1- الرب
ا ـ في لغة العرب.
ب ـ في المصطلح الاسلامي.
مـن اهـم المصطلحات الاسلامية: مصطلح الرب, وادراك معناه بوضوح, ضروري لابحاثنا الاتية, كـمـا يتوقف على فهم معناه بوضوح فهم كثير من آيات القرآن الكريم عامة, وتتوقف على معرفته: مـعـرفـة اللّه عـز اسمه خاصة, ومعرفة الرسول (ص) والوصي ـالامام ـ ويوم القيامة, وكذلك معرفة الموحد من المشرك, وسندرس في ما ياتي بحوله تعالى معناه اللغوي اولا, ثم الاصطلاحي:
ا ـ في لغة العرب.
ربه يربه: اي رباه يربيه ويدبر امره.
والـرب: يـاتـي بـمعنى الراب اي المربي و ـ ايضا ـ ياتي بمعنى المالك, ورب البيت: مالكه, ورب الضيعة: مدبر امرها او مالكها, ورب الفرس: مربيها او مالكها.
ب ـ في المصطلح الاسلامي:
الرب: من اسماء اللّه الحسنى, واسم لخالق الخلق ومالكهم ومشرع النظام لحياتهم ومربيهم حالا بعد حال حتى يبلغ كل منهم درجة الكمال في وجوده.
وقـد جاء في القرآن الكريم بالمعنى اللغوي مع وجود قرينة تدل على ان المقصود معناه اللغوي, مثل قوله تعالى في حكاية قول يوسف (ع) لصاحبيه في السجن, من سورة يوسف:
1 ـ (ءارباب متفرقون خير ام اللّه الواحد القهار) (الاية 39).
2 ـ (وقال للذي ظن انه ناج منهما اذكرني عند ربك) (الاية 42).
ومتى جاء (رب) مطلقا ودون اضافة الى غيره قصد منه اللّه تعالى كما جاء في القرآن الكريم:
(بلدة طيبة ورب غفور) (سبا 15).
وبـنـاء على ما ذكرناه فان الرب جاء في لغة العرب والمصطلح الاسلامي بمعنى: المالك والمربي, واضـيف الى المربي في المصطلح الاسلامي: مشرع نظام الحياة لمن يربيه حالا بعد حال حتى يبلغ درجة الكمال, وبذلك تم معنى المربي واصبح للرب معنيان, او لمعناه جزءان:
وقال الراغب في مادة (الق ءر):
ان كـل اسـم: موضوع لمعنيين, يطلق على كل واحد منهما اذا انفرد, كالمائدة التي هي اسم للخوان وللطعام معا, ثم قد يسمى كل واحد منهما بالخوان.
وكذلك معنى الرب, في لغة العرب ياتي بمعنى المالك واحيانا بمعنى المربي, وفي المصطلح الاسلامي ياتي احيانا بمعنى المالك المربي, واحيانا ياتي في جزء معناه: المشرع لنظام الحياة, مثل قوله تعالى:
(اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون اللّه) (التوبة 31).
2- وما رب العالمين
أربعة انواع من الهداية لرب العالمين
ا ـ وما رب العالمين.
ب ـ انواع هداية رب العالمين لاصناف الخلق الاربعة الاتية:
1 ـ التعليم للملائكة.
2 ـ التسخير لما خلق لمصلحة الانسان من غير صنف الحيوان.
3 ـ الالهام الغريزي للحيوان مما خلق لمصلحة الانسان.
4 ـ الوحي بالاسلام للانس والجن.
تمهيد:
ينقسم بحث (وما رب العالمين) الى:
ا ـ بيان معنى رب العالمين.
ب ـ وحصره في اللّه جل اسمه.
ج ـ بيان اربعة انواع من الهداية لرب العالمين, كالاتي:
1 ـ هداية الملائكة الذين لهم حياة وموت وارادة وعقل بلا نفس امارة بالسوء, بتعليم اللّه اياهم.
2 ـ هـدايـة الانـسـان والـجـن اللذين لهما حياة وموت وارادة وعقل ونفس امارة بالسوء, بالتعليم والانذار بواسطة الرسل.
3 ـ هداية الحيوان الذي له حياة وموت وارادة دون عقل ونفس امارة بالسوء, بالالهام الغريزي.
4 ـ هداية ما لا حياة ولا ارادة له كالمذكورين آنفا بالتسخير وتفصيل البحثين كالاتي:
اولا ـ معنى رب العالمين في القرآن الكريم:
قال سبحانه وتعالى في:
ا ـ سورة الاعلى:
بسم اللّه الرحمن الرحيم.
(سـبـح اسـم ربـك الاعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي اخرج المرعى فجعله غثاء احوى) (الايات 1 ـ 5).
ب ـ سورة طه:
(ربنا الذي اعطى كل شي ء خلقه ثم هدى) (الاية 50).
ج ـ سورة الفرقان:
(خلق كل شيء فقدره تقديرا) (الاية 2).
د ـ سورة البقرة:
(وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني باسماء هؤلاء ان كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم) (الايتان 31 ـ 32).
هـ ـ سورة الشورى:
(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (الاية 13).
و ـ سورة النساء:
(انـا اوحـيـنا اليك كما اوحينا الى نوح والنبيين من بعده واوحينا الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويـعـقـوب والاسـبـاط وعيسى وايوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قـصـصـنـاهـم عـلـيك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم اللّه موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين) (الايات 163 ـ 165).
