... هذه سبيلي، أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني،..
بلى. هذه سبيلي، وإذا لم تكن الدعوة إلى الله على بصيرة فهي والإلحاد الصريح سواءً بسواء.
يعتز الإسلام بأن هذه صبغته منذ أقدم أيامه ويعتز كذلك بأن صبغته هذه لا تقبل النصول ولا التغير مدى الأيام والأحقاب.
على بصيرة. وعلى بينة قوية، وعلى منطق صحيح لا التواء فيه ولا تعقيد يقيم الإسلام دعوته إلى الله، لا كالأديان المنبجسة من الأرض، المنطبعة بخصائصها، المغتذية من ترابها.
سبيل الله
أقول: لا كالأديان النابعة من الأرض. لأن الأديان النازلة من السماء لن تكون إلا على بصيرة ولن تكون إلا على بينة قوية، وإلا على منطق صحيح صريح لا التواء فيه ولا تعقيد.
أما تلك فإنها من نبات الأرض وإن نسبت زورا ً إلى وحي السماء.
وبرهان الكذب فيها هذا الالتواء البين في المنطق، وهذا الوهن البادي على الحجة، ثم هذه الحيرة السادرة في البصيرة...
لست أعدد ها هنا مزايا الإسلام وخصائصه التي أوجبت له التقديم والتفصيل. بل أذكر النعوت اللمميزة لدين السماء...
أجل. فرافع السماء أوسع علما ً وأعظم خبرا ً من أن يلتبس عليه توحيد بتثليث أو يتحد في حكمه قدم بحدوث، أو يجتمع في عرفانه غنى وحلول، وباسط الأرض أكبر خطرا ً وأجل حكمة من أن تختلط في تمييزه نبوة ببنوة، أو تمتزج في منطقة إلهية ببشرية، أو يقترن في تعليمه لاهوت بناسوت، وخالق الإنسان أسمى تشريعا ً وأدق ملاحظة من أن يغفل ما ركب فيه من عناصر، وما أودعه من غرائز وما مكن فيه من طباع.
وحسب الإسلام أنه الين الفريد الذي استطاع أن يحتفظ بصورته الأصيلة بين عصف الأهواء وزلزلة الآراء، فأقام حولها سدا ً من المعرفة، وضرب فوقها سرادقا ً من البرهان، وثبتها على أساس من القرآن، فلم تأسن لما أسنت الرواسب ولم تحل لما خال الجو، ولم تضطرب لما اضطربت الأعاصير.
حسب الإسلام أن هداياته وتوجيهاته لن تزال تحت متناول اليد للباحث، وفوق مستطاع النقد للناقد. شريطة أن يرجع الباحثون والناقدون إلى هذه الحقائق في منابعها الأولى لا إليها في صورها الأخيرة.
إلى الإسلام في كتابه المعصوم وفي سننه القويمة الصحيحة لا إلى ما بأيدي الناس من أشباح.
أما هذه فلا أنكر أنا ولا ينكر منصف خبير من الناس أن للمشتهيات فيها سهما ً وافرا ً، وأن للأيدي فيها خبطا ً كثيرا ً.
مشى المسلمون مع الأهواء يوم توزعوا على أنفسهم شيعا ً، ويوم انقلبوا- لا كما أراد الله منهم- أعداءً، وهل تلد الفرق وتنشرها إلا الأهواء؟ وهل تثير الخصومات وتغريها سوى المطامع؟ (( ولو اتبع الحق أهوائهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن)).
ثم اتسع الهوى فكانت لكل شخص غاياته، وتقطعت العصم فعاد كل فرد أمة، ووهت الصلة بالدين فأصبح كل رأي مذهبا ً!!.
وامتد الزمن، واطردت الأحداث، وتلبد الأفق، وبعدت الشقة عن الدين، وجاء دور المبادئ الملونة. فكان المبدأ دينا ً يقرر الإيمان والكفر، وكانت مقتضياته فروضا ً توجب الشقاوة والسعادة، وكان الاعتصام به صلة تفرض الحب أو البغض!! فهل سمعت بأغرب من هذا؟!.
نحن مسلمون قبل أن نكون رأسماليين أو شيوعيين، فما بالنا لا نتبع محمدا ً فيما يقول؟!.
محمدا ً العظيم (ص) الذي لم يجد العالم له سقطة في قول، ولا كبوة في عمل ولا وهنا ً في تشريع، ولا ضعفا ً في ملاحظة.
أفهل بلونا مبدأ محمد في مشكلاتنا الحاضرة أو الغائبة فوجدناه لا يصلح بعلاجها لنلجأ إلى طرائق أخرى يسنها ناس آخرون غربيون أو شرقيون؟!.
