمة والسداد ، لقوله تعالى : « وَاللّهُ يَقْضِي بِالحقِّ » [غافر : 20] ، فلا يجوز القول بأنّ المعاصي بقضاء اللّه تعالى وقَدَره بمعنى الخلق والاَمر ، لاَنّها باطلٌ ، ولاَنّ إجماع المسلمين منعقدٌ على أنّ الرضى بالمعاصي لايجوز ، وإجماعهم منعقد على أنّ الرضا بقضاء اللّه واجب ، ولا مخلص إذاً من ذلك إلاّ بالقول بأنّ المعاصي ليست
1 ـ العنوان حسن جداً ، لكن إخراج المعاصي عن مجال قضائه وإرادته سبحانه يستلزم التفويض الممقوت ، فالحق أنّ كل ما يوجد في الكون من حسن وجميل ، وإيمان وكفر ، وطاعة وعصيان ، ليس خارجاً عن قضائه وعلمه وإرادته لكن على وجه لا يستلزم الجبر ولا يسلب الاختيار. والتفصيل يطلب من محله.
بقضاء اللّه؛ بمعنى أنّه خلقها ، ولا أنّه أمر بها ، وأمّا أنّه تعالى عالم بها فهو تعالى عالم بها ، لاَنّها من جملة المعلومات ، وعِلْمُه بها لم يحمل العبد على فعلها ، ولم يجبره على صنعها كما تقدم.
فصل [في أنّ اللّه لا يكلف أحداً فوق طاقته]
فإن قيل : هل ربك يُكلّف أحداً فوق طاقته؟
فقل : لا ، بل لا يكلف أحداً إلاّ ما يطيق؛ لاَنّ تكليف ما لا يطاق قبيح ، وهو تعالى لا يفعل القبيح ، فقد قال تعالى : « لاَ يُكَلّفُ اللّه ُنَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا » [البقرة : 286] ، والوسع : دون الطّاقة ، وقال : « إلاّ مَا آتَاهَا » [الطلاق : 7].
فصل [في أنّ اللّه لا يريد شيئاً من القبائح] (1).
فإن قيل : أربك يريد شيئاً من القبائح؟
فقل : إنّه تعالى لا يريد شيئاً منها ، فلا يريد الظلم ، ولا يرضى الكفر ، ولا يحب الفساد ، لاَنّ ذلك كله يرجع إلى إرادة القبيح ، وإرادة القبيح هي قبيحة ، وهو تعالى لا يفعل القبيح.
ألا ترى أنّه لو أخبرنا مُخبرٌ ظاهرهُ العدالة ، بأنّه يريد الزنا والظلم لسقطت عدالته ، ونقصت منزلته ، عند جميع العقلاء ، ولا علّة لذلك إلاّ أنّه أتى قبيحاً ، وهو إرادة القبيح.
وقد قال تعالى : « وَاللّه لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ » [البقرة : 205].
وقال : « وَلاَيَرْضَى لِعِبادِهِ الكُفْرَ » [الزمر : 71].
وقال : « ومَا اللّهُ يُريدُ ظُلماً للعِبادْ » [غافر : 31].
1 ـ مضى الكلام فيه في التعليقة السابقة.
فصل [في أنّ اللّه لا يفعل ما هو مفسدة]
فإن قيل : فهل ربّك يفعل لعباده ما هو مَفْسَدة؟
فقل : كلاّ ، بل لا يفعل إلاّ الصّلاح ، ولايبلوهم إلاّ بما يدعوهم إلى الفلاح ، سواء كان ذلك محنة أو نعمة؛ لاَنّه تعالى لا يفعل إلاّ الصّواب والحكمة كما تقدم ، فإذا أمرضهم وابتلاهم أو امتحنهم بفوت ما أعطاهم ، فلابُدّ من اعتبار المكلفين؛ ليخرج بذلك عن كونه عَبَثاً ، وقد نبّه على ذلك بقوله تعالى : « أَوَ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ هُمْ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ » [التوبة : 126] ، ولابُدّ من العِوَض الموفّي على ذلك بأضعاف مضاعفة ، ليخرج بذلك عن كونه ظلماً ، وقد ورَدَ ذلك في السنّة كثيراً ، والغَرَضُ الاختصار.
(النبوة)
فصل [في معرفة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )]
فإن قيل : فقد أكملت معرفة ربّك ، فمن نبيك؟
فقل : محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
فإن قيل : فما برهانك على ذلك؟
فقل : لاَنّه جاء بالمعجزة عقيب ادّعائه النبوّة ، وكل من كان كذلك فهو نبيّ صادق.
فإن قيل : فما برهانك على أنّه جاء بالمعجز عقيب ادّعائه النبوّة؟
فقل : المعلوم ضرورة أنّه كان في الدنيا قبيلةٌ تُسمّى قريش ، وأن فيهم قبيلة تسمّى : بنو هاشم ، وأنّه كان فيهم رجلٌ اسمه : محمد بن عبد اللّه ، والمعلوم ضرورةً أنّه ادّعى النبوة ، وأنّه جاء بالقرآن بعد ادعاء النبوة ، وأنّه مشتمل على آيات التحدّي ، وأنّه كان يتلوها على المشركين ويسمعونها وهم النّهاية في الفصاحة ، والمعلوم ضرورةً شدّةُ عداوتهم له.
وإنّما قلنا : بأنّه معجز لاَنّه تحداهم على أنّ يأتوا بمثله فعجزوا ، ثم تحداهم على أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا ، ثم تحداهم بأنّ يأتوا بسورة من مثله فلم يقدروا على ذلك؛ لاَنّهم لو قدروا على معارضته ـ مع شدّة عداوتهم له وعلمهم بأنّ معارضته بمثل ما جاء به تبطلُ دعواه ـ لما عدلوا عنها إلى الشّاقّ من محاربته ، التي لا تدل على بطلان دعواه ، فدلّ ذلك على كونه معجزاً.
ولاَنّ القرآن مشتمل على الاِخبار بالغيوب المستقبلة ، وعلى الاِخبار عن الاَُمور الماضية ، فكان الاَمر على ما أخبر في الماضي والمستقبل ، فدَلّ ذلك على كونه معجزاً ، لايقدر عليه أحد من البشر.
وله معجزات كثيرة تقارب ألف معجزة ، نحو : مجيء الشجرة إليه ، وجريها على الماء كالسفينة ، وسير الشّجرة ، وإحيائه الموتى ، وتسبيح الحصى في يده ، ونحو ذلك كثير ، وإنما قلنا بأنّ من كان كذلك فهو نبي صادق؛ لاَنّ إظهار المعجز على أيدي الكَذّابين قبيح ، وهو تعالى لا يفعله ، وإذا ثبت صدقُهُ وصحّت نبوته ، وجب تصديقه فيما أخبرنا به عن الاَنبياء والمرسلين قبله ، ووجب القضاء بصحة نبوتهم وتصديق رسالتهم ، وهذا واضح.
فصل [في معرفة القرآن]
فإن قيل : فما اعتقادك في القرآن؟
فقل : اعتقادي أنّه كلام اللّه تعالى ، وأنّه كلام مسموع محدثٌ مخلوق.
فإن قيل : فما دليلك على ذلك؟
فقل ، أمّا قولي : إنّه كلام اللّه تعالى ، فلقوله تعالى : « وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّه » [التوبة : 6] ، المعلوم أن الكلام الذي سمعه المشركون ليس بشيء غير هذا القرآن ، ولاَنّ المعلوم ضرورة أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يدين ويخبر بذلك ، وهو لا يدين إلاّ بالحق ، ولا يخبر إلاّ بالصدق ، لاَنّ ظهور المعجز على يديه قد استأمن وقوع الخطأ فيما يدين به ، وظهور الكذب فيما يخبر به.
وأمّا قولي : إنّه مسموعٌ فذلك معلوم بالحسّ ولقوله تعالى : « إِنّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً » (الجن : 1) والمعلوم ضرورة أنّ ذلك المسموع هذا القرآن.
وأمّا قولي : إنّه محدَثٌ؛ فلاَنّه فعل من أفعاله تعالى ، والفاعل متقدم على فعله بالضّرورة ، ومايتقدمه غيره فهو مُحدَث ، ولاَنّ بعضه متقدم على بعض ، وذلك يدل على أنّه محدَث ، ولقوله تعالى : « مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍج » [الاَنبياء : 2]. والذكر هو القرآن ، لقوله تعالى : « وإنّهُ لَذِكْرٌ لكَ ولِقَوْمِكَ » [الزخرف : 44] ، أيْ شَرَفٌ لك ولقومك.
وأمّا قولي : إنّه مخلوقٌ؛ فلاَنّه مُرَتَّبٌ منظومٌ على مقدارٍ معلومٍ موافقٍ للمصلحة. بهذه الصِّفةِ المنزَّلة جَازَ وَصفهُ بأنّه مخلوقٌ ، ولِما رواه عمر بن الخطاب ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : « كان اللّه ولا شيء ثم خلق الذكر » ، والذكر هو القرآن كما تقدم.
ثم قل : وأعتقد أنّه حقّ لا باطل فيه ، لقوله تعالى : « وَإِنّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ » [فصلت : 41 و 42].
ثم قل : وأعتقد أنّه لا تناقض فيه ولا تعارض ولا اختلاف ، « وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوْا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثيراً » [النساء : 82].
(الاِمامة)
فصل [في إمامة الاِمام علي ( عليه السلام ) ]
فإن قيل : من أوّلُ الاَئمة بعد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأولى الاَُمّة بالخلافة بعده بلا فصل؟
فقل : ذلك أمير الموَمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب.
فإن قيل : هذه دعوى ، فما برهانك؟
فقل : الكتاب ، والسنّة ، وإجماع العترة.
أمّا الكتاب ، فقوله تعالى : « إِنّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيْمُونَ الصَّلاةَ وَيُوَْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ » [المائده : 55] ، ولم يوَتِ الزكاةَ في حالِ ركوعه غيرُ علي ( عليه السلام ) ، وذلك أنّ سائلاً سأل على عهد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حال ركوع عليٍ في الصلاة ، وذلك في مسجد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلم يعطه أحدٌ شيئاً ، فأشار إليه ( عليه السلام ) بخاتمه وهو راكع ونواه زكاة ، فأخذه السائلُ ، فنزل جبريل ( عليه السلام ) بهذه الآية على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الحال ، فكانت في علي ( عليه السلام ) خاصة دون غيره من الاَُمّة. وهي تفيد معنى الاِمامة لاَنّ الوليّ هو : المالك للتصرّف ، كما يقال هنا : ولي المرأة ، وولي اليتيم ، أي المالك للتصرف عليهما.