ز ـ سورة آل عمران:
(نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وانزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس) (الايتان 3 و4).
ح ـ سورة الذاريات:
(وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون) (الاية 56).
ط ـ سورة الانعام:
(يـا معشر الجن والانس الم ياتكم رسل يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على انفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على انفسهم انهم كانوا كافرين) (الاية 130).
ى ـ سورة الاحقاف:
(واذا صـرفـنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا انصتوا فلما قضي ولوا الى قـومـهـم منذرين قالوا انا سمعنا كتابا انزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي الى الحق والى طـريـق مستقيم يا قومنا اجيبوا داعي اللّه وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب اليم ومـن لا يـجب داعي اللّه فليس بمعجز في الارض وليس له من دونه اولياء اولئك في ضلال مبين) (الايات 29 ـ 32).
ك ـ سورة الجن:
بسم اللّه الرحمن الرحيم.
(قـل اوحـي الـي انه استمع نفر من الجن فقالوا انا سمعنا قرآنا عجبا يهدي الى الرشد فمنا به ولن نـشـرك بـربـنا احدا وانه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وانه كان يقول سفيهنا على اللّه شططا وانا ظننا ان لن تقول الانس والجن على اللّه كذبا وانه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الـجن فزادوهم رهقا وانهم ظنوا كما ظننتم ان لن يبعث اللّه احدا وانا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حـرسـا شـديـدا وشـهبا وانا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الان يجد له شهابا رصدا وانا لانـدري اشـر اريـد بمن في الارض ام اراد بهم ربهم رشدا وانا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طـرائق قددا وانا ظننا ان لن نعجز اللّه في الارض ولن نعجزه هربا وانا لما سمعنا الهدى آمنا به فـمـن يـؤمـن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا وانا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن اسلم فاولئك تـحروا رشدا واما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا والو [وان لو] استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا) (الايات 1 ـ 17).
ل ـ سورة النحل:
(واوحـى ربـك الـى الـنـحـل ان اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الـثـمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه فيه شفاء للناس) (الايتان 68 ـ 69).
م ـ سورة الاعراف:
(انـ ربكم اللّه الذي خلق السموات والارض في ستة ايام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بامره الا له الخلق والامر تبارك اللّه رب العالمين) (الاية 54).
ثانيا ـ حصر الربوبية في اللّه جل اسمه:
كما قال سبحانه في:
ا ـ سورة يونس:
(انـ ربـكم اللّه الذي خلق السموات والارض في ستة ايام ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شـفـيع الا من بعد اذنه ذلكم اللّه ربكم فاعبدوه افلا تذكرون هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) (الايتان 3 و5).
ب ـ سورة فصلت:
(قـل ائنـكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له اندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسـي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها اقواتها في اربعة ايام سواء للسائلين ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا او كرها قالتا اتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين واوحى في كل سماء امرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) (الايات 9 ـ 12).
شرح الكلمات
ا ـ سبح:
سـبـح تـسـبـيحا اي نزه اللّه تنزيها, او قال سبحان اللّه, اي تنزيها للّه, والتسبيح ـ ايضا ـ مطلق العبادة, قولا وفعلا ونية.
ب ـ اسم:
للاسم معنيان, كما ذكرناه سابقا:
1 ـ الـلـفظ الذي يجعل اسما للاشياء, مثل: (مكة) اسما علما للبلد الذي فيه الكعبة قبلة المسلمين, والقرآن اسما علما للكتاب الذي انزله اللّه على خاتم انبيائه.
2 ـ اسم الشي ء اي صفاته الخاصة المبينة لحقيقته, والمراد من الاسم في الاية: المعنى الثاني.
ج ـ ربك:
سبق ذكر معناه.
د ـ الاعلى:
جاء الاعلى هنا بمعنى: الاعلى من ان يقاس عليه.
هـ ـ خلق:
نجد تفسير (خلق) في ما حكى اللّه عن قول موسى لفرعون:
(ربنا الذي اعطى كل شي خلقه ثم هدى) (طه 50).
ويكون المعنى بناء على هذا: ربنا الذي خلق كل شي ء فسواه.
و ـ سوى:
سـوى الـشـيء: عدله وجعله لا عوج فيه, وسوى الشي ء: جعله على كمال واستعداد لما انشى ء من اجله, وفي سورة الانفطار:
(يا ايها الانسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك) (الايتان 6 و7) والمراد هنا كلا المعنيين وتنقسم التسوية في الخلق الى الانواع الاربعة الاتية:
اولا ـ التسوية للانسان:
يـخـلق الانسان من النطفة جنينا في مراحله المعينة حتى يتم خلقه وتمام خلقه في هذا المقام يكون بـاتـمـام خـلق جميع اعضائه التي بواسطتها يتلقى الهداية من السمع والبصر وسائر الحواس التي بـواسـطتها يتلقى المعلومات, مع الخلايا الدماغية اللاتي تختزن المعلومات, والعقل الذي بواسطته يـمـيـز الـصـحـيح من الباطل مما تلقاه من المعلومات, وايجاد قابلية تبادل المعلومات مع بني نوعه بوسيلتي اللسان والقلم, كما قال سبحانه في:
ا ـ سورة الرحمن:
(خلق الانسان علمه البيان) (الايتان 3 و4).
ب ـ سورة العلق:
(اقـرا بـاسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرا وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم) (الايات 1 ـ 5).
