المقدمة
ان مسألة المعاد تبتني على مسألة الروح، بمعنى أنه إنما يمكن أن يقال: "أن الشخص الذي ترد له الحياة بعد موته هو الشخص السابق نفسه"، فيما لو كانت روحه باقية بعد أن يتلاشى البدن. وبعبارة أخرى: إن كل إنسان يملك غير بدنه المادي جوهرا غير مادي يقبل الإستقلال عن البدن، ترتبط به إنسانيته وشخصيته، وأما في غير هذه الصورة، فإن إفتراض حياة جديدة للشخص نفسه إفتراض غير معقول. ومن هنا، يلزم علينا إثبات هذه الفكرة، وهذا المقال مخصص للبحث عنها، ونستدل لإثباتها من خلال طريقين: أحدهما طريق العقل، والآخر طريق الوحي1
الادلة العقلية على تجرد الروح
بحث العلماء كثيراً ومنذ زمان قديم في الروح (ويعبر عنها في الإصطلاح الفلسفي بالنفس)2 وخاصة حكماء الإسلام، إذ إهتموا إهتماماً كبيراً بهذا الموضوع، وخصصوا في كتبهم الفلسفية فصولا مهمة للبحث فيه. وكتبوا رسائل وكتباً مستقلة في هذا المجال، وناقشوا، بأدلة كثيرة، تلك الآراء التي تذهب إلى أن الروح عرض من أعراض البدن، أو أنها صورة مادية (منطبعة في مادة البدن).
ومن الواضح أن البحث بتوسع في هذا الموضوع هنا لا يتناسب وهذا المقال، لذلك نبحث فيه بإختصار، ونحاول عرضه بإسلوب واضح ومتقن، ونبدأ هذا البحث المشتمل على بعض البراهين العقلية، بهذه المقدمة.
نشاهد لون جلدنا وشكل بدننا بعيننا، ونتحسس خشونة أعضائه ونعومتها بحاسة اللمس، ولا يمكن التعرف على داخل أبداننا إلا بصورة غير مباشرة، ولكن خوفنا وحبنا، وغضبنا وإرادتنا وتفكيرنا ندركها بدون الإحتياج للحواس، وكذلك نتعرف على (الأنا) الذي يملك هذه الإحساسات والمشاعر والعواطف والحالات النفسية بدون استخدام الحواس.
إذن فالإنسان يملك نوعين من الإدراك: أحدهما يحتاج فيه إلى الحواس، والثاني لا يحتاج فيه إلى الحواس.
والقضية الأخرى: مع ملاحظة الأخطاء التي تتعرض لها المدركات الحسية، فمن الممكن حصول إحتمال الخطأ في النوع الأول من المدركات، خلافاً للنوع الثاني، فهي لا مجال فيها للخطأ والإشتباه والشك والتردد، فيمكن للمرء أن يشك في لون جلده، وأنه هل شخصه كما هو في الواقع فعلاً أم لا، ولكن لا يمكن لأحد أن يشك، هل أنه فكر أم لا، أو أراد شيئاً أم لا، أو شك أم لا؟!
وهذه الفكرة هي التي تطرح في الفلسفة بهذا التعبير: وهو أن العلم الحضوري يتعلق مباشرة بالواقع نفسه ومن هنا لا يقبل الخطأ، وأما العلم الحصولي، فبما أنه يحصل بواسطة الصورة الإدراكية، لذلك يقبل الشك والتردد ذاتاً 3.
ومعنى ذلك، أن أكثر علوم الإنسان ومعارفه يقينية هي العلوم الحضورية والمدركات الشهودية التي تشمل العلم بالنفس والإحساسات والمشاعر والعواطف والحالات النفسية الأخرى، ومن هنا، فإن (أنا) المدرك، المفكر، المريد، لا يقبل الشك والتردد ابدا، وكذلك وجود حالات الخوف والحب والغضب والتفكير والإرادة، لا يقبل التردد.
ومن هنا يبرز هذا السؤال: هل هذا (الأنا) هو البدن المادي والمحسوس؟ وهل أن هذه الحالات النفسية بدورها من أعراض البدن، أم أن وجودها غير وجود البدن، وإن كان (للأنا) علاقة وثيقة وقوية بالبدن، إذ إن (الأنا) يقوم بالكثير من أعماله ونشاطاته بواسطة البدن، وكما يؤثر بالبدن، فإنه يتأثر به ايضاً؟ ومع ملاحظة المقدمة المذكورة، يسهل الجواب عن هذا السؤال، وذلك:
أولاً: أننا ندرك (الأنا) بالعلم الحضوري، وأما البدن فلابد من أن نتعرف عليه بمعونة الحواس . اذن فالأنا (= النفس والروح) غير البدن.