وأمّا السنّة ، فخبر الغدير ، وهو قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى يا رسول اللّه. قال : فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ والِ مَنْ والاه وعادِ مَنْ عاداه ، وانصر مَنْ نصره ، واخذل مَنْ خَذَلَهُ » ، فقال له عمر : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل موَمن وموَمنة.
وروينا عن الموَيد باللّه بإسناده إلى الصادق جعفر بن محمد الباقر أنّه سُئِلَ عن معنى هذا الخير ، فقال : سئل عنها ـ واللّه ـ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : « اللّه مولاي أولى بي من نفسي لا أمر لي معه ، وأنا ولي الموَمنين أولى بهم من أنفسهم لا أمر لهم معي ، ومن كنت مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معي ، فعلي مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معه ».
وإذا ثبت ذلك فإنّه يفيد معنى الاِمامة؛ لاَنّا لا نعني بقولنا : فلان إمام إلاّ أنّه أولى بالتصرف في الاَُمّة من أنفسهم ، ولاَنّ لفظ المولى لا يفهم منه [إلاّ] مالك بالتصرف ، كما يقال : هذا مولى العبد ، أي المالك للتصرف فيه ، وهذا يفيد معنى الاِمامة كما تقدم.
ومما يدلّ على ذلك من السنّة : (خبر المنزلة) وهو معلوم كخبر الغدير ، وهو قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لانبيّ بعدي » ، فاستثنى النبوة ، فدَلَّ ذلك على شموله لخصال الفضل كلها ، ومن جملتها مِلْك التصرف على الاَُمّة ، وأنّه أولى الخلق بالتصرف منهم ، وذلك معنى الاِمامة كما تقدم.
وأمّا الاِجماع فإجماع العترة منعقد على ذلك.
فصل [في إمامة الحسنين]
فإن قيل : لمن الاِمامة بعد علي ( عليه السلام ) ؟
فقل : هي للحسن ولده من بعده ، ثم هي للحسين من بعد أخيه ( عليهما السلام ).
فإن قيل : فما الدليل على إمامتهما؟
فقل : الخبر المعلوم ، وهو قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ، وأبوهما خير منهما » ، وهذا نصُّ جَلِيّ على إمامتهما ، وفيه إشارة إلى إمامة أبيهما ، لاَنّه لا يكون خيراً منه إلاّ إمام شاركه في خصال الاِمامة وزاد عليه فيها ، فيكون حينئذ خيراً منه ، وهذا واضح ، والاِجماع منعقد على أنّه لا ولاية لهما على الاَُمّة في زمن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولا في زمن علي ( عليه السلام ) إلاّ عن أمرهما ، وأنّه لا ولاية للحسين في زمن أخيه الحسن إلاّ عن أمره ، فبقيت الاِمامة مخصوصة بالاِجماع.
فصل [في الاِمامة بعد الحسنين] (1).
فإن قيل : لمن الاِمامة بعدهما؟
فقل : هي محصورة في البطنين ومحظورة على من عدا أولاد السبطين ، فهي لمن قام ودعا من أولاد من ينتمي نسبه من قِبَل أبيه إلى أحدهما ، متى كان جامعاً لخصال الاِمامة ، من : العِلْمِ الباهر ، والفضل الظاهر ، والشجاعة ، والسخاء ، وجودة الرأي بلا امتراء ، والقوة على تدبير الاَُمور ، والورع المشهور.
فإن قيل : ما الذي يدل على ذلك؟
فقل : أمّا الذي يدلّ على الحصر فهو أنّ العقل يقضي بقبح الاِمامة ، لاَنّها تقتضي التصرف في أُمور ضارة من القتل ، والصّلب ، ونحوهما ، وقد انعقد إجماع المسلمين على جوازها في أولاد فاطمة ( عليها السلام ) ، ولا دليل يدل على جوازها في غيرهم ، فبقي من عداهم لا يصلح ، ولاَنّ العترة أجمعت على أنّها لاتجوز في غيرهم ، وإجماعهم حجّة.
وأمّا الذي يدلّ على اعتبار خصال الاِمامة التي ذكرنا فهو إجماع المسلمين.
فإن قيل : فسّروا لنا هذه الخصال.
فقل : أمّا العلمُ ، فإنّه يكون عارفاً بتوحيد اللّه وعدله ، وما يدخل تحت ذلك ،
1 ـ الاِمامية قائلة بالنصّ بعدهما إلى الاِمام الثاني عشر ، فالمخالفة بين الطائفتين واضحة في هذا المقام.
وأن يكون عارفاً بأُصول الشرائع وكونها الاَدلة ، وهي أربعة : الكتاب ، والسنّة ، والاِجماع ، والقياس ، والمراد بذلك أن يكون فهماً في معرفة أوامر القرآن والسنّة ونواهيهما ، وعامّهما ، وخاصّهما ، ومجملهما ، ومبينهما ، وناسخهما ، ومنسوخهما ، عارفاً بمواضع الوفاق ، وطُرُق الخلاف في فروع الفقه ، لئلاّ يجتهد في مواضع الاِجماع ، فيتحرى في معرفة القياس والاجتهاد ، ليمكنه ردّ الفرع إلى أصله.
وأمّا الفضل ، فأن يكون أشهر أهل زمانه بالزيادة على غيره في خصال الاِمامة أو كأشهرهم.
وأمّا الشجاعة ، فإنّه يكون بحيث لا يجبن عن لقاء أعداء اللّه ، وأن يكون رابط الجأش وإن لم يكُثُر قَتْلُه وقِتالُه.
وأمّا السخاء ، فأن يكون سخياً بوضع الحقوق في مواضعها.
وأمّا جودة الرأي ، فأن يكون بالمنزلة التي يُرْجَعُ إليه عند التباس الاَُمور.
وأمّا القوة على تدبير الاَُمور ، فلا يكون منه نقص في عقله ، ولا آفة في جسمه ، يضعف لاَجل ذلك عن النظر في أُمور الدّين وإصلاح أحوال المسلمين.
وأمّا الورع ، فأن يكون كافّاً عن المقبحات ، قائماً بالواجبات.
فرع [في طريق معرفة مواصفات الاِمام]
فإن قيل : فما الطريق إلى إثبات كونه على هذه الخصال؟
فقل : أمّا كونه عالماً فيحصل العلم به للعلماء بالمباحثة والمناظرة ، ويحصل لغيرهم من الاَتْباع العلم بكونه عالماً بوقوع الاِطباق والاِجماع على كونه كذلك.
وأمّا سائر الخصال فلابد من حصول العلم بكونه عليها ، وإن كان غائباً ، فإنّه يحصل العلم التواتري بذلك ، وكذلك حكم العلم إذا كان غائباً ، فإن طريق العلم به الاَخبار المتواترة للعلماء وغيرهم ، وإن كان حاضراً فلابد من حصول العلم بكونه جامعاً لها ، لاَنّها من أُصول الدين ، فلايأخذ بالاَمارات المقتضية للظن بكونه جامعاً لها.
فصل [الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
فإن قيل : فماذا تدين به في الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
فقل : أدين اللّه تعالى أنّه يجب الاَمر بالمعروف الواجب والنهي عن المنكر؛ لقوله تعالى :
« وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُون » [آل عمران : 104] ، وإنما قلنا : إنّه يجب الاَمر بالمعروف الواجب؛ لاِجماع المسلمين أنّه لا يجب الاَمر بالمعروف المندوب ، فلم يبق إلاّ القضاء بالاَمر بالمعروف الواجب مع الاِمكان وإلاّ بطلت فائدة الآية ، ومعلوم خلاف ذلك ، وقلنا : يجب النهي عن كل منكر لاِجماع المسلمين على ذلك؛ ولاَنّ المنكرات كلها قبائح فيجب النهي عنها جميعاً مع الاِمكان ، كما يلزم الاَمر بالمعروف الواجب مع الاِمكان.
(المعاد)
فصل [في الوعد والوعيد]
فإن قيل : فماذا تدين به في الوعد والوعيد؟
فقل : أدين اللّه بأنّه لابدّ من الثواب للموَمنين إذا ماتوا على الاِيمان مستقيمين ، ودخولهم جنات النعيم : « لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِمُخْرَجِينَ » [الحجر : 48] « خَالِدِينَ فِيْها أَبَداً ».
وأدين اللّه بصحة ما وعد به من سعة الجنة ، وطيب مساكنها ، وسرُرها الموضوعة ، ومآكلها المستلذة المستطابة ، وفواكهها الكثيرة التي ليست بمقطوعة ولا ممنوعة ، وأنهارها الجارية التي ليست بمستقذرة ولا آسنة ، ولا متغيرة ولا آجنةٍ ، وملابسها الفاخرة ، وزوجاتها الحسان الطاهرة ، والبهية النّاضِرة ، ونحو ذلك مما بيّنه اللّه تعالى في كتابه المجيد ، وهو حقّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وأدين اللّه تعالى أنّه لابدَّ من عقاب الكافرين في جهنم بالعذاب الاَليم ، وشراب الحميم ، وشجرة الزَّقُّوم طعام الاَثيم ، وأنّهم يخلّدون فيها أبداً ، ويلبسون ثياباً من نار ، وسرابيل من القَطِران ، كلّما نضجت جلودُهم بدّلهم اللّه جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب ، وكل ذلك معلوم من ضرورة الدين.
فصل [في أهل الكبائر]
فإنّ قيل : ماذا تدين به في أهل الكبائر سوى أهل الكفر؟
فقل : أُسمّيهم : فُسّاقاً ، ومجرمين ، وطغاة ، وظالمين ، لاِجماع الاَُمّة على تسميتهم بذلك ، ولا أُسمّيهم كفاراً على الاِطلاق ، ولاموَمنين (1) لفقد الدلالة على ذلك.