أم هل ترك محمد مشكلة من مشاكل الحياة لم يتعرض لها بحل فاصل وتشريع حكيم؟.
لا يزال محمد- بعد- صادقا ً في قوله، حكيما ً في تشريعه، لم يذهب بصدقه الدهر ولم تحل من تشريعه الحكمة، ولم تتغير فيه وجوه المصلحة، ولا يزال مبدأ محمد هو المبدأ الحق في أمره وزجره، وفي أخذه ورده، ولا يزال دين محمد هو الدين القيم الحنيف الذي لا سرف فيه ولا تقصير ولا أمت ولا عوج: (( وأن هذا صراطي مستقيما ً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله. ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)).
ألا تعجب لفريق من مدعية الإسلام يقرون لمحمد(ص) بالنبوة، ويعترفون لكتابه بالعصمة، ويثبتون لشريعته البقاء والخلود، ثم ينبذون أحكام نبيهم وكتابهم ظهريا ً سعيا ً وراء كل غربي، والتماسا ً لكل غريب؟!.
ألا تعجب لمن يهيب به محمد ليقوده إلى العزة، وليرتفع بموضعه إلى الكرامة، وليجعله قواما ً لله بالحق، شهيدا ً على الناس بالقسط، كيف يستحوذ عليه الهوى حتى يضل وتركه المطامع حتى يذل، وحتى تحيله الأهواء سائمة تقاد أو معلوفة تربط؟!.
أضاع المسلمون دينهم الحق ومبدأهم الصواب الذي وجد العالم بركته أيام كان سائرا ً على هداه.
أضاعوا الحق فاختلفوا وتخلفوا، وسيختلفون بعد ويتخلفون، وتشتد الفرقة وتبعد الشقة، حتى لا أخوة ولا حب ولا عصمة ولا قربى.
يكيفون الدين بصبغة الزمن
ونبت مع الحوادث كتاب مسلمون.
كتاب في الادعاء، ومسلمون في التوهم.
قال لهم التطفل كونوا كتابا ً، وقال لهم الإفتراء كونوا مسلمين.
نبت هؤلاء ونشأوا مع الحوادث ليلصقوا بالإسلام ما تأباه قواعد الإسلام ويبرأ منه كتاب الإسلام!.
يبغون أن يكيفوا الدين بصبغة الزمن، وحجتهم لهذه المحاولات أن الإسلام دين القرون. وأنه مرن لا يأبى الجديد.
يقولون: إن إنسان حلقت به قوادم الفكر، وتقدمت به تجارب العلم، وارتقت بيديه أساليب الحضارة، ولا يسوغ لدين الإسلام أن يتخذ من هذا التقدم المطرد موقف الحائر فلا يدري ما يصنع، أو المتفرج فلا يهمه أكثر من أن ينظر.
على الإسلام أن يبارك الحضارة وأن يؤازر العقل وأن يواكب العلم، لأنه دين الأبد، ودين الناس أجمعين، فلو وقف حيث تتطور الحياة، أو تتقهقر حيث تطرد الحركة فيها، لعدت رسالته ناقصة ولأصبحت أدواره منتهية، وكان وقوفه هو البرهان الدامغ على قصوره.. هذا ما يقولون.
وهذا حق كله ولا مساغ لمسلم أن يجادل فيه.
يبتغون من الإسلام أن يساند العقل، وهل أنزل الإسلام إلا لمساندة العقل ونظم حركاته وتسديد خطواته؟ وسنعلم أي مبلغ بلغه الإسلام من هذا الشأن.
ويتطلبون منه أن يبارك الحضارة، وتعاليم الإسلام وتأريخه المشرق الوضاء شاهد صدق بما لهذا الدين من يد في بناء الحضارة، ودعم أسسها وإعلاء مستواها.
ويريدون منه أن يساير العلم، والخبيرون بطبيعة هذا الدين المطلعون على أسراره يعلمون مدى اتصاله بالعلم وارتكازه على قواعده.
كل هذا حق لا جدل فيه. ولقد قام به الإسلام خير قيام.
ولكن:
أيتوقعون أيضا ً أن ينزلق الناس وراء أهوائهم، ويمنعوا في إرضاء شهواتهم ثم يقولون لدين الله: عليك أن تصحب الزمن وتناصر الحركة وتساير الركب لأنك مرن تتسع لكل جديد وتنسجم مع كل حادث؟!.
