عربي
Thursday 7th of November 2024
0
نفر 0

عالمية رسالة الإسلام

عالمية رسالة الإسلام
من سمات الدعوة الاسلامية
الإسلام عقيدة وعمل، لا ينفرد بهما شعب أو مجتمع خاص، ولا يختصان ببلد معين، بل هو دين يعمّ المجتمع الإنساني ككل، على اختلافه في العنصر والوطن واللسان، ولا يفترض لنفوذه حاجزاً بين أبناء الإنسان، ولا يعترف بأيّة فواصل وتحديدات جنسية أو إقليمية، وهذا ما ينصّ عليه الذكر الحكيم، والأحاديث النبوية، ونلمسه من سيرة الرسول الأكرم في نشر دينه، ومن تاريخ نشوء وتطور دعوته.

أمّا الكتاب العزيز، فإليك بعض نصوصه

1- قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا(الأعراف:158).

2- قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا(سبأ:28).

3- قال تعالى: ﴿وأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا(النساء:79).

4- قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(الأنبياء:107).

5- قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(الفرقان:1).

6- قال تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ(الأنعام:19).

أي كُلُّ من بَلَغَه القرآنُ، ووصلت إليه تشريعاته في أقطار الأرض.

إلى غير ذلك من الآيات الّتي تنصّ على شمول رسالته لعامة البشر.

ويمكن الاستدلال بوجه ثان، وهو أنّ القرآن كثيراً ما يوجّه خطاباته إلى الناس غير مقيّدة بشيء، ويقول:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(البقرة:21)1. فلو كان الإسلام ديناً إقليمياً، أو كانت رسالته لعصر خاص، فما معنى هذه النداءات العامة؟

ويمكن الاستدلال بوجه ثالث، وهو أنّه ربما يتّخذ القرآن الكريم عنواناً عاماً لكثير من الأحكام، من غير تقييد بلون أو عنصر، كما في قوله تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً(آل عمران:97)، فأوْجَبَ الحَجَّ على الناس إذا استطاعوا، عرباً كانوا أمْ غيرهم، ولو كانت رسالته عنصرية، لكان عليه أن يقول: "ولله على الأُمة العربية مثلاً حجّ بيته".

وهناك وجه رابع لعموم دعوته، وهو أنّه يُعَرِّفُ كتابَه نوراً وهدىً للنَّاس كلهم، ويقول: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ)(البقرة:185) ويقول: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(الزمر:27).

هذه الوجوه الأربعة، تهدف إلى أمر واحد، وإن كانت تختلف في طريقة البرهنة، فقد اعتمد في الوجه الأول، على تصريح القرآن بعموم رسالته; وفي الوجه الثاني، على نداءاته العامة. وفي الوجه الثالث، على أنّ الموضوع لأحكامه وتشريعاته، أمر عام، وفي الوجه الرابع، على أنّ القرآن يعرّف هدايته وإنذاره، أمراً عاماً للناس كلّهم.

وهناك وجه خامس يتصل إتّصالاً وثيقاً بطبيعة الإسلام وقوانينه وتشريعاته، وهو أنّ القرآن في تشريعاته لا يعتمد إلاّ على مقتضى الفطرة الّتي فطر عليها بنو البشر كلُّهم، فإذا كان الحكم موضوعاً على طِبْق الفطرة الإنسانية، الموجودة في جميع الأفراد، فلا وجه لاختصاصه بإقليم دون إقليم، أو شعب دون شعب.

هذا هو الإسلام، وتعالميه القيمة ومعارفه وسننه، فهل تجد فيها ما يشير إلى كونه ديناً إقليمياً، أو شريعة لفئة محدودة؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم وأمارات، أهمها أنّه يعتمد في معارفه وتشريعاته على ظروف بيئته وخصوصيات منطقته، بحيث لو فرض فقدانها، لأصبحت السنن والطقوس الّتي يعتمد عليها الدين، سراباً يحسبه الظمآن ماءً.