وأدين اللّه تعالى بأنّهم متى ماتوا مُصرّين على الكبائر فإنّهم يدخلون نار جهنم ، ويخلّدون (2) فيها أبداً ، ولا يخرجون في حال من الاَحوال ، لقوله تعالى :
1 ـ عند الاِمامية أنّهم موَمنون وللاِيمان درجات ومراتب وقد أوضحنا الحال في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند الكلام عن الاَصل الرابع للمعتزلة : المنزلة بين المنزلتين.
2 ـ عند الاِمامية أنّهم غير مخلدين وقد أوضحنا الحال في الجزء الثاني عند الكلام في الوعد والوعيد عند المعتزلة.
« إنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهّنمَ خَالِدُونَ » [الزخرف : 74] ، والفاسق عاصٍ ، كما أنّ الكافر عاصٍ ، فيجب حمل ذلك على عمومه ، إلاّ ما خصّته دلالةٌ. وقوله تعالى : : « والَّذينَ لا يَدْعون معَ اللّهِ إِلهاً آخرَ لاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرَّمَ اللّه إِلاّ بالحقّ وَلاَ يَزْنُوْنَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيامَةِ وَيَخَلُد فِيهِ مُهَاناً » [الفرقان : 68 ـ 69]. وإجماع العترة على ذلك ، وإجماعهم حجة.
فصل [في صفة الموَمن وما يجب في حقّه]
فإن قيل : فمن الموَمن ، وما يجب في حقه؟
فقل : الموَمن من أتى بالواجبات ، واجتنب المُقَبّحات ، فمن كان كذلك؛ فإنّا نسميه : موَمناً ، ومسلماً ، وزكياً ، وتقياً ، وبراً ، وولياً ، وصالحاً ، وذلك إجماع ، ويجب : إجلاله ، وتعظيمه ، واحترامه ، وتشميته ، وموالاته ، ومودّته ، وتحرم : معاداته ، وبُغضُه ، وتحظر : نميمته ، وغيبَتُهُ ، وهو إجماع أيضاً ، ومضمون ذلك أن تُحِبَّ له ما تحب لنفسك ، وتكره له ما تكره لنفسك ، وبذلك وردت السنّة.
فصل [في صفة الكافر]
فإن قيل : فمن الكافر؟
فقل : من لم يَعْلَمْ له خالقاً ، أو لم يَعْلَم شيئاً من صفاته التي يتميز بها عن غيره ، من كونه قادراً لذاته ، عالماً لذاته ، حياً لذاته ، ونحو ذلك من صفاته المتقدمة ، فمن جحد شيئاً من ذلك أو شك أو قلد ، أو اعتقد أنّه في مكان دون مكان ، أو أنّه في كل مكان ، أو شكّ في ذلك ، أو اعتقد له شريكاً أو أنّه يفعل المعاصي أو يُرِيدها ، أو يَشُكّ في شيء من ذلك ، أو جحد رَسُولَ اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو ردّ ما عُلم من الدّين ضرورة باضطراب أو شك في شيء من ذلك ، فهو كافرٌ بالاِجماع ، ويجوز أن نسمّيه : فاجراً ، وفاسقاً وطاغياً ، ومارقاً ، ومجرماً ، وضالماً ، وآثماً ، وغاشماً ، ونحو ذلك من الاَسماء المشتقة من أفعاله بلا خلاف.
وإن كان يُظهرُ الاِيمان ويبطنُ الكفر ، جاز أن نسميه مع ذلك : منافقاً ، بالاِجماع.
ومن كانت هذه حالته ـ أعني غير المنافق ـ جاز قتله وقتاله ، وحصره ، وأخذ ماله ، وتجب معاملته بنقيض ما ذكرنا أنّه يجب من حقّ الموَمن ، وقد ذكرنا أحكامه مفصّلة في (ثمرات الاَفكار في أحكام الكفار).
فصل [في صفة الفاسق]
فإن قيل : فمن الفاسق وما حكمه؟
قلنا : أمّا الفاسق فهو مُرْتَكِبُ الكبائر سوى الكفر ، نحو الزاني ، وشارب الخمرة ، والقاذف ، ومن فرّ من زحف المسلمين غير متحرفٍ لقتال ولا متحيز إلى فئة ، وتاركُ الجهاد بعد وجوبه عليه ، وتاركُ الصلاة ، والصيام ، والحج ، مع وجوب ذلك عليه ، غيرُ مُستحلّ لتركه ولا مستخفّ ، والسارق من سرق عشرة دراهم ـ أي قفلة ـ فما فوق بغير حق ، ونحو ذلك من الكبائر ، فمن فعل ذلك أو شيئاًمنه ، فإنّه يجوز أن نسميه بالاَسماء المتقدمة قبل هذه في الكافر ، إلاّ لفظ : الكافر ، والمنافق ، فإنّ ما عداهما إجماع أنّه يجوز تسميته به ، وأمّا المنافق فلا بد من دلالة تدل على جواز إطلاقه عليه ، وأمّا لفظ : الكافر ، فمنعه كثير من العلماء ، وأجاز إطلاقه جماعةٌ مع التنبيه ، فقالوا : هو كافر نعمة ، وهو الصحيح؛ لاَنّه مروي عن علي ( عليه السلام ) ، وهو إجماع العترة ، ولِمُوافقة الكتاب.
وأمّا حكمه فحكم الكافر فيما تقدم إلاّ القتل والقتال ، وأخذ الاَموال فلا يجوز إلاّ بالحق ، ولايجوز قتله على الاِطلاق ، وكذلك حصره فلا يجوز بحال من الاَحوال.
فرع [في الفرق بين فعل اللّه وفعل العبد]
فإن قيل : ما الفرق بين فعل اللّه وبين فعل العبد؟
فقل : فعل اللّه جواهر وأعراض وأجسام ، يعجز عن فعلها جملة الاَنام ، ومضمونه أنّ كلما وقف على قصد العبد واختياره تحقيقاً أو تقديراً فهو فعله ، ومالم يكن كذا فليس بفعله.
فصل [في أنّه لا بد من الموت والفناء]
ثم قل أيُّـها الطالب للنجاة : وأدين اللّه تعالى بأنّه لا بد من الموت والفناء ، والاِعادة بعد ذلك للحساب والجزاء ، والنفخ في الصور ، وبعثرة القبور ، والحشر للعرض المشهور ، والاِشهاد على الاَعمال بغير زور ، ووضع الموازين ، وأخذ الكتب بالشمال واليمين ، والبعث والسوَال للمكلفين ، وأن ينقسموا فريق في الجنّة وفريق في السعير ، وكل ذلك معلوم من ضرورة الدين ، وأنّه لابد من المناصفة بين المظلومين والظالمين ، لدلالة العدل بيقين.
فصل [في الشفاعة]
فإن قيل : ما تقول في الشفاعة؟
فقل : أدين اللّه تعالى بثبوتها يوم الدين ، وإنما تكون خاصة للموَمنين (1) ـ دون من مات مصـرّاً من المجرمين على الكبائر ـ ليزيدهم نعيماً إلى نعيمهم ، وسروراً إلى سرورهم ، ولمن ورد العَرْضَ وقد استوت حسناته وسيئاته ، فيشفع له النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )؛ ليرقى درجة أعلى من درجة غير المكلفين من الصبيان والمجانين ، وإنّما قلنا : إنّه لا بد من ثبوتها ، لقوله تعالى : « عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً » [الاِسراء : 79] ، قيل : هو الشفاعة ، وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « من كذب بالشفاعة لم ينالها يوم القيامة ».
وأمّا أنّها تكون لمن ذكرناها ، فلقوله تعالى : « مَا لِلظّالمينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَشَفِيعٍ يُطَاعُ » [غافر : 18] ، « مَا لِلظّالِمينَ مِنْ أَنْصَار » [البقرة : 270] ، وقول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ليست شفاعتي لاَهل الكبائر من أُمتي » ، وقوله تعالى : « وَلاَيَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى » [الاَنبياء : 28] كل ذلك يدلُّ على ما قلنا.
وتم بذلك ما أردنا ذكره للمسترشدين ، تعرّضاً منّا لثواب ربّ العالمين ، ربّنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهاب. وصلّ اللّهم وسلم على محمد صفيك وخاتم أنبيائك ، وعلى آله سفن النجاة آمين. وتوفنا مسلمين آمين اللّهمّ آمين.
1 ـ أراد بالموَمنين العدول وعند الاِمامية يعم العادل والفاسق وقد بينا الدليل في الجزء الثالث عند الكلام في الشفاعة عند المعتزلة.
وهذه المواضع الثلاثة ، هي من مواضع الاتفاق بين المعتزلة والزيدية.
مصباح العلوم في معرفة الحيّ القيوم
وهناك رسالة أُخرى في عقائد الزيدية باسمّ « مصباح العلوم في معرفة الحيّ القيوم » للعلامة أحمد بن الحسن الرصاص المتوفّى عام 600 ـ أو ـ 650وعلى كل تقدير فالرسالة تنتمي إلى النصف الاَوّل من القرن السابع كالرسالة السابقة وهي معروفة بالثلاثين مسألة ، وقد حقّقها الدكتور محمد عبد السلام كفافي أُستاذ الآداب الاِسلامية بجامعة القاهرة وجامعة بيروت العربية وقوّم نصّها بالعثور على مخطوطات في مكتبة المتحف البرطاني بلندن ، ولها نسخ في مكتبات أوربا يقول المحقق : « والظاهر من كثرة عدد النسخ أنّ هذه الرسالة كانت ذائعة بين أتباع المذهب الزيدي ولاعجب في ذلك فهي تلخص معتقداتهم تلخيصاً وافياً في صفحات قلائل » (1).
إنّ تعاصر الموَلفين وتقارب مضامين الرسالتين ، ورغبة القراء إلى الاختصار حفزتنا إلى نشر الرسالة الاَُولى فقط.
1 ـ مصباح العلوم : المقدمة 5.
أُمور متفرقة
الاَوّل : حلقات المناظرة بين الاِمامية والزيدية :
يشهد التاريخ على أنّ حلقات المناظرة كانت تنعقد في الجامعات وبيوت الشخصيات في عصر الشيخ المفيد (336 ـ 413هـ) ويشارك فيها الاِمامي والزيدي والمعتزلي وغيرهم ، وكان الشيخ يناظر كل هذه الفرق ، ببلاغة تثير إعجاب المشاركين.