أو يأملون كذلك أن تختلف العقول وتتباين نظراتها، وتتناقض نتائجها ثم يهتفون بالإسلام: عليك أن تؤمن بكل رأي وتصفق لأي قائل وتتبنى كل نظرية لأنك الدين الذي وضعه الله للقرون؟!.
أيطمعون بهذا كله وبأمثاله من دين الإسلام، لأنه مرن يتسع لكل جديد، ولأنهم يؤثرون أن يفسروا مرونته بما يشتهون؟!.
أي دين هذا الذي يتلون مع الحوادث تلون الحرباء؟! وأية شريعة هذه التي لا تحتفظ لذاتها بجوهر ولا تتميز بصبغة، عدا هذا الإنسجام البارد، والتكيف المتناقض؟!.
يعرف الإسلام من معنى التوجيه أن يأخذ بيد المتردي حتى ينهض به إلى القمة، لا أن ينزلق معه إلى الهاوية، وأن يتولى قيادة الغريق فينجيه إلى الساحل، لا أن يرتكس معه في اللجة، وأن يسعف المبتلى حتى ينيله الصحة، لا أن يرتطم معه في العلة!!.
ويعرف الإسلام من معنى التوجيه أن يحفز العقول على التسامي ويحضها على الإستكمال ويدلها على مواقع النظر، ويومي لها إلى وجوه البرهنة، لا أن يؤمن بكل ما تستنتجه من نتيجة وبكل ما تلوج لها من لائحة.
الإسلام مرن يقبل كل جديد من الحق ويحترم كل ثابت من العلم. وهذه إحدى بينات الصدق فيه وإحدى المميزات الغفيرة التي يعتز بها.
يرحب بكل جديد من الحق، لأن الحق واحد وليس بجديد ولا قديم. ويحترم كل ثابت من العلم، لأن العلم يرقى بالإنسان عن أفن الجهل ويطهره من درن الشك وينقذه من غوائل الإضطراب والقلق. وهذه بذاتها هي الغاية التي أرادها الله سبحانه للإنسان لما شرع له الدين: (( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا ً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)).
أما نظريات العلم فقد علم المطلعون إنها ( حوّل قلب) وليس من النصف أن نكلف دينا ً ما بتصديقها كلها أو بتصديق شيء منها على الخصوص.
ومرونة الدين في هذه المواقف أن يكون رحيب الصدر أمام الحوادث، يحفز العقول أن ترتقي ويذكي المواهب أن تتفق، ويحض العلم أن يتقدم ويطرد، ويتخذ هو لنفسه موضع الإشراف على الحركة، فيقبل من النتائج ما محصته التجربة واثبتته الملاحظة حتى استحال عليه التغير، وينتظر بما سواه حكم العلم في أدواره المقبلة.
لا يضيق الإسلام بشيء من الأشياء ولا برأي من الآراء إذا كان لذلك الشيء أو لذلك الرأي متسع من الحق لأن الإسلام دين الحق عليه يرتكز ومنه يقتبس: (( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله))
(( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل، وما أرسلناك إلا مبشرا ً ونذيرا ً)).
أما علوم الكون واكتشاف سنن الحياة واجتلاء نواميس الطبيعة فإن الإسلام يتخذ منها أدلة قاهرة على توحيد باري الكون، وأمثلة ملموسة لقدرته الكاملة وتدبيره الحكيم المتقن، والقرآن الكريم يذكر هذا في كثير من آياته. ويصل به وفرة كبيرة من تعاليمه.
فيقول مثلا ً في الآية المائة والثالثة والستين وما بعدها من سورة البقرة: (( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)).
ويقول في الآية الخامسة وما بعدها من سورة الحج: (( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة...وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. ذلك بأن الله هو الحق، وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور)).
علم الفلك وعلم طبقات الأرض وعلم الحياة وعلم الأحياء وعلم الأجنة وعلم النبات وعلم النفس وعلم الأنواء وعلم الملاحة وعلم أسرار التكوين، كل هذه أدلة قاطعة على وحدة الله خالق الكون وعلى قدرته التامة. وعلى حكمته البالغة وعلى علمه المحيط وعلى أنه سبحانه هم المبدأ والمنتهى لهذا العالم ولكل ما فيه من حي، والقوة والمدد لكل ما فيه من شيء. هذا ما تقوله الآيات الكريمة المتقدمة وتكرره آيات أخرى موفورة العدد.
والثمرة الواضحة المحتومة لذلك أن العلوم الكونية كلما أطردت في التقدم وكلما ازدادت نتائجها في الوضوح كانت إفادة الإسلام منها أكبر، وكانت دلالتها على صدقه أظهر.