ونحن في غنى عن سرد آيات الذكر الحكيم الّتي تتبنى معارف وتشريعات تقتضي بطبيعتها كونها دواءً للمجتمع الإنساني في جميع الأقطار والأزمان، فقوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ(النحل:90)، وقوله ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل(النساء: 58)، وقوله: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(المائدة:90)، وغير ذلك من تشريعاته في حقول الاقتصاد والاجتماع والسياسة والأخلاق، ممّا تقتضي بطبيعتها، العمومية لجميع البشر والمجتمعات.

وأمّا السنة الشريفة، فيكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم، في الخطاب الّذي ألقاه في داره، حينما وفد إليه أعمامه وأخواله، ومن كانت له به صلة: "والله الّذي لا إله إلاّ هو، إِنّي رسولُ الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامةً"2.

وأمّا في سيرته في حقل الدعوة، فيكفي في ذلك وثائقه السياسية، ومكاتيبه الّتي وجّهها إلى أصحاب العروش وملوك العالم، كَكِسرى مَلِك الفُرس، وقَيْصر مَلِك الروم، والمقوقس عظيم القِبْط، والنجاشي ملك الحبشة، وغيرهم3.

هذا، وإنّ الإسلام حارب العصبية، والنعرات الطائفية، في ظل وحدات ثمان، أعني: وحدة الأُمة، وحدة الجنس البشري، وحدة الدين، وحدة التشريع، وحدة الأُخوة الروحية، وحدة الجنسية الدولية، وحدة القضاء، ووحدة اللغة العربية، وهو القائل:

"أيّها الناس، إنّ الله أذهب عنكم نَخْوَة الجاهلية وتفاخُرَها بآبائها، ألا إنّكم من آدم، وآدم من طين، ألا إنّ خير عباد الله عبدٌ اتَّقاه".

وهو القائل: "إنّ العربية، ليست بأب والد، ولكنها لسان ناطق، فمن قَصرُ عملُه، لم يَبْلُغ به حَسَبُه".

وهو القائل: "إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مِثْل أَسنان المِشْط، لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ على عَجَمِيٍّ، ولا لأَحْمَرَ على أَسْوَدَ، إِلاَّ بالتقوى".

وهو القائل: "إنّما الناس رجلان، مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هيِّن على الله"4.

أَفَيَصِحُّ بعد هذه الكَلِم الدُّرِّيَّة، رَمْيُ رسالته، بالطائفية، والعنصرية، والإقليمية؟!

إزالة شُبهات
شبهةٌ: ربما يتمسّك بعض القساوسة لتحديد دعوته، بما في الكتاب العزيز من قوله تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ(يس:6)5.

غير أنّ الجواب واضح، أمّا نقضاً، فإنّ في نفس هذه السورة الّتي ورد فيها قوله ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا، ما يدلّ بصراحة على عموم دعوته، وهو قوله تعالى: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ(يس:70).

وأمّا حلاً فإنّ طبيعة إبلاغ الدعوة ربما تقتضي توجيه الكلام إلى قسم خاص، وإنّ كانت الدعوة عالمية، والرسول في بدء دعوته، كان يمارس هداية قومه أوّلاً، ثم من يليهم في منطقة الحجاز، ثم من يليهم، ولأجل ذلك خصّ الخطاب بقومه:

والشاهد أنّه يقول في آية أُخرى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ(الأنبياء:45). فيخصّ الإنذار بالوحي بالمخاطبين، بينما يعمّ الإنذار به كلُ الناس في قوله: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُل مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ(يونس:2).

شبهة ثانية: وربما يتمسك بتخصيص الإنذار بأُمّ القُرى وَمَنْ حَوْلَها في قوله سبحانه: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَهَا(الأنعام: 92)6، وأُمُّ القُرى إمّا عَلَمَ مِنْ أَعلام مَكَّةَ، أَو كُلِّي أُطْلِقَ عليها، فَتَخُصُّ الآيةُ دعوتَه بإطار أُمّ القُرى وَمَنْ حَوْلَها.

