عربي
Friday 8th of November 2024
0
نفر 0

إن قدرة العقل البشري لا تفي بذلك



أقول: من الممتنع أن ينهض عقل مفرد أو عقول متعددة بهذا التشريع الوافي.

1- فإن للفكر البشري عوارض كثيرة تعتاقه عن النظر السليم، وتحول بينه وبين النتائج السديدة، وقد أومأنا من قبل إلى بعض هذه المعوقات، وهو لذلك قد تحول في رأيه وجوه الحكم فيستقبح ما هو حسن ويبيح ما هو محظور، وقد تلتبس عليه المرجحات فيرتاب حيث لا مكان للريب، ويتردد حيث لا مساغ للتردد، ومن للعقل (بذاته) أن يتغلب على جميع هذه الآفات، وقد عرفنا أنها لا تخضع للحصر؟.

وبأية وسيلة يملك أن يحصيها ويلاحظها وبعضها لا شعوري كما تقدم؟

وكيف يشعر بأنها عقبات معوقة، وبعضها أثير لدى النفس مرغوب عندها؟.

أقول: كيف يملك العقل (بذاته) أن يحيط بها كافة، ثم يعلم- بعد الإحاطة بها- أنها آفات تنصرف به عن النظر الصحيح، ليفكر في الاحتراس منها على الأقل؟.

2- وهب أن قوى الحكم والموازنة في الإنسان ملكت أن تصنع المعجزات، وأن تتعالى على المؤثرات، عليها جميعا ً حتى على العقد اللاشعورية المترسبة في نفس ذلك الكائن، وحتى على الرغبات المكبوتة في العقل الباطن، وأمكن للإنسان من ذلك أن يفكر تفكيرا ً سليما ً لا لبس فيه، فهل يقوى كذلك أن يحيط بشتى المؤثرات على عامة العقول والنفوس والأمزجة في مختلف البقاع والأزمان والبيئات، أقول هل يقوى أن يحيط علما ً بجميع هذه العلل وبعلاجاتها ليقدم للإنسانية بأسرها هذا الضمان القانوني الخطير؟.

3- وهب أن العقل ارتفع عن المؤثرات فأحرز لنفسه سلامة التفكير، وأحاط بطوارئ العقول وبعلل النفوس وأدواء القلوب، أحاط بها كافة وبما يصلحها فأمكن له وصف العلاج، فهل يتسنى له أن يضع القانون المطلوب وأن يبتدئ برسم خطوطه قبل أن يتعرف حقيقة الإنسان، وحقيقة كون يحتويه، وحقيقة حياة تشركه مع سائر الأحياء.

قبل أن يتعرف حقيقة الإنسان لأنه الموجود الذي يريد أن يترسم له الكمال ويرتاد له السبيل، وكمال الشيء ليس أمرا ً منفصلا ً عن حقيقته، وإنما هي ذاته تتبلور وتنجلي، ثم تسمو وتعتلي حتى تتبوأ أعلى حد من حدودها، وتستوفي أكبر حظ من (إمكانياتها).

وقبل أن يتعرف حقيقة الكون وحقيقة الحياة لأنهما البيئة الطبيعية لهذا الكائن، التي تحتضن جميع نوعه وتنضج له كل طباعه، وتطبع كل خصائصه، وتصوغ كل أفكاره ومشاعره، وتلون كل حركاته وأعماله، وتتفرع عن قوانينها كل قوانينه وأنظمته، كل قوانينه الطبيعية لتركب جسمه وتفاعل عناصره وحركات أجهزته وتجدد خلاياه.

هل يتسنى للعقل أن يضع القانون المجدي ما لم يكتنه هذه الحقائق ويستنطق أسرارها ويستبطن أغوارها، وما لم يتبين حدود الحياة التي يحياها الإنسان أهي مرحلة واحدة تبدأ بالميلاد وتنتهي بالممات أم هي أطول مدى وأبعد غورا ً من ذلك؟ وما لم يستوضح الغاية الكبرى التي من أجلها فطر الكون وأنشئت الحياة وبرئ الإنسان، والتي ينساق معها كل جزء من أجزاء الكون وكل وحدة من وحدات الحياة وكل فرد من أفراد الإنسان. بل وكل بعض من أبعاض جسمه وقوة من قوى نفسه. الغاية العظمى التي تنتظم كل غاية صغيرة من هذا الكون الفسيح العريض؟.

هل يتسنى للعقل أن يضع الخطة الصحيحة المجدية لتكامل الإنسان قبل أن يعرف هذه الحقائق أتم المعرفة، ويعلم بها حق العلم، بحيث لا يساوره الريب في مقطع منها، ولا تعتريه الغفلة عن ناحية ولا يدركه الخطأ في صورة؟.

وأنى للعقل البشري بهذه الإحاطة وآماد إدراكه محدودة ووسائل معرفته محصورة وأكثر هذه الأمور مما تنقطع دونه وسائل العقل وتقصر عنه آماده؟.

4- والمتصور في وضع القوانين التي يرام لها الثبات والخلود مع الأيام أنها لن تتم إلا بعد موازنات ومعادلات وحك ونقد وعرض وسبر وتجارب طويلة وجهود معنتة وتقلب أدوار وتعاقب أزمان تمخض فيها الحقائق وتمحص النتائج، حتى يقر القار منها ويذهب الذاهب.

هذه هي الطريقة المتصورة والمستطاعة في وضع هذا النوع من القوانين. وإذن فما مصير أجيال عديدة من البشر  قدر لها أن تحيا وتعيش قبل استقرار النتائج، وقبل تنفيذ القانون؟.

ما يكون مصير هذه الأجيال من البشرية وهي تشارك أجيالها الأخرى في الغاية وتضاهيها في التطلع، وتعادلها فيما آتاها الله من مواهب وفيما أعد لهذه الغاية فيها من عدة؟.

والحكمة التي قضت بأن يكون للإنسان نظام يولي به وجهه شطر الكمال، أليست بذاتها تستدعي أن يكون هذا النظام شاملا ً لجميع أجياله ومتسعا ً لجميع أحواله؟.

والبراهين التي حتمت وجود القانون للمجموعة، ألا تحتم كذلك أن يكون هذا القانون شاملا ً لجميع أبعاضها؟.

ما يكون مصير تلك الأجيال المحروبة المنكوبة في تلك الآماد الطويلة؟.

أفيكتب عليها سوء المنقلب أن تحيا (للعصاب) وتعيش للاضطراب، مترددة متلددة بين هوى الكمال وحيرة الضلال؟!.

5- وبعد أن يطوي القانون هذه المراحل البعيدة، وبعد أن يستكمل (بيد العقل أو بيد مشرع سواه) مواده وفصوله، وبعد أن يوضع النص الكامل لعبارته والشرح الوافي بمقاصده، فهل يفي ذلك- وحده- بالحاجة؟.

بحاجة الإنسانية التي دعت إلى وضعه؟.

الواقع أن تلك المراحل الطويلة والجهود المضنية المضاعفة إنما وفت بنصف العمل فقط، وقد بقي نصفه الآخر مفتقرا ً إلى جهد مضاعف وإلى عناء طويل مستأنف.

لقد تم في تلك المراحل الشاقة دور التشريع وحده وبقي دور التنفيذ.

دور تنفيذ ذلك القانون الجامع والتمكين في عقول الخاصة، والتعبيد له، في نفوس العامة وحياطته من أن يحرف أو يؤول ورعايته من أن يمتن أو يخالف. وبديهي أن وسائل التنفيذ الميسورة للإنسان لا تستطيع أن تقوم بذلك.

لا تستطيع أن تقوم به لأنها لا تقوى أن تمتد على البشرية من أقصاها إلى أقصاها، في جميع أجيالها وفي جميع أقطارها وأصقاعها.

هذه هي الحدود المفروضة لذلك القانون، وأعمال البشرية كافة وصلاتها وأخلاقها ومعاملاتها هي مجالات نشاطه، فلابد من أن تمتد إليها قوى تنفيذه.

ولا تستطيع أن تقوم بذلك لأنها لا تقدر أن تتغلغل في نفس الإنسان وأن تستبطن دخيلته وتسيطر على عواطفه وانفعالاته، لا تقدر أن تفعل ذلك لتمكن للقانون في نفس الفرد، وتجند له مشاعره وتغرس فيها احترامه وإجلاله.

ولا تستطيع أن تقوم بذلك لأنها لا تملك بصرا ً ينفذ إلى السرائر، وعلما ً يحيط بالمخبآت، وقدرة تتناول القريب والبعيد، لتدين من يخالف نصوص القانون وأن تستر في مخالفته عن الأعين، أو فرّ بجريمته عن العدل. وما مقدرة حكومات الأرض والقوانين التي تسنها والأحكام التي تصدرها، ما مقدرة وسائل التنفيذ هذه على المتكتم بجرمه والفار بذنبه؟.

وحتى رقابة المجتمع العام ليس في وسعها أن تدرك هذين أو تدينهما بشيء وكم هرب من وجه القانون هارب وكم اختبأ عن اعين الناظرين مختبئ ثم واقع ما تحظره وما تحرمه القوانين؟.

أما الضمير فمن المستطاع أن يخادع، ومن المستطاع أن يوارب، ومن المستطاع أن يردف عليف بالمخالفة والعصيان حتى يفقد معنويته، وحتى يخمد صوته وينقطع تأنيبه، والضمير قوة من قوى الإنسان يعتريها ما يعتري قواه الأخرى من قوة أو ضعف ومن نشاط أو كلل، ووفرة من المخلوقين يعيشون مرضى الوجدان ووفرة منهم يحيون ميتي الضمائر.

لقد تم في تلك المراحل الطويلة دور التشريع وبقي دور التنفيذ، وأي غنى بالقانون إذا لم ينفذ وأي جدوى في تشريعه إذا لم يطبق؟.

إذن فهو مفتقر إلى سلطة ذاتية مهيبة تصون له حرمته وتتولى رعايته.

إلى قدسية سامية تجعل الإعتراف به عقيدة للإتباع وتجعل الإيمان به لزاما ً على قلوبهم، والإنقياد له فريضة في أعمالهم.

هذه السبيل الفذ التي يبلغ بها غايته، وليست له سبيل سواها.

وبقي عليه وراء ذلك كله أن يفكر في شأن أولئك الذين لا يكترثون لمخالفة الفروض ولا يبالون بمعاكسة الإيمان في إرضاء ميولهم وقضاء شهواتهم، لا يأبهون لهذه ولا لتلك ما دام الأمر أمر مخالفة أدبية خالصة، لا ينتظر المقترف من ورائها حسابا ً ولا يحذر عقابا ً.

بقي على ذلك القانون الجامع أن يفكر في شأن هذه الكثرة من الناس، فلا بد وأن يقيم لهم وازعا ً، ولا بد وأن يرصد لهم جزءا ً رادعا ً. وإذن فهو مفتقر إلى أن يتخذ صبغة الدين وأن يكتسب منزلته وأن ينتحل خصائصه، وأن يحتوي حتى على ثوابه وعقابه.

وإذن فهو دين  ما  دام يلتزم شموله في النظرة، وطريقته في الموازنة، ودقته في الحكمة، وعدالته في التشريع، وليس يبعده عن الدين الحقيقي سوى هذا الطريق المعنت المستحيل.

إن الدين يروم أن يسد للإنسان هذه الفاقة من أيسر سبيل وأبينه، وأدناه إلى الفطرة وأمسه قربى بقوانين الطبيعة، وأثبته على دعائم الحكمة.

والعلم وحده لا يستطيع ذلك أيضاً

ويدعي فريق من الكتاب أن العلم يكفي لتنظيم المحتمع الإنساني وإزاحة بؤسه وإزالة شقائه وتوجيهه إلى السعادة المرجوة والبلوغ به إلى الكمال المنتظر.

يرى هذا الفريق أن الوضع الاقتصادي هو المحور لكل ما في المجتمع الإنساني من حركة، والمبعث الأصيل لما فيه من نشاط، والمصدر الأول لما فيه من شذوذ أو استقامة ومن تقدم أو تأخر.

فالفقر والغنى هما الأساس لما هنا من بؤس أو نعيم ومن تشاؤم في الحياة أو تفاؤل، ولما يتبع ذلك من قلق أو طمأنة في النفس، وترنح أو ثبات في الفكر، وهبوط أو رقي في الخلال. وتفاوت الناس في أوضاعهم الاقتصادية واتفقاهم أو تقاربهم فيها هو المكيف لنظرات الناس بعضهم إلى بعض، فالفقير ينظر إلى الغني نظرة الحاقد الحاسد أو المؤمل الذليل، والغني ينظر إلى الفقير بعين المحتقر المزدري أو المتفضل المستطيل، وعلى هذه النظرات المختلفة تبتني العلاقات في المجتمع، وبألوانها تتلون الصلات.

ومن هذا المجتمع ذاته تنشأ التقاليد وتقرر العادات، وفيه كذلك ولواقعه الراهن تسن أنظمة الاجتماع وقوانين السياسة ومناهج التربية، والوضع الاقتصادي هو المنبع الأصيل لكل أولئك.

فإذا أمكن للعلم- بمعجزاته وقوته الهائلة- أن يسيطر على الاقتصاد، وإذا أمكن له أن ينتشر هو وتنتشر آثاره المحمودة على الجماهير فقد استطاع حذف الفوارق، وإزاحة العوائق، وتزكية الطباع وتصحيح النظرات، واستطاع آخر الأمر أن يقيم الصلات الحسنة في المجتمع، وأن يشق منها أنظمة مثالية للإجتماع وقوانين نموذجية للسياسة، وأن يقود الإنسان إلى خير ما يمكن من غاية وأسعد ما يتوقع من حال.

هذا ما يقوله فريق كبير من الناس، وهذا مثال مبسوط لما يحتج به على ما يقول. ويبدو أن هذه الفئة شديدة الإيمان بالعلم إلى حد الإفراط. ولا غضاضة في أن يكون الإنسان كبير الثقة بالعلم قوي الإيمان بمقدرته في حدود يؤمن العلم لنفسه فيها بالقدرة، أما أن يؤمن أحد بما لا يؤمن به العلم لذاته فهذا هو السرف الذي لا يقبل الحدود.

إن العلم لا يجهل حدوده ولا يغلو في قدرته لأن العلم لا ينقلب جهلا ً، وحقائقه لا تصبح ادعاء، ولكن المدعين يمدون الحقائق بالخيال، ويخلطون الموهوم بالثابت!.

لقد قال(دارون) العالم الطبيعي المعروف: الإنسان ينحدر إلى نسب حيواني عريق، وفسر بذلك فلسفة النشوء والإرتقاء، وتلك فكرة لا تزال يعوزها السند العلمي المتين، ولنفرضها هنا مسلمة متيقنة لنتمشى مع الدليل.

وانحدر (دارون) مع الفكرة، وكان من الحق أن يرتقي.

أجل. كان من الحق أن يرتقي، فقد تطور الحيوان- حسب الفرض- فأصبح إنسانا ً، أصبح نوعا ً جديدا ً له كيانه وله مؤثراته وإلا لم يكن لتطوره معنى، وعلى أساس هذا الكيان الجديد وهذه الموائز الخاصة يجب أن يبحث في شؤونه بما هو إنسان.

وهذه هي القاعدة في كل حلقة من السلسلة، في كل نوع يتطور عن نوع آخر أحط منه. وما أظن(دارون) ولا أحدا ً من تلاميذه وأتباعه يرتاب في ذلك في ما عدا الإنسان..

ولأمر غير علني على ما يرجح انحدر (دارون) بالإنسان إلى الحيوان بدلا ً من أن يرتقي بالحيوان إلى الإنسان. صنع ذلك في كتابه (أصل لإنسان) فناقش على غرار ذلك قواعد الأخلاق وناقش (تصورات الدين) وحاكم القيم والمثل وما يقوم على ذلك وما يتصل به.

لقد وضح أن الإنسان حيوان. ولكن أليس إنسانا ً أيضا ً.

فبم ارتقى إذن وكيف تطور؟.

إلا أنه استطاع أن يقف على قدميه؟

وكثير من فصائل الحيوان يقف ويمشي على قدمين كذلك.

أم لأنه يمتلك الحيلة لتحصيل رزقه؟

وجميع ضروب الحيوان تحتال لرزقها أيضا ً وبعضها يأتي بالعجائب في هذا السبيل.

لقد وضح أن الإنسان حيوان، ولكنه إنسان أيضا ً، ولا أظن (دارون) ولا خلفاءه يجحدون ذلك حين يبتعدون عن بحث الخلق والدين.

إنه الإنسان يفكر ويميز ويريد ويصمم، ويأتي في إرادته بالعجائب، ويأتي في تصميمه بالخوارق، ويأتي في تفكيره وتصوراته بالمعجزات، ويتحدى الطبيعة التي توهموا أنها هي الخالقة، ويخضعها لسلطانه، ويكتشف أسرارها بوعيه، ويسخر طاقاتها لمآربه، ويحصي عناصر الكون، ويتقصى طبقات الأرض ويستخرج دفائنها، ويستنبط معادنها، ويبعد كل حزن، ويذلل كل صعب ويسير أعماق البحار ويخترق أجواء الفضاء ويرسل طلائعه ليغزو الكواكب.

فهل لا يزال حيوانا ً بعد؟ وهل يملك الحيوان مثل هذه الأرصدة ومثل هذه القوى؟.

وحين تطورت بيده أساليب الحضارة ووضعت بيمينه مفاتيح الكنوز، وجعلت له السيادة في هذه الأرض، فهل استوجب ذلك كله وهو حيوان؟.

وقال العلم إن جينات الوراثة تنقل إلى الفرد خصائص آبائه وصفاتهم.

نعم وأصبح هذا الأمر في عداد الحقائق الثابتة فهل يمكن لدوران أن يتخذه بابا ً ينفذ منه إلى ما يريد؟.

لقد قال العلم بالوراثة وعدها في الحقائق الثابتة, ولكن ما معنى ذلك وما حدوده؟

أفمعنى ذك أن يصبح الفرد نسخة مكرورة معادة لأصله, فلا يستطيع فكاكاً من صفة ولا يملك اختياراً في عمل ولا انفراداً في قصد؟!.

الحق أن القول بتطور الأنواع لا يناقض بشيء كما يناقض بقاعدة الوراثة إذا فسرت بهذا التفسير, واندلحت إلى هذه الأبعاد .

ودارون ذاته يعترف بأن الفرع قد يحصل على استعدادات جسمية أو عقلية جديدة يقوى بها على اكتساب صفات جديدة يوائم بها بيئته أو يكافح بها طوارئه, استعدادات جديدة لم تكن لواحد من أسلافه, وأن هذه الإستعدادات ثم هذه الصفات تنتقل بالوراثة من هذا الفرد إلى فروعه. ثم تبيد الفروع الأخرى التي ليست لها هذه الميزة, وينحصر النوع في هذه السلالة بقاعدة بقاء الأصلح, وهذا – في رأيه ورأي أتباعه – هو السبيل المتبع في تطور الأنواع.

وقوانين الوراثة التي كشفها مندل أو التي كشفها غيره من الباحثين, وحتى طريقة دارون التي جنح إليها في انتقال صفات الأصول إلى الفروع(1) لا تقتضي أن يكون الفرع رهن المواريث كأنما هو رهن المقادير.

إن الفرع يرث من أصله استعدادات في جسم واستعدادات في نفس واستعدادات في عقل. وللمنزل والمدرسة ومختلف أنواع التربية والبيئة الجغرافية والبيئة الاجتماعية سلطان بالغ النفوذ على تنمية هذه الاستعدادات وإحالتها إلى صفات تامة قويمة أو منحرفة، بلى هذه الإستعدادات والميول الموروثة كافية في توجيه المرء شطرها إذا خلا الميدان من المؤثرات. هذا هو المعنى الثابت لنظام الوراثة فهل فيه حجة لدوران على ما يريد؟.

الإنسان حيوان، هكذا قال(دارون)، نعم وسار مع هذا النسب هاويا ً، معاكسا ً لسير الطبيعة من الإرتقاء، وبنى على هذا الاتجاه المعكوس فروضه، واستخلص نتائجه، فلا دين ولا أخلاق حميدة ولا قيم عالية.

أما أولئك الذين تطوعوا للعلم وزعموا أنه قادر على تنظيم الإنسان، أما أولئك فإنهم أخذوا هذا النسب الذي وضعه (دارون) للإنسان، ثم اندفعوا وراءه بضع خطوات.

وكأنهم استكثروا من دارون أن يقف بالإنسان عند جده الأدنى ويعطيه خصائصه، ومقتضى البحث العلمي في رأيهم أن يلحق بجده الأعلى، أليست سلسلة التطور تنتهي به إلى الجماد؟!.

الإنسان حيوان..

فهو مادي إذن..

مادي بلحمه ودمه وجميع قواه وأجهزة نشاطه. وهل للحيوان تأريخ غير تأريخ القوت وضروب طلبه والكدح الشديد فيه، والتخاصم عليه والتنافس في أمره وملابسات ذلك وفروعه؟.

ضعوا الإنسان في المختبر ليحلله العلم، فهل يجد سوى الفوسفور والآزوت والكبريت والنحاس والحديد والكالسيوم والمغنيسيوم وأخواتها من عناصر المادة؟.

(1) وطريقة دوران في ذلك هي طريقة التناسل بالتجمع العام، وحاصل رأيه هذا أن الأعضاء المختلفة للجسم الحي تنفصل عنها جزئيات دقيقة بالغة الدقة وأن هذه الجزيئات تنتقل مع الدم إلى غدد التناسل وتتجمع في الجرثومة التي يتكون منها الجنين، والجزيئات على ما يقول رموز تمثل جميع أنسجة الجسم وأعضائه.

فمسألة الإنسان الأولى مسألة مادة محض، ومسألة اقتصاد على الخصوص، وكل ما يجد سواها فإنما هي فروع، وإذا انتظم الاقتصاد انتظمت فروعه.

ويكفي لدحض هذه المزاعم أن يتصوروا أن الإنسان ليس حيوانا ً فقط.

ويكفي لدحضها أن يتصوروا أنه ليس ماديا ً فقط.

يقولون: ضعوا الإنسان في المختبر ليحلله العلم، فماذا يضعون منه؟.

يضعون جسمه بعظمه ولحمه ومخه وعصبه، ومن يشك في أن هذه مادية؟.

أفيضعون في المختبر المادي نفسه وروحه وقواه المختلفة، وإرادته وعقله وتفكيره وباقي مميزات إنسانيته؟.

أفيضعون هذه في المختبر أيضا ً؟ وماذا يحلل المختبر منها وهو لا يتناول غير المادة؟.

ليضعوا في المختبر إنسانا ً ميتا ً وليتبينوا ماذا نقص بموته من عناصره الأولى ثم ليبحثوا في ركام هذه المادة عن مصدر نشاطه الأول وسبب هموده الأخير.

بل ليلتقطوا عناصر الإنسان الحرة الطليقة وهي موفورة في تراب الأرض كما يقول العلم، ليجمعوا من هذه العناصر العشرين مقاديرها الموجودة في بدن الإنسان، ثم ليقيموا منها هيكلا ً إنسانيا ً كاملا ً بأجهزته ومقوماته وجميع خفاياه وخلاياه، وهو أمر غير شاق على العلم فيما اعتقد.

بهذه التجربة وحدها سيجدون الفارق الأصيل بين الإنسان الطبيعي المخلوق الضخم، وبين الإنسان المادي الذي يخضع للمختبر ويوزن بالكيلو والغرام.

وبهذه التجربة وحدها سيجدون الفارق الأصيل بين الأشياء الطبيعية التي تحمل سر الحياة وتنقلها إلى أعقابها وبين مشابهاتها مما يصنعه الإنسان ونتيجة معاملة وإن اتفقت معها في المادة والتركيب والمقدار.

سيجدون أن المسألة مسألة تكوين وإحياء وليست مسألة هندسة وبناء.

إن العلم لا يجهل حدوده ولا يغلو في قدرته، ولكن المدعين يمدون الحقائق بالخيال ويخلطون الموهوم بالثابت.

ومن عجيب أمر هؤلاء أنهم يكفرون بالإنسان ويؤمنون بأثر من آثاره!.

يكفرون بالإنسان هذا المبلغ من الكفر، ويؤمنون بأثره هذا الحد من الإيمان!.

والعلم أداة طيعة، توصف بالخير إذا أعملها صاحبها في خير، وتنعت بالشر إذا جعلها ذريعة إلى شر، فهي تابعة أبدا ً لما يراد بها.

وقد تقدم العلم في أوروبا وزخر مده وتضخمت مادته فلم يعصم تقدمه الأخلاق من أن تنهار ولم يق الحرمات من أن تهتك، ولم يكلأ الحريات من أن تستباح، ولم يمنع من وقوع حربين عالميتين تأتيان على الأخضر واليابس.

بل وكانت مواقف العلم فيهما غير مبررة، فقد كان له في ميادين القتال خلق الموتور المسعور الذي لا يروي من إراقة الدماء، ولا يرق لمناظر البؤس، الموتور الذي لا يعرف ترته في أي جانب، فهو يمد الجيوش المتقابلة ويحرض القوى المتقاتلة، ويلهب الأحقاد ويوغر الصدور ويمهد للفتنة ويضاعف من العدة.

ولا يزال العلم- حتى هذه اللحظة- هو السلاح المخوف المرعب الذي تحذر الأمم بطشه، وتخشى صولته، والذي يتهدد العالم كله بالدمار وينذره بالبوار.

إن العلم آلة تعمل الصلاح حين تعمله وهي لا تشعر، وتنشر الفساد حين تنشره وهي لا تشعر، وشعورها إنما هو شعور الأيدي التي تدبرها وضميرها إنما هو ضمير النفوس التي توجهها. فلا محيد من تنظيم تلك المشاعر المديرة، ومن تهذيب تلك الضمار الموجهة إذا أردنا التنظيم الجاد الشامل.

والاقتصاد عامل خطير في الحياة وفي تأريخ الإنسان، ولا استقرار الوضع الاقتصادي في المجتمع واضطرابه التأثير البالغ في تكييف الحياة وتطويرها، وهذا ثابت لا يجادل فيه ذو لب.

ولكن المبالغة أن يدعي أن الاقتصاد هو العامل الوحيد الفريد.

القوت ضرورة لابن آدم، وتيسر السبيل لسد هذه الضرورة وتوفر الوسائل إلى الوفاء بها يخفف شطر أتعابه في الحياة، ويوفر جهوده للسعي في ميادينها الأخرى، وتهيؤ الفرصة لكل طالب وخفة المؤونة على كل عامل تضعف أسباب التزاحم وتقلل من دواعي الأحقاد.   

القوت ضرورة لابن آدم ولكن ليس هو الضرورة الوحيدة.

وكذلك حاجات الروح وحاجات القلب وحاجات العقل ضرورات لابن آدم لا بد منها ولا قرار له بدونها، ولكن ليست ضروراراته الوحيدة كذلك.

كل هذه ضرورات لابن آدم ويتعسف بل وينكر ذاته من يتوجه بالنظر إلى بعضها دون بعض ويسرف ويرتكب شططا ً من يقيم فلسفة الحياة على هذه النظرة الحائدة، ويمعن في الإسراف والإرتكاب من يحاول تنظيم علاقات الإنسان وإقامة مناهجه على هذا البناء المنهار.

والماركسية أوهن قوة عن حمل الأعباء

وفريق آخر من تلاميذ هذه الفكرة.

من الذين يؤمنون بأن الإنسان ينحدر ( أو بالأحرى يرتقي) إلى نسب حيواني عريق.

وممن يؤمنون بأنه مادي محض، ولا واقع له غير واقع المادة، ولا تأريخ له سوى تأريخ الاقتصاد، وتأريخ المأكل والملبس والمأوى وما يتصل بهذا ويتفرع عليه.

من تلاميذ هذه الفكرة وأتباعها الذين يؤمنون بها حق الإيمان يذهبون ورائها أبعد من هذا الشوط، ويعقدون عليها أكبر من هذا الأمل.

يقولون: المادة وحدها هي التي تكون التأريخ، وتسلسل أحداثه، وتعاقب أطواره، هي التي تبني الحياة وتطورها وتصرفها(عبر الدهور).

وليكن معنى قولهم هذا أن المنافع المادية وحرص الإنسان عليها, وافتتانه في وسائل الظفر بهاهي التي كونت تأريخ الإنسان وبنت حياته وسلسلت أحداثهما وعاقبت أطوارهما. ليكن هذا هو المعنى المقصود، فقد قيل في معناه إن تأريخ الإنسان وحياته ليسا سوى المادة، ليسا سوى الطعام والكسوة والمنزل وما إليها. ولا يعدم هذا القائل شاهدا ً على صحة تفسيره.

المادة وحدها، وليس العقل- كما يرى هيجل- وليس الله- كما يقول الإلهيون- وليست أية قوة أخرى منفصلة عن المادة، وليست المادة مشتركة مع قوة أخرى غير مادية، المادة وحدها بلا شريك ولا ظهير هي المصدر لكل ما هنا من شيء، والمصدر لكل ما هنا من حركة، والمصدر لكل ما يجد من أمر، والمصدر لكل ما يحدث للأشياء وللإنسان من اتجاه.

والركيزة الأولى لهذه الفلسفة: أن الحس هو المصدر الفريد للمعرفة الإنسانية فلا طريق للمعرفة الحقيقية سوى الحس، ولا مكان في الوجود لغير المشاهد المحسوس، هذا المبدأ الذي أقيمت عليه الفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر، والذي شاده الفيلسوف الفرنسي أوجست كومت(1798-1857) وتلميذه لودفيج فيورباخ (1804-1872).

وإذا لم يكن في الوجود مكان لغير المشاهد المحسوس، فلا مكان فيه (لله) ولا ( لما وراء الطبيعة) ولا لآراء تتصل بذلك أو تستمد منه.

والركيزة الثانية لهذه الفلسفة(مبدأ النقيض). المبدأ الذي استخدمه فيشته(1762-1814) في تصور الإنسان لنفسه، واستخدمه بعده هيجل (1770-1830) في رأيه عن الفكرة، وارتكزت عليه الفلسفة (العقلية) الألمانية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ثم قبسه كارل مارس (1818-1883) وعممه وأقام عليه نظريته في الكون ومذهبه في الاقتصاد والاجتماع.

ومبدأ النقيض على ما يراه ماركس: أن كل شيء يتضمن نقيضه وينطوي على سلب نفسه، وهذا التناقض يؤدي حتما ً إلى الصراع الداخلي بين المتقابلين، وإلى الحركة الذاتية في الشيء حتى يتحول إلى نقيضه، ثم يتحول الشيء ونقيضه إلى جامع لهما. ثم تبتدي دورة جديدة فإن الجامع بدوره يصبح شيئا ً ينطوي على نقيضه، ويتحول بالحركة الذاتية غليه، ويتحول هذان المتقابلان إلى جامع، وهكذا يستمر التغير، ويستمر التحول، فكل شيء في حركة، وكل شيء في تغير، وكل شيء في تقدم، وليس في الوجود شيء ثابت.

وتحول الشيء إلى نقيضه يقع تدريجا ً، وحركته الذاتية إليه حركة بطيئة، حتى يصل إلى نقطة معينة، ثم يحدث انقلاب مفاجئ سريع يتم به التحول، وهذا هو مكان   ( الثورة) حين يطبق هذا المبدأ على المجتمعات، وحين يلاحظ جريانه في مجال الاقتصاد.

كل شيء في حركة دائبة، وكل شيء في تغير مستمر، والحال المرتقبة دائما ً أسمى من الحال الحاضرة، وليس في الوجود شيء ثابت.

وإذن فلا وجود لله، لأنه- كما يقول المؤلهون- أزلي سرمدي لا يطرأ عليه التغير، ولا يتصف بالانتقال، ولا يدركه الفناء.

ولا وجود لحقائق ما وراء الطبيعة، فإن المؤمنين بها يتحدثون عنها على أنها ثابتة باقية ولو إلى حين.

ولا بقاء ولا ثبات للقيم الأخلاقية، ( ومن يعتقد بثباتها من الناس فهو مصدق بأشياء لا توجد في هذه الطبيعة) بل هي واجبة التغير والانتقال إلى النقيض كما يحدث في الأشياء الطبيعية المحسة سواء  بسواء.

وإذن فالمادة- وحدها- هي الحقيقة الموجودة، لأنها- وحدها- هي الشيء المحسوس، ولا وجود لغيرها إلا أن يكون مخلوقا ً لها أو ظاهرة من ظواهرها. وحتى الفكرة فإنما هي أثر من آثار المادة، والآراء والمعتقدات والقوانين والتقاليد إنما هي انعكاسات للحياة المادية. ومن حيث أن الفكر ذاته جزء من الطبيعة ونتاج أعلى لها، ومن حيث أن تنائجه كلها إنما هي انعكاسات للمادة، من حيث هذا وذاك وجب أن تخضع الآراء والأفكار والحياة العقلية كلها لقانون النقيض.

وأخيرا ً فالديالكتيك- كما يقول ستالين- يعتبر الطبيعة كلا واحدا ً متماسكا ً ترتبط فيه الأشياء والحوادث فيما بينها ارتباطا ً عضويا ً، ويتعلق أحدها بالآخر ويكون بعضها شرطا ً لبعض بصورة متقابلة(1) فإذا أراد أحد أن يدرس شيئا ً من أشياء الطبيعة أو حادثا ً من حوادثها على الطريقة الديالكتيك فلا بد وأن ينظر إليه بما هو مجمع لهذه الروابط وملتقى لهذه الإضافات. ويبتعد عن هذه الطريقة إذا نظر إلى الشيء مفصولاً عن كله، معزولا ً عن شروطه وظروفه.

هذه هي الخطوط المهمة التي تأتلف منها فلسفة ماركس.

فهي مادية وضعية، تعتبر أن الطبيعة هي الواقع الموضوعي لكل شيء، ولاحظ من الواقع لسواها.

الطبيعة على إطلاقها، في أي مجال وفي أي اتجاه.

فإذا حاول أن يطبق نظريته هذه على واقع الحياة، وإذا أراد أن يقيم عليها مذهبه في الاجتماع تقلصت دائرة المادة وتضامنت أطرافها وتقاربت أبعادها، وانحصرت في الاقتصاد.

في القوت والكسوة والمأوى.

في المال الذي تسد به هذه الفاقات، والعمل والأدوات التي تنتج المال، والعلاقات التي تكون بين القوى المنتجة وأرباب المال.

في المعدة ومقدماتها ونتائجها.

وقد قالوا في تلخيص هذا المذهب: ( إن الحاجة إلى الطعام والشراب والوقود والملبس والمأوى هي أول الضرورات التي يواجهها الإنسان. وهو لا يستطيع السعي وراء

السياسات والعلوم والأديان والفنون ما لم يسد لنفسه تلك الفاقات).

( فلا بد له من الطعام والشراب والوقود والملبس والمأوى لكي يعيش).

( ولا بد له من العمل لكي يحصل على هذه الأشياء).

(1) المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ص6.

ومهما توغلنا في أعماق التأريخ فإننا واجدون أدوات صنعها الإنسان واستعملها لهذه الغاية، لسد هذه الضرورة).

( ومن أدوات الإنتاج هذه والناس الذين يصنوعنها ويستعملونها في مجالاتها تتألف القوى المنتجة في المجتمع البشري. وليكن هذا هو مرادنا حين نطلق هذه الكلمة).

( والناس منذ قديم عصورهم إنما يقومون بالإنتاج بصورة مشتركة، وهذا يشهد بالطبيعة الإجتماعية للإنتاج. ومهما توغلنا في أعماق التأريخ كذلك فإننا واجدون آثارا ً تدل على صحة هذه الطبيعة وثبوتها لنوع الإنسان).

وطبيعي أن يدخل الناس أثناء الإنتاج الاجتماعي في علاقات إنتاجية.

علاقات تعاون وتبادل، أو علاقات استعباد وتبعية.

ومن هذه العلاقات الإنتاجية بين الناس، والقوى المنتجة تتألف طريقة الإنتاج. وليكن هذا هو مرادنا حين نطلق هذه الكلمة. وطريقة الإنتاج في الحياة المادية هي التي تقرر أساليب الحياة الاجتماعية والسياسية والروحية. والتغيرات التي تقع في طريقة الإنتاج تؤدي إلى تغيرات أوسع في هذه النواحي. ولكي نفهم ما هية تأريخ المجتمع البشري يكون من الضروري لنا دراسة تأريخ الإنتاج والتغيرات التي طرأت على أساليبه. فالتأريخ هو تأريخ تقدم القوى المنتجة وتأريخ علاقات الناس الإنتاجية.

والتغيرات في الإنتاج تبدأ بتغيرات في القوى المنتجة، وخاصة في أدوات الإنتاج، وبتبع هذه التغيرات في القوى المنتجة تنشأ التغيرات في علاقات الإنتاج. وعلاقات الإنتاج هذه تقوم بدورها فتؤثر في تطور القوى المنتجة، فإذا توافقت القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج في الخطى وسارتا سيرا ً متوازنا ً استقرت الجماعة، وأن تخالفتا حدث التصادم. وانتهى الأمر بالثورة وانهيار المجتمع القائم، وتغير أساليب الحياة الأخرى(1).  

والأطوار التي مر بها تأريخ الإنسان هي:

1- الشيوعية البدائية حيث كانت المرافق والضرورات مشاعة بين الجميع.

(1) منقول بتصرف عن محاضرات بعض الأساتذة العراقيين من أتباع هذا المذهب.

2- السادة والأرقاء أو عبودية القطيع وهو الدور الذي ظهرت فيه المعادن المصنوعة وزراعة الأرض وتدجين الحيوان والنبات.

3- الإقطاع.

4- رأس المال الأول.

5- رأس المال الأخير في عهد الصناعات الكبرى.

6- الشيوعية الأخيرة وهو الدور الذي يكون المجتمع فيه طبقة واحدة، ويستولي على المجتمع نظام واحد، ويوزع المال فيه توزيعا ً شاملا ً عادلا ً، فمن كل أحد حسب قدرته إلى كل أحد حسب حاجته، فلا استغلال ولا سيطرة ولا استئثار ولا دولة ولا حروب.

وتسلسل هذه الأطوار الاجتماعية، وقيام حرب الطبقات في كل طور منها ثم انهياره أخيرا ً وتحوله إلى نقيضه، كل هذا نتيجة حتمية- على ما يرون- للتفسير المادي وانطباق مبدأ النقيض.

هكذا تأتي النتائج متسلسلة مطردة في رأي هذا الفريق، يأخذ بعضها برقاب بعض، ولا بد للإنسان في شيء من ذلك، ولا حيلة له في تغيير شيء منه، إنها المجتمعات تخضع للمادة ولقوانينها الصارمة فلا ينقض ما أبرمت ولا يؤخر ما قدمت، وتأتي الآراء وتأتي الأفكار وتأتي العلوم وتأتي الفنون، وتأتي الأنظمة وتأتي الحياة العقلية كلها بعد ذلك منقادة طيعة عاكسة للواقع الموجود، للحياة الاجتماعية الراهنة.

هكذا يقولون.

ويقف الباحث الناقد الحر على هذا الركام من الدعاوى لا يدري:

أهي فلسفة تتبع الدقة في تركيزها وتتبع الدقة كذلك في عرضها وتطبيقها لتنقد كما تنقد الفلسفات وتمتحن كما تمتحن الآراء والأفكار؟.

أهي نظرية علمية تقتبس من التجربة، وترتكز على المشاهدة، فيحك جوهرها كما تحك المعادن ويختبر صدقها وثباتها كما تختبر نظريات العلم؟.

أهي أحلام وآمال نفسية كبتها الواقع في الحاضر فاندفعت إلى الخيال في المستقبل لينظر فيها من ينظر في الأحلام والآلام؟.

أم هي فلسفة تسويغ وتبرير، فلسفة من يختط له خطة يمليها عليه هواه، ثم يندفع في زحمة الفلسفات والآراء يلتقط ما يوائم خطته من النظريات وما يوافقها من الشواهد؟ ولعلها فلسفة تعتمد على الموازنات الدقيقة في النشأة والعرض والتطبيق. نعم. وكذلك يرغب أتباعها ومؤيدوها أن تكون.

وإذن فلماذا تنكر أن يكون للمعرفة طريق غير الحس والتجربة؟ وهل من الممكن أن تقوم فلسفة ما على هذين وحدهما؟ وحتى إذا كانت تعالج ناحية مادية خالصة؟.

إن الإحساس لا يعدو أن يكون تصوير للشيء المحسوس، وأن التجربة- في كثير من مواردها- لا تتجاوز أن تكون تكرارا ً لهذا التصوير، ومقارنة بين ملامح الصور. أما مطابقة الصورة لواقع الشيء ولصفاته الحقيقية فهي محتاجة إلى مصدر آخر هو أوثق لدى العقل من الحس ومن التجربة. وأما التجريد والتعميم واستنباط حكم عام شامل من الموارد الخاصة التي أدركها الحس ووقعت عليه التجربة فهو مفتقر إلى عملية عقلية خالصة، وتدخل قوانين ضرورية لا شك فيها إنسان ولا تفتقر إلى إثبات.

وقاعدة (إن التجربة مصدر للمعرفة الحقيقية)، هذه القاعدة التي غلا فيها التجريبيون فأنكروا أن يكون للمعرفة طريق سواها، ثم أمعن الوضعيون منهم في الغلو فأنكروا أي شيء لا يناله الحس، وأي حقيقة لا تخضع للتجربة. أقول وهذه القاعدة ذاتها، أليس من حق الناقد أن يسأل عن طريق إثبات للإنسان؟.

أهي التجربة ذاتها؟.

إن الشيء لا يثبت نفسه.

وإذن فلا محيد لهم من الاعتراف بأنها ضرورية لا تفتقر إلى إثبات. ولا محيد لهم من الاعتراف بأن الإنسان يملك ضروريات أولية يرجع إليها في إنشاء معرفته..

والعلم الحديث لما اعتمد- ما استطاع- على الحس والتجربة حتى سمي من أجل ذلك تجريبيا، ولما أصاب- على أثر هذا التركيز- نتائجه الحميدة، وسار أشواطه المباركة، أتراه أنكر ما سوى الحس والتجربة من طرق المعرفة؟.

الحق إنها فرية أثيمة على العلم أن ينسب إليه ذلك، والحق أن العلم ( العلم التجريبي الحديث) طالما اكتشف وجود شيء بدلالة آثاره، وطالما وجد ظاهرة من الظواهر، فاستخدم القوانين التي تحكمها واستدل بذلك على الحقيقة التي تستتبعها، وطريقة هذه معروفة في علم الفلك، وفي أبحاث الذرة، والعلماء التجريبيون يعترفون بذلك ولا يجحدونه. وانظر إن شئت موضوع ( درس من شجيرة الورد) للعالم الطبيعي الفيلسوف ( ماريت ستانلي كونجدن) ص18 من كتاب ( الله يتجلى في عصر العلم) واقرأ اعترافات العلماء الآخرين الذين ساهموا في هذا الكتاب القيم.

والماديون التجريبيون أنفسهم لا يستطيعون أن يقفوا بالمعرفة على حدود الحس والتجربة، وهم يهدمون أساس فلسفتهم متى زعموا ذلك.

يقولون المادة وحدها هي الحقيقة المحسوسة، وهي الشيء الذي تناله التجربة. فماذا يدركه الإحساس من المادة؟ وما تناله التجربة؟.

اللون، الضوء، الشكل، الأبعاد، الكتلة، الحجم، الرائحة، الطعم، الصوت، أليست هذه كلها صفات وظواهر؟.

والمادة؟.

هي موصوف هذه الصفات، ومعروض هذه الأعراض. فأين موضعه من الحس، واين موقعه من التجربة؟.

وقد فلق العلماء الذرة، وحولوا المادة إلى طاقة، ثم حولوا الطاقة إلى مادة، فما يعني ذلك؟ أيعني أن المادة طاقة متجمعة متكاثفة؟.

وإذن فهي غير محسوسة، ومجال الحس والتجربة إنما هو ظواهرها وآثارها. وإذا انطلقنا مع الخيال الوضعي إلى آخر حدوده فهي غير حقيقية ولا موجودة. والحقيقي الموجود إنما هو ظواهرها!!.

ثم ماذا؟.

لتنحصر مصادر معرفتنا بالحس والتجربة فلا سبيل لنا إلى معرفة الأشياء غير هذين أفيخولنا ذلك أن تحصر حقائق الوجود ضمن هذه الدائرة، فننكر ما لا يصل إليه حسنا ولا تبلغه تجاربنا؟. وهل يعد هذا من المنطق الذي تقوم عليه الفلسفات وتبتني عليه المذاهب؟!.

ومبدأ النقيض الذي قالوا فيه إنه قانون طبيعي عام تخضع له جميع الأشياء، حتى المجتمعات وحتى القيم والآراء، وإنه السبب الداخلي الذي يدفع بالمادة إلى الحركة ويدفع بها إلى التطور. ولنغض عن تحديد معنى النقيض هذا الذي أجازوا بل حتموا أن يجتمع مع نقيضه. ولكن من الحق أن نسأل عن واقعه.

كل شيء يحمل نقيضه، فما حقيقة هذا النقيض المحمول؟.

أهو قوة تحملها مادة الشيء الموجود بالفعل؟.

لعله كذلك، وهذا هو الذي يتفق مع الحركة بمعناها المعقول. إلا أنه لا يتفق مع الحركة الذاتية التي يريدها الديالكتيك، ولا مع الغاية التي يبتغيها الماركسيون، ولا مع القاعدة التي يقيمون عليها فلسفتهم.

إن القوة لا تستطيع بذاتها دفع الفعلية التي تناقضها، لأنها أضعف منها، ولاتستطيع تحريكها أبدا ً ولو حركة بطيئة. فهي من أجل ذلك مفتقرة إلى محرك من خارج ذاتها، من خارج المادة.

ومعنى ذلك أنه لا صراع ولا حركة ذاتية داخل المادة. وأن الواقع الموضوعي لا ينحصر في المادة وحدها. وأخيرا ً فالمادة مفتقرة إلى محرك من خارج ذاتها، مفتقرة إلى علة مما وراء الطبيعة، مفتقرة إلى إله. وهذا ما لا يستطيع أن يتصوره الماديون.

وإذا لم يكن النقيض قوة تحملها مادة الشيء، أفيكون فعلية أخرى لها، بحيث تكون المادة الواحدة حاملة لفعليتين كاملتين؟ ولنسