المقدمة
إن الخلاف بين الشيعة وأهل السنة في موضوع الإمامة يدور حول ثلاث مسائل
الأولى: لزوم نصب الإمام من قبل الله تعالى.
الثانية: لزوم إتصافه بملكة العصمة.
الثالثة: لا بد وان يملك الإمام العلم الموهوب من الله.
والبحث في هذا المقال حول العصمة والعلم الموهوب من لله تعالى.
عصمة الإمام
بعد ثبوت أن الإمامة منصب إلهي منحه الله تعالى لعلي بن أبي طالب وأولاده عليهم السلام، فيمكن استنباط عصمتهم من هذه الآية الشريفة: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾(البقرة:124).
حيث نفى سبحانه وتعالى منح المناصب الإلهية لأولئك الملوثين بالذنوب. وكذلك يستفاد من آية أولي الأمر حيث فرض اطاعتهم المطلقة وقرنها باطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْر وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(النساء:59). أن إطاعتهم لا يمكن أن تنافي إطاعة الله تعالى: إذن فالأمر بإطاعتهم بصورة مطلقة يعني تضمين عصمتهم وتوفرهم على العصمة.
وكذلك يمكن أن نستفيد عصمة أهل البيت عليهم السلام من آية التطهير: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(الاحزاب:33).
بالتوضيح التالي: إن الإرادة التشريعية الالهية في تطهير العباد لا تختص بحد: إذن فالإرادة المختصة بأهل البيت عليهم السلام هي الإرادة التكوينية الإلهية التي لا تقبل التخلف كما يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون﴾(يس:82).
والتطهير المطلق ونفي كل رجس وقبيح يعني العصمة، ونحن نعلم أن كل المذاهب والفرق الإسلامية، لا تدعي وجود العصمة في أي أحد من المنتسبين للنبي صلى الله عليه وآله إلا الشيعة الذين يعتقدون بعصمة الزهراء عليها السلام، والأئمة الاثني عشر عليهم السلام1.
ويلزم علينا أن نؤكد أن هناك أكثر من سبعين رواية، وقد وردت أكثرها عن علماء أهل السنة، تدل على أن هذه الآية الشريفة نزلت في شأن (الخمسة الطيبين)2وقد نقل الشيخ الصدوق عن أمير المؤمنين عليه السلام: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: يا علي هذه الآية نزلت فيك وفي سبطي والائمة من ولدك، قلت: يا رسول الله وكم الأئمة من بعدك؟ قال: أنت يا علي، ثم إبناك الحسن والحسين، وبعد الحسين علي إبنه، وبعد علي محمد إبنه، وبعد محمد جعفر إبنه، وبعد جعفر موسى إبنه، وبعد موسى علي إبنه، وبعد علي محمد إبنه، وبعد محمد علي إبنه، وبعد علي الحسن إبنه، وبعد الحسن إبنه الحجة. هكذا وجدت أساميهم مكتوبة على ساق العرش فسألت الله عز وجل عن ذلك فقال : "يا محمد هم الأئمة بعدك مطهرون معصومون وأعداؤهم ملعونون"3.
وكذلك حديث الثقلين الذي قرن فيه الرسول صلى الله عليه وآله أهل البيت والعترة مع القرآن الكريم، وأكد عدم افتراقهما أبداً، وهو دليل واضح على عصمتهم، وذلك لأن إرتكاب المعصية حتى لو كانت صغيرة، وإن صدرت سهوا يعني الإفتراق العملي عن القرآن.
علم الإمام
لا شك في أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله قد اقتبسوا وتزودوا من علومه صلى الله عليه وآله أكثر من غيرهم، وكما قال صلى الله عليه وآله في حقهم: : "لا تعلموهم فانهم أعلم منكم"4، وخاصة أمير المؤمنين عليه السلام الذي ترعرع ونشأ في أحضان الرسول صلى الله عليه وآله منذ طفولته، ولازمه حتى آخر لحظات عمره الشريف، وكان يغترف دائما ويتزود من علوم النبي صلى الله عليه وآله وقد قال الرسول صلى الله عليه وآله في حقه: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"5.
