اتّفقت كلمة أهل السنة، أو أكثرهم، على أنّ الإمامة من فروع الدين.
قال الغزالي: "إعلم أنّ النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمات، وليس أيضاً من فنّ المعقولات، بل من الفقهيات، ثم إنّها مثار للتعصبات، والمُعْرِض عن الخوض فيها، أسلم من الخائض، بل وإن أصاب، فكيف اذا أخطأ؟ ولكن إذا جرى الرسم باختتام المعتقدات بها، أردنا أن نسلك المنهج المعتاد، فإنّ فطام القلوب عن المنهج، المخالف للمألوف1، شديد النِّفار"2.
وقال الآمدي: "واعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أُصول الديانات، ولا من الأُمور اللابدِّيَّات، بحيث لا يسع المكلَّف الإعراض عنها والجهل بها، بل لَعَمري إنّ المعرض عنها لأَرجى من الواغل فيها، فإنّها قَلّما تنفك عن التعصّب، والأهواء، وإثارة الفتن والشحناء، والرجم بالغيب في حق الأئمة والسَّلَف، بالإزراء، وهذا مع كون الخائض فيها سالكاً سبيل التحقيق، فكيف اذا كان خارجاً عن سواء الطريق. لكن لمَّا جرت العادة بذكرها في أواخر كتب المتكلمين، والإبانة عن تحقيقها في عامة مصنفات الأُصوليين، لم نَرَ من الصواب خَرْق العادة بِتَرْك ذكرِها في هذا الكتاب"3.
وقال الإيجي: "وهي عندنا من الفروع، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسيّاً بمن قبلنا"4.
وقال التفتازاني: "لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة، بعلم الفروع أَليق، لرجوعها إلى أنّ القيام بالإمامة، ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة، من فروض الكفايات، وهي أُمور كليّة تتعلق بها مصالح دينية أو دنيوية، لا ينتظم الأمر إلاّ بحصولها، فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة من غير أن يقصد حصولها من كلّ أحد. ولا خفاء في أنّ ذلك من الأحكام العملية دون الإعتقادية"5.
هذا ما لدى أهل السُّنة، وأمّا الشِّيعة، فالإعتقاد بالإمامة عندهم أصل من أُصول الدين، وسيظهر وجهه في الأبحاث التالية.
وها هنا سؤال يطرح نفسه، وهو أنّه اذا كانت الإمامة من الفروع، فأي معنى لسلّ السيف على هذا الحكم الفرعي، حتى قال الشهرستاني: "وأعظم خلاف بين الأُمة، خلافُ الإمامة، إذْ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كلّ زمان"6.
فإذا كان الإعتقاد بإمامة شخص، تَوَلّى الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من الأحكام الفرعية، فإنّ المخالفة فيه لا تستلزم تكفير المخالف أو تفسيقه، إذا كان للمخالف حجة شرعية، كمخالفة المجتهد للمجتهد.
مثلاً: إنّ المسح على الخُفَّيْن، أو جواز العمل بالقياس، من مسائل الفروع الخلافية، فهل ترى من نفسك تجويز تكفير المخالف، أو تفسيقه؟، أو إنّ لكلٍّ حُجَّته ودليله، وإنّ للمصيب أَجْرَيْن وللمخطئ أجراً واحداً، فما هذه الدمدمة والهمهمة حول الإمامة؟
وإذا كانت الإمامة، بعامَّة أبحاثها من الفروع، فما وجه إقحام ذلك في عِداد المسائل الأُصولية، كما ارتكبه إمام الحنابلة، وقال: "خير هذه الامة بعد نبيّنا، أبو بكر، وخيرُهُم بعد أبي بكر، عُمَر، وخيرهم بعدَ عُمَر عُثْمان، وخيرهم بعد عثمان، عَليّ، رضوان الله عليهم، خلفاء راشدون مهديُّون"7.
ومثلُه، أبو جعفر الطحاوي الحنفي في العقيدة الطحاوية، المسماة بـ"بيان عقيدة السنّة والجماعة"، حيث قال: "وتثبت الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر الصِّدِّيق، تفضيلاً، وتقديماً على جميع الأُمّة، ثم لِعُمَرَ بن الخطاب، ثم لعثمان بن عفّان، ثم لعليّ بن أبي طالب"8.
وقد اقتفى أثرهما الشيخ أبو الحسن الأشعري، عند بيان عقيدة أهل الحديث وأهل السُّنة، والشيخ عبد القاهر البغدادي في بيان الأُصول الّتي اجتمع عليها أهل السنّة9.
وهذا الصراع بين القولين، أراق الدماء الطاهرة، وجرّ على الأُمّة الويلَ والثُبُور، وعظائم الأُمور، فما معنى إقحام الإعتقاد بالأحكام الفرعية في قائمة العقائد؟ وإِنْ هذا إلاّ زَلَةٌ لا تُستقال.
نعم، أَوَّلُ من لبّس الأمر، وجعل الإعتقاد بها من صميم الإيمان على مسلك أهل السنة، هو عَمْرو بن العاص، عندما اجتمع مع أبي موسى الأشعري، في دومة الجندل. وما جَعَلَ الإعتقاد بخلافة الخليفتين الأَوَّلَينْ، إلاّ للازدراء بعليّ عليه السَّلام وشيعته10.
* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج4،ص9-12
1- كذا في المصدر، والظاهر أنّ "المخالف" صفة "الفطام"، أو أنّ "المخالف" زائد.
2- الإقتصاد في الإعتقاد، ص 234.
3- غاية المرام في علم الكلام، ص 363، لسيف الدين الآمدي، (551 - 631 هـ).
4- المواقف، ص 395.
5- شرح المقاصد، ج 2، ص 271.
6- الملل والنحل، للشهرستاني، ج 1، ص 24.
7- كتاب السنة ص 49، المطبوع ضمن رسائل بإشراف حامد محمد فقي. وهذا الكتاب ألف لبيان مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السُّنة، وَوَصَفَ مَنْ خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طغى فيها أو عاب قائلها، بأنّه مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنّة وسبيل الحق.
8- شرح العقيدة الطحاوية، للشيخ عبد الغني الميداني الحنفي الدمشقي، ص 471، وأخذنا العبارة من المتن. وتوفي الطحاوي عام 321 هجري.
9- لاحظ "الإبانة عن أُصول الديانة"، الباب 16، ص 190 و "الفَرْق بين الفِرَق" ص 350. ولاحظ "لُمَع الأَدلة" للإمام الأشعري، ص 114، و "العقائد النَّسَفية" ص 177.
10- لاحظ مروج الذهب للمسعودي، ج 2، ص 397. ولاحظ "بحوث في الملل والنحل"، لشيخنا الأستاذ دام ظلّه ج 1، ص 265 - 272 .
source : http://almaaref.org