وقد ذكر السيد المرتضى (355 ـ 463هـ) قسماً من هذه المناظرات في كتابه « الفصول المختارة » الذي اختاره من كتاب « العيون والمحاسن » لاَُستاذه الشيخ المفيد ، وقد طبع الاَوّل دون الثاني.
ونذكر هنا أجوبة الشيخ للاعتراضات الثلاثة التي طرحها أحد شيوخ الزيدية المعروف بالطبراني ويدور الجميع على محاور ثلاثة.
إنّ الاِمامية حنبلية من جهات ثلاث :
1 ـ يعتمدون على المنامات كالحنابلة.
2 ـ يدّعون المعجزات لاَ كابرهم كالحنابلة.
3 ـ يرون زيارة القبور مثلهم.
وإليك الاعتراضات والاَجوبة بنصهما.
قال الشيخ : كان يختلف إليّ حدَث من أولاد الاَنصار ويتعلّم الكلام فقال لي يوماً : اجتمعت البارحة مع الطبراني شيخ من الزيدية ، فقال لي : أنتم يامعشر الاِمامية حنبلية وأنتم تستهزئون بالحنبلية ، فقلت له : وكيف ذلك؟ فقال : لاَنّ الحنبلية تعتمد على المنامات وأنتم كذلك ، والحنبلية تدّعي المعجزات لاَكابرها وأنتم كذلك ، والحنبلية ترى زيارة القبور والاِعتكاف عندها وأنتم كذلك ، فلم يكن عندي جواب أرتضيه ، فما الجواب؟
الجواب على الاعتراض الاَوّل :
قال الشيخ أدام اللّه عزّه : فقلت له : أرجع فقل له : قد عرضتُ ما ألقيته إليّ على فلانٍ ، فقال لي : قل له إن كانت الاِمامية حنبلية بما وصفت أيها الشيخ فالمسلمون بأجمعهم حنبلية والقرآن ناطق بصحة الحنبلية وصواب مذاهب أهلها ، وذلك أنّ اللّه تعالى يقول : « إذْ قَالَ يُوسُفُ لاِبيهِ ياأبَتِ إنّي رَأيتُ أحَدَ عَشَرَ كَوكَباً وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ رَأيتُهُمْ لِي ساجِدِينَ * قَالَ يابُنيَّ لاتَقصُصْ رُوَياكَ عَلَى إخوَتِكَ فَيَكيدُوا لَكَ كَيداً إنّ الشَّيطانَ لِلاِنسانِ عَدُوٌّ مُبين » (يوسف : 4 ـ 5).
فأثبتَ اللّه جلّ اسمه المنام وجعل له تأويلاً عرفه أولياءه ( عليهم السلام ) وأثبتته الاَنبياء ودان به خلفاوَهم وأتباعهم من الموَمنين واعتمدوه في علم ما يكون وأجروه مجرى الخبر مع اليقظة وكالعيان له.
وقال سبحانه : « وَدَخَلَ مَعَهُ السِجنَ فَتيانِ قالَ أحَدُهُما إنّي أراني أعصِرُ خَمراً وَقالَ الآخرُ إنّي أراني أحمِلُ فَوقَ رَأسي خُبزاً تَأكُلُ الطَيرُ مِنهُ نَبّئنا بِتَأويله إنّا نراكَ مِنَ المُحسِنين » (يوسف ـ 36).
فنبّأهما ( عليه السلام ) بتأويله وذلك على تحقيق منه لحكم المنام ، وكان سوَالهما له مع جهلهما بنبوته دليلاً على أنّ المنامات حقّ عندهم ، والتأويل لاَكثرها صحيح إذا وافق معناها ، وقال عزّ اسمه : « وَقالَ المَلِكُ إنّي أرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يأكُلُهُنَّ سَبْعٌ عُجافٌ وَسَبْعَ سُنْبلاتٍ خُضرٍ وَأُخَرُ يابِساتٍ يا أيّها المَلاَ أفتُوني في روَياي إن كُنتُمْ لِلروَيا تُعَبرُونَ * قَالوا أضغاثُ أحلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأويلِ الاَحلامِ بِعالِمين » (يوسف : 43 ـ 44) ثم فسرها يوسف ( عليه السلام ) وكان الاَمر كما قال.
وقال تعالى في قصة إبراهيم وإسماعيل ( عليهما السلام ) : « فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعيَ قَالَ يابُنيَّ إنّي أرى في المنامِ أنّي أذبَحُكَ فَانظُرْ ماذا تَرى قال يا أبتِ افعل ما تُوَمر سَتَجِدُني إن شاءَ اللّهُ مِنَ الصابِرين » (الصافات : 102) فأثبتا ( عليهما السلام ) الروَيا وأوجبا الحكم ولم يقل إسماعيل لاَبيه ( عليه السلام ) يا أبت لا تسفك دمي بروَيا رأيتها فإنّ الروَيا قد تكون من حديث النفس ، وأخلاط البدن وغلبة الطباع بعضها على بعض كما ذهبت إليه المعتزلة.
فقول الاِمامية في هذا الباب ما نطق به القرآن ، وقول هذا الشيخ هو قول الملاَ من أصحاب الملك حين قالوا : « أضغاث أحلام » ومع ذلك فإنّا لسنا نثبت الاَحكام الدينية من جهة المنامات وإنّما نثبت من تأويلها ما جاء الاَثر به عن ورثة الاَنبياء ( عليهم السلام ).
الجواب على الاعتراض الثاني :
فأمّا قولنا في المعجزات فهو كما قال اللّه تعالى : « وَأوحَيْنا إلى أُمّ مُوسى أن أرضِعيه فإذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَألقيهِ في اليمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحزَني إنّا رادُّوه إلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلين » (القصص ـ 7).
فَضمَّنَ هذا القولُ تصحيح المنام إذ كانَ الوَحي إليها في المنام ، وضمَّنَ المعجز لها لعلمها بما كان قبل كونه.
وقال سبحانه في قصة مريم ( عليها السلام ) : « فَأشارت إلِيهِ قَالَوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهدِ صَبِيا * قالَ إنّي عَبدُ اللّه آتانِيَ الكِتابَ وَجَعَلَني نَبيّاً * وَجَعَلَني مُبارَكاً أينَ ما كُنْتُ وَأوصاني بالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيّاً » (مريم ـ 29 ـ 31) فكان نطق المسيح ( عليه السلام ) معجزاً لمريم ( عليهما السلام ) إذ كان شاهداً ببراءة ساحتها.
وأُمّ موسى ( عليه السلام ) ومريم لم تكونا نبيين ولا مرسلين ولكنهما كانتا من عباد اللّه الصالحين. فعلى مذهب هذا الشيخ كتاب اللّه يصحح الحنبلية.
الجواب على الاعتراض الثالث :
وأمّا زيارة القبور فقد أجمع المسلمون على وجوب زيارة رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى رووا « منْ حجَّ ولم يزره متعمداً فقد جفاه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وثلم حجّهُ بذلك الفعل » ، وقد قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « من سلّم عليّ من عند قبري سمعته ، ومن سلّم عليَّ من بعيد بلغته » سلام اللّه عليه ورحمته وبركاته وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للحسن ( عليه السلام ) : « من زارك بعد موتك أو زار أباك أو زار أخاك فله الجنّة ».
وقال أيضاً : في حديث له أوّل مشروح في غير هذا الكتاب : « تزوركم طائفة من أُمتي تريد به برّي وصلَتي فإذا كان يوم القيامة زرتها في الموقف فأخذت بأعضادها وأنجيتها من أهواله وشدائده ».
ولا خلاف بين الاَُمّة أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما فرغ من حجّة الوداع لاذ بقبر درس فقعد عنده طويلاً ثم استعبر فقيل له : يارسول اللّه ما هذا القبر؟ فقال :
هذا قبر أُمّي آمنة بنت وهب سألت اللّه في زيارتها فأذن لي.
وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وكنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الاَضاحي ألا فادخروها ».
وقد كان أمر في حياته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بزيارة قبر حمزة ( عليه السلام ) وكان ( عليه السلام ) يلمّ به وبالشهداء ، ولم تزل فاطمة ( عليها السلام ) بعد وفاته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تغدو إلى قبره وتروح لزيارته وكان أهل بيته والمسلمون يثبرون على زيارته وملازمة قبره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإن كان ما تذهب إليه الاِمامية من زيارة مشاهد الاَئمة ( عليهم السلام ) حنبلية وسخفاً من الفعل ، فالاِسلام مبني على الحنبلية ورأس الحنبلية رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهذا قول متهافت جداً يدلّ على قلة دين قائله وضعف رأيه وبصيرته.
ثم قال له : يجب أن تعلم أنّ الذي حكيت عنه قد حرّف القول وقبّحه ولم يأت به على وجهه ، والذي نذهب إليه في الروَيا أنّها على أضرب : فضرب منه يبشر اللّه به عباده ويحذرهم. وضرب تهويل من الشيطان وكذب يخطر ببال النائم. وضرب من غلبة الطباع بعضها على بعض ، ولسنا نعتمد على المنامات كما حكاه لكننا نأنس بما نبشر به ، ونتخوف مما نحذر منها ومن وصل إليه شيء من علمها عن ورثة الاَنبياء ( عليهم السلام ) مَيزّ بين حقّ تأويلها وباطله ومتى لم يصل إليه شيء من ذلك كان على الرجاء والخوف.
وهذا يسقط ما لعله سيتعلق به في منامات الاَنبياء ( عليهم السلام ) من أنّها وحي لاَنّ تلك مقطوع بصحتها وهذه مشكوك فيها مع أنّ منها أشياء قد اتفق ذوو العادات على معرفة تأويلها حتى لم يختلفوا فيه ووجدوه حسنا.
