نريد في هذا المقال أنْ نخرج من مملكة جسم الانسان الواسعة، التي لم نكتشف زقاقاً واحداً من مدنها السّبع بعد، لنلقي نظرة على هذه الزّاوية أو تلك لالتقاط بعض النماذج لنظام الكائنات العجيب.
نرمي ببصرنا في ليلة ظلماء الى السماء فيتراءى لنا طائر غريب بين طيات سجف الظلام كشبح غامض يطير جريئاً في كل اتجاه بحثاً عن طعام يتغذى به.
هذا الطائر هو "الخفاش" وكل ما فيه يدعو للدهشة والعجب. وأعجب ما فيه هو طيرانه في الليل البهيم. إنَّ حركة الخفاش السريعة في ظلام الليل بغير أنْ يرتطم بأي حاجز من أعجب الاُمور التي تظهر فيه أسرار جديدة كلّما تعمقنا في كشف أسراره القديمة.
ولا شك أنَّ هذا الطّائر الذي يمزق في الظلام بسرعة ودقّة قد لا تدانيهما سرعة الحمامة في رابعة النهار، لولا وجود وسيلة يدرك بها وجود الموانع في مسير طيرانه لصعب عليه الطيران بهذه السهولة.
لو أطلق الخفاش في نفق مظلم كثير الالتواءات والمنعطفات، وملوث بالسخام، لاستطاع انْ يتفادى جميع المنعطفات بغير أنْ يصطدم بأي منها أو أنْ تعلق به ذرة من السخام.
إن هذه الخاصية العجيبة في الخفاش نشأت من خاصية أشبه بخاصية الرّادار.
فلابدّ هنا من معرفة شيء عن جهاز الرّادار لكي ندرك وجوده في هذا الحيوان الصغير.
في بحث "الصوت" من علم الفيزياء نقرأ عن أمواج ما وراء الصوت، وهي أمواج أطوالها وتردداتها من الكثرة بحيث أنَّ أُذن الانسان ليست قادرة على سماعها، ولهذا السبب اطلق عليها اسم الامواج ما وراء الصوت. فعند انبعاث هذه الامواج من مصدر مرسل قوي، تنتشر الى جميع الجهات، ولكنها ما أنْ تصطدم في الجو بمانع أو حاجز، مثل طائرات العدو أو أي مانع آخر تعود، مثل الكرة التي تصطدم بجدار فترتد، أو مثل الصوت الذى نسمع صداه إذا أطلقناه بين الجبال أو امام جدار مرتفع وعلى مسافة معينة. إنَّ الفترة التي تمضيها هذه الامواج في الارتداد تفيد في حساب بعد المانع أو الحاجز بصورة دقيقة.
كثير من الطائرات والبواخر تهتدي الى طريقها بوساطة الرّادار، فتتجه الى حيث تشاء، كما أنَّها تستفيد من أجهزة الرّادار لمعرفة مكان طائرات الاعداء وبواخرهم.
يقول العلماء إنَّ في جسم هذا الطائر الصّغير جهاز أشبه بجهاز الرّادار. والدّليل على ذلك هو إنَّنا لو أطلقناه في غرفة مظلمة ووضعنا فيها المايكروفون الخاص بتحويل الامواج فوق الصوتية الى أمواج صوتية قابلة للسمع، لامتلأت الغرفة بأصوات مؤذية للسمع، ويمكن حساب عدد الامواج التي تصدر من الخفاش و هي تبلغ 30 الى 60 مرة في الثانية.
ولكن ترى أي جهاز في الخفاش يصدر هذه الامواج؟ أي ما هما جهاز الارسال والاستقبال في الخفاش؟
يقول العلماء في الاجابة عن هذا السّؤال: إنَّ الخفاش يصدر هذه الامواج عن طريق أوتار حنجرته القوية ويخرجها من منخريه، واُذناه الكبيرتان هما جهاز الاستقبال عند ارتداد الامواج اليه. فالخفاش إذن مدين في جولانه الليلة لأذنيه.
يقول عالم سوفياتي اسمه "ژورين": إنَّ التجربة قد أثبتت أنَّه إذا قطعت اُذنا الخفاش لم يعد قادراً على تحاشي الارتطام بالموانع في الليل، بينما لايتأثر طيرانه الليلي مطلقاً إذا ازيلت عيناه، أي أنَّ الخفاش يرى بأذنيه، لا بعينيه. اليس هذا عجيباً؟!
فلنتصور الآن: من الذي أوجد هذين الجهازين العجيبين المحيرين في جسم هذا الحيوان الصغير الحقير؟ وكيف علمه استخدامها والاستفادة منهما بحيث يستطيع أنْ يدرأ عن نفسه الكثير من الاخطار التي تصادفه في طيرانه الليلي؟
أتستطيع الطبيعة العمياء التي لا عقل لها أنْ تقوم بمثل هذا العمل، فتخلق في هذا الحيوان، بكل بساطة، هذين الجهازين اللذين يبذل علماء العالم مبالغ طائلة لصنعهما؟
يقول الامام علي عليه السلام في نهج البلاغة في كلام له مسهب عن الخفاش وبديع خلقه: "... لا تَمْتَنِعُ مِنَ المُضِي فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ ... فَسُبحانَ البارِىء لِكُلِّ شَيء عَلَى غَيْرِ مِثَال ...".
*سلسلة دروس في العقائد الاسلامية،آية الله مكارم الشيرازي ، مؤسسة البعثة،ط2،ص45-47
source : http://almaaref.org