والجواب إمّا نقضاً: فإنّ في نفس السورة الّتي وردت فيها تلك الآية ما يدلّ على عموم رسالته، لكل من بلغته، فإنّه يقول: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ(الأنعام:19).

وإمّا حلاً، فَعَيْنُ ما تَقَدَّم في سابقه، من أنّ طبيعة الدعوة، ربما تقتضي توجيه الكلام إلى طائفة خاصة، وإن كانت الدعوة عالميةً.

شبهة ثالثة: وربما يستدلّ بقوله سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(إبراهيم:4)، على تحديد رسالته، بتوهّم أنّ معنى الآية أن كل رسول يوافق لسانُه لسانَ من أُرسل إليهم.

وأنت خبيرٌ بأنّه تفسير خاطئٌ، فمعنى الآية هو موافقةُ لغةِ الرسول لسانَ قومه، لا اتحاد لغته مع لسان كل من أُرسل إليهم، فمن الممكن أن يكون المرسل إليهم أوسع من قوم الرسول، فهذا إبراهيم دعا عرب الحجاز إلى الحج وهو ليس منهم. وهذا الكليم دعا فرعون إلى الإيمان، وهو عبري والمُرسَل إليه قِبْطيٌ.

شبهة رابعة: وربما يستدل أيضاً، بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(البقرة:62)7، على تحديد رسالته.

وحاصل الاستدلال هو أنّ المتبادر من الآية هو نجاة أصحاب الشرائع السابقة حتى بعد بعثة الرسول الأكرم، إذا كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر وعملوا صالحاً. فهذه الآية تعطي الضوء الأخضر لنجاة اليهود والنصارى والصابئين إذا كانوا ملتزمين بهذه الشروط، وإن لم يعتنقوا رسالة الرسول الأعظم، أو لم يعملوا بأحكامه وتشريعاته. وهذا لا يجتمع مع القول بأنّ رسالته عالمية يجب على كلّ الناس اعتناقها.

والجواب: إنّ الاستدلال نَجَمَ من الجمود على نفس الآية، والغفلة عما ورد حولها من الآيات. ومثل هذه الآية لا يصح تفسيره إلاّ على نمط التفسير الموضوعي، واستنطاق الآية بأُختها، وعرض البعض على البعض حتى يُهتدى إلى معالمها. وسيوافيك أنّ الآية ـ بقرينة الآيات الّتي تتلوها ـ بصدد تفنيد المزاعم الباطلة لليهود والنصارى، وليست بصدد إمضاء الشرائع السالفة، بعد ظهور النبي الأكرم، وإليك البيان.

1 ـ تفنيد فكرة الشعب المختار
كان اليهود والنصارى يتبنون فكرة الشعب المختار، فكل من الطائفتين تَدّعي أنّها أسْمَى بني البشر. وقد نقل القرآن الكريم هذه الفكرة السخيفة عن كلتا الطائفتين بقوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ...(المائدة:18).

فقوله: ﴿فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، تفنيدٌ لهذا الزَّعم، وَيدُلُّ على أنّهم وغيرهم عند الله سواسية، فهو سبحانه يثيب المطيع، ويعذب العاصي.

وقد بلغت أنانية اليهود واستعلاؤهم الزائف حداً، تفوهوا بما يحكيه سبحانه عنهم بقوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً(البقرة:80).

والقرآن يُفَنِّد هذا الزعم، بشكل الاستفهام الإنكاري، ويقول: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(البقرة:80).

فهكذا، نستكشف من خلال هذه المزاعم وردودها أنّ اليهود كانوا ولا يزالون يَعُدُّون أَنْفُسَهُم صفوة البشرية، ونخبة الشعوب. وكانوا يحاولون بِمثل هذه المزاعم، فَرْضَ كَيانهم على العاَلم، كأرفع نوع بشريٍّ انتخَبَهُ الله من بين سائر البشر، حتى كأنّهم أبناءُ الله المُدَلَّلون.