وهذا الشيخ لم يقصد بكلامه الاِمامية ولكنه قصد الاَُمّة ونصر البراهمة والملاحدة ، مع أني أعجب من هذه الحكاية عنه وأنا أعرفه يميل إلى مذهب أبي هاشم ويعظّمه ويختاره ، وأبو هاشم يقول في كتابه « المسألة في الاِمامة » : إنّ أبا بكر رأى في منام كان عليه ثوباً جديداً عليه رقمان ففسره على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال له : إن صدقت روَياك تبشر بخير (فستخبر بولدين خ) وتلي الخلافة سنتين ، فلم يرض شيخه أبو هاشم أن أثبت المنامات حتى أوجب بها الخلافة وجعلها دلالة على الاِمامة. فيجب على قول هذا الشيخ الزيدي عند نفسه أن يكون أبو هاشم رئيس المعتزلة عنده حنبلياً بل يكون عنده أبو بكر حنبلياً بل رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لاَنّه صحح المنام وأوجب به الاَحكام ، وهذا من بهرج المقال (1)
1 ـ السيد المرتضى : الفصول المختارة : 128 ـ 132.
الثاني : وجود المزاملة بين الطائفتين :
إنّ السبر في التاريخ يثبت بأنّ المزاملة العلمية والاجتماعية بين الشيعة الزيدية والشيعة الاِمامية في الاَعصار السابقة كانت وطيدة. وكانت كل طائفة تعرف ما عند الطائفة الاَُخرى من العقائد والاَحكام ، والاَدب والشعر. وكانت المجالس المنعقدة في الجامعات والبيوت تحتفل بهما معاً. فكان يدور بينهما النقاش والاِفادة والاستفادة ، ويظهر ذلك من كتاب الشيخ المفيد أعني الفصول المختارة. كما يظهر أيضاً من الرجوع إلى كتابه أوائل المقالات على أنّ له رسالة خاصة في عقائد الجارودية من الزيدية.
كل ذلك يعرب عن صلة وثيقة بين الطائفتين. ولا إشكال أنّ الصلة كانت لصالحهما. ولكن لانعلم في أي عصر ضعفت هذه الصلة إلى أن كادت أن تنقطع.
فلاَجل ذلك لانكاد نرى زيديّاً في جامعة النجف الاَشرف وسائر حوزات الشيعة الاِمامية وبالعكس إلاّ نادراً. كما لا نرى أي صلة بين الطائفتين في الكتب الموَلفة في العصور الاَخيرة من عصر ابن المرتضى إلى يومنا هذا.
ولعلّ الاَجواء والظروف السياسية قد أوجدت تلك الهوة ما بينهما فخسرت الطائفتان علمياً وأدبياً إذ هما صنوان يقومان على جذور واحدة.
اسأله سبحانه أن يعيد الوحدة ما بين المسلمين عموماً ، وبين الطائفتين خصوصاً.
الثالث : نشر الثقافة الزيدية :
إنّ الزيدية ـ بحق ـ تركت ثروة علمية في جميع مجالات العلوم الاِسلامية خصوصاً في الاَدب والكلام والفقه ، وتراثهم الباقي ، وفهارس مكتباتهم يشهد على ذلك بوضوح. ولعل أحد العلل في تطور علومهم خصوصاً في الفقه عدم التزامهم بالاَخذ بالمذاهب الفقهية المعروفة وإن كانوا متأثرين بالفقه الحنفي.
فوجود الاجتهاد واستمراره في حياتهم من عصر القاسم الرسيّ إلى يومنا هذا ضخّم ثقافتهم ، وأعطى لها أبعاداً كثيرة.
غير أنّ من الموَسوف عليه عدم اطّلاع المسلمين على تلك الثقافة لاَنّها صارت محصورة في اليمن وما والاها.
وقد قام العلاّمة البحاثة السيد أحمد الحسيني دام علاه بفهرسة كتبهم بعد رحلتين إلى اليمن الخصيب فجاء مجهوده مطبوعاً في أجزاء ثلاثة ذكر فيها أسماء (3346) من كتبهم المختلفة حسب الحروف الاَبجدية وأردفها بالفهارس العامة أهمها فهرس أسماء الموَلفين فقد ذكر أسماء الموَلفات حين التعرض لاَسماء الموَلفين وبذلك يغني الاِنسان عن ملاحظة كل كتاب في محله. ومن حسن الحظ أنّ مكتبة الجامع الكبير بصنعاء تحفل بمخطوطات كثيرة للزيدية فعلى المهتمين بالتراث الاِسلامي السعي في تصويرها قبل أن تندثر.
وللتعرف على الشخصيات الزيدية وعلى ثقافاتهم وكتبهم لا محيص من الرجوع إلى كتبهم المختلفة في التراجم والرجال والتاريخ.
ومن هذه الكتب ما نذكره فيما يلي والكل مخطوط لم ير النور :
1 ـ نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر : تأليف يوسف بن يحيى الحسني الصنعاني (1121هـ) ترجم فيه لمائة وأربعة وتسعين من شعراء الشيعة المتقدمين والمتأخرين منهم.
2 ـ نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الاَلف : تأليف السيد محمد بن محمد زبارة الحسني الصنعاني 1380 هـ ترجم لاَعلام اليمن في القرون الاَربعة بعد الاَلف الهجري إلى سنة 1375هـ. وقد أسمى لكل قرن اسماً.
3 ـ مطلع البدور ومجمع البحور : تأليف القاضي أحمد بن صالح أبي الرجال الصنعاني (ت 1092هـ) وهو في أربعة أجزاء تشتمل على أكثر من1360 ترجمة.
4ـ نشر كتاب الحدائق الوردية : لحميد الدين المحلي نشراً جديداً يناسب روح العصر.
إلى غير ذلك من الكتب التي تعرّف أئمة الزيدية وشخصياتهم.
نعم أُلّفت في العصور الاَخيرة كتب في تاريخ اليمن لها قيمتها ، وللموَلفين أجرهم.
الرابع : صيغة الحكومة الاِسلامية لدى الزيدية :
إنّ للحكومة الاِسلامية حسب ما يعطي الاِمعان في الكتاب والسنّة وسيرة المسلمين أُسساً وأركاناً ثلاثة لكلٍّ شأنه ومكانته :
1 ـ السلطة التشريعية :
للسلطة التشريعية مراحل ثلاث بعضها بيد اللّه سبحانه ، والبعض الآخر موكول إلى الاَُمّة الاِسلامية في ضمن شرائط :
1 ـ التشريع والتقنين للّه خاصة بالاَصالة فلا شارع ولا مقنّن سواه ولا يحق لاَحد ـ كان من كان وبلغ ما بلغ من العلم والثقافة والمكانة الفكرية والاجتماعية ـ أن يشرّع حكماً أو يحلّ حلالاً أو يحرم حراماً فكل ذلك موكول إلى اللّه سبحانه ، إذ الحكم ، حكمان : إلهي وجاهليّ ولا ثالث لهما فإذا لم يكن معزوّاً إليه ، فهو حكم جاهلي قال سبحانه : « أفَحُكمُ الجاهِليةِ يَبغُون وَمَن أحسَنُ مِنَ اللّهِ حُكماً لِقَومٍ يُوقِنُون » (المائده ـ 50) .
نعم هناك مرحلتان : مفوضتان إلى فريق من الاَُمّة لهم صلاحيّات خاصة وهما :
1 ـ مرحلة التشخيص : أي استنباط الحكم الاِلهي من الكتاب والسنّة ، فهي للفقهاء العدول ، يبذلون جهدهم لفهم حكم اللّه واستخراجه من الاَدلّة الشرعية.
2 ـ مرحلة التخطيط وتبيين برامج البلاد حسب الضوابط الاِسلامية وهي للخبراء وذوي الاِطلاع من الاَُمّة وهذا ما يصطلح عليه اليوم بالمجلس النيابي.
والفرق بين صيغة الحكومة الاِسلامية والاَنظمة البشرية الغربية والشرقية ، هو أنّ سلطة التشريع بيد اللّه سبحانه فيها دون تلك الاَنظمة إذ فيها بيد وكلاء الشعب فالمجلس النيابي عندهم مجلس التقنين والتشريع وعند المسلمين مجلس التخطيط والتنظيم في ضوء قوانين السماء.
2 ـ السلطة التنفيذية :
المراد بالسلطة التنفيذية في مصطلح اليوم هو هيئة الوزراء وما يتبعها من دوائر ومديريات منتشرة في أنحاء البلاد ومهمّتها تنفيذ ما يقرره مجلس الشورى من تصميمات وقرارات ومخطّطات في شتى حقول الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وبالتالي يقع على عاتقها مهمة إدارة البلاد بصورة مباشرة ، لها ألوان وصيغ في الاَنظمة البشرية وأما لونها في الحكومة الاِسلامية فليس إلاّ كون السلطة ـ إذا لم يكن هناك نصّ من اللّه سبحانه على شخص خاص ـ موضع رضا الاَُمّة لاَنّها تتسلم زمام السلطة المباشرة على نفوس الناس وأموالهم وأرواحهم ، ولولا الرضا لعاد إلى الاستبداد المبغوض عند الشرع والعقل وقد بسطنا الكلام حول السلطة التنفيذية وصلاحياتها من التخصص ، والوثاقة ، والزهد ، والعدل ، وكونها موضع رضا الاَُمّة في كتابنا : « مفاهيم القرآن » (1).
3 ـ السلطة القضائية :
إنّ القضاء يلعب دوراً كبيراً في تبديل الاختلاف إلى الوئام ، والتنازع إلى التوافق وبالتالي ينشر العدل ويصون الحقوق والحرمات ، غير أنّه لا يصلح ذلك المقام إلاّ لفريق من الشعب يتمتعون بالبلوغ والعقل والاِيمان والعدالة وطهارة المولد والعلم بالقانون الاِلهي والذكورة ، سليم الذاكرة ، وعندئذ يحقّق القاضي أهدافه السامية.
1 ـ مفاهيم القرآن : 2 / 205 ـ 210.
لا استبداد في الحكومة الاِسلامية :
وما ذكرناه يوقف الاِنسان على صورة بسيطة من الحكومة الاِسلامية المتجلية في نظرية الاِمامة أو الخلافة وليس فيها أي استبداد وسلب الحريات ، وأمّا تخصيص التشريع باللّه سبحانه ، فلاَنّه سبحانه أعرف بمصالح عباده ، ولاَنّ التقنين سلطة على الاَموال والنفوس وهي فرع وجود الولاية عليهما ، ولا ولاية لاَحد على أحد إلاّ للّه سبحانه ، فلاَجل ذلك خصّ التشريع به سبحانه ، وأمّا المرحلتان الباقيتان أعني الاِفتاء والتخطيط ، فيقوم به فريق منهم ، لهم صلاحيات وقابليّات. فالاِفتاء وإن كان رهن شروط ولكنه لا يشترط فيه رضا الاَُمّة ، لاَنّه مقام علمي ، يتوقف على حيازته ويكفي ثبوت الصلاحية له ، اقترانه بتصديق الخبراء.
