إنَّ البحوث التي أثبتنا بها ضرورة بعث النّبيين تبين كذلك الى حد كبير ضرورة وجود الامام بعد النبي، لأنَّ الموضوعين يشتركان في جانب مهم من المناهج، إلاّ أنَّ موضوع الامامة يتطلب مزيداً من البحث:
التكامل المعنوى الى جانب وجود القادة الالهيين
1- قبل كل شيء نتوجه الى الهدف من خلق الانسان، فهو أساس عالم الخليقة: إنَّ الانسان يطوي طريقاً كثير المنعطفات والعثرات في سيره نحو الله، نحو الكمال المطلق، نحو التكامل المعنوي بجميع أبعاده. من البديهي أنَّه لا يستطيع أنْ يقطع هذا الطريق بنجاح بغير هداية قائد معصوم، ولا أنْ يطويه بغير معلم سماوي، لأنَّه طريق محفوف بالظلمات وبمخاطر الضلال. صحيح أنَّ الله قد وهب الانسان العقل والحكمة، ومنحه وجداناً قوياً مثمراً، وأرسل إليه كتباً سماوية، ولكن هذا الانسان، مع كل هذه الوسائل التّكوينية والتّشريعية، قد يخطىء في تمييز خط سيره، لذلك فإنَّ وجود دليل معصوم يأخذ بيده يقلل كثيراً من احتمالات الانحراف والضياع. فبناء على ذلك: "إنَّ وجود الامام يكمل الهدف من خلق الانسان". وهذا هو ما يطلق عليه في كتب العقائد اسم "قاعدة اللطف"، ويقصدون بها أنَّ الله الحكيم يمدّ الانسان بجميع الامور اللازمة لكي يصل الى هدف الخلق، ومن ذلك بعث الانبياء وتعيين الائمّة المعصومين، وإلاّ فإنَّ ذلك يؤدي الى نقض الغرض فتأمل!
2- حماية الشرائع السماوية: إنَّ الاديان الالهية عند أوّل نزولها على قلوب الانبياء تكون أشبه بقطرات المطر النقية الشفافة الزلال التي تمنح الحياة وتربي الرّوح. ولكنها عندما تدخل المحيط الملوث والادمغة الضعيفة غير النظيفة تتلوث بالتدريج، وتضاف اليها الخرافات والاوهام، بحيث إنَّها تفقد شفافيتها ولطافتها الاولى، وعندئذ لا يبقى لها شيء من جاذبيتها وتفقد الكثير من تأثيرها التربوي، فلا هي تروي عطش العطاشى، ولا هي تنبت برعماً لفضيلة. ههنا تتضح ضرورة وجود القائد المعصوم بصفته أنَّه هو الذي يحمي أصالة الدين، وخلوص المناهج الدينية، ويحول دون كل اعوجاج وانحراف وفكر وافد ونظرة سقيمة غريبة، وكل الخرافات والاساطير، اذ لو بقي الدين بدون وجود مثل هذا القائد والحامي لفقد في فترة قصيرة أصالته ونقاءه.
ولهذا نجد الامام علياً عليه السلام يقول في احدى خطبه: "اللّهم بلى، لا تخلو الارض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً، وإمّا خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيِّناته"1. في الواقع إنَّ قلب الامام، من هذه الناحية، أشبه بالخزانة المتينة التي تحفظ فيها الوثائق والمستندات المهمة، لكي تبقى مصونة من أيدي اللصوص والعابثين والحوادث. وهذا وجه آخر من وجوه الحكمة من وجود الامام.
3- قيادة الاُمَّة سياسياً واجتماعياً: لا شك أنَّ الجماعة من الناس إذا لم يكن لها نظام اجتماعي يتزعّمه قائد قادر، لا تكون قادرة على إدامة حياتها. ولهذا نجد الاقوام منذ أقدم العصور حتى الآن قد اختاروا لانفسهم زعيماً وقائداً. وهذا القائد قد يكون صالحاً، ولكنه كثيراً ما لا يكون.