ونقل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علمني ألف باب، وكل باب يفتح ألف باب، فذلك ألف ألف باب، حتى علمت ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وعلمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب"6. ولكن علوم أئمة أهل البيت عليهم السلام لا تنحصر بما سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله بواسطة أو بدون واسطة، بل إنهم كانوا يتمتعون ايضا بنوع من العلوم غير العادية التي تفاض عليهم من طريق (الالهام) أو (التحديث)7 كالالهام الذي حصل للخضر وذي القرنين8 ومريم وأم موسى عليهم السلام9، وقد عبر في القرآن الكريم عن بعضها ب(الوحي) وليس المقصود وحي النبوة، وبمثل هذا العلم بلغ بعض الأئمة الاطهار عليهم السلام مقام الإمامة في فترة طفولتهم، وحيث كانوا يعلمون بكل شي ء، ولم يحتاجوا للتعلم والدراسة لدى آخرين.
وتستفاد هذه الفكرة من روايات كثيرة نقلت عن الأئمة الاطهار عليهم السلام أنفسهم حيث ثبتت حجيتها بملاحظة عصمتهم وقبل أن نستعرض نماذج منها نشير لهذه الآية من القرآن الكريم، حيث عبر فيها عن شخص أو أشخاص أنهم (من عنده علم الكتاب) وذكره كشاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله على حق، والآية هي: ﴿قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَاب﴾(الرعد:43). فإن من قرنت شهادته بشهادة الله تعالى، وإن توفره على علم الكتاب قد أهله لمثل هذه الشهادة، لا شك بأنه يتمتع بمقام رفيع.
وقد أشير في آية أخرى لهذا الشاهد، وأنه يتلو رسول الله صلى الله عليه وآله: ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِد مِّنْه﴾(هود:17)، ولفظة (منه) تدل على أن هذا الشاهد من أقرباء الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته. وقد نقلت روايات كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة تؤكد أن المراد من هذا الشاهد هو علي بن أبي طالب عليه السلام.
منها: ما رواه ابن المغازلي الشافعي عن عبد الله بن عطاء : قال كنت عند ابي جعفر (الامام الباقر عليه السلام) جالسا اذ مر علينا إبن عبد الله بن سلام وعبد الله من علماء أهل الكتاب أسلم في حياة الرسول صلى الله عليه وآله" قلت: جعلني الله فداك، هذا إبن الذي عنده علم الكتاب، قال: لا ولكنه صاحبكم علي بن ابي طالب الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله (عز وجل): ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَاب﴾﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِد مِّنْه﴾, ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾(المائده:55).
ونقلت عدة روايات عن الفريقين بأن المراد من (الشاهد) في سورة هود، هو علي بن ابي طالب عليه السلام، وإذا تأملنا في الميزة التي تميز بها المذكور في كلمة (منه) يتضح لنا انه ليس المراد منه إلا الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام. وتتضح لنا أهمية التوفر على (علم الكتاب) حينما نتأمل في حكاية سليمان عليه السلام وإحضار عرش بلقيس لديه، التي ذكرها القرآن الكريم: ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْم مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُك﴾(النمل:40).
ويستفاد من هذه الآية أن التعرف على(بعض) علم الكتاب له مثل هذه الآثار المدهشة، ومن هنا يمكن أن ندرك الآثار الكبيرة للتعرف على (جميع) علم الكتاب. وقد أشار لهذه الملاحظة الإمام الصادق عليه السلام في حديث رواه سدير عنه:"قال كنت أنا وأبو بصير ويحيى البزاز وداوود بن كثير في مجلس أبي عبد الله عليه السلام إذ خرج إلينا وهو مغضب، فلما أخذ مجلسه قال عليه السلام: يا عجبا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة، فهربت مني فما علمت في أي بيوت الدار هي"10، قال سدير: فلما أن قام من مجلسه وصار في منزله، دخلت أنا وابو بصير وميسر وقلنا له: جعلنا فداك، سمعناك وانت تقول كذا وكذا في أمر جاريتك، ونحن نعلم أنك تعلم علما كثيرا، ولا ننسبك إلى علم الغيب، قال فقال عليه السلام: يا سدير: ألم تقرأ القرآن، قلت بلى، قال: فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل: ﴿قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك﴾ قال، قلت: جعلت فداك قد قرأته، قال: فهل عرفت الرجل؟ وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب؟ قال قلت: أخبرني به قال: قطرة من الماء في البحر الاخضر. ثم قال عليه السلام: يا سدير فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل أيضا ﴿قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب﴾ قلت : قد قرأته، قال عليه السلام: أفمن عنده علم الكتاب كله أفهم أم من عنده علم الكتاب بعضه؟، قلت: لا بل من عنده علم الكتاب كله، قال: فأومأ بيده إلى صدره وقال عليه السلام: علم الكتاب والله كله عندنا، علم الكتاب والله كله عندنا"11.