نعم التصدي للتخطيط ، رهن رضا الاَُمّة وتحقيق الرضا وتجسيدها يتبع مصالح العصر وشعور الاَُمّة.
وأمّا السلطة التنفيذية ، فلو كان الحاكم منصوباً من اللّه سبحانه ، فهو المتبع ، كما في مورد الرسول ، والاِمام المنصوص بعده ، وإلا فالسلطة لفريق من الاَُمّة ، يتمتع بصفات وقابليات مذكورة في السنّة ، أهمها كونها موضع رضا الاَُمّة ، ويتجسّد رضاهم بصورة مختلفة مذكورة في محلها.
ومثلها السلطة القضائية فلا يصلح لها إلاّ فريق لهم صفات وموَهلات ، وتنتهي سلطته ، إلى رضا الاَُمّة الذي يتجسد بصور شتى.
نظرية الاِمامة لدى الزيدية :
إنّ المطروح لدى الزيدية من الاِمامة غير ما ذكرنا ولو كان الملاك لتبيين مذهبهم ما ذكره كتّاب العقائد من غيرهم ، وابن المرتضى من أنفسهم ، فنظام الاِمامة في غير مورد المنصوص عليه عندهم ، أمر لا يلائم روح الكتاب والسنّة ولا متطلبات العصر ، لاَنّهم القائلون بإمامة أمير الموَمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين (بالتنصيص السماوي) وزيد بن علي ولاِمامة كل فاطميّ دعا إلى نفسه وهو على ظاهر العدالة ومن أهل العلم والشجاعة وكانت بيعته على تجريد السيف للجهاد (1).
وقال الشهرستاني : إنّهم (الزيدية) يعتبرون في نظام الاِمامة اتّباع كلّ فاطمي عالم ، شجاعُ ، سخي ، خرج بالاِمامة ، سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين ( عليهما السلام ) وربّما جوّزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة (2).
ويقول ابن المرتضى وتنعقد بالدعوة مع الكمال.
الاِمعان في كتب الزيدية حول الاِمامة أو ما حرروه بأقلامهم ، يعرب عن أنّ دعائم الاِمامة عندهم ثلاثة :
1 ـ الوراثة : كون الداعي فاطميّاً.
2 ـ الدعوة إلى الاِمامة.
3 ـ الخروج بالسيف.
ولكن باب المناقشة فيها مفتوح.
أمّا المبدأ الاَوّل فإذا كان الاِمام منصوصاً من قبل اللّه فالمتبع أمره فاطمياً كان أو لا ، وإن كان أمره سبحانه في غير الاِمام علي ( عليه السلام ) منطبقاً عليه ، لكن لا بملاك كونهم فاطميين بل بملاكات خاصة أهّلتهم لاَن يكونوا أُولي الاَمر ، وواجبي الطاعة قال سبحانه : « أطِيِعُوا اللّهَ وَأطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الاَمر مِنكُم » (النساء ـ 59).
1 ـ المفيد أوائل المقالات : 39 ، طبعة جماعة المدرسين.
2 ـ الشهرستاني : الملل والنحل : 1 / 154.
وإذا كان غير منصوص فاللازم كون الاِمام ذا قابليات توَهّله لاشغال منصب الاِمامة سواء أكان فاطمياً أم لا ، فالاِصرار على هذا المبدأ خصوصاً فيما إذا كان غير الفاطمي أبـصر وأعلم ، وأتقى وأزهد وأوقع في القلوب ، غير صحيح.
ثم إنّ المبدأ الثاني والثالث يثيران الرغبة والطمع في كل فاطمي يرى نفسه عادلاً ، وعالماً وشجاعاً فعند ذلك ينتهي الاَمر إلى النزاع والتشاجر وربما ـ لا سمح اللّه ـ إلى إراقة الدماء.
وحاصل الكلام : أنّ مكافحة الاستبداد ورفض ابتزاز أمر الاَُمّة بلا رضا منها ، رهن أحد أمرين :
1 ـ أن يصدر من اللّه الرحمن الرحيم على عباده ، الواقف على مصالحهم ومفاسدهم ، تنصيص على ولاية أحد ، كالنبي الاَعظم وأئمة أهل البيت عند الشيعة.
2 ـ مشاركة الشعب في بناء النظام حتى يكون مورد رضاهم بنحو من الاَنحاء ولاشيء ثالث ، وإلاّ فلو لم يكن هذا ولا ذاك كثر الطالب وزادت الدعوة وربما ينتهي إلى حروب دامية ، وما ذكره الاِمام يحيى بن الحسين لحسم النزاع لايفيد شيئاً حيث قال : إن تشابها في العلم فالاِمامة لاَورعهما وإن تشابها في الورع والعلم ، فالاِمامة لاَزهدهما ، وإن تشابها في ذلك كله فالاِمامة لاَسخاهما ، وإن تشابها فلاَشجعهما ، فلاَرحمهما ... .
إنّ ما ذكره من الضابط لحسم مادة الخلاف لو كانت مفيدة فإنّما تفيد في رفع النزاع في إمامة المسجد ، لا في رفع النزاع في الزعامة الكبرى ، إذ كل يزعم أنّه ، أعلم ، وأورع ، وأزهد ، وأسخى ، وأشجع ، وربما يحلف عليه ويجمع الجموع ...
فلاَجل ذلك المأزق الذي يواجه فكرة الاِمامة لدى الزيدية عاد المفكرون من متأخّريهم إلى طرح الفكرة بشكل يلائم روح العصر ويقول أحد الكتاب :
أمّا الزيدية فلهم طريقان لاختيار الاِمام بعد المنصوص عليهم :
1 ـ ترشيح الشخص العارف من نفسه ، الاَهلية بواسطة منشور ـ الدعوة ـ يوضح فيه موجبات الدعوة وأهليّته للقيام بالاِمامة ومنهج عمله فيها.
وعند ذلك يجتمع العلماء والزعماء والمثقفون ـ رجال الحل والعقد ـ ويصلون لمناقشته واختياره ان كان غير معروف لديهم ، ويتشاورون فيما بينهم في موضوع كفاءته ومكانته ، فإذا ارتضوه بعد ذلك بايعوه وإلاّ عدلوا إلى غيره.
2 ـ يُرشِّـح رجـال الحـل والعقـد واحـداً لمن يرونه صالحاً لهذا المنصب العظيم ، وإذا وافقهم على ترشيحه بايعوه وإلاّ عدلوا إلى غيره (1).
ولعل هذه الاَُطروحة التي قدمها الفاضل المعاصر تزيح بعض النقاش حول النظرية ، ويصوّرها تصويراً هادئاً قابلاً للتجسيد كما أنّ المعلّق على البحر الزخار ، طرح نظرية الاِمامة بالشكل التالي معلقاً على قول ابن المرتضى « وتنعقد بالدعوة مع الكمال » قوله : مع عدم المنازع فيفوز بذلك أو بأن تحصل له البيعة من الاَكثرية مع عدم وجود المنازع ، كل ذلك بعد سبق ترشيحه من ذوي الحل والعقد لمعرفة حصوله على الشروط الموَهلة له (2).
إنّ ما نقلناه عن العلمين وإن كان يهوّن الخطب في مسألة الاِمامة ، لكن التاريخ يشهد على أنّ السيرة جرت على سيادة من غلب ، ولم يكن ترشيح الشخص ، أو ترشيح رجال الحل والعقد واحداً من الصلحاء إلاّ حبراً على ورق إلاّ في فترات قليلة.
1 ـ الزيدية نظرية وتطبيق : 118.
2 ـ ابن المرتضى : مقدمة البحر الزخار : 92.
هذا وما ماثله أعطت حجة للوسائل الاِعلامية أن تتهجم على نظام الاِمامة بأنّه حكومة استبدادية تسلب فيها الحريات بإرادة الفرد السائس ، ويرافق دائماً بالضغط على الشعب ، وتثني على الجمهورية بأنّ فيها ضماناً على الحريات المعقولة ولم تزل الحرب الاِعلامية قائمة على قدم وساق تدعمها المعسكرات الغربية والشرقية المحاربة لكل نظام ديني قائم في أي قطر من أقطار العالم ، إلى أن أُججّ نار الحرب المبيرة لكل رطب ويابس ، في بلد فقير كاليمن التي لا تملك إلاّ جمال الطبيعة وانتهت إلى انتصار المخالفين في ظل القوات المكثفة التي كانت وراءها الجمهورية العربية المتحدة ، في أيّام جمال عبد الناصر فسقط نظام الاِمامة سياسيّاً وحكومياً وإن كانت القلوب الموَمنة متنبّئة بها.
فالمرجو من اللّه سبحانه أن يوفق المسلمين لتوحيد الكلمة كما وفقهم لكلمة التوحيد ، ويجمع شملهم ، ويثير شعور المفكرين إلى واجبهم تجاه الحكومة الاِسلامية إنّه بذلك قدير وبالاِجابة جدير.
الخامس : المحاربة بين الطائفتين من الشيعة :
إنّ الزيدية والاِسماعيلية ، من الفرق الشيعية ، وبينهما موَتلفات ومفترقات ، وقد اتفقت الطائفتان ، على أنّ تحقيق القيادة الاِسلامية بعد رحيل النبي الاَعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليس بالبيعة والاختيار ، ولا للاَُمة فيها حظّ ، ولا نصيب شأن كلّ مورد سبقت مشيئته على إرادة الاَُمّة ومشيئتها ، قال سبحانه : « وَما كَانَ لِمُوَمِنٍ وَلا مُوَمِنَةٍ إذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أمْرِهِمْ » (الاَحزاب ـ 36) بل تحقيقها بالنص من الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على فرد من آحاد الاَُمّة وقد اتفقتا على أنَّ النصّ صدر منه في علي ( عليه السلام ) وابنيه : الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ، غير أنّ الزيدية قالت باستمرارها بعد الحسين السبط ( عليه السلام ) بالخروج والدعوة وقد تمثلت الضابطة في بادىَ بدئها بخروج الاِمام زيد ، ثم ابنه يحيى وهكذا ، لكن الاِسماعيلية قالت باستمرار النصّ الاِلهي بعد الحسين على إمامة زين العابدين فابنه الاِمام الباقر ، فالاِمام الصادق ، وبعده ابنه إسماعيل الذي هو مهدي الاَُمّة عندهم.
