إنّ من أحاط علماً بسيرة النبي في تأسيس دولة الإسلام، وتشريع أحكامها وتمهيد قواعدها، يجد علي بن أبي طالب وزير رسول الله في أمره، ظهيره على عدوه، وعيبة علمه، ووارث حكمه، ووليّ عهده، وصاحب الأمر من بعده. ومن وقف على أقوال النبي وأفعاله في حلّه وترحاله، يجد نصوصه في ذلك متواترة متوالية، من مبدأ أمره إلى منتهى عمره، صلى الله عليه وآله وسلم، وإليك البيان.
أ - حديث بدء الدعوة
أخرج الطبري وغيره، بسنده، عن علي بن أبي طالب، أنّه لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾(الشعراء:214) دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال لي: يا عليّ، إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أنّي متى أباديهم بهذا الأمر، أرى منهم ما أكره، فَصَمَدّتُ عليه حتى جاءني جبرئيل، فقال، يا محمد، إنّك إن لا تفعل ما تؤمر به، يعذّبك ربّك، فاصنع (ياعلي) لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، وأملأ لنا عسا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلّمهم وأبلّغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه... إلى أن قال: فأكلوا حتى ما لهم بشي حاجة، ثم قال (النبي): أسقهم. فجئتهم بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثم تكلّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا بني عبد المطلب، إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب، جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أو أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي، ثم قال: إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوه.
وفي رواية أخرى قال ذلك القول ثلاث مرات، كلّ ذلك أقوم إليه فيقول: إجلس1.
ودلالة الحديث على الخلافة لعلي والوصاية له، لا تحتاج إلى بيان، وهذا إن دَلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ النبوة والإمامة كانتا متعاقدتين بعقد واحد، تتجليان معاً، ولا تتخلفان.
كتمان الحقائق
إنّ من العجب أنّ أناساً يدّعون أنّهم حفظة الحديث وعيبة آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كتموا الحقائق وارتكبوا جنايات في نقل الآثار، وإليك نبذة من هؤلاء.
1- رأينا أنّ الطّبري في تاريخه، نقل قول النبي على الوجه التالي
- "فأيّكم يوازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم". كما نقل قوله الآخر:
- "إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوه".
ولكنه في تفسيره، لم يعجبه نقل الحقيقة، لمخالفتها لما يبطنه من العقيدة، فقال مكان الجملتين: "فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي وكذا وكذا".
- "إنّ هذا أخي وكذا وكذا، فاسمعوا له وأطيعوه"2.
2- إنّ الحافظ أبا الفداء ابن كثير (م 774 هـ)، ذكر الحديث في تاريخه، على منوال تاريخ الطبري، ولكن لم يعجبه نقله من تاريخه، واعتمد على التفسير الذي كنى عن نصّ رسول الله بالوصاية والخلافة لعلي3.
3- إنّ محمد حسين هيكل، كتب ما هو خزاية فاضحة في مجال الحديث، فإنّه كتب الجملة الأولى أعني قول النبي الأكرم: "فأيكم يؤازرني على هذا الأمر وأن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم". وترك من رأس الجملة الثانية التي قالها النبي لعلي. ولكن هذا المقدار من الإعتراف بالحقيقة، لم يعجب القشريين من الأزهريين، فوقع موقع النقد منهم، وأسقط في الطبعة الثانية من الكتاب كلّ ما يرجع إلى عليّ عليه السَّلام، دفعاً لأمواج اللوم والعتاب4.
ب - حديث المنزلة
روى أهل السير والتاريخ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، خلّف علي بن أبي طالب على أهله في المدينة، عند توجهه إلى تبوك، فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلّفه إلاّ استثقالاً له، وتخوّفاً منه، فلما قال ذلك المنافقون، أخذ علي بن أبي طالب عليه السَّلام سلاحه، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو نازل بالجرف5، فقال: يا نبيّ الله، زعم المنافقون أنّك إنّما خلفتني أنّك استثقلتني، وتخفّت مني، فقال: كذبوا، ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني، في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي؟.
فرجع علي إلى المدينة، ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على سفره6.
ومن عجيب القضايا ما رواه مسلم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، وقال: ما منعك أن تسبّ أبا التراب، قال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلن أسبّه، لأن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمّا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبوة بعدي.
وسمعته يقول يوم خيبر: لأعطينّ الراية رجلاً يحبّ الله ورسلوه، ويحبّه الله ورسوله. قال: فتطاولنا لها، فقال: أدعو لي عليّاً، فأتي به أرمد، فبصق في عينه، ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه.
ولما نزلت هذه الآية: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ)، دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: "اللّهم هؤلاء أهلي"7.
وأمّا دلالة الحديث على أنّ النبي أفاض على عليًّ عليه السَّلام "بإذن من الله سبحانه" الخلافة والوصاية، فيكفيك فيها أنّ كلمة "منزلة" إسم جنس أضيف إلى هارون، وهو يقتضي العموم، فيدلّ على أنّ كل مقام ومنصب كان ثابتا لهارون فهو أيضاً ثابت لعلي، إلاّ ما استثناه، وهو النبوّة.
على أنّ الإستثناء هو أيضاً دليل العموم، ولولاه لما كان وجه للإستثناء.
وأمّا ما جاء في صدر الحديث من أنّه خلّفه على أهله، فلا يكون دليلاً على الإختصاص، لبداهة أنّ المورد لا يكون مخصّصاً، وهو أحد القواعد المسلّمة في علم الأصول، فلو رأيت الجنب يمسّ آية الكرسي، فقلت له، لا يمسّنّ آيات القرآن محدث، يكون دليلاً على أنّ الجنب يحرم عليه مسّ القرآن على الإطلاق.
وأمّا منزلة هارون من موسى، فيكفي في بيانها قوله سبحانه "حكاية عن موسى": ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اُشْدُدْ بِهِ أَزْري * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْري﴾8 فجاء الجواب: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾(طه:36).