ونشير هنا إلى نماذج أخرى من الروايات الواردة حول علوم أهل البيت عليه السلام.
ففي حديث طويل عن الإمام الرضا عليه السلام يقول فيه: "وإن العبد إذا إختاره الله لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاما، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيد، موفق مسدد، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار، يخصه الله بذلك ليكون حجة على عباده، وشاهده على خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . فهل يقدمون على مثل هذا فيختارونه، أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه"12.
وعن الحسن بن يحيى المدائني عن أبي عبد الله عليه السلام قال، قلت له: أخبرني عن الإمام اذ سئل كيف يجيب؟ فقال: "إلهام، وسماع، وربما كانا جميعا" 13.
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "أي إمام لا يعلم ما يصيبه والى ما يصير، فليس ذلك بحجة للّه على خلقه"14.
وفي عدة روايات عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال فيها: "إن الإمام اذا شاء أن يعلم علم"15.
وورد عنه عليه السلام أيضا في روايات عديدة انه سئل عن قوله تعالى: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا﴾ قال: "خلق من خلق الله عز وجل أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله يخبره ويسدده وهو مع الأئمة من بعده"16.
*دروس في العقيدة الاسلامية ،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية.ط1،ص194-201
1- لمزيد من التوضيح حول هذه الآية يراجع تفسير الميزان وكتاب (الإمامة والولاية في القرآن الكريم).
2- غاية المرام، ص 287-293.
3- غاية المرام ص 293، ح 6.
4- غاية المرام، ص 265، وأصول الكافي، ج 1، ص 294.
5- مستدرك الحاكم، ج 3، ص 226، ومن الجدير بالذكر أن أحد علماء أهل السنة ألف كتابا اسمه (فتح الملك العلي بصحة حديث مدينة العلم علي) وطبع في القاهرة كتبه سنة 1354 ه.
6- ينابيع المودة، ص 88، وأصول الكافي، ج 1، ص 296.
7- أصول الكافي، كتاب الحجة، ص264 وص 270.
8- ال عمران:42 وايضاً سورة مريم: 17-21، طه:38، القصص:7.
9- غاية المرام، ص 359-361.
10- يتضح من تتمة الحديث أن هذا الكلام من الإمام عليه السلام إنما صدر لوجود من يتجنب ذكر الحقيقة أمامه، ويلزم أن نعلم بأن المراد من علم الغيب المختص بالله تعالى، هو العلم الذي لا يحتاج لتعلم، كما أجاب به الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عمن سأله عن علمه بالغيب، (إنما هو تعلم من ذي علم) وإلا فإن جميع الأنبياء وكثير من أولياء الله مطلعون على بعض العلوم الغيبية بواسطة الوحي أو الإلهام. ومن العلوم الغيبية التي لا يشك فيها أحد هذا النبأ الغيبي الذي الهم لام موسى عليه السلام: ﴿إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين﴾(القصص:7).
11- أصول الكافي، ج 1، ص 257، طبعة دار الكتب الإسلامية.
12- أصول الكافي، ج 1، ص 198-203.
13- بحار الانوار، ج 26، ص 58.
14- أصول الكافي، ج 1، ص 258.
15- أصول الكافي، ج 1، ص 258 وفي رواية (اعلم) بلا عن (علم) وفي الأخرى (علمه الله بذلك) المصحح.
16- أصول الكافي، ج1، ص 273.
source : http://almaaref.org