مقدمة
إن الدين قد كمل على يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم والنعمة قد تمَّت، وإن اللَّه تعالى قد رضي لنا الإسلام ديناً يقول تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَم ديناً﴾(المائدة:3) ولكن متى رضي اللَّه سبحانه وتعالى بهذا الدين واعتبره كاملاً وتاماً؟!
في الجواب على هذا السؤال نرجع إلى الحادثة التي حصلت وسبَّبت نزول هذه الاية الكريمة التي نزلت في السنة العاشرة للهجرة وعند عودة النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع عندما نزل جبرائيل عليه السلام بالاية المباركة ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنّ َ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين﴾(المائدة:67).
فما هو هذا البلاغ العظيم والمهم الذي توقفت عليه الدعوة وصحتها وتوقف عليه كمال الدين وجهاد ومعاناة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين طوال ثلاثة وعشرين عاماً، فعندها نُصب لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم المنبر وصعد عليه وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أيها الناس إن اللَّه مولاي وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ألا من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه"1وبعدها سلَّم المسلمون على علي عليه السلام بإمرة المسلمين.
فاللَّه تعالى إرتضى عن هذا الدين واعتبره كاملاً عندما نصَّب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إماماً وعندما جعل خليفة، يكمل دور النبوة في الهداية والرعاية. وهكذا كانت سنَّة الأنبياء السابقين عليهم السلام فإنهم كانوا يوصون إلى أوصياء بعدهم حتى لا يتركوا الأمة في فراغ بل ليهدوا الأمة إلى سبل الخير ويعرِّفوهم طرق التكامل والرشد.
مفهوم الإمامة
الإمامة في اللغة: الرئاسة العامة وكل من يتصدى لرئاسة جماعة يسمى "إمام".
الإمامة في الاصطلاح: هي الرئاسة والقيادة العامة الشاملة على الأمة الإسلامية في كل الأبعاد والجوانب الدينية والدنيوية.
الإمامة استمرار للنبوة
بعدما عرفنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم النبيين وأن الخلافة هي سنَّة مستمرة بين الأنبياء عليهم السلام حتى لا تخلو الأرض من حجة ولحفظ ما أنجزه الأنبياء وإتمام دورهم في هداية الناس إلى كمالهم الروحي والأخلاقي وكل ما يرتبط في حياتهم واخرتهم ويكون ذلك على يدي إنسان يتمتع بنفس مواصفات النبي من الكفاءة والمؤهلات ويمتلك كل مناصب النبي إلا النبوّة والرسالة، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم للَّه بحجة، إما ظاهراً مشهوراً وإما خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج اللَّه وبيناته"2.
وقال الإمام الباقر عليه السلام: "إن اللَّه لم يدع الأرض بغير عالم، ولولا ذلك لم يعرف الحق من الباطل"3.
من يختار الإمام عليه السلام
إن مسألة الإمامة ليست مسألة سهلة بل لها من الأهمية والخطورة بحيث لا يمكن أن يقوم بها وبمهامها إلا من اختصه اللَّه تعالى بصفات خاصة لذلك لم يترك أمر اختيار أصحابها إلى الناس، بل كانوا يعيّنون من قبل اللَّه تعالى على لسان من سبقهم من الأنبياء والأئمة عليهم السلام، يقول تعالى مخاطباً النبي إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾(البقرة:124).
وهذه الاية المباركة تدل على أن الذي يتصدى لهذا المنصب يجب أن يكون مقبولاً ومرضياً عند اللَّه سبحانه وتعالى لأن مسألة الإمامة هي عهد من اللَّه وصاحب هذا العهد عليه أن يتمتع بصفات ومؤهلات كثيرة كالعصمة تماماً كما كانت شرطاً في النبوة، ويدل على ذلك:
1- الاية السابقة: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنّ َ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾(البقرة:124)، تنص الاية الكريمة على أن الظالم وهو المرتكب للمعصية لا يمكن أن يصل إلى هذا المقام العظيم وهو مقام الإمامة الإلهية.
2- وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾(الأحزاب:33) فاللَّه تعالى أراد لأهل البيت عليهم السلام باعتبار أنهم أصحاب المنصب الإلهي أن يكونوا مطهَّرين من الأنجاس والأرجاس وما أراده اللَّه تعالى لا بد أن يقع لأنه تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(يس:82).
النص على الإمام عليه السلام
قلنا إن منصب الإمامة هو استمرار للنبوة فلذلك ما كان لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يترك المجتمع يعيش في فراغ بعد رحيله حيث تقع فيه الخلافات والنزاعات ويرجع الناس إلى عهد الجاهلية، بل إن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي بعث رحمة للعالمين وسيد العقلاء الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، كان قد نصّ َ على ولاية وإمامة علي عليه السلام في مناسبات كثيرة منذ انطلاق الدعوة الإسلامية، حيث ينقل لنا التاريخ تلك الحادثة المعروفة بحديث الدار عندما جمع عشيرته ولم يؤازره على أمره غير الإمام علي عليه السلام فقال عندها صلى الله عليه وآله وسلم: "أنت أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي"4 ثم أكد على هذه الولاية في العديد من النصوص لاحقاً إلى أن وصل إلى حديث الغدير الذي أوردناه أولاً.
هذا بالإضافة إلى الايات الواردة في حق أمير المؤمنين عليه السلام التي منها:
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ امَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون﴾(المائدة:55).
وقد أجمع المفسرون من السنة والشيعة على أنها نزلت بحق أمير المؤمنين عليه السلام عندما تصدَّق بخاتمه أثناء الصلاة.
ومنها قوله تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾(المعارج:1-2).
وفي أسباب نزول هذه الاية المباركة، روى الثعلبي الذي هو من المفسرين السنّة، "أنه لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد علي عليه السلام فقال من كنت مولاه فعلي مولاه، فشاع ذلك وطار في البلاد فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ناقته حتى أتى الأبطح فنزل عن ناقته فأناخها وعقلها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في ملأ من أصحابه فقال: يا محمد أمرتنا من اللَّه أن نشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه ففعلناه، وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلناه، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلناه، وأمرتنا أن نحج البيت فقبلناه، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بطبعي ابن عمك وفضَّلته علينا، وقلت من كنت مولاه فعلي مولاه، وهذا شي ء منك أم من اللَّه؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: والذي لا إله إلا هو، من اللَّه، فولَّى الحارث بن النعمان
يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه ابن بحجر فسقط على هامته فقتله وأنزل اللَّه تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع﴾ٍ5.
النص على الأئمة الإثني عشر
لأهمية موقع الإمامة وخطورته لم يكتفِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنص على أمير المؤمنين عليه السلام فقط، بل أشار إلى الأئمة الإثني عشر عليهم السلام في مناسبات عديدة وبصيغ مختلفة، منها: ما رواه جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا يزال الإسلام عزيزاً إلى إثني عشر خليفة، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش"6.
وفي رواية عن الصحابي الجليل جابر بن عبد اللَّه الأنصاري قال: لما أنزل اللَّه تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أيها الذين امنوا أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" قلت يا رسول اللَّه قد عرفنا اللَّه ورسوله فمن أولي الأمر الذين قرن اللَّه طاعتهم؟
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "هم خلفائي وأئمة المسلمين بعدي أوّلهم: علي بن أبي طالب ثم الحسن والحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه عني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي ثم سميّي وكنيّي حجة اللَّه في أرضه وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي الذي يفتح اللَّه على يده مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته غيبة لا يثبت على القول في إمامته إلا من امتحن اللَّه قلبه بالإيمان"7.
* عقائد قرآنية, إعداد ونشر جمعية المعارف الثقافيه, ط1, كانون الثاني 2006م, ص 89-96.
1- بحار الأنوار، ج 23، ص 141.
2- نهج البلاغة، حكمة 147.
3- الكافي، ج 1، ص 178.
4- الإرشاد، ج 1، ص 50.
5- تفسير الفخر الرازي، ج 8، ص 292.
6- بحار الأنوار، ج 36، ص 266.
7- المصدر نفسه، ج 23، ص 289.
source : http://almaaref.org