والتعلم والتعليم بالبيان والقلم موهبتان خص الباري جل اسمه الانسان وحده بهما.
ثانيا ـ التسوية للحيوان:
التسوية وتمام الخلق في الحيوان: تتم بمنحه الغريزة التي بواسطتها يستطيع ان ينظم شؤون حياته بما يناسب فطرته.
ثالثا ـ التسوية للمسخرات من خلق اللّه.
كما قال سبحانه:
ا ـ في سورة فاطر:
(وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى ذلكم اللّه ربكم) (الاية 13).
ب ـ في سورة الاعراف:
(والـشـمس والقمر والنجوم مسخرات بامره الا له الخلق والامر تبارك اللّه رب العالمين) (الاية 54).
رابعا ـ التسوية للملائكة:
كـانـت الـتـسـويـة للملائكة, بان اللّه تعالى جبلهم على ان: (لا يعصون اللّه ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون), كما اخبر عنهم في سورة التحريم / 6.
وياتي تمام معنى التسوية المادي بتفسير: قدر فهدى, في (تفسير الايات) الاتي ان شاء اللّه تعالى.
ز ـ قدر:
قـدر اللّه الـشـي ء تـقديرا: معناه في الموارد التي نحن بصدد تفسيرها: قدر نظام حياة الشي ء بما يناسب فطرته, ومنه قوله تعالى في سورة الفرقان:
(وخلق كل شي ء فقدره تقديرا) (الاية 2).
ح ـ هدى:
هداية اللّه للخلق اربعة انواع:
1 ـ تعليم.
2 ـ الهام غريزي.
3 ـ تسخير.
4 ـ تبليغ بواسطة الوحي الى الانبياء.
وياتي تمام تفسير كلمتي: (قدر) و(هدى) في تفسير الايات باذنه تعالى.
ط ـ غثاء:
نبات يابس يتفرق بعضه عن بعض.
ي ـ احوى: شديد الخضرة من النبات وقريب من السواد لشدة خضرته.
ك ـ الوحي:
ا ـ في اللغة:
اوحـى الـيـه وله: اشار واوما, وكلمه بكلام خفي يخفى على غيره, وامره, والهمه, واوحى فلان الكلام الى فلان: القاه اليه.
ب ـ في المصطلح الاسلامي:
الـوحـي الكلمة الالهية التي يلقيها الى انبيائه بواسطة ملك يشاهده الرسول, ويسمع كلامه, كتبليغ جـبرئيل لخاتم الانبياء (ص), او بسماع كلام اللّه جل اسمه من غير معاينة, كسماع موسى كلام اللّه, او بالرؤيا في المنام, كما اخبر اللّه عن قول ابراهيم لابنه اسماعيل:
(اني ارى في المنام اني اذبحك) (الصافات 102).
او بانواع اخرى من الوحي يعلمه اللّه وتدركه رسله صلوات اللّه عليهم اجمعين.
ومـن مـوارد اسـتـعماله في المصطلح الاسلامي في القرآن الكريم ما نقلناه آنفا من وحي اللّه الى انبيائه.
اما موارد استعماله في معانيه اللغوية فمما جاء منها في القرآن الكريم قوله تعالى:
(فخرج على قومه من المحراب فاوحى اليهم ان سبحوا بكرة وعشيا) (مريم 11).
والمراد من هذا الوحي: الاشارة او الكتابة.
وقوله تعالى:
(ان الشياطين ليوحون الى اوليائهم) (الانعام 121).
اي يلقون في قلوبهم الخواطر السيئة.
ومنها قوله تعالى في حكاية ام موسى:
(واوحينا الى ام موسى ان ارضعيه) (القصص 7).
اي الهمناها ان ترضعه.
(واوحى ربك الى النحل) (النحل 68).
اي الـهـم الـنحل ان تعيش كذلك, وبيان ذلك ان اللّه تعالى بمقتضى الربوبية يوجد في كل صنف من اصناف الحيوان غريزة تهديه الى ادامة حياته وفق ما يتناسب وفطرته.
ل ـ استوى:
اذا عـدي (اسـتوى) بعلى, جاء بمعنى الاستيلاء كما سياتي بيانه في بحث صفات الرب ان شاء اللّه تعالى.
م ـ العرش:
العرش, في اللغة شيء مسقف, وجمعه عروش, وسمي مجلس السلطان: عرشا, اعتبارا بعلوه, وكني به عن العز, والسلطان, والمملكة.
وفي لسان العرب: ثل اللّه عرشهم اي هدم ملكهم.
وقال الشاعر:
اذا ما بنو مروان ثلت عروشهم واودات كما اودت اياد وحمير.
اراد اذا ما بنو مروان هلك ملكهم وبادوا.
ن ـ الضياء:
الـضياء: ما انتشر من الاجسام النيرة, يقال: ضاءت النار, واضاءت, والضوء اقوى واسطع من النور, والضوء: لما ينير, كضوء الشمس والنار, والنور: لما يكسب الضوء من غيره.
س ـ الامر:
بمعنى: طلب الفعل وهو ضد النهي, وجمعه اوامر.
وبمعنى: الشان, وجمعه: امور.
ع ـ سخر:
سخره, يسخره فهو مسخر: ذللّه, اخضعه, وساقه الى غرض معين قهرا.
والسخري: الذي يقهر فيتسخر.