وللإسلام علوم خاصة ولدت في أحضانه، وعلوم أخرى عامة تبناها في كتابه، حسبي أن أومي إليها هنا إيماءة عابرة، فهي مشهورة يعلمها الناظرون في الكتاب المتدبرون لقوانين الشريعة.
وإذا اسثنينا علوما ً شاذة منع الإسلام عنها من حيث إنها لا تقتبس من واقع، ولا تمت إلى عقل ولا تتكئ على حجة، ومن حيث أنها تعاكس المجرى الطبيعي للحياة، وتخالف الإتجاه المستقيم للفكر، وهذه كعلم السحر والشعوذة والكهانة وبقية العلوم المضللة- إذا تجاوزنا بهذه الكلمة عن معناها فاعتبرنا هذه من العلوم- أقول إذا اسثنينا هذا الصنف وحده أمكننا أن نحكم دون تردد ولا استثناء أن الإسلام نصير كل علم وعدو كل جمود، وقد شهد التاريخ بصحة هذا الحكم في جميع أدوار الإسلام، وفي القرآن إشادة بفضل العلماء من كل صنف، وفي وصايا الشريعة تحريض على طلب العلم من أي نوع، وفي مذهب الأئمة الطاهرين من أهل البيت(ع) يجب طلب أي علم يتوقف عليه تنظيم الحياة.
ومظهر آخر للمرونة في دين الإسلام أنه سن للحوادث كلها أحكاماَ ً عامة شاملة لجميع الأزمان, ثم وضع لهذه الأحكام استدراكات قد تسوق إليها الحجة وتحويرات قد يدعو إليها تعارض وجوه المصلحة. فهو الدين الذي يرعى الصوالح العامة, ويتخذ الأهبة للطوارىء الخاصة, ويعالج الأمراض بما يجتث الداء و يضمن الشفاء، وهو الدين الذي لن يضيق على أحد في حال ولن يكون حرجا ً في زمان.
هذه طبيعة التشريع في دين الإسلام قوة ليس فيها إسراف وتسامح ليس معه إسعاف، واعتدال ليس به عوج وتطهير ليس فيه حرج.
والإسلام هو الدين الذي فتح باب الاجتهاد في الأحكام فوضع له القواعد وقرر له المناهج، ويسر إليه السبيل، وأثاب المجتهد أجرين حين يصيب، ولم يحرمه من المثوبة حين يخطئ.
ولن يشذ المجتهد المسلم عن طبيعة التشريع في الإسلام ما دام يقبس مادة اجتهاده من أصول هذا الدين ويرتبط بنصوصه ويتقيد بمفاهيمه، ولن يحمل عليه أثقال سواه مادام يعلم غنى الإسلام بروحه واستقلاله بمناهجه، وما دام يعلم أن للإسلام وحدة متماسكة لن تتجزأ، وأن لأحكامه صبغة واحدة لن تتغير.
ومن أثر الاجتهاد المستمر أن يغذي الأفكار المتطورة ويبحث الحقائق المتجددة ويسد الحاجات المتسلسلة.
ولا يزال الإثنا عشرية من شيعة أهل البيت (ع) يستمسكون بهذا المبدأ الذي وضعه الإسلام، وهم ينيطون بالمجتهد العادل أهم المناصب الإجتماعية كالإفتاء والحكم وأكثر الولايات العامة وبعض الولايات الخاصة، ولا يرون غير المجتهد العادل لها أهلا ً، ولذلك فالاجتهاد عندهم من فروض الكفاية(1).
أما المذاهب المسلمة التي حرمت أنفسها فضل هذه النعمة، وسدت عنها باب هذه الرحمة، أما أهل هذه المذاهب فلا يفتأون يتعلقون بأذيال سياسة زمنية قديمة كان من رأيها أن تحصر الإفتاء في رجال، وأن تحشر الناس إلى آراء، فخصصت موارد الفتوى، وأقفلت باب الاجتهاد، ثم انتهى عمر هذه السياسة ولم ينته أمد هذا الرأي.
وقد لاحت في الآونة الأخيرة بوادر دعوة جديدة إلى حل هذا الوثاق القديم، وهي- بعد- لم تبرح فكرة فتية لها مؤيدون من رجال الدين ولها معارضون، وأمل المسلمين كبير أن يدركهم اليوم الذي يكسر فيه القيد وتجنى فيه ثمار الفكر الحر.
وبعد كل هذا الذي قدمناه فهل يرتاب منصف في مرونة الإسلام وفي انسجامه مع طبائع الأشياء؟ وهل يحتاج في تفسير مرونته إلى أقاويل هؤلاء الذين أملي عليهم ما لا يفهمون، وعرضهم التطفل لما لا يحسنون.