ثانياً: إن (الأنا) موجود يبقى محتفظاً خلال عشرات السنين على وصف الوحدة والشخصية الحقيقية، وندرك هذه الوحدة والشخصية بالعلم الحضوري الذي لا يقبل الخطأ، واما أجزاء البدن، فانها تتعرض للتغير والتبديل، مرات عديدة، ولا يوجد أي ملاك للوحدة الحقيقية بين أجزائه السابقة واللاحقة.
ثالثاً: إن (الأنا) موجود بسيط لا يقبل التجزئة والتقسيم، فلا يمكن مثلا تقسيمه إلى نصفين، بينما أعضاء البدن متعددة وقابلة للتقسيم.
رابعاً: الملاحظ ان جميع الحالات النفسية كالإحساس والإرادة وغيرهما، لا تملك الخاصية الأصلية والرئيسة للماديات اي الإمتداد والقابلية للتقسيم، لذلك لا يمكن إعتبار هذه الأمور غير المادية من أعراض المادة (البدن)، إذن لا بد من ان يكون موضوع هذه الأعراض جوهراً غير مادي=(المجرد) 4.
ومن الأدلة الباعثة على الإطمئنان بوجود الروح وإستقلاليتها وبقائها بعد الموت هو الأحلام والأطياف الصادقة، فقد أطلع بعض الأفراد بعد موتهم شخصاً نائماً على بعض المعلومات الصحيحة. وكذلك من الأدلة تحضير الارواح المقترن بشواهد قاطعة ومعبرة، وكذلك يمكن إثبات تجرد الروح بكرامات أولياء الله، وحتى ببعض أعمال المرتاضين، والبحث في هذه المسائل يحتاج إلى كتاب مستقل.
شواهد قرآنية
يذهب القرآن الكريم إلى وجود الروح الإنسانية، وهذه الحقيقة القرآنية مما لا تقبل الشك والتردد، فهي الروح التي تنسب للّه تعالى، لشدة شرفها وسموها(السجدة:9) كما يقول القرآن الكريم في كيفية خلق الإنسان: ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِه﴾(السجدة:9).
وليس المراد والعياذ بالله إنفصال شي ء من ذات الله وإنتقاله للإنسان. وفي مجال الحديث في خلق آدم عليه السلام يقول تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾(الحجر:9,ص:72).
وكذلك، يستفاد من آيات أخرى، ان الروح غير البدن، وخواصه وأعراضه، وأنها تمتلك قابلية البقاء بدون البدن، ومن هذه الآيات، ما ينقله القرآن على لسان الكفار: ﴿أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيد﴾(السجدة:10).
أي إذا تفرقت أجزاء أبداننا في التراب، ويجبيهم القرآن الكريم بقوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمّ َ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون﴾(السجدة:11). إذن فملاك هوية الإنسان وحقيقته هو روحه، التى يقبضها ملك الموت، والتي تظل باقية، وليس أجزاء البدن التي تتلاشى وتتفرق في الارض.
وفي موضع آخر يقول: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾(الزمر:42).
وفي مجال موت الظالمين يقول: ﴿إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ﴾(مع ملاحظة أن العدالة في الواقع من مصاديق الحكمة، فيمكن ان نعتبر هذا البرهان من أنواع الإستدلال عن طريق الحكمة الالهية).
ونفهم من هذه الآيات وآيات أخرى نعرض عن ذكرها رعاية للإختصار أن نفس كل امرئ تتحدد بذلك الشي ء الذي يقبضه ملك الموت أو الملائكة الموكلون بقبض الأرواح، وأن إنعدام البدن لا تأثير له في بقاء الروح ووحدة الإنسان الشخصية. ونتيجة ذلك كله:
أولاً: انه يوجد في الإنسان شي ء يدعى بالروح.
وثانياً: الروح الإنسانية قابلة للبقاء والإستقلال عن البدن، وليست هي من قبيل الأعراض والصور المادية التي تنعدم حين يتلاشى المحل.
وثالثاً: إن هوية كل امرئ مرتبطة بروحه، وبعبارة أخرى: إن حقيقة كل انسان هي روحه، أما البدن فانه يقوم بدور الآلة بالنسبة للروح.
*دروس في العقيدة الاسلامية ،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية.ط1،ص225-
1- (يجب ان نعلم أن المصطلح الفلسفي (للنفس) غير المصطلح الاخلاقي، فقد استخدم في الاخلاق بما يقابل (العقل)، وبما يصدق على ضده).
2- راجع: تعليم الفلسفة، الجزة الاول، الدرس الثالث عشر.
3- تعليم الفلسفة، الجزء الثاني، الدرس الرابع والاربعون، والتاسع والاربعون.
4- أصول الكافي، ج 1، ص 134.
source : http://almaaref.org