ف ـ الرواسي:
الراسي: الجبل الثابت, الراسخ, وجمعه: الرواسي.
تفسير الايات
نفسر الايات لتفسير كلمتي: (قدر فهدى) بتفصيل:
ا ـ قدر:
في آيات سورة فصلت:
حصر عز اسمه الخالقية لذاته: رب العالمين, ثم بين كيف قدر لها نظام ادامة بقائها وقال:
(وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها اقواتها في اربعة ايام) (الاية 10).
وقـال عـن الـسـماء, انه اتم تكوينها سبع سموات في يومين واوحى في كل سماء امرها, وانه زين السماء الدنيا بمصابيح, وان ذلك من تقدير الرب العزيز العليم.
وذكر كيف اتاهما امر ربهما بادامة بقائهما وفق ذلك النظام فقال في سورة يونس:
(ان ربكم اللّه الذي خلق السموات والارض في ستة ايام ثم استوى على العرش يدبر الامر) (الاية 3).
يـدبـر امـرهما اي يربيهما بعد ان خلقهما, وانه هو ربكم فاعبدوه, ثم فصل بعض الامر وقال: ان الرب هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل.
استفدنا من هذه الايات ان معنى قدره تقديرا: جعل له نظاما معينا.
ب ـ هدى:
لـمـا كـان الـكـلام في سورتي (فصلت) و(يونس) عن ربوبية اللّه للسموات والارض والشمس والـقـمر, جاء ذكر تربية الرب لها خاصة, ولما كان ذكر تربية الرب في سورة (الاعلى) للخلق عامة, قصد من قوله: (فهدى) ان رب الخلق الذي خلقهم, قد سواهم, اي هياهم لقبول الهداية بعد ان قدر حياة كل نوع من اصناف الخلق, وضرب مثلا مما خلق بمرعى الحيوان, وقال سبحانه ما معناه: ان رب الـخلق اجمعين هو الذي اخرج مرعى الحيوان, ورباه حتى بلغ درجة كماله, واصبح شديد الخضرة, ثم جعله نباتا يابسا, بعد ان كان شديد الخضرة, وبين اللّه سبحانه في آيات اخرى كثيرة, كيفية الهداية لاصناف الخلق الاربعة كما ياتي بيانه باذنه تعالى.
3- انواع هداية رب العالمين لاصناف الخلق
1 ـ التعليم للملائكة.
2 ـ التسخير لما خلق لمصلحة الانسان من غير صنف الحيوان.
3 ـ الالهام الغريزي للحيوان مما خلق لمصلحة الانسان.
4 ـ الوحي بالاسلام للانس والجن.
فـي بـحـث انـواع الـهداية لاصناف الخلق نورد البحث عنهم حسب عصور بدء خلقهم, ولما كانت الملائكة هي جنود اللّه في الخلق, وحملة عرشه في الربوبية, خلقهم قبل غيرهم, ثم خلق الزمان والـمـكـان, الـسماء والارض وما فيهما مما يحتاجه الاحياء من المخلوقات, من مياه ونبات وسائر مرافق الحياة, ثم خلق الجان والحيوان وخلق الانسان بعد خلق كل ما يحتاجه في حياته, وفي ما ياتي تفصيل انواع هداية رب العالمين لكل صنف منهم: حسب الترتيب الاتي:
اولا ـ التعليم المباشر لصنف الملائكة:
قال اللّه سبحانه وتعالى في شانهم:
(واذ قـال ربـك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونـحـن نسبح بحمدك ونقدس لك قال اني اعلم مالا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الـملائكة فقال انبئوني باسماء هؤلاء ان كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت الـعـلـيـم الـحـكـيم قال يا آدم انبئهم باسمائهم فلما انباهم باسمائهم قال الم اقل لكم اني اعلم غيب الـسـمـوات والارض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون واذا قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الاابليس ابى واستكبر وكان من الكافرين) (البقرة 30 ـ 34).
شرح الالفاظ
اولا ـ الخليفة: خليفة اللّه في الارض.
في اللغة: خلف, خلافة, وخليفة:
ا ـ خلف:
خلف زيد عمرا: جاء بعده او قام بالامر بعده.
فالاول: مثل قوله تعالى:
(فخلف من بعدهم خلف) (الاعراف 169).
والثاني: مثل قوله تعالى:
(وقال موسى لاخيه هارون اخلفني في قومي واصلح) (الاعراف 142).
ب ـ الخلافة:
النيابة عن الغير, اما لغيبة عنه, واما لموته وعجزه, واما لتشريف المستخلف.
ج ـ الخليفة:
من ناب عن الغير لموت المستخلف, وعجزه وغيبته, او لتشريف المستخلف.
فالاول مثل قوله تعالى:
(واذكروا اذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) (الاعراف 69).
والثاني مثل قوله تعالى:
(يا داود انا جعلناك خليفة في الارض) (ص 26).
وقول رسول اللّه (ص):
(اللّه م ارحم خلفائي قيل له: يا رسول اللّه من خلفاؤك؟. قال: الذين ياتون من بعدي يروون حديثي وسنتي).
وبـمـراجعة الروايات نرى ان خليفة اللّه هو النبي او وصي النبي الذي عينه اللّه لهداية الناس الى شرائعه, كما سياتي تفصيله في بحث: مبلغون عن اللّه, ان شاء اللّه تعالى.
ثانيا ـ سجد:
سجد سجودا: خضع وتطامن, ويضاف اليه في الانسان وضع جبهته على الارض.