2 ـ النجاة رهن العمل والالتزام
كانت الطائفتان (اليهود والنصارى)، تزعمان أنّ الانتساب اسماً إلى شريعة موسى أو المسيح، وسيلة النجاة. كما كان اليهود بالخصوص يزعمون أنّ الانتساب إلى "إسرائيل"، ينقذ من عذاب الله سبحانه; ولأجل ذلك قالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارى(البقرة:111).

ومعنى هذا القول، أنّ بإمكان الانتساب إلى "إسرائيل"، أو كون الإنسان يهودّياً أو نصرانياً بالاسم، أن يجعل الإنسان سعيداً، مالكاً لمفاتيح الجنة. ويردّ القرآن عليهم، بأنّ الوسيلةَ الوحيدة لامتلاك الجنة، ليس هو "الانتساب"، ولا التجنُّن "بالتسمية"، بل هو الإيمان الصادق والعمل الصالح، يقول تعالى: ﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(البقرة:111 ـ 112).

فقوله: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ، يعني الإيمان الخالص، والتسليم الصادق لله.

وقوله: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ، يعني العمل بالشريعة الّتي يؤمن الفرد بها.

وكلتا الجملتين تدلاّن على أنّ السبيل الوحيد إلى النجاة في يوم القيامة هو الإيمان والعمل، لا إسم اليهودية أو النصرانية، ولا الانتساب إلى بيت النبوّة، فليست المسألة أسماء، ولا مسألة انتساب، وإنّما هي مسألة إيمان صادق، وعمل صالح.

3 ـ الأصالة للتوحيد لا لليهودية ولا للنصرانية
لقد كان لهاتين الطائفتين ادّعاء ثالث، هو أنّ الهداية الحقيقية، في اعتناق اليهودية أو النصرانية، كما يحكيه عنهم القرآن بقوله: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارى تَهْتَدُوا(البقرة:135).

والقرآن يردّ عليهم هذا الزعم الواهي بقوله: ﴿...بَلْ ملَّةَ إبراهيم حَنيفاً وما كان مِنَ المُشرْكين(البقرة:135). مشيراً إلى أنّ الهداية الحقيقية، هي في الأخذ بملة إبراهيم، واعتناق مذهبه في التوحيد الخالص من كل شائبة. فإذا عَمَّتْها الهداية، فإنّما هو لأخذهم بالحنيفية الإبراهيمية، لا لاعتناق اليهودية والمسيحية، فلا أصالة لهما، إلاّ إذا كانتا مشتملتين على جوهر التوحيد الإبراهيمي وحنيفيّته.

وقد بلغت جسارة الطائفتين إلى حدّ أنّهم حاولوا إضفاء طابع اليهودية والمسيحية على إبراهيم، ليحصلوا بذلك على دعم جديد لمعتقداتهما، ويضفوا الشرعية على مسلكيهما. ولكن القرآن عاد إلى تفنيد هذه المزعمة الثالثة، كما فند المتقدّمتين، بقوله: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(آل عمران:67).

فهذه المقدمات، تثبت أنّ اليهود والنّصارى كانوا يتبنون هذه الأفكار الواهية الثلاثة
1- الرفعة على البشر أجمعين.
2ـ كفاية مجرد الانتساب إلى مذهبهما في النجاة.
3- اختصاص سبيل الهداية بالطائفتين.

فجاء القرآن يُفَنِّد كلَّ واحدة من هذه المزاعم، مستقلاًّ، بعد نقلها، بالآيات الّتي عرفت. ثم يفندها جميعها بصورة إجمالية، بالآية الّتي وقعت ذريعةً لمنكري عالمية الرسالة، وهدف الآية أنّ فكرة الشعب المختار، أو كون النجاة رهن الانتساب والتسمية، أو اختصاص الهداية بإحدى الطائفتين، أمر باطلٌ لا أساس له، فإنّ النجاة والجنة يَعُمّان جميع البشر وجميع الطوائف، إذا كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر، وعاملين بالصالحات، من غير فرق بين إنسان وإنسان، وشعب وآخر، فلا استعلاء ولا تفوق لطائفة على غيرها، ولا الانتساب والتسمية ينجيان أحداً في العالم، ولا الهداية رهن اعتناق أحد المذهبين، وإنّما النجاح والفوز والصلاح في الإيمان والعمل الصالح. وهذا الباب مفتوح في وجه كل إنسان، يهودياً كان أو نصرانياً أو صابئياً.