ولطالما استطاع كثير من طالبي الجاه والسلطة استغلال حاجة الناس الى المرشد والقائد لفرض أنفسهم بالقوّة والتزوير على الناس، فاستحوذوا على أزمة الاُمور. هذا من جهة، ومن جهة اُخرى، ولكي يتمكن الانسان من الوصول الى هدفه المعنوي، يجب عليه أنْ لا ينفرد في مسيرته، بل عليه أنْ ينضم الى المجتمع في مسيرة عظمى، لأنَّ طاقات الفرد الفكرية والجسمية والمادية والمعنوية ليست شيئاً يذكر بازاء طاقات المجتمع الجبارة.
ولكن المجتمع المطلوب هو الذي يسوده نظام سليم، تتضح فيه مواهب الانسان، ويقف بوجه الانحرافات، ويحافظ فيه على حقوق جميع الافراد، ويضع الخطط والمناهج للوصول الى اهدافه الكبرى، ويعبىء الدافع المحرك في المجتمع ضمن اطار من الحرية يشمل المجتمع كله.
ولما كان الانسان العادي المعرض للخطأ غير قادر على حمل مثل هذه الرسالة العظيمة، بدليل ما نراه بأُم أعيننا من انحراف قادة العالم السياسيين عن جادة الصواب، كان لابدّ أنْ يختار الله قائداً معصوما ًيضطلع بمهمة الاشراف على تحقيق هذه الرسالة، بالاعتماد على طاقات البشر الكامنة وأفكار العلماء في الوقت الذي يقف بوجه الانحرافات بحزم. وهذا وجه آخر من أوجه الغرض من وجود الامام المعصوم، وفرع آخر من فروع "قاعدة اللطف". ونكرر هنا قولنا إنَّه عند غياب الامام المعصوم بعلة من العلل وفي ظرف استثنائي، فان ما ينبغي أنْ يفعله الناس واضح أيضاً، ولسوف نتناول هذا إنْ شاء الله في البحوث الخاصّة بالحكومة الاسلامية بالشرح والتفصيل.
4- ضرورة اتمام الحجة: إنَّ وجود الامام لا يقتصر على إنارة القلوب المستعدة للهداية والسير في طريق التكامل، بل يعتبر إتماماً للحجة على الذين ينحرفون متعمدين عن الطريق السوي، وذلك كى لا يكون عقابهم يوم القيامة دون سبب ولكي لا يعترض معترض منهم أنَّهم لو أخذ بأيديهم مرشد الهي ليقودهم الى طريق الرشاد، لما ساروا في طريق الانحراف.
أي إنَّ وجود الامام يقطع الطريق على كل عذر وحجَّة بوساطة بيان الادلة الكافية، والتوعية اللازمة لغير الواعين، وتطمين الواعين وتقوية إرادتهم.
5- الامام واسطة الفيض الالهي: كثير من العلماء، استناداً الى الاحاديث الاسلامية، يشبهون وجود النبي والامام في المجتمع الانساني، أو في كل عالم الوجود، بالقلب بالنسبة لجسم الانسان. فالقلب يرسل الدّم الى جميع العروق، ويغذي جميع الخلايا في الجسم. ولما كان الامام المعصوم، باعتباره انساناً كاملاً وطليعة قافلة الانسانية، وسبب نزول الفيوضات الالهية التي ينهل منها كل فرد على قدر ارتباطه بالنّبي أو الامام، فلابدّ أن نقول إنَّه مثلما كان القلب ضرورياً لحياة الانسان، كذلك وجود واسطة نزول الفيض الالهي ضرورياً في جسد عالم البشرية، فتأمل!
وينبغي ألاّ يغرب عن البال أنَّ النّبي والامام لا يملكان شيئاً من نفسيهما ليمنحاه للآخرين، فكل ما عندهما هو من عند الله، ولكن مثلما كان القلب واسطة ايصال الفيض الالهي لسائر انحاء الجسم، كان النّبي أو الامام واسطة ايصال الفيوضات الالهية لسائر أبناء البشر.
*سلسلة دروس في العقائد الاسلامية، آية الله مكارم الشيرازي ، مؤسسة البعثة، ط2. ص142-147
1- نهج البلاغة، الكلمات القصار، (147).
source : http://almaaref.org