فمن الاول قوله تعالى:
(وللّه يسجد من في السموات والارض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والاصال) (الرعد 15).
والثاني قوله تعالى:
(سيماهم في وجوههم من اثر السجود) (الفتح 29).
موجز تفسير الايات.
جـعـل اللّه الايـمان بالملائكة في عداد الايمان باللّه واليوم الاخر وكتبه والنبيين, وعداوتهم في عداد عداوتهم ووصفهم بانهم عباده, وانهم يسبحون بحمد ربهم, ويستغفرون لمن في الارض ويفعلون ما يامرهم اللّه.
ولم يذكر اللّه مم خلق الملائكة ـكما جاء في بعض الاحاديث انه خلقهم من نورـ, وانما اخـبـر انه جعل لهم اجنحة: مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء, وانهم يتمثلون في صورة الانسان ويؤدون العمل الذي امروا به, ولا يمكننا معرفة اجنحة الملائكة قياسا على اجنحة الطير ـ مثلا ـ لان الملائكة ليست اجساما مادية مثل الطيور, ولا سبيل لنا لمعرفة حقيقتهم بما اوتينا من وسائل لمعرفة الاجسام بالحواس الخمس, وانما سبيلنا الى معرفتها انما هو النقل, كما ان سبيلنا الى مـعرفة البلاد التي غبنا عنها تنحصر بالسماع عنها, غير اننا عندئذ نستطيع ان نقايسها بامثالها التي شـاهـدناها, وللعقل هنا ان يحكم بصدق ما ينقل ومن ينقل او يرده, ولا مجال هنا لشرح كيفية عمل العقل عندئذ, ولا يمكن قياس عالم الغيب بما في عالمنا المادي.
واخـبر اللّه تعالى (ضمنا فيما اخبر) انه علم الملائكة ما ينبغي ان يتعلموه ولابد ان يكون ذلك في حدود ما امرهم ان يقوموا بعمله, وحكى سبحانه كيف اخبرهم بانه جاعل في الارض خليفة.
وخـلـيفة اللّه في الارض هو الانسان الذي عينه اللّه لهداية الناس, ويمثلهم في هذا الخبر آدم ابو الـبـشـر, واخبر ان الملائكة قالت: (اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) (البقرة 30).
وجاء في الروايات ان الملائكة قالت ذلك لان اللّه تعالى كان قد خلق قبل آدم (ع) في الارض, خلقا اراقـوا الدماء وافسدوا في الارض وابادهم اللّه بظلمهم, وقاست الملائكة حالة الخلق الجديد بما كانت قد رات قبله من خلق اللّه.
وكـان جـواب اللّه لـهـم: انـي اعلم ما لا تعلمون ثم خلق آدم (ع) وعلمه الاسماء كلها, اي حقائق الاشياء كلها فان الاسماء جاءت هنا جميعا للاسم بمعنى صفات الشي ء الخاصة المبينة لحقيقته, وذلك لان اللّه سـخـر مـا فـي السموات والارض لمنفعة الانسان ولا بد ان يعلمه صفاتها وخواصها كما سياتي شرحه في آخر هذا البحث ان شاء اللّه تعالى.
عـلـم آدم خواص كل ما سخره له ليعمل مع ما سخره له في ما ينفعه, وعلم كل واحد من الملائكة علم كل ما خلق ذلك الملك للقيام به, علم ـ مثلا ـ الملائكة التي خلقها للعبادة كيفية التهليل والتسبيح والتكبير للّه كما هو اهله, وعلم الملائكة التي خلقها لتسجيل اعمال الانسان, كيف تسجل ما يصدر عـن الانـسـان مـن خير وشر, وعلم ملائكة قبض الارواح, كيفية قبضها, وكذلك علم غيرهم ما خلقوا للقيام به.
اذا لم تكن الملائكة تعلم ما علمه اللّه آدم (ع), ولما سال اللّه الملائكة عن تلكم الاسماء التي علمها آدم, قـالـت: سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا, فامر آدم ان يعلمهم ما علمه اللّه, ثم امر الملائكة ان يسجدوا لادم (ع) فسجودا الا ابليس ابى واستكبر كما سنشرحه في ما ياتي ان شاء اللّه تعالى.
النتيجة
ان هـذا الصنف من الخلق ـالملائكةـ الذين اسكنهم اللّه السموات والارضين, ولهم حياة, وموت, وعقل مدرك دون هوى النفس, كان يـكفيهم في مقام الهداية ان يتعلموا ما خلقوا من اجله ليدابوا على القيام بالعمل طوال حياتهم, اما قصة سـؤالهم في خبر السجود لادم (ع) فلا تتجاوز انهم كانوا لا يعلمون لماذا خلق آدم, ولما عرفوا ذلـك بـتـعليم آدم اياهم الاسماء اطاعوا اوامر اللّه وسجدوا له دون ابليس الذي ابى السجود لادم (ع) واستكبر واطاع هوى نفسه.
اذا فان هداية الملائكة تكون بتعليمهم ما اراده اللّه منهم.
ثانيا ـ التسخير للمسخرات:
نـخـص بـالـذكـر هـنـا مـن امر الهداية بالتسخير بعض الايات التي صرحت بان اللّه سخر تلكم المسخرات لمنفعة الانسان.
قال اللّه سبحانه في:
اـ سورة الجاثية:
(وسـخـر لـكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون) (الاية 13).