فالآية بصدد تفنيد هذه المزاعم، وأمّا الاعتراف بإقرار الإسلام لشرعية الشرائع السابقة، بعد ظهوره فليس لها دلالة على ذلك ولا إشعار، بشرط التوقف والإمعان في الأفكار الّتي كانت الطائفتان تتبناهما.

وممّا يوضح المراد من هذه الآية، قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ(المائدة:65). فتصرّح الآية بانفتاح أبواب الجنة في وجه البشر، من غير انحصار بجماعة دون جماعة، حتى أنّ أهل الكتاب لو آمنوا بما آمن به المسلمون، لقبلنا إيمانهم، وكفرنا عنهم سيئاتهم.

ومثله قوله سبحانه في سورة العصر: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْر * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(العصر).

وأمّا كفاية الإيمان والعمل الصالح، فقط، وعدم لزوم شيء آخر من المعارف والعقائد والأعمال، فليست الآية بصدد بيانها نفياً أو إثباتاً، وإنّما يُرجع فيها إلى الآيات الأُخر.

وإذا أردت أن تصوغ الجواب في أُسلوب منطقي، فقل: إنّ الحصر في الآية، حَصْرٌ نِسبيٌ إضافيٌ بمعنى أنّ المؤثر في النجاة من النار، والفوز بالجنة، إنّما هو الإيمان والعمل الصالح، وأمّا عدم دخالة شيء آخر كالأُصول الثلاثة الّتي يتبنّاها اليهود والنصارى أو دخالته، فليست الآية في مقام تبيينه إثباتاً أو نفياً، حتى يكون دليلاً على إقرار الآية بشرعية الشرائع السابقة.

وبعبارة أُخرى: إنّ الآية ساكتة عن بيان ما هو حقيقة الإيمان بالله وما هو شرطه، وما هو المقصود من العمل الصالح، وكيف يتقبل، وإنّما يطلب ذلك من سائر الآيات.

وقد دلّت الآيات القرآنية على أنّ الإيمان بالله لا ينفك عن الإيمانِ بأنبيائه، والإيمان بأنبيائه، لا ينفك عن الإيمانِ بنبيه الخاتم، قال سبحانه: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاق(البقرة:137).

كيف وقد عَدّت الآيات القرآنية الإيمانَ بالرسول مُقَوِّماً لحقيقة الإيمان، فقالت: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ(النور:62).

إلى هنا تمّ البحث عن عالمية رسالة الرسول الأكرم، وتمّ ردّ الشبهات الّتي قد تُورد حوله، ويقع البحث في السمة الثانية لرسالته وهي خاتميتها، وهو من الموضوعات المهمّة الّتي لا يكون المُسلِمُ مُسْلِماً إلاّ بالإيمان .

*الإلهيات.آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3،ص473-483


1- ولاحظ سورة البقرة: 168 .

2- الكامل لابن الأثير، ج 2، ص 41، وغيره.

3- لاحظ للاطلاع على هذه النصوص، "مكاتيب الرسول"، ج 1، ص 91 ـ 240 .

4- راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات: السيرة النبوية، ج 2، ص 412. بحار الأنوار، ج 21، ص 105 .

5- ونظيره، القصص: 46، السجدة: 3، مريم: 97 .

6- ونظيره الشورى: 7 .

7- ولاحظ المائدة: 69.


source : http://almaaref.org
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الزهراء عليها السلام وعلاقتها بالتوحيد
عصمة الأنبياء (عليهم السلام) عند المذاهب ...
الخروج من القبر
التقية المحرمة والمکروهة عند الشيعة الإمامية
عناصر ديمومة التشريع
من هم الصادقون في التوبة؟
هل تعلم لماذا تبدأ عزاء الحسين (عليه السلام) من ...
ما هو صبر أيوب ؟
محكمة الآخرة
تشريع صلاة التراويح

 
user comment