إنّ من تتبّع سيرة النبي يجده يصوّر عليّاً وهارون كالفرقدين في السماء، والعينين في الوجه، لا يمتاز أحدهما في أُمّته عن الآخر في أمته بشي ما، ومن ذلك:
أ - إنّ النبي سمّى أبناء علي كأسماء أبناء هارون، سمّاهم حسناً وحسيناً ومُحسناً، وقال: إنّما سمّيتهم بأسماء ولد هارون، "شُبَّر، وَشُبَيرْ وَمُشبر"9.
ب - إنّ النبي اتّخذ عليّاً أخاه، وآثره بذلك على من سواه، تحقيقاً لعموم الشّبه بين منازل الهارونيّين من أخويهما، وحرصاً على أن لا يكون ثمة من فارق بينهما. وقد آخى بين أصحابه، فجاء عليّ عليه السَّلام وقال: آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت أخي في الدنيا والآخرة10.
ج - أمر بسد أبواب الصحابة من المسجد، تنزيهاً له عن الجنب والجنابة، لكنه أبقى باب علي عليه السَّلام، وأباح له عن الله تعالى، أن يدخل المسجد جنباً كما كان مباحاً لهارون، فدلّل ذلك على عموم المشابهة بين الهارونيّين عليهما السَّلام، كما قال ابن عباس: "وسدّ رسول الله أبواب المسجد غير باب علي، فكان يدخل المسجد جنباً، وهو طريقه ليس له طريق غيره"11.
ج - حديث "الغدير"
حديث الغدير، حديث الولاية الكبرى، حديث إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب تعالى. وهو حديث نزل به كتاب الله المبين، وتواترت به السنّة النبوية، وتواصلت حلقات أسانيده منذ عهد الصحابة والتابعين إلى اليوم الحاضر، وقد صبّ شعراء الإسلام واقعة الغدير، في قوالب الشعر، وهو من أحسن ما أثار قرائحهم الشعرية وإليك فيما يلي حاصل تلك الواقعة، وخطبة النبي الأكرم فيها:
أجمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الخروج إلى الحج في السنة العاشرة من الهجرة، وأذّن في الناس بذلك، فقدم المدينة خلق كثير يأتمون به حجته، تلك الحجة التي سميت بحجة الوداع، وحجة الإسلام، وحجة البلاغ، وحجة الكمال، وحجة التمام (تسميتها بالبلاغ وبالتمام والكمال، لنزول قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ). وقوله سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾(المائدة:67-3 في ذلك الحج)، ولم يحج غيرها منذ هاجر إلى أن توفّاه الله سبحانه.اشترك معه جموع لا يعلم عددها إلاّ الله، وأقلّ ما قيل إنّه خرج معه تسعون ألفاً، فلما فقضى مناسكه وانصرف، راجعاً إلى المدينة، ومعه والذين أتوا من اليمن. فلما قضى مناسكه وانصرف، راجعاً إلى المدينة، ومعه من كان من الجموع المذكورات، ووصل إلى الغدير "خم" من الجحفة، التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين، وذلك يوم الخميس، الثامن عشر من ذي الحجة، نزل جبرئيل الأمين عن الله تعالى بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾(المائدة:67)، وكان أوائل القوم قريبين من الجحفة، فأمر رسول الله أن يرد من تقدم منهم، ويحبس من تأخّر عنهم، حتى إذا أخذ القوم منازلهم، نودي بالصلاة، صلاة الظهر، فصلّى بالناس، وكان يوماً حاراً، يضع الرجل بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الرمضاء، فلما انصرف من صلاته، قام خطيباً وسط القوم على أقتاب الإبل، وأسمع الجميع رافعاً عقيرته، فقال:"الحمد لله، ونستعينه، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن أضلّ ولا مضلّ لمن هدى،أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ، وناره حق، وأنّ الموت حق، وأنّ الساعة آتية لاريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور"؟.
قالوا: "بلى نشهد بذلك". قال: "اللّهم اشهد".
ثم قال: "يا أيُّها الناس، ألا تسمعون؟".
قالوا: "نعم".
قال: فإنّي فرط على الحَوْض (أي متقدِّمكم إليه)، فانظروني كيف تَخْلُفوني في الثقلين".
فنادى مناد: "وما الثّقلان يا رسول الله؟".
قال: "الثّقل الأكبر، كتاب الله، والآخر الأصغر، عترتي، وإنّ اللّطيفَ الخبيرَ نبّأني أنّهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض، فلا تَقَدّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا".
ثم أخذ بيد علي فرفعها، حتى رؤي بياض آباطهما، وعرفه القوم أجمعون، فقال: "أيّها الناس، من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟".
فقالوا: "الله ورسوله أعلم".
قال: "إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم. فمن كنت مولاه فعلي مولاه "يقولها ثلاث مرات" ثم قال: اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب".
ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي). فقال رسول الله: "الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي، والولاية لعلي من بعدي".
ثم أخذ الناس يهنئون عليّاً، ومّمن هنّأه في مقدم الصحابة الشيخان أبوبكر وعمر، كل يقول: بخ بخ، لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي، ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
وقال حسان، أئذن لي يا رسول الله أن أقول في عليٍّ أبياتاً، فقال: قل على بركة الله، فقام حساناً، فقال:
يناديهم يـوم الغـديـر نبيّهم |
بخُمّ واســمع بالرســول مناديـــــاً |
فقـال فمن مولاكـم ونبيّكـم |
فقالوا ولـم يبـدوا هنـاك التّعاميــا |
إلهك مـولانـا وأنـت نبيّنــا |
ولـم تلق منا في الولايـة عاصيــا |
فقال له قم يا علــيّ فإنّنـي |
رضيتك من بعـدي إماماً وهاديـــا |
فمن كنت مولاه فهذا وليّه |
فكونوا لـه أتبـاع صــدق مواِلـيــا |
هناك دعى اللّهم وال وليّه |
وكــن للـذي عـادى عليّا معاديـــا |
فلمّا سمع النبي أبياته قال: "لا تزال ياحسّان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك"12.