ب ـ سورة المؤمن:
(اللّه الذي جعل لكم الارض قرارا والسماء بناء) (الاية 64).
ج ـ سورة الزخرف:
(الذي جعل لكم الارض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون) (الاية 10).
د ـ سورة الرحمن:
(والارض وضعها للانام فيها فاكهة والنخل ذات الاكمام والحب ذو العصف والريحان فباي آلاء ربكما تكذبان) (الايات 10 ـ 13).
هـ ـ سورة الملك:
(هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور) (الاية 15).
و ـ سورة الحج:
(الم تر ان اللّه سخر لكم ما في الارض) (الاية 65).
ز ـ سورة الاسراء:
(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) (الاية 70).
ح ـ سورة ابراهيم:
(اللّه الـذي خلق السموات والارض وانزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لـكم الفلك لتجري في البحر بامره وسخر لكم الانهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سالتموه وان تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها ان الانسان لظلوم كفار) (الايات 32 ـ 34).
ط ـ سورة النحل:
(وعـلى اللّه قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم اجمعين هو الذي انزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بامره ان في ذلك لايات لقوم يعقلون وما ذرا لكم في الارض مختلفا الوانه ان في ذلك لاية لقوم.
يـذكـرون وهو الذي سخر البحر لتاكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون والقى في الارض رواسي ان تميد بكم وانهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون) (الايات 9 ـ 16).
(ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ان في ذلك لاية لقوم يعقلون) (الاية 67).
شرح الكلمات:
اـ سخر:
سـخـره يسخره فهو مسخر: ذللّه, اخضعه وساقه الى غرض معين قهرا, والسخري: الذي يقهر فيتسخر.
ب ـ الاكمام:
جمع الكم: وهو الغلاف يغطي الثمر والحب: من الشجر والنخل والزرع.
ج ـ الحب:
الحب يراد به: الحنطة والشعير والارز.
د ـ العصف:
ما هو كالغلاف للحب وهو قشره وفسر بورق الزرع اليابس.
هـ ـ الريحان:
الريحان: النبات الطيب الرائحة.
و ـ الالاء:
الالاء: النعم.
ز ـ ذلولا:
ذلت الدابة بعد شماس ذلا: فهي ذلول, او ممهدة يسهل السلوك فيها وركوب متنها.
ح ـ مناكبها:
ومـفـرده: المنكب من الانسان وغيره: مجمع العضد والكتف, ومناكب الارض: فسرت بالجبال على الـتشبيه اذ هي ناتئة بارزة كمناكب البعير, وبجوانب الارض على التشبيه ايضا, فان منكبي البعير جانباه.
ط ـ دائبين:
داب: جد فيه وداوم عليه فهو دائب.
والداب: الشان.
ودائبين: مستمرين في الحركة لا يفتران الى آخر الدنيا.
ي ـ تسيمون:
اسام الابل يسيمها: اخرجها وارسلها للرعي.
ك ـ ذرا:
ذرا اللّه الخلق يذراهم ذءرا: خلقهم على وجه الاختراع, وبثهم وكثرهم.
ل ـ مواخر:
مـخـرت السفينة مخرا ومخورا: اذا شقت الماء بجؤجئها ـ صدرها ـ مستقبلة له فسمع لها صوت, والسفينة ماخرة, والجمع مواخر.
م ـ تميد بكم:
ماد ميدا: تحرك واهتز.
والميد: اضطراب الشي ء العظيم كاضطراب الارض.
نتيجة البحث.
ان اللّه تعالى خلق للانسان والارض وما عليها وما فيها من بحار وانهار واشجار ونبات ومعادن وما تـحـت السماء الدنيا من مجرات وشموس واقمار كما قال سبحانه في سورة الجاثية: (سخر لكم ما في السموات والارض جميعا منه).
وقد هدى هذا الصنف من الخلق تسخيريا ان يسير وفق نظام قدر له بربوبيته, ويخبر اللّه عن هذا الـنـوع مـن الـهداية في القرآن بلفظ سخر غالبا وفي موارد بلفظ جعل حيث يقول سبحانه: (جعل الشمس ضياء والقمر نورا).
ثالثا ـ الالهام الغريزي لصنف كل ذي روح حيواني وان اللّه سبحانه سخر جميعها لمنفعة الانسان:
قال اللّه سبحانه:
ا ـ في سورة النحل:
(والانـعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تاكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتـحـمـل اثـقـالكم الى بلد لم تكونوا بالغيه الا بشق الانفس ان ربكم لرؤوف رحيم والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون) (الايات 5 ـ 8).
الى قوله تعالى:
(وان لـكـم فـي الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين) (الاية 66).
(واوحـى ربـك الـى الـنـحـل ان اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الـثـمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه فيه شفاء للناس ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون) (الايتان 68 و69).
ب ـ في سورة النور:
(واللّه خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على اربع يخلق اللّه ما يشاء ان اللّه على كل شي ء قدير) (الاية 45).
ج ـ في سورة الانعام:
(ومـا من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه الا امم امثالكم ما فرطنا في الكتاب من شي ء ثم الى ربهم يحشرون) (الاية 38).
شرح الكلمات:
ا ـ فرث:
الفرث: ما في الكرش.