(1) الفرض الكفائي ما وجب على جميع المكلفين أو على جماعة منهم، ثم كان الامتثال ولو من بعضهم سببا لسقوط التكليف عنهم جميعا ً.
وسر ذلك أن يكون للآمر غرض جزئي بصدور عمل من الأعمال، بحيث لا خصوصية فيه لفاعل ولا استيعاب له لأفراد. وأثر ذلك أن يصدر الخطاب عاما ً إذ لا خصوصية لواحد، وأن يسقط التكليف عن الجميع بإطاعة البعض فإن المفرض وفاؤها بالغاية.
ومن آثار هذا الواجب أن العصيان من الجميع يوجب استحقاقهم جميعا ً للعقاب وأمثلته في الشرعيات كثيرة ووقوعه في العرفيات أكثر.
الإسلام والأحلام
وناشئة من الكتّاب كلفت بأحلام الغروب وبهرتا نظمه ومناهجه، فأرادت أن تحمل دين الإسلام أثقال تلك الفلسفة وأن تطعمه خلاصة تلك النظم، سواءً كره الإسلام ذلك أم أحب....
تلقن هؤلاء الناشؤن من أساتذتهم أن المادة هي المحور الذي يدور عليه كل شيء في هذا الكون، وأنها هي الحقيقة الوحيدة التي تفسر بها مفاهيمه، وتناط بها قوانينه.
تلقنوا هذا النص من أساتذتهم في الغرب، فما عساهم ينتظرون؟
ما ينتظرون وهم مسلمون؟
وأخبرهم آباؤهم أن الإسلام دين الحق، وعرفوا من مجتمعهم أنه شريعة الأبد. فما هي نتيجة الجمع بين هذه النصوص؟
إن النتيجة واضحة في أنظارهم لا يتطرقها ريب. ولا تحوم حولها شبهة. فالإسلام- دين الحق- وشريعة الأبد- ما هم إلا جماع تلك الأنظمة. وخلاصة تلك الفلسفة.
الأنظمة الغربية التي أعجبتهم، وفلسفتها المادية التي بهرتهم.
وهل يستحق الإسلام أن يذكر بتلك الممادح إلا بأن تكون له هذه السمات؟!.
ولقد فات هؤلاء الناشئين أن أساتذتهم قد يجنون على الحق وهم يفكرون، وقد يضلون طريقه وهم لا يشعرون.
فاتهم أن الإسلام شريعة مستقلة بذاتها، غنية بنظمها. وأن للقرآن فلسفة خاصة تنتهض عليها أصوله وتنشعب عنها مناهجه، وفلسفة القرآن هذه ليست مادية خالصة ولا روحانية محضا ، بل تستقصي جميع انطباعات المادة وجميع خصائص الروح، ثم تقيم موازنة شاملة عادلة بين شتى المناحي وشتى الاتجاهات من هذه ومن تلك، وتبني على ذلك لهما وحدة في التشريع تضاهي وحدتها في التكوين.
فاتهم أن الإسلام ليس بمادي متطرف يحسب أن المادة كل ما في الحياة فيجب أن ترتكز عليها كل فلسفة للحياة. وليس بروحاني جائر يخال أن الروح كل ما في الإنسان فيلزم أن يخصها كل تشريع يسن للإنسان، بل هو واقعي متزن يحس أن في الإنسان مادة لا غنى بها عن الروح وأن له روحا ً لا استقلال لها عن المادة. ويرى أن التشريع العادل ما وفى حقوق المادة في ظل الروح، وضمن مآرب الروح في هيكل المادة. فات هؤلاء أن الإسلام ليس بشرقي ولا غربي، بل هو دين إلهي يصلح أدواء الشرق، ويطب أمراض الغرب، ويسمو بالإنسانية جمعاء إلى نصابها الأعلى من الكمال وإلى حظها الأوفى من السعادة.
ليست ميزة التشريع في الإسلام أن يشبه القوانين المتحضرة في القرن العشرين أو الأربعين. وليس دليل عظمته أن يوائم المبادئ السياسية أو الاقتصادية الحاضرة في حل بعض المشكلات وأن من الجهل الفاضح بنا أن نقول هذا القول وأن نسوم الإسلام هذه المهانة.
أي وربك أنه لمن الجهل الفاضح، وأنه لمن ضعف النفوس. والعقول أيضا ً.