هذا مجمل الحديث، في واقعة الغدير، وقد أصفقت الأمّة على نقله، فلا نجد حديثاً يبلغ درجته في التواتر والتضافر، ولا في الإهتمام نظماً ونثراً.
والإحتجاج به على إمامة عليٍّ عليه السَّلام يتحقق ببيان الأُمور التالية:
الأمر الأول: البلاغ الرسمي للولاية
إنّ النبي الأكرم أشاد بولاية علي ووصايته، في حديث يوم الدار، في مجتمع محدود، لا يربو عددهم الأربعين. كما أشاد بخلافته عند توجّهه إلى تبوك أمام جماعة من الصحابة والمهاجرين، وكان هذا وذاك، وغيرهما ممّا صدر منه صلى الله عليه وآله وسلم، في ظروف مختلفة، حول ولاية الإمام، تهيئة للأذهان، للإعلان الرسمي لهذه الولاية أمام الجموع الهائلة، ليقف عليها القريب والبعيد، والحاضر والبادي، فقام بإبلاغ ذلك في ذلك المحتشد العظيم، وأخذ منهم الإقرار والإعتراف، وهنّأ الصحابة عليّاً عليه السَّلام، بهذه المكرمة الإلهية، فكان هذا إعلاناً رسمياً، للأمّة جمعاء، لا يصحّ لأحد إنكاره، والتغاضي عنه. وسيوافيك دلالة الحديث بوجه واضح لا يدع لقائل كلمة، ولا لمجادل شبهة.
الأمر الثاني: سند الحديث وتواتره
إنّ حديث الغدير من الأحاديث المتواترة من عصر الرسول الأكرم إلى يومنا هذا، يقف عليه من سبر كتب الحديث والتاريخ والسّير والكلام والتفسير وغيرها. وما ربما يصدر من كلمات حول الحديث من أنّه من أحاديث الآحاد، فهو كلام صدر من المغرضين ورماة القول على عواهنه، من غير تدبّر وتثبت.
إنّ كتب الإمامية في الحديث وغيره، مفعمة بإثبات قصة الغدير والإحتجاج بمؤداها. فمن مسانيد معنعنة إلى مُنْبَثَقِ أنوار النبوة، إلى مراسيل أرسلها المؤلفون إرسال المسلَّم، وحذفوا أسانيدها لتسالم الفريقين.
وأمّا المحدثون وغيرهم من أهل السنّة فلا يتأخرون عن الإمامية في نقل الحديث والبخوع لصحته، والركون إليه، والتصحيح له، والإذعان بتواتره إلا شُذّاذ تنكبوا عن الطريقة، وقد ألّف غيرواحد من علماء الإسلام كتباً مستقلة، فلم يقنعهم إخراجه بأسانيد مبثوثة في الكتب، فدوّنوا ما انتهى إليهم من أسانيده، وضبطوا ما صحّ لديهم من طرقه، كل ذلك حرصاً على متنه من الدثور، وعن تطرق يد التحريف إليه، منهم أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ والتفسير المعروفين (ت 224 - م 310 هـ)، وأبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني المعروف بابن عقدة (م 333 هـ)،أبو بكر محمد بن عمر محمد بن سالم التميمي البغدادي (م 355 هـ) وغيرهم13.
ولأجل إيقاف القارئ على اهتمام الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين، والعلماء، والأدباء، والفقهاء، بنقل الحديث وضبط أسانيده، نذكر عدد رواته في كل قرن على وجه الإجمال ونحيل التفصيل إلى الكتب المعدّة لذلك.
1- روى الحديث من الصحابة 110 صحابياً، وطَبْع الحال يستدعي أن يكون رواته أضعاف المذكورين، لأنّ السامعين الوعاة له كانوا مائة ألف، أو يزيدون.
2 - رواه من التابعين 84 تابعياً. وأما عدّة الرواة من العلماء والمحدثين فنذكرها على ترتيب القرون.
3- عدد من رواه في القرن الثاني: 56 عالماً ومحدّثاً.
4- عدد من رواه في القرن الثالث: 92 عالماً ومحدّثاً .
5- عدد من رواه في القرن الرابع: 43 عالماً ومحدّثاً.
6- عدد من رواه في القرن الخامس: 24 عالماً ومحدّثا.
7- عدد من رواه في القرن السادس: 20 عالماً ومحدّثاً.
8- عدد من رواه في القرن السابع: 20 عالماً ومحدّثاً.
9- عدد من رواه في القرن الثامن: 19 عالماً ومحدّثاً.
10- عدد من رواه في القرن التاسع: 16 عالماً ومحدّثاً.
11- عدد من رواه في القرن العاشر: 14 عالماً ومحدّثاً.
12- عدد من رواه في القرن الحادي عشر: 12 عالماً ومحدّثاً.
13- عدد من رواه في القرن الثاني عشر: 13 عالماً ومحدثاً.
14- عدد من رواه في القرن الثالث عشر: 12 عالماً ومحدّثاً.
15- عدد من رواه في القرن الرابع عشر: 19 عالماً ومحدّثاً.
وقد أغنانا المؤلفون في الغدير عن إراءة مصادره ومراجعه، وكفاك في ذلك كتب لمّة كبيرة من أعلام الطائفة:
منهم العلاّمة السيد هاشم البحراني (م 1107) مؤلف غاية المرام.
ومنهم السيد مير حامد حسين الهندي اللكهنوئي (م 1306)، ذكر حديث الغدير، وطرقه، وتواتره، ومفاده في مجلدين ضخمين في ألف وثمان مائة صحيفة وهما من مجلدات كتابه الكبير "العبقات"، فقد أتمّ الله به الحجة، وأوضح المحجة، وكتابه العبقات كتاب جليل، فاح أريجه في العالم، وطبق حديثه المشرق والمغرب.