ب ـ اوحى اللّه الى الحيوان شيئا: الهمه اياه وهداه لما يصدر عنه من فعل فيه حياته وصلاحه وقد يـكون فيه دقة وحذق وصدور الفعل من هذا الصنف من الخلق قريب من صدور العمل تسخيريا من الصنف المسخر.
ج ـ يعرشون:
عرش الكرم: رفع اغصانه على الخشب, والبيت سقفه.
د ـ ذللا:
ذللا: منقادة, غير متصعبة.
نتيجة البحث.
شرع اللّه لكل نوع مما خلق تحت السماء الدنيا في الجو وعلى الارض وفي جوفها وفي البحر مما جـعل لها حياة وموتا ونفسا حيوانية دون العقل على اختلاف درجاتها في ما جعل لها, شرع اللّه لكل نـوع مـن ذلـكم نظاما يتناسب وفطرته, والهم كل فرد من ذلك النوع بالغريزة التي فطره عليها ان يـسـير في حياته وفق ذلك النظام وبين نوع هداية هذا الصنف من الخلق في ما اخبر تعالى عن حياة النحل في قوله تعالى:
(واوحـى ربـك الـى الـنـحـل ان اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الـثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه فيه شفاء للناس ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون) (الايتان 68 ـ 69).
اذا فان كل ما يصدر من النحل من فعل فيه حذق ودقة وحكمة انما هو بالهام من ربنا رب العالمين, وفي هذا البيان مثال توضيحي لنوع الهداية لهذا الصنف من المخلوق الذي سبق ذكر الانعام فيه في الايات (5 ـ 8) ومـا في خلقها ونظام حياتها من حكمة ونفع, وفي التعبير بـ (اوحى ربك) ايحاء بان رب الـنـحل الذي هداه ان يسير في حياته وفقا لما قدر لحياته من نظام متناسب وفطرته, هو ربنا الذي شرع لنا نظاما يتناسب وفطرتنا التي فطرنا عليها بحكمة واتقان, كالاتي بيانه:
رابـعـا: الـتـعليم بالوحي بواسطة الرسل لصنفي الانس والجن مصداقا لقوله تعالى:(خلق فسوى) و(قدر فهدى) في سورة الاعلى.
اولا ـ الانـسـان: خـلـق اللّه رب العالمين الانسان وقدر حياته وجعل في طبعه هوى النفس في ما تشتهيه نفسه ومنحه العقل الذي يميز به ما يضره وما ينفعه.
وهياه لقبول الهداية بوسيلتين:
ا ـ النطق باللسان كما قال سبحانه في سورة الرحمن:
(خلق الانسان علمه البيان) (الايتان 3 و4).
حيث الهم الانسان النطق باللسان والتفاهم بعضه مع بعض.
ب ـ القراءة والكتابة ونقل الافكار من انسان الى آخر ومن جيل الى اجيال متعاقبة, كما قال سبحانه في سورة العلق:
(اقرا وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم) (الايتان 3 و4).
ثم شرع اللّه سبحانه نظاما لحياة الانسان متناسبا وفطرته كما قال سبحانه في سورة الروم:
(فاقم وجهك للدين حنفا فطرة اللّه التي فطر الناس عليها) (الاية 30).
وهـدى اللّه الانـسـان الى ذلك الدين المتناسب مع فطرته بواسطة انزال الوحي الى رسله كما قال سبحانه:
ا ـ في سورة النساء:
(انا اوحينا اليك كما اوحينا الى نوح والنبيين من بعده) (الاية 163).
ب ـ في سورة الشورى:
(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين) (الاية 13).
وسـمـى اللّه سـبحانه الدين الذي اوحى به الى الرسل بدين الاسلام كما قال سبحانه في سورة آل عمران:
(ان الدين عند اللّه الاسلام) (الاية 19).
ثـانـيـاـ الـجـان: خلق الجان وقدر حياته مثل حياة الانسان حين جعل في طبعه هوى النفس الى ما تشتهيه نفسه ومنحه ادراك ما يضره عما ينفعه.
كما اخبرنا عن حال ابليس الذي كان من الجن في سورة الكهف وقال:
(واذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا ابليس كان من الجن ففسق عن امر ربه) (الاية 50).
وفصل القول سبحانه وتعالى في امر ابليس هذا في سورة الاعراف وقال جل اسمه:
(ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا ابليس لم يكن من الساجدين قـال ما منعك الا تسجد اذ امرتك قال انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج انك من الصاغرين قال انظرني الى يوم يبعثون قال انك من المنظرين قـال فبما اغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لاتينهم من بين ايديهم ومن خلفهم وعن ايمانهم وعن شمائلهم ولا تجد اكثرهم شاكرين قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لاملان جهنم منكم اجمعين) (الايات 11 ـ 18).
ان هـوى الـنفس في هذا الجني المتمرد على اللّه العزيز الجبار اعظم من هوى نفس كل ذي هوى نفس.
وايـضا اخبر اللّه تعالى في سورة الجن عن وجود هوى النفس في عامة الجن حيث ذكر جل اسمه ان الجن قد بلغوا في متابعتهم لهوى النفس ان يقعدوا من الملائكة مقاعد يسترقون سمع حديثهم, ولم يتركوا فعلهم الشائن حتى بعث خاتم الانبياء (ص), ورماهم اللّه بالشهب الحارقة لهم, وفي الحديث انـهم كانوا ينقلون ما يسمعون من الملائكة الى الكهنة ويزيدون عليه من اكاذيبهم بغيا وطيشا منهم وايذاء منهم لاولاد آدم (ع).