وطبيعة الحال كانت تقتضي سيادة الوئام والالتحام بين الفرقتين والتعايش الهادىَ في البيئات التي تحتضن كلتا الفرقتين ، كاليمن الخصيب وجنوب الجزيرة كحضرموت ونجران ولكن خاب الظنُّ وخسر ، لاَنّ تاريخ اليمن تاريخ دمويّ يحكي عن كون الحرب لم تزل بينهما سجالاً ـ تبيد البلاد والعباد وتهلك الحرث والنسل ـ قروناً كثيرة.
إنّ أئمة الزيدية وإن خرجوا بالسيف وأعلنوا الجهاد ، ولكن لم يكن جهادهم مع المشركين والكافرين بل كانت مع إخوانهم الاِسماعيلية (القرامطة) وهذا هو الاِمام الهادي موَسس الدولة الزيدية في اليمن في أواخر القرن الثالث ، فقد قدم اليمن وقد غطتها القرامطة والباطنية فجرى له معهم نيف وثمانون وقعة (1) ثم بدت الحروب بين الطائفتين في زمن المتوكل على اللّه (المطهر بن يحيى) وبعده الاِمام يحيى بن حمزة الموَيد باللّه (669 ـ 769هـ) وكان الانتصار في أغلب الوقائع مع الزيدية ، وفي النهاية لم تجد الاِسماعيلية بداً من اللجوء إلى الجبال ، والتحصن بها حفظاً لشوَونهم الدينية.
ومن جرّاء هذه الفتن والحروب المدمّرة ، صارت حياة الطائفتين في أغلب العصور ، حياة دموية تأكل الحرب أخضرهم ويابسهم وربما تشعل فتيل الحرب بين مدعيين للاِمامة من الزيدية ، باعتضاد كل بقبيلته وأُسرته ، وقد انتهت الخلافات القبلية إلى ظهور الجمهورية فأطاحت بالاِمامة على الاِطلاق وقالت : لا زيد ولا عمرو ، ولا إبراهيم ولا إسماعيل.
« وَاتَّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الّذِينَ ظَلمُوا مِنكُمْ خاصَّة » (الاَنفال ـ 25).
1 ـ التحف شرح الزلف : 64.
السادس : في الصلة بين الزيدية والمعتزلة :
كانت الصلة العلمية بين الزيدية والمعتزلة موجودة ، منذ ظهرتا على صفحة الوجود ، حيث إنّ كلتا الطائفتين يرون العدل والتوحيد من الاَُصول ، ويكافحون الجبر والتشبيه ، حتى أنّ الاِمام « مانكديم » المستطهر باللّه أحمد بن الحسين بن أبي هاشم المتوفّى عام 425هـ ، تتلمذ على القاضي عبد الجبار المعتزلي المتوفى عام 415هـ. وكتب ما أملاه الاَُستاد ، حول الاَُصول الخمسة وقد طبع بهذا الاسم ولم يخالفه إلاّ فيما يرجع إلى الاِمامة (1).
ولما قامت ملوك الغزاونة وسلاطين السلاجقة بتحريك الحنابلة والحشوية ، بإبادة المعتزلة وقتلهم وتسعير النار في مكتباتهم وآثارهم وفي عقر دارهم ، عمد بعض الزيدية ، بنقل ما أمكن من كتبهم من العراق إلى اليمن منهم القاضي عبد السلام (550 ـ 573هـ) فقد نقل المغني للقاضي عبد الجبار ، والاَُصول الخمسة ، وغيرهما من الآثار الكلامية لهم من العراق إلى اليمن وكانت اليمن تحتضن بها إلى أن نشرتها أخيراً البعثة العلمية المصرية بعد الفحص في مكتبات اليمن ، وللزيدية فضل حفظ بعض تراث المعتزلة من الاندثار والانطماس. ولولاهم لكانت مصيرها ، مصير سائر الآثار للمعتزلة. قاتل اللّه العصبية العمياء.
1 ـ راجــع مقدمـة الاَُصـول الخمسـة بقلم محقّقها ص 29 وقد ضبط وفاة « مانكديم » سنة 425هـ. والتحف شرح الزلف : 88.
السابع : عصارة من رسالة أحد المعاصرين الزيديين :
إنّ السيد العلامة بدر الدين الحوثي الحسني اليماني ، ـ الذي زار قم وزارنا في موَسستنا ، وهو الشخصية العلمية الفريدة للزيدية حالياً بعد السيد العلامة مجد الدين الموَيّدي موَلف التحف في شرح الزلف ، نشر كتيباً باسم « الزيدية في اليمن » بيّن فيه ملامح مذهب الزيدية وعقائدهم ومصادرهم الكبرى في مختلف العلوم ، وقدم لها الاَُستاذ علي أحمد الرازحي وقد أهدى نسخة إلينا نقتبس منها ما يلي :
الزيدية عنوان لطائفة عظيمة من طوائف المسلمين كان لها حضورها الملموس في ميداني الفكر والبسالة تحت ظلال قائدها العظيم الاِمام زيد بن علي شهيد الحقّ والعدل والكرامة.
ولئن كان لكل طائفة معالم بارزة تتميز بها وتعرف من خلالها ، فانّ للزيدية معالم بارزة يراها لها الموالف والمخالف الذي لم يُعم التعصب عين بصيرته :
أحدها : وهو أولاها : المنزلة المنيفة التي يتبوّأها العقل عندها حيث تجعله الحاكم الذي لا يتعقبه أي حاكم غيره ، والحجّة التي بها استحق الاِنسان الخطاب من ربّ العالمين ، ومن خلاله استوحت أُصول عقيدتها حين أقصاه الآخرون وصغروا عظيم منزلته.
ثانيهما : احترام آراء الآخرين من المخالفين لها في الاَُصول والفروع وعرضها عرضاً رفيقاً بعيداً عن أي تجريح أو تبديع أو تضليل حتى لكأنّ كتبها رياض غنّاء مما يخوِّلها أن تكون تراثاً لكل الطوائف.
الثالث : صيحتها في وجه الظلم والاستبداد ، والقهر ، وسحق الكرامات حين تحوّلت الخلافة إلى ملك عضوض ، وحين تغيرت وشوهت بعض مفاهيم الاِسلام الناصعة على يدي حكام متسلطين لا يمتلكون أي شرعية (1).
يقول السيد بدر الدين : إنّ الحركات العلمية ظهرت في اليمن بفضل الاِمامين الهادي وجده القاسم ، وبما أنّ الزيدية لا يلتزمون التقليد للهادي بل كلَّ من تمكن من الاجتهاد ، عمل بالدليل ، ظهر بعض الخلافات بينهم ، كما ظهر من بعضهم الميل إلى المعتزلة في غير مسألة الاِمامة وحصل من بعضهم إنكار ذلك لكن العقائد الاَُصلية الهامّة لا يظهر بينهم فيه خلاف.
ثم إنّ الموَلف أتى بأُصول عقائد الزيدية التي منها التوحيد ، والعدل والنبوات وصيانة القرآن من التحريف ، والاِيمان بالآخرة والبعث بعد الموت والشفاعة التي هي زيادة خير إلى خير ، لا إنقاذ أحد من النار والاِمامة التنصيصية إلى السبط الشهيد ، ثم جاء دور الدعوة والخروج وتحقق بزيد الثائر ومن سار على دربه ...
وقد قام الموَلف بتعريف الكتب والمصادر وقال :
وأهم كتبهم : كتب الهادي والقاسم.
منها : كتاب الاَحكام ، والمنتخب والمجموعة الفاخرة التي تجمع عدّة رسائل للهادي ، ومن محاسن الكتب وأنفعها كتب القاسم بن إبراهيم وهي كتب صغار بعضها في مجموع القاسم.
ومن مراجع الزيدية (في الفقه) شرح التجريد للاِمام الموَيد باللّه أحمد بن الحسين الهاروني المدفون بلنجا (2) ومن مراجعهم في علم الكلام ، حقائق المعرفة للاِمام أحمد بن سليمان وهو من أئمة الزيدية.
1 ـ الزيدية في اليمن ، قسم المقدمة 3 ـ 5.
2 ـ المعروف اليوم بلنگرود وقبره موجود هناك.
ومنها : كتاب الاَساس للاِمام القاسم بن محمد وهو من أئمة الزيدية. وقد طبع الكتاب.
ومن مراجع الزيدية في الاَخير في الفقه شرح الاَزهار وحواشيه.
ومن مراجع الزيدية في الحديث ما تضمنه شرح التجريد (للهاروني).
وكتاب أمالي أحمد بن عيسى ومجموع زيد بن علي ، وأمالي أبي طالب المسمى بـ « تيسير المطالب » ، وأمالي المرشد باللّه وكتاب الاعتصام للاِمام القاسم بن محمد.
ومن مراجعهم في التاريخ : « بلوغ الاَماني » للسيد يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد ، ومن كتبهم في أسانيد الكتب بلوغ الاَماني في إسناد كتب من آل من أُنزلت عليه المثاني.
ومن كتبهم في الردّ على المخالفين : الشافي للاِمام المنصور باللّه عبد اللّه بن حمزة وهو كتاب عظيم مطبوع ، وفرائد اللئالي في الردّ على المقبلي للمنصور باللّه محمد بن عبد اللّه الوزير وهو مجلد ضخم.
ومن مراجع الزيدية في أُصول الفقه : كتاب بداية العقول شرح غاية السوَال تأليف الحسين بن الاِمام القاسم بن محمد وهو مطبوع ، وشرح الكافل.
ومن مراجع الزيدية في التفسير : كتاب المصابيح ، تفسير الشرقي وهو كبير غير مطبوع ، ولهم موَلفات في التفسير يتعسر تحصيلها فيميل الطلاب لقراءة الكشاف.
ثم أشار السيد بدر الدين ببعض الفروع التي اتفقت فيها الزيدية مع الاِمامية وقال :
ومن مذاهبيهم في الفقه أنّ مسح الخفين لا يجزي في الوضوء ، ومسح الخمار لا يجزي في الوضوء ، وأنّ مس الذكر لا ينقض الوضوء ، ومن مذاهبهم الاَذان بحيّ على خير العمل ولا يقولون : الصلاة خير من النوم ولا يجعلون الكف على الكف في الصدر في الصلاة ، ولا يوَمّنون بعد الفاتحة ، وتثنية الاَذان إلاّ التهليل في آخره وكذا الاِقامة. ومن مذاهبهم الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم في الصلاة في الفاتحة وفي السورة وأنّ الصلاة جماعة لا تصح بإمامة الفاسق ، ومن في حكمه ، وأن لا يعتدّوا بجمعة الظلمة ، وأنّ التكبير على الجنازة خمس ، وأنّه لا يصلّى على الميت الفاسق ، والمذهب السائد عندهم في الزكاة أنّه لا يجوز تسليمها إلى الظلمة إلاّ كرها.
ومن مذاهب الزيدية استحباب صيام يوم الشك بنية مشروطة ، ومن مذاهبه أنّها لا تجب طاعة الظلمة ولا تجوز معاونتهم ولا موالاتهم ، ويجب عندهم اتّباع أهل البيت ( عليهم السلام ) عملاً بحديث الثقلين : « إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي إنّ اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ».
ومن مذاهبهم في الصحابة أن فيهم الصالحين ومنهم من غيّـر وبدّل ، وفيهم منافقون فيجرح من ظهر فيه الجارح ، ولا ينزلّون منزلة المعصومين ولا يتبعون فيهم طريقة العامّة الّذين يقدسونهم على الاِطلاق ، والمذهب السائد في الزيدية هو اجتناب كتب العامّة أو عدم اعتمادها في الغالب اتّـهاماً لكثير من رواتهم من الفئة الباغية والخوارج والدعاة إلى بدعتهم ولكنهم يأخذون منها ما يوافق الحقّ تأكيداً واحتجاجاً على المخالف ، ومنهم من يرى قبول رواية كافر التأويل وفاسق التأويل ولكن لا يعتمد على ما في تلك الكتب على حد اعتماد كتب أهل الحقّ (1)
1 ـ الزيدية في اليمن : 14 ـ 15.
هذا هو كلام السيد بدر الدين وهو بكلامه هذا يتفتح على الاِمامية وكان لفيف من الزيدية عبر التاريخ على هذا الطريق ، رحم اللّه الماضين من علمائنا وحفظ اللّه الباقين منهم.
« فَبَشِّرْ عِبادي * الّذِينَ يَستَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أحسَنَهُ أُولئِكَ الّذِينَ هَداهُمُ اللّه وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الاَلباب » (الزمر : 17ـ 18).
الثامن : في طبقات رجال المذهب الزيدي :
وكما كان لكل مذهب ، أعلام ، فللمذهب الزيدي أيضاً أعلام منقسمة إلى الطبقات التالية :
1 ـ طبقة الموَسّسين.
2 ـ طبقة المخرجين.
3 ـ طبقة المحصلين.
4 ـ طبقة المذاكرين.
وقد اقتبسنا هذا التقسيم مما ذكره الكاتب المعاصر الزيدي علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين في كتابه : « الزيدية نظرية وتطبيق » فقد قسّم أعلام المذهب الزيدي إلى الطبقات التالية :
طبقة الموَسسين : وتساوى هذه الطبقة إمام المذهب في نظر المذاهب الاَُخرى ، ومن هذه الطبقة :
1 ـ الاِمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) مات شهيداً سنة 122هـ.
2 ـ الاِمام القاسم بن إبراهيم مات سنة 242هـ.
3 ـ حفيده الاِمام الهادي إلى الحقّ يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم وهو الموَسس للمذهب في اليمن مات سنة 298هـ.
4 ـ الاِمام الناصر الاَطروش الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر الاَشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم وهو الموَسس للمذهب الزيدي في خراسان مات سنة 304هـ.
الطبقة الثانية : طبقة المخرجين للمذهب : وهم الذين استخرجوا من كلام الاَئمة أو احتجاجاتهم بواسطة القياس أو المفهوم ، أحكاماً لا تتعارض مع الكتاب والسنّة لا جملة ولا تفصيلاً ، ومن رجال هذه الطبقة :
1 ـ العلاّمة محمد بن منصور المرادي مات سنة 200هـ ونيف وتسعين.
2 ـ العلامة أبو العباس أحمد بن إبراهيم مات سنة 353هـ.
3 ـ العلامة الاِمام الموَيد باللّه أحمد بن الحسين بن هارون الحسني مات سنة 416هـ.
4 ـ العلامة الاِمام أبو طالب يحيى بن الحسين بن هارون الحسني مات سنة 424هـ.
5 ـ العلامة علي بن بلال الآملي مولى الاِمامين الموَيد باللّه وأبي طالب.
6 ـ العلامة أحمد بن محمد الاَزرقي الهدوي.
والطبقة الثالثة : طبقة المحصلين : وهم الذين اهتموا بتحصيل أقوال الاَئمة وما استخرج منها ونقلوها إلى تلامذتهم بطريق الرواية أو المناولة لموَلفاتهم ، ومن رجال هذه الطبقة :
1 ـ العلامة القاضي زيد بن محمد الكلاوي الجيلي الملقب بحافظ أقوال العترة وهو من أتباع الموَيد باللّه.
2 ـ العلامة السيد علي بن العباس بن إبراهيم راوي إجماعات أهل البيت ، مات سنة 340هـ تقريباً.
3 ـ العلامة القاضي الحسن بن محمد بن أبي طاهر الرصاص ، مات سنة 584 هـ.
4 ـ العلامة الاِمام الحسين بن بدر الدين ، مات سنة 662هـ.
5 ـ العلامة زيد بن علي بن الحسن بن علي البيهقي ، مات في تهامة في عهد الاِمام أحمد بن سليمان وهو في طريقه إلى مكّة المكرمة.
6 ـ العلامة القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام البهلولي ، مات سنة 573هـ.
7 ـ العلامة الاِمام عبد اللّه بن حمزة ، مات سنة 614هـ.
والطبقة الرابعة ، طبقة المذاكرين : وهم الذين راجعوا أقوال من تقدّمهم وبلغتهم بالرواية وفحصوها سنداً ومتنا وعرضوها على أُصول المذهب وقواعده المستمدة من صرائح الكتاب والسنّة ثم أقرّوا ما توافق معها واعتبروه هو المذهب ، وما لم يوافقها لم يعتبروه مذهباً للفرقة الزيدية ، وكان في نظرهم رأياً خاصاً بصاحبه غير معاب عليه لاعتبار أنّ كل مجتهد في الفروع مصيب (1) ومن رجال هذه الطبقة :
1 ـ العلامة القاضي محمد بن سليمان بن أبي الرجال الصعدي ، مات سنة 730هـ.
2 ـ العلامة القاضي عبد اللّه بن زيد العنسي ، مات سنة 667هـ.
3 ـ العلامة القاضي يحيى بن حسن البحيبح ، وقد عاصر الاِمام يحيى بن حمزة.
4 ـ العلامة الاِمام يحيى بن حمزة ، مات سنة 749هـ.
5 ـ العلامة الاِمام عز الدين بن الحسن الموَيدي ، مات سنة 900هـ.
6 ـ العلامة القاضي محمد بن يحيى حنش ، مات سنة 717هـ.
7 ـ العلامه القاضي يوسف بن أحمد بن عثمان الثلاثي ، مات سنة 832هـ.
1 ـ لعله يريد : انّه مأجور وإلاّ فالحق واحد فكيف يكون الكل مصيباً.
8 ـ العلامة الاِمام أحمد بن يحيى بن المرتضى ، مات شهيداً بالطاعون سنة 840هـ.
ومعظم رجال طبقات المذهب الزيدي من العلماء المجتهدين. ولذلك فلا يصدق عليهم القول بأنّهم في مستوى طبقة مجتهدي المذهب لاَنّ هذه الطبقة لاتظهر دائماً إلاّ بين رجال المذاهب التي لا توجب الاجتهاد على المتمكن منه وليس كذلك المذهب الزيدي. وبالتجوز يمكن أن يوجد في طبقات المذهب من هو في درجة المجتهد المنتسب. أمّا الاَكثر فهم في درجة المجتهد المطلق. وقد ظهر من هوَلاء بعد طبقة المذاكرين الكثير ومنهم : الاِمام يحيى شرف الدين مات سنة 965 هـ والاِمام القاسم بن محمد مات سنة 1029 هـ والاِمام محمد بن إسماعيل الاَمير مات سنة 1182هـ. والاِمام عبد القادر بن أحمد عبد القادر بن الناصر شرف الدين مات سنة 1207 هـ وغيرهم.
وكانت كل الموَلفات الزيدية لاتقتصر على ذكر القول المختار لديها ، وإنّما تجمع كل الاَقوال المشهورة للاَئمة والعلماء : أي أنّها موَلفات أُممية وموسوعات لما توَلف فيه. لذلك فالقول المختار للمذهب إنّما كان يوَخذ من أفواه المشائخ ويتناقل بالرواية ، حتى جاء القاضي حسن بن أحمد الشبيبي رحمه اللّه مات سنة 1169هـ فوضع كلمة (مذهب) في كتابه شرح الاَزهار على القول المختار للمذهب تمييزاً له عن سائر أقوال الاَئمة والعلماء الزاخر بها كتاب شرح الاَزهار المعروف واستحسن هذه العلامة سائر العلماء في عصره. ولمكانته في العلم والتقوى تلقّفها عنه الطلاب ، وصارت نسخته من أهم المراجع في ذلك عند الطلاب. كما ذكره الموَلف الموَرخ السيد محمد زباره رحمه اللّه في ملحق البدر الطالع ص 68 (1)
1 ـ علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين : الزيدية نظرية و تطبيق : 16 ـ 18.
source : http://aqedaty.net