يترفع دين الله أن يشبه بأنظمة واطئة تنشأ بين الرواسب، وتقيم في الأوحال، ثم لا ترفع أرؤسها إلى فوق، ولا تطمح بأبصارها نحو القمة. تحسب أن البشر كتلة من الدود، من الأقذار تولد، ومنها تغتذي. وفي وسطها تقيم، وإليها آخر الأمر تعود.
نعم. يترفع دين الله عن هذه الأنظمة التي تلاحظ الإنسان من أخفض نواحيه وتنظر إلى الحياة من أحط مرافقها، ثم لا تثبت للإنسان ولا للحياة معنى أرقى من هذه المنحدرات.
ليس الإسلام رأسماليا ً ولا شيوعيا ً، ولا ينتسب إلى غيرهما من المذاهب المادية الخالصة. وإن اتفق معها في علاج بعض المشكلات. وليست المقابلة بين مبدأ ومبدأ أن يباينه في جميع الفروع وأن يفترق عنه في جميع النقاط. بل الفارق الأصيل بين المبادئ أن تتباين الروح، وأن تتقابل في وجهة النظر والإسلام- دون شك- يباين هذه المبادئ في روحه ويقابلها في وجهة نظره.
ويؤثر بعض الكتبة أن يفسر الإسلام بالرأسمالية لأنه يعترف- مثلا ً بالملكية الفردية، أو يصفه بالشيوعية لأنه يقرر حقوقا ً للعامل على المالك، ويفرض أنصبة في مال الغني للفقير، يحاول هؤلاء أن يفسروا الإسلام بما يرتأون ويتخذون من وجوه الموافقات سندا ً لما يحاولون، تضليلا ً للعقول وتلبيسا ً للحق بالباطل.
لغة وضعت السياسة مفرداتها، ولقن المستعمرون تراكيبها، وردد الثرثارون منا أصدائها. يصنعون ذلك ليستعبدوا أربعمائة مليون ونيفا ً من المسلمين.
إن الإسلام صريح في دعوته، صريح في بيان فلسفته، صريح في نشر مناهجه والتعريف بأهدافه وغاياته، وكل مبدأ حقيقي يجب أن تكون هذه خليقته. أما الختل والخداع والمواربة وتلبيس الحق بالباطل واستخدام الجهل فلا يرتكبها مبدأ يحترم نفسه، أو بالأحرى لا يرتكبها مبدأ يطلب من الناس العقلاء أن يصدقوه. وليس أدل على إفلاس المبدأ أن يتناقض، وليس أدل على كذبه من أن يدعي ما ليس له. وليس أدل على صغاره من أن يتخذ الجهل عونا ً على نشر دعوته.
من نافذة ضيقة
وفريق آخر من الكتاب المسلمين ملكت عليهم العصبيات الطائفية مذاهب القول، وأوصدت عليهم منافذ التفكير. يبغون أن يعرفوا الإسلام فيصدعون شمل المسلمين ويقطعون أواصرهم ويمزقون وحدتهم، نعم ويثكلون الإسلام غايته الأثيرة التي قاسى الرسول(ص) لإنشائها ما قاسى، وكابد المسلمون السابقون لتوطيدها ما كابدوا، وتحمل التابعون في تعزيزها ما تحملوا!!.
مستبدون ينظرون في الإسلام من نافذة ضيقة. ثم يحكمون في أمره ويتحكمون ويقولون في أهله ويتقولون، والله حسيبهم على ما يصنعون.
أرأيت المسلم يكيل التهم لأخيه المسلم دون عد، ويختلق الأكاذيب عليه دون مراقبة؟!.
أرأيت المؤمن يصور قريبه المؤمن كما يصور الغول. ويتحدث عنه كما يتحدث عن الخرافة، ويقسو عليه كما يقسو على الخصم الألد؟!.
ثم أتريد أن أضع بيديك ثبتا ً طويلا ً بأسماء هذه الكتب، وبأعلام هؤلاء الكتاب؟.
نعم مسلمون. محمديون. يتلون كتاب الله قوله تعالى لنبيه: (( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)). ويقرأون من نذره التي تقدم بها لأتباعه:(( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا ً منهم... ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان)). هؤلاء هم. بأعيانهم.. يعدون ما قبح من اللفظ، وما شنع من الوصف وما وخز من النسب.. لا للبعيد القصي الذي يكيدهم بالقول، ويسخر منهم في الدين، ويمتنهم في المشاعر، ويستعبدهم في النفوس، ويستبيحهم في الحريات والأموال. بل لأدنى الناس منهم في الدين، وأمسهم بهم في العقيدة، وألمسهم لهم في العاطفة.