واخبر اللّه عن ذلك ـايضا ـ في سورة الجن في قوله تعالى: (فزادوهم رهقا) واخبر عن مشاركة الجن للانس في متابعة هوى النفس وفي قولهم البعيد عن الحق على اللّه وان منهم المسلمين وغير المسلمين.
واخـبـر فـي سـورة الاحقاف ان نفرا منهم حضروا تلاوة ـ الرسول ـ القرآن فذهبوا الى قومهم منذرين واخبروهم ان اللّه انزل كتابا بعد موسى (ع) ـ وهو القرآن ـ وطلبوا من قومهم ان يؤمنوا به, وكذلك اخبر في سورة الجن عن مشاركة بعض الجن مع بعض الانس في الظن بان اللّه لن يبعث احدا يوم القيامة.
ومن كل ذلك نستنتج وجود حاسة العقل والادراك الكامل في الجن كما هو في الانسان, ودركهم لغة الانـسان واشتراكهم مع الانسان في خاصة التعلم بالمكالمة كما نفهم ذلك بصورة اجلى في ما حكى اللّه عن مكالمتهم مع سليمان في سورة النمل في الايتين (17 و39).
هكذا يشترك الصنفان في جميع مجالات قوى النفس كما يشتركان ـ ايضا ـ في مجالات العمل, كما اخـبـر اللّه سـبـحـانـه في سورة سبا: ان الجن كانوا (يعملون له ـلسليمان ـ ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) (الايتان 12 ـ 13).
وقال في سورة الانبياء:
(ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك) (الاية 82).
واشـركـهـما في الهداية بدين الاسلام وارسال الرسل اليهما, مبشرين ومنذرين ومعلمين, ليؤمنوا باللّه وحده لا يشركون به احدا, وبرسله وكتبه وملائكته والبعث ويوم القيامة وما يتبعه من مشاهد يوم القيامة.
اما الاحكام فما كان منها في الاداب الاجتماعية مثل مساعدة الضعفاء والمحتاجين من المؤمنين وترك اذى الاخـرين وما شابههما فهما يشتركان فيهما, اما العبادات من صلاة وصوم وحج فلا بد ان تكون للجن بحسب حالهم كما ان بني آدم يختلف بعضهم عن بعضهم الاخر في الاحكام, مثل اختلاف احكام الرجل عن المراة والمريض عن المعافى والمسافر عن المقيم الى غير ذلك.
نتيجة البحوث.
خـلـق اللّه الملائكة جنودا له في الالوهية والربوبية كما اخبر عن ذلك في الايات التي ورد فيها ذكـر الـمـلائكـة, ومن ثم خلقهم جل اسمه قبل غيرهم وكانوا حملة عرشه حين كان عرشه على الماء, كما قال سبحانه في سورة هود:
(وهو الذي خلق السموات والارض في ستة ايام وكان عرشه على الماء) (الاية 7).
وخـلـق اللّه سبحانه السموات وما فيها وما عليها مما نعلم من الملائكة ومما لا نعلم, وما تحتها مما نعلم من كواكب ونجوم وشموس واقمار وبروج ومما لا نعلم, وخلق الارض وما عليها وما فيها من مياه ونبات ومعادن من مرافق الحياة وما بين السموات والارض من غازات وغيرها مما نعلم ومما لا نـعلم, كل ذلك مما تحتاجه الاصناف الثلاثة, الحيوان, والجن, والانس في حياتهم, ثم خلق الحيوان قـبـل خـلـق صنفي الجن والانس لحاجتهما في حياتهما اليه, ثم خلق الجان قبل الانسان كما اخبر سبحانه في خبر خلق آدم (ع) انه امر الملائكة ـالذين كان ابليس الجني منهم ـ ان يسجدوا لادم بـعد خلقه, ثم خلق الانسان بعد خلق جميع الاصناف من خلقه كان ذلكم خبر خلق الاصناف الاربعة مـن خـلـق اللّه سـبـحانه كما استنبطناه من آيات القرآن الكريم والروايات, وكما تقتضيه حاجة المتاخر خلقه الى وجود الصنف المتقدم عليه في الحياة, اما انواع هدايتهم فلما كان اللّه رب العالمين منح الملائكة والانس والجن العقل والادراك كان نوع هدايتهم بالتعليم المباشر وغير المباشر كما اخبر سبحانه عن الملائكة انهم قالوا في خبر خلق آدم (ع):
(سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا).
واخبر عن صنف الانسان انه سبحانه: (علم آدم الاسماء كلها) وانه: (علم الانسان مالم يعلم).
واخـبـر عـن صـنـف الـجن في ما حكى عنهم انهم تعلموا القرآن واهتدوا به عندما سمعوا تلاوة الرسول (ص) للقرآن.
ولـمـا كـان سـبـحانه منح صنف الحيوان ومطلق الدواب شيئا من الادراك كان نوع هدايتها بالالهام الغريزي لكل فرد منها.
ولـمـا كان سائر الخلق ما عدا المذكورين من الكواكب والنجوم حتى الذرة لم يمنحهم اللّه شيئا من الحياة والادراك كانت هدايته لهم.
بالتسخير, كما فصل بيان كل ذلك في كتابه الكريم, وسمى النظام الذي شرعه لهداية الانسان بدين الاسلام, كما سندرسه باذنه تعالى في البحوث الاتية.