ومنهم العلامة المتتبع المحقق الفذّ الشيخ عبد الحسين النجفي (ت 1320 - م 1390) في كتابه الفريد "الغدير"، وبعين الله، إنّ كتابه هذا هو المعجز المبين، ومن حسنات الدهر الخالدة، جزاه الله خير الجزاء14.
الأمر الثالث: دلالة الحديث
إنّ دلالة الحديث على إمامة مولانا أمير المؤمنين، دلالة واضحة لم يشك فيها أي عربي صميم، عصر نزول الحديث وبعده إلى قرون، ولم يفهموا من لفظة المولى سوى معنى الإمامة، وتتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء إلى أن ولّد الدهر إمام المشككين، فجاء بتشكيكات، كسائر تشكيكاته، التي تاب منها عند احتضاره15.
والدلالة مركزة على أن لفظ المولى نصّ فيما نثبته من الإمامة بالوضع اللغوي، أو بالقرائن المحتفة به. وعلى كلا التقديرين، يكون الحديث حجةً قاطعةً في الإمامة، ونحن نسلك كلا الطريقين.
الطريق الأول: الدلالة بالوضع اللغوي
إنّ "مفعل" "هنا" بمعنى "أفعل"، ولفظ "مولى" أريد منه هنا الأولى، سواء أقلنا إنّه المعنى الوحيد "كما سيوافيك" أو أحد معانيه، كما في قوله سبحانه: ﴿فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾(الحديد:15).
والمفسّرون للآية على فريقين منهم من حصر التفسير بأنّها أولى بكم، ومنهم من جعله أحد المعاني، وهؤلاء أئمة العربية، عرفوا أنّ هذا المعنى من معاني اللفظ اللغوية، ولولاه لما صحّ لهم تفسيره به، يقول الخازن: "هي مولاكم، أي وليّكم، وقيل أولى بكم، لما أسلفتم من الذنوب، والمعنى: هي التي تلي عليكم، لأنّها ملكت أمركم وأسلمتم إليها، فهي أولى بكم من كل شيء"16. وقد نقل كون المولى بمعنى الأول، الرازي في تفسيره عن الكلبي النّسابة (م 146) والفرّاء (م 207)17. وأبو عبيدة معمّر بن المثنى البصري (م 210)، والأخفش الأوسط (م 218)18. ونهاية العقول19.
واستشهد أبو عبيدة ببيت لبيد:
فقدت كلا الفَرْجَيْن تَحْسَبُ أنّه مولى المخافة خلفها وإمامها
حتى أنّ البخاري، صاحب الصحيح، في قسم التفسير منه، فسّره بـ "أولى"20.
نعم هنا شبهة ذكرها الرازي في تفسيره، حسب أنّها تصادم دلالة الحديث على الولاية الكبرى للإمام عليٍّ عليه السَّلام، فقال في تفسير قوله سبحانه: ﴿هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾، "لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة، لصحّ استعمال كلّ واحد منهما في مكان الآخر، فيجب أن يقال: هذا مولى من فلان، ولمّا بطل ذلك، عَلِمنا أنّ الذي قالوه معنىً، وليس بتفسير".
وقال في نهاية العقول: "لو كان المولى يجيء بمعنى الأولى، لصحّ أن يقرن بأحدهما، كلّما يصحُّ قَرْنُه بالآخر، لكنه ليس كذلك، فامْتَنَع كون المولى بمعنى الأولى، مع أنّه لا يقال: هو مولى من فلان، ولا يصحّ أن يقال: "هو أولى" بدون من".
يلاحظ عليه: قد فات الرازي أنّ اتّحاد المعنى أو الترادف بين الألفاظ، إنّما يقع في جوهريات المعاني لا عوارضها الحادثة من أنحاء التركيب،تصاريف الألفاظ، وصيغها. مثلاً: الإختلاف الحاصل بين المولى والأولى، بلزوم مصاحبة الثاني بالباء (أولى به)، وتجرّد الأول منه، إنّما حصل من ناحية صيغة إفعل من هذه المادة، كما أنّ مصاحبة "من"، هي مقتضى تلك الصيغة مطلقاً، إذن مفاد "فلان أولى بفلان"، و"فلان مولى فلان"، واحد، حيث يراد به "الأولى به من غيره"، ويشهد لذلك أنّ "افعل" بنفسه، يستعمل مضافاً إلى المثنّى والجمع، أو ضميرهما بغير أداة، فيقال: زيد أفضل الرجلين، أو أفضلهما، وأفضل القوم وأفضلهم، ولا يستعمل كذلك إذا كان ما بعده مفرداً، فلا يقال: زيد أفضل عمرو، وإنّما يقال هو أفضل منه، ولا يرتاب عاقل في اتّحاد المعنى في الجميع.
قال الأزهري في باب التفضيل: "إنّ صحة وقوع المرادف موقع مرادفه، إنّما يكون إذا لم يمنع من ذلك مانع، وها هنا منع مامنع، وهو الإستعمال، فإنّ إسم التفضيل، لا يصاحب من حروف الجر إلاّ "من" خاصة، وقد تحذف مع مجرورها للعلم بها نحو: ﴿وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾(الأعلى:17)"21.
ثمّ إنّ الرازي اختار أنّ المولى في الحديث بمعنى "الناصر"، مع أنّ ما أورده على القول بأنّه بمعنى "الأولى"، وارد عليه، فلايقال في اللغة العربية، "هو مولى دين الله"، مكان "ناصر"، ولا يصحّ تبديل قوله: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾(آل عمران:52). إلى "من مواليّ الله"، أو تبديل الحواريين: (نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ) إلى "نحن موالي الله".
هذه الحالة مطّردة في كثير من المترادفات التي جمعها الرّماني (م 384) في تأليف مفرد، مع أنّ اختلاف الكيفية حاكم عليها أيضاً، مثلاً يقال: عندي درهم غير جيد، ولا يصحّ أن يقال: عندي درهم إلاّ جيد، كما هو السائد في كلمة "هل" و "همزة الإستفهام"، فإنّهما بمعنى واحد، ولكن يفترقان بفروق ثلاثة، أو خمسة، أو ستة.
ولما كان الإشكال ضئيلاً، قال النيسابوري، في تفسيره "بعد نقل كلام الرازي، إلى قوله: وحينئذ يسقط الإستدلال به": "قلت: وفي هذا الإسقاط بَحْثٌ لا يخفى"22.
ولما وقف التفتازاني على تمامية دلالة الحديث على الإمامة، حاول رمي الحديث بعدم التواتر، قال "في دلالة الحديث": "المولى" قد يراد به المعتِق، والمعتَق، والحليف، والجار، وابن العم، والناصر، والأولى بالتصرف، قال الله تعالى: (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ)، أي أولى بكم، ذكره أبوعبيدة، قال النبي: "أيما إمرأة أنكحت نفسها بغير إذن مولاها"، أي الأولى بها، والمالك لتدبير أمرها، ومثله في الشعر كثير. وبالجملة استعمال المولى بمعنى المتولي، والمالك للأمر، والأولى بالتصرف، شائع في كلام العرب، منقول عن كثير من أئمة اللغة، والمراد أنّه اسم لهذا المعنى، لا صفة بمنزلة الأولى ليعترض بأنّه ليس من صيغة اسم التفضيل، وأنّه لا يستعمل استعماله، وينبغي أن يكون المراد به في الحديث هو هذا المعنى، ليطابق صدر الحديث، ولأنّه لا وجه للخمسة الأول، وهو ظاهر، ولا للسادس لظهوره، وعدم احتياجه إلى البيان وجمع الناس لأجله". إلى أن قال: "و لا خفاء في أنّ الولاية بالناس، والتولّي، والمالكية لتدبير أمرهم، والتصرّف فيهم، بمنزلة النبي، وهو معنى الإمامة"23.
هذا من غير فرق بين تفسير مَفّعَلْ بأَفْعَل، أي المولى بمعنى أَوْلى، أو تفسيره بفَعيل، أي الولي، وقد نصّ على ذلك أئمة العربية منهم الفراء في تفسيره، وأبو العباس المُبَرّد، قالا: "الولي والمولى، بمعنى في لغة العرب واحد"24.
قال في الصحاح: والولي كل من ولي أمر واحد، فهو وليّه، وقول الشاعر: هُمُ المَوْلى وإن جَنَفوا علينا * وإنّا من لقائهم لزورُ25.
وقال في النهاية: "و كُلّ من ولي أمراً أو قام به فهو مولاه ووليه"26.
وقال الفيروز آبادي، في قاموسه: "المَوْلى: المالِك، والعبد، والمعتق، والولي، والربّ"27.
ليس للمولى إلاّ معنى واحد
إنّ السابر في كتب اللغة يرى أنّهم يذكرون في تفسير "المولى" أموراً، يبدو أنّها معان مختلفة له، مثلاً يقول صاحب القاموس: "المولى: المالك،العبد، والمعتق، والمعتَق، والصاحب، والقريب كابن العم ونحوه، والجار، والحليف، والإبن، والعمّ، والنّزيل، والشّريك، وابن الأُخت، والوَليّ،الربّ، والناصر، والمُنْعِم، والمنعَم عليه، والمحبّ، والتابع، والصِّهر"28.
والحق أنّه ليس للمولى إلاّ معنى واحد وهو الأولى بالشيء، وتختلف هذه الأولوية بحسب الإستعمال في كل مورد من موارده، والإشتراك معنوي، وهو الأولى من الإشتراك اللفظي المستدعي لألفاظ كثيرة غير معلومة بنصّ ثابت والمنفية بالأصل المحكّم، وهذه النظرية أبدعها ابن البطريق الحلّي (ت 533 - م 600)29.
وهذا المعنى الواحد، وهو الأولى بالشيء جامع لهاتيك المعاني جمعاء، ومأخوذ في كلّ منها بنوع من العناية، ولم يطلق لفظ المولى على شيء منها إلاّ بمناسبة لهذا المعنى:
1- فالمالك أولى بكلاءة مماليكه، وأمرهم، والتصرف فيهم.
2- والعبد أولى بالإنقياد لمولاه من غيره.
3- والمعتق (بالكسر) أولى بالتفضيل على من أعتقه من غيره.
4- والمعتق (بالفتح) أولى بأن يعرف جميل من أعتقه عليه ويشكره.
5- والصاحب، أولى بأن يؤدّي حقوق الصحبة من غيره.
6- والقريب، هو أولى بأمر القريبين منه، والدفاع عنهم، والسعي وراء صالحهم.
7- والجار، أولى بالقيام بحفظ حقوق الجوار كلّها من البعداء.
8- والحليف، أولى بالنهوض بحفظ مَنْ حالفه، ودفع عادية الجور عنه.
9- والإبن أولى الناس بالطاعة لأبيه والخضوع له.
10- والعم ّ، أولى بكلاءة إبن أخيه، والحنان عليه، وهو القائم مقام والده.
11- والنّزيل، أولى بتقدير من آوى إليهم ولجأ إلى ساحتهم، وأمن في جوارهم.
12- والشريك أولى برعاية حقوق الشركة وحفظ صاحبه عن الأضرار.
13- وابن الأُخت، أولى الناس بالخضوع لخاله الذي هو شقيق أُمه.
14- والولي، أولى بأن يراعي مصالح المُوَلّى عليه.
15- والناصر، أولى بالدفاع عمّن التزم بنصرته.
16- والربّ، أولى بخلقه من أي قاهر عليهم.
17- والمنعم (بالكسر) أولى بالفضل على من أنعم عليه، وأن يتبع الحسنة بالحسنة.
18- والمنعم عليه، أولى بشكر منعمه من غيره.
19- والمحب، أولى بالدفاع عمّن أحبّه.
20- والتابع، أولى بمناصرة متبوعه ممّن لا يتبعه.
21- والصهر، أولى بأن يرعى حقوق من صاهره، فشدّ بهم أزره، وقوي أمره.
إلى غير ذلك من المعاني التي هي أشبه بموارد الإستعمال. والأولوية مأخوذة فيها بنوع من العناية.
إلى هنا قد ظهر أنّ المولى في الحديث الشريف بمعنى الأولى، أو بمعنى الولي، وأنّ ما ذكر للمولى من المعاني المختلفة، فليس من قبيل المعاني المختلفة، حتى يحتاج تفسير المولى بالأولى إلى قرينة معيّنة، بل من قبيل المصاديق.
هذا كلّه في الطريق الأول
الطريق الثاني: الدلالة بالقرائن
إنّ القرائن الحافة بالحديث تدلّ على أنّ المراد من المولى هو الأولى أو الولي، وهي على قسمين: قرائن حالية وقرائن مقالية: والمراد من الأولى، ما احتف به الكلام الصادر من النبي الأكرم، من ظروف زمانية ومكانية.
والمراد من الثانية ما يتصل بالكلام نفسه من الجمل والعبارات.
أمّا القرائن الحالية، فبيانها بكلمة جامعة أنّا لو فرضنا أنّ لفظ المولى مشترك بين المعاني التي تلوناها عليك، إلاّ أنَّه لا يمكن إرادة غيره في المقام، إمّا لاستلزامه الكفر، كما إذا أريد منه الرب.
أو الكذب، كما إذا أُريد منه العم، والإبن، وابن الأُخت، والمعتِق، والمعتق، والعبد، والمالك، والتابع، والمُنْعَم عليه، والشَريك، والحليف، وهو واضح لمن تدبر فيه.
وأمّا الصاحب، والجار، والنزيل، والصّهر، والقريب، فلا يمكن إرادة شيء من هذه المعاني، لسخافته، لا سيما في هذا المحتشد الرهيب، وفي أثناء المسير، ورمضاء الهجير، وقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم بحبس المتقدم في السير، ومنع التالي منه، في محلّ ليس صالحاً للنزول، غير أنّ الوحي الإلهي، حبسه هناك، فيكون صلى الله عليه وآله وسلم قد عقد هذا المحتفل، والناس قد أنهكتهم وعثاء السفر، وحرّ الهجير، وحراجة الموقف، حتى أنّ أحدهم ليضع طرفاً من ردائه تحت قدميه، وطرفاً فوق رأسه، فيرقى هنالك منبر الأهداج، ويُعْلِمُهم عن الله تعالى بأنّه من كان هو صلى الله عليه وآله وسلم مصاحباً أو جاراً أو نزيلاً عنده، أو صهراً أو قريباً له، فعليّ كذلك!!.
وأمّا المنعم، فلا ملازمة بين أن يكون كلّ من أنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعليّ منعم عليه.
وأمّا الناصر والمحب، فسواء كان كلامه صلى الله عليه وآله وسلم، إخباراً أو إنشاء، فاحتمالان ساقطان، إذ ليسا بأمر مجهول عندهم، لم يسبقه التبليغ حتى يأمر به في تلك الساعة، ويحبس له الجماهير، ويعقد له ذلك المنتدى الرهيب، في موقف حرج، لا قرار فيه.
فلم يبق من المعاني إلاّ الولي، والأولى به، والمراد منه المتصرف في الأمر ومتوليه. ذكر الرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ﴾(الحج:78)، قال: قال القفال: "هو مولاكم، سيّدكم والمتصرّف فيكم"30.
فتعين أنّ المراد بالمولى: المتصرّف، الذي قيّضه الله سبحانه لان يُتَّبع، ويكون إماماً، فيهدي البشر إلى سنن النجاة فهو أولى من غيره بأنحاء التصرف في المجتمع الإنساني، فليس هو إلا نبي مبعوث أو إمام مفترض الطاعة منصوص به من قبله تعالى، بأمر إلهي، لا يبارحه في أقواله وأفعاله: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾(النجم:3-4).
وأمّا القرائن المقالية: فمتعددة تثبت أيضاً أنّ المولى بمعنى الأولى بالشيء أو بمعنى الولي، إذا تنازلنا إلى أنّه أحد معانيه، وأنَّه من المشترك اللفظي، وأمّا على القول بأنّه ليس للمولى إلاّ معنى واحد، كما أوضحناه، فلا حاجة لذكر القرائن إلاّ تأكيداً.
القرينة الأولى: صدر الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألست أَوْلى بِكُمِ من أَنفسكم"، أو ما يؤدّي مؤدّاه من ألفاظ متقاربة ثم فرّع على ذلك قوله: "فَمَنْ كُنْتُ مَولاهُ فَعَليٌّ مولاه". وقد روى هذا الصدر من حفاظ أهل السنّة، ما يربو على أربع وستين عالماً31.
فإنّ هذا الصدر يعيّن أنّ المراد من المولى هو الأولى، ولا وجه للتفكيك المخل.
القرينة الثانية: ذيل الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه"، وفي جملة من طرق الحديث قوله: وانصر من نصره، واخذل من خذله، أو ما يؤدّي مؤدّاه، فلو أريد منه غير الأولى بالتصرف، فما معنى هذا التطويل، فإنّه لا يلتئم ذكر هذا الدعاء إلاّ بتنصيب علي مقاماً شامخاً، يؤهله لهذا الدعاء.
القرينة الثالثة: أخذ الشهادة من الناس، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ حجته حقّ الخ". فإنّ وقوع قوله: "من كنت مولاه"، في سياق الشهادة بالتوحيد والرسالة، يحقق كون المراد، الإمامة، الملازمة للأولوية على الناس.
القرينة الرابعة: التكبير على إكمال الدين، حيث لم يتفرقوا بعد كلامه صلى الله عليه وآله وسلم، حتى نزل أمين وحي الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)، فقال رسول الله: "الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، والولاية لعلي من بعدي"، فأي معنى يكمل به الدين، وتتم به النعم، ويرضى به الربّ في عداد الرسالة، غير الإمامة التي بها تمام الرسالة، وكمال نشرها وتوطيد دعائمها.
القرينة الخامسة: نعيُ النبي وفاته إلى الناس، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "كأنّي دُعيت فأجبت". وفي نقل: "إنّه يوشك أن أدعى"، أو ما يقرر ذلك، وهذا يعطي أنّ النبي قد بقيت من تبلغيه مهمة، يحذر أن يدرِكَهُ الأجلُ قبل الإشادة بها، وهي تعرب عن كون ما أشار به في هذا المحتشد، تبليغ أمر مهم، يخاف فوته، وليس هو إلاّ الإمامة. أضف إليه أنَّه يعرب بذلك عن أنَّه سوف يرحل من بين أظهرهم، فيحصل بعده فراغ هائل، وأنّه يُسَدُّ بتنصيب عليٍّ في المقام الولاية.
القرينة السادسة: التهنئة، جاء في ذيل الحديث، وأخرجه الطبري في كتاب "الولاية" عن زيد بن أرقم، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "معاشر الناس، قولوا: أعطيناك على ذلك عهداً عن أنفسنا، وميثاقاً بألسنتنا، وصفقة بأيدينا، نؤدّيه إلى أولادنا وأهالينا، لا نبغي بذلك بدلاً، وأنت شهيد علينا، وكفى بالله شهيداً قولوا ما قلت لكم، وسلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين، وقولوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، فإنّ الله يعلم كلّ صوت، وخائنة كل نفس، فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه، (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيماً) قولوا ما يرضي الله عنكم، فإن تكفروا، فإنّ الله غنيّ عنكم".
القرينة السابعة: الأمر بإبلاغ الغائبين: وقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم في آخر خطبته بأن يبلّغ الشاهد الغائب، فما معنى هذا التأكيد، إذا لم يكن هناك مهمة لم تتح الفرص لتبليغها على نطاق واسع، ولا عرفته جماهير المسلمين، وما هي إلاّ الإمامة. وغير ذلك من القرائن التي استقصاها شيخنا المتتبع في غديره 32.
حديث الغدير ورجالات الأدب
شاء المولى سبحانه أن يبقى حديث الغدير على مرّ العصور والأيام، حجةً على المسلمين في التعرّف على مستقرّ الولاية الكبرى بعد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فقيّض المولى سبحانه، رجالات الأدب، وأساتذة الشعر، فنظموا تلك المأثرة النبوية الخالدة، وصبّوها في قوالب أشعارهم، وقرائضهم، فترى أنّهم "وهم أساتذة اللغة وبواقع الأدب" يعبّرون عنه بكلمات صريحة في الإمامة، أو الخلافة. وقبل كل شاهد نذكر بيت الإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام حيث قال:
وأوجب لي ولايته عليكم رسول الله يومَ غدير خمّ
ثم بعده حسان بن ثابت، الصحابي العظيم، يقول:
وعَلـــــــيّ إمُـامـــنا وإمــــامٌ لسوانا أتـى به التنزيـل
يوم قال النبيُّ من كنتُ مولاه فهذا مـولاهُ خطـب جليل
ومنهم داهية العرب، في قصيدته المعروفة بـ "الجلجلية"، يقول فيها معترضاً على معاوية:
وكم قد سمعنا من المصطفـى |
وصايا مخصصة في علي |
وفي يوم خـــمّ رقـــــى منبـراً |
وبلّغ والصحب لم ترحـــل |
فــامنحــه إمـــرة المؤمـنـين |
من الله مستخلف المنحـل |
وغيرهم من الشعراء الذين يحتجّ بقولهم في الأدب واللغة، ككميت بن زيد الأسدي المتوفى عام 126 هـ، والعبدي الكوفي من شعراء القرن الثاني، وشيخ العربية أبي تمّام، وغيرهم ممّن يطول بذكرهم المقام33.
إلى هنا تمّ الكلام حول الحديث متناً وسنداً، وهو يعرب عن حقيقة ناصعة من أجلى الحقائق الدينية، وهي ثبوت الولاية لعلي بعد النبي، ولا يرتاب فيها إلاّ مغرض لايرتاد الحقيقة، أو غافل عن مصادر الحديث34.
* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج4،ص76-98.
1- تاريخ الطبري، ج 63 - 64. ورجال السند كلهم ثقات إلاّ أبو مريم عبد الغفار بن القاسم، فقد ضَعّفه القوم، ليس ذلك إلاّ لتشيعه، فقد أثنى عليه ابن عقدة وأطراه، وبالغ في مدحه، كما في لسان الميزان، ج 4، ص 43 وأسند إليه. وأخرجه بهذا اللفظ أبو جعفر الإسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي، في كتابه نقض العثمانية، على ما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 13، ص 244، وقال: "إنّه روي في الخبر الصحيح"، وابن الاثير في الكامل، ج 2، ص 24، وأبو الفداء عماد الدين الدمشقي، في تاريخه: ج 3، ص 40. والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره، ص 390. وغيرهم من الحفّاظ وأساتذة الحديث وأئمة الأثر، والمراجع في الجرح والتعديل، ولم يقذف أحد منهم الحديث بضعف أو غمز لمكان أبي مريم في أسناده. على أنّه أخرجه الإمام أحمد في مسنده في غير مورد، فرواه في الجزء الأول، ص 159 عن عفان عن أبي عوانة عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجز، ورجال السند كلُّهم ثقات. كما أخرجه في الجزء الأول، ص 111، بسند رجاله كلُّهم من رجال الصحاح بلا كلام، وهم شريك، والعمش، والمنهال، وعباد. وللحديث صور مختلفة رواها عدّة من الحفاظ، فمن أراد التوسع في ذلك فليرجع إلى المصادر التالية: الغدير، ج 2، ص 278 - 289. غاية المَرام، للسيد البحراني، المقصد الثاني، الباب 15 و16. وتعاليق إحقاق الحق، ج 4، ص 66 - 70. والمراجعات، المراجعة 20، والمراجعة 22، وقد تكلم في إسناد الحديث في المتن وتعاليقه بما لا يدع للمريب شكاً.
2- تفسير الطبري، ج 19، ص 75.
3- البداية والنهاية، الجزء الثالث من المجلد الثاني، ص 40.
4- ومن أراد التبسط فعليه الرجوع إلى ما ذكرنا من المصادر، وإلى كتاب "المراجعات" لمصلح الدين، السيد شرف الدين العاملي رحمه الله.
5- حياة محمد، الطبعة الثانية، سنة 1354، ص 139. وعلى هذه الطبعة جاءت الطبعات اللاحقة، ونسخت الطبعة الأولى وكأنّ الأستاذ لم يكتبها.
6- الجرف، بالضم ثم السكون، موضع على بعد ثلفاثة أميال من المدينة.
7- السيرة النبوية، لابن هشام، ج 2، ص 519 - 520: وقد نقله من أصحاب الصحاح: البخاري في غزوة تبوك، ج 6، ص 3، ط 1314. ومسلم في فضائل عليّ، ج 7، ص 120. وابن ماجة في فضائل أصحاب النبي، ج 1 ص 55، ط المطبعة التازية بمصر. والإمام أحمد في مسنده في غير مورد لاحظ ج 1، ص 173 و175 و 177 و 179 و 182 و 185 و 330 وغيرهم من الأثبات الحفاظ، فلم يشك في صحة سند الحديث إلاّ الآمدي، و ليس هو من علم الحديث في حلّ ولا ترحال (إذا ما فُصِّلت عليا قريش * فلا في العير أنت ولا النفير وما جرّه إلى التشكيك، غير كون الحديث نصاً صريحا ً في إمامة علي، فحاول التشكيك للتخلص من هذا الإرتباك.
8- صحيح مسلم، ج 7، باب فضائل علي بن أبي طالب، ص 120 - 121.
9- لاحظ سورة طه: الآيات 29 - 32 وقوله: (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْري) يدل على اشتراك هارون مع موسى في النبوة كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾(مريم:53)، ولأجل ذلك استثناها النبي من منزلة هارون من موسى.
10- مستدرك الحاكم، ج 3، ص 165 و 168.
11- سنن الترمذي، ج 5، ص 636، الحديث 3720. ومستدرك الحاكم، ج 3، ص 14.
12- حديث "سدّ الأبواب كلّها إلاّ باب علي"، من الأخاديث المتضافرة المنقولة عن لفيف من الصحابة، منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، لاحظ مسند أحمد، ج 2، ص 26. ومنهم أبوه عمر بن الخطاب، لاحظ مستدرك الحاكم، ج 3، ص 125. ومن أراد التبسّط في أسانيده فعليه بالغدير، ج 3، ص 202 - 215. والمرجعات، المراجعة 34.
13- هذا من أعلام النبوة، فقد علم أنّه سوف ينحرف عن إمام الهدى في أخريات أيّامه، فعلق دعاءه على ظرف استمراره في نصرته. وقد نقل هذه الأبيات عن حسان بن ثابت عدّة من أعلام المؤرخين والمحدّثن، وإن حذف من ديوانه، فحرّفت الكلم عن مواضعها، ولعب بديوانه كما لعب بكثير من الدواوين، كديوان الفرزدق، وديوان كميت، وديوان أبي فراس، وديوان كشاجم، التي حذفت منها ما يرجع إلى مدح أهل البيت ورثائهم. لاحظ الغدير، ج 2، ص 34 - 42.
14- ذكر شيخنا الحجة العلامة الأميني، أسماء المؤلفين وخصوصيات كتبهم، في الجزء الأول، من غديره، ص 152 - 157.
15- لاحظ دائرة المعارف، لفريد وجدي، ج 4، ص 149، وفيها أنّه قال: "و أمّا ما استكثرت من إيراد السؤالات، فإنّي ما أردت إلاّ تكثيرالبحث وتشحيذ الخاطر، والإعتماد في الكلّ على الله تعالى".
16- تفسير الخازن، نقلاً عن الغدير، ج 1، ص 341.
17- معاني القرآن، للفراء، ج 3 ص 134
18- لاحظ جميع ذلك في تفسير الرازي، ج 8، ص 93
19- نهاية العقول، للرازي، أيضاً.
20- صحيح البخاري، ج 7، ص 240.
21- التصريح، لخالد بن عبد الله الأزهري، باب أفعل التفضيل
22- تفسير النيسابوري، تفسير سورة الحديد.
23- شرح المقاصد، ج 2، ص 290.
24- لاحظ معاني القرآن للفراء، ج 3، ص 124، والغدير ج 1، ص361.
25- الصحاح، ج 6، مادة "ولى"، ص 2529
26- النهاية لإبن الأثير، ج 5، ص 228.
27- القاموس المحيط، مادة "ولى"، ج 4، ص 401.
28- تاج العروس، ج 10، ص 399.
29- عُمّدة عيون صحاح الأخبار، لابن البطريق، ص 114 - 115.
30- تفسر الرازي، ج 6، ص 21.
31- لاحظ نقولهم، في كتاب الغدير، ج 1، موزعين حسب قرونهم.
32- لاحظ الغدير، ج 1، ص 370 - 383.
33- من أراد الوقوف على أشعارهم، فليرجع إلى الغدير بأجزائه.
34- لقد استندنا في هذا البحث الضافي إلى كتاب الغدير، للعلامة الأميني، المغفور له.
source : http://almaaref.org