...لأكفائهم في الصلة بالحق، ونظرائهم في القوامة عليه، وأوليائهم بحكم الله وبنص كتابه، لإخوانهم الذين يشاركونهم في الشعور ويواسونهم في البأساء.
إطمحوا بأبصاركم عالية أيها الأخوة لتروا أن الإسلام أرفع من هذا الحضيض الذي تتنسمون، وأرحب من هذا المضيق الذي تتوهمون.
الإسلام دين يعصم العقول أن تنقاد لهوى، وعقيدة ترفع النفوس أن تتهم بسوء، ومبدأ ينقي الأفئدة أن تنطوي على ضغينة، وشريعة تطهر الألسن أن تنطق بكذب... فهل نحن كذلك؟
إن كنا كذلك فنحن حقا ً مسلمون.
والإسلام دين تعاطف وأخوة، وشريعة مودة ورحمة، ومبدأ إخلاص وولاء، أليس المؤمنون إخوة كما يعلن كتاب الإسلام في مواضع منه، ورحماء بينهم كما يذكر في مواضع أخرى، وبعضهم أولياء بعض كما يقول في آيات غيرها ولقد كانت هذه نعوت أسلافنا من قبل، فهل نحن كذلك؟.
إن كنا كذلك فنحن حقا ً مسلمون.
نعم أيها الأخوة، الإسلام دين وعقيدة ومبدأ، وليس رجالا ً يتحزب لهم أو يتعصب عليهم، فاعرفوا حقيقة الدين، وتمسكوا بلباب العقيدة ،وطبقوا قواعد المبدأ، ثم اعرفوا من تشاؤون من الرجال بعد ذلك وتنكروا لمن تشاؤون.
اعرفوا الدين خالصا ً لا شوب فيه، صريحا ً لا لبس معه، ثم اعرضوا للرجال في ضوء تعاليمه-إذا لم يكن لكم بد من ذلك-فإن منازل الناس تتفاوت بمقدار اتباعهم للحق، وعزوفهم عن الباطل، وإخلاصهم في العقيدة.
لا يلام باحث أن يستعرض المذاهب بالموازنة المنطقية، ويستوعبها بالنقد النزيه ويحكم في قواعدها البرهان الصحيح. لا يلام باحث أن يفعل ذلك تثبيتا ً للحجة واستيضاحا ً للحق، وقد يكون مثابا ً عند الله سبحانه على فعله متى كان حسن النية فيه.
ولكنه يكون ملوما ً يوم يتحزب ويتعصب، ويكون مؤاخذا ً أعنف المؤاخذة وملوما ً أعظم اللوم يوم يجره التعصب إلى ما لا يحمد، فلا يبصر غير مطاعن ولا يذكر إلا مثالب.
الإسلام أسمى من هذا الحضيض
نشأت هذه الأصناف من الكتاب لتضيع البقية الباقية من الإسلام على الباحثين ولتضع العراقيل والأشواك في طرق المصلحين، حتى لو أن أجنبيا ً رام أن يتعرف الإسلام مما يكتبون لاستبان لدين الله صورة شائهة مفزعة مرعبة يضرب بعضها بعضا ً، ويسخر بعضها من بعض.
أما المصلحون المخلصون الذين عرفوا دين الإسلام حق معرفته، وفهموا كتاب الإسلام حق فهمه، والذين نصروا الدين للدين، واتبعوا الصواب للصواب، أما هذا الفريق الخالص من الكتاب المسلمين فهم القلة القليلة. وإن ضوضاء الفتنة لتكاد تخمد أصواتهم، وإن رهج المحنة ليكاد يخفي أشباحهم. غير أنهم قويون بالله، كثيرون بمدده، عزيزون بنصره، وإن المرء ليصل روحه بالله من طريق العقيدة فيصلها بمعدن القوة التى لا تضعف وبينبوع العزة التي لا تذل، وبمصدر النصرة التي لا تخذل (( ولينصرن الله من نصره إن الله لقوي عزيز)).
أما بعد فقد حاولت جهدي ان أفتدي بهذه الفئة الصالحة من أنصار الله فأعرف الإسلام كما شرعه الله دينا ً قيما ً لا عوج فيه. وأصور المسلم كما نعته القرآن مثالا ً للسمو النفسي والخلق الرفيع فكان من هاتين المحاولتين هذا المجهود الذي أضع حلقته الأولى بين أيدي القراء.
ولم أتبسط في القول لأن البسط يفوت على بعض الأغراض ولم أستوعب لأن محاسن دين الله تربو على الحدود، وتتأبى على الحصر.
وقد يكون هذا الحديث مقدمة لدراسة مفصلة أوافي بها القراء حين يساعدني التوفيق ومن الله سبحانه أستمد المعونة والسداد فيما عزمت وفيما رغبت إنه الموفق المعين.
محمدأمين زين الدين
الدين في ينابيعه الأولى
يفتح الإنسان الذكي القلب المتيقظ الفكر الدقيق الملاحظة، يفتح هذا الإنسان بصره على كل مشهد من مشاهد الكون، وعلى كل مجلى من مجالي الطبيعة وعلى كل منظر من مناظر الحياة، فيرى لأي موجود يشاهده في هذا الملكوت نظاما ً دقيقا ً وضابطةً محكمة، ويرى المكونات بأجمعها- حتى الجامدات منها- تتبع أنظمتها هذه وتسير على وفقها بأقدام ثابتة وبخطى متزنة.
فالشمس والقمر والكواكب والنجوم (1) والفلك والأثير والقوة والمادة والحيوان والنبات والهواء والماء والحرارة والنور والحركة في المتحرك والنمو في النامي، وحتى الذرة الصغيرة ونواتها الضئيلة وطاقتها المخزونة والكتروناتها الدائرة وجسيماتها المؤتلفة، كل أولئك له نظام ثابت وسنن دقيق لن يحيد عنه أبدا ً وليس في مكنته أن يحيد وقد فسح العلم الحديث للإنسان هذا المجال وأشبع له هذه النهمة.
سنّة كونية عامة
يفتح هذا الإنسان الواعي بصره فيشاهد الأنظمة والضوابط ملء الكون الفسيح وملء جنباته ودقائقه وذراته، فلكل شيء من الأشياء سنة، ولكل بعض من أبعاضه أو صفة من صفاته سنة، ولكل شيء مع غيره علاقة تحكمها سنة، ولكل طائفة من الأشياء سنة، ولكل مجموعة من الطوائف المتجانسة أو المتخالفة سنة ولمجموعة المجموعات وطائفة الطوائف سنة.
يرى ذلك بعينيه ولا يرتاب في شيء منه ولا يجادل، ويسخر ممن يشكك أو يجادل فيه، ثم يغمض عينيه بعد كل هذا الجهد ويهمس في نفسه:
أللإنسان كما لسائر الأشياء سنن ثابت ونظام مفروض؟.
ألهذا الكائن العاقل نظام محدد يجب عليه أن يتبعه في خطوات إلى غايته، ولا يسوغ له أن يحيد عنه، أم هي الفوضى المطلقة المرسلة فلا حد لها ولا شرط؟.
عن الإنسان يتسائل!!.
عن أرقى نماذج الطبيعة، وأبدع مظاهر القدرة، وعن أسمى ناحية في هذا الكائن الراقي، وأنبه صفة من مميزاته. عن رقيه إلى كماله الإختياري!!.
(1) النجوم هي الأجرام الفلكية التي تشع النور والحرارة، والكواكب هي الأجرام التي تكتسب النور والحرارة من سواها كالأرض.
عن الإنسان وحده من بين موجودات هذا العالم العريض، وعن سلوكه الاختياري خاصة من بين سائر اتجاهاته الكثيرة. كأنه يريد للعقل أن يعلن الفوضى وأن يخرج على النظم!!أو كأنه يريد للإنسان أن يكون أحط منزلة من سائر المخلوقات!.
وأقول في سلوكة الإختياري خاصة. لأنه لن يملك أن يدخل الفوضى في اتجاهاته الأخرى، فنشوء الإنسان ونموه، وتفاعل عناصره وتآلف مواده وتمثيل أغذيته، وتدرج قواه الطبيعية وتحرك كل جهاز من أجهزته واكتمال كل جزء من أجزائه وتكون كل خلية من خلاياه وكل كرية من كريات دمه وكل جزء من إفرازات غدده كل ذلك يجري بطرائق آلية مححدة ويتبع في جريانه قوانين طبيعية معينة ليس في طاقة الإنسان أن يتخف عنها أو يتبع سواها رضي ذلك أم أبى.
وحتى عقله النظري والعملي هذا الذي يطمع الطماعون بخروجه على النظم، له في تكوينه وفي نشأته الطبيعية نظام رتيب لن يسعه أن يتخلى عنه أبداً.
ومعنى ذلك أن النظام سنة من سنن الكون العامة، وأن الأشياء كلها متساوية في الإذعان لها، فلكل شيء نظام معين لن يزيغ عنه إلى غاية معينة لا يعدوها.
source : http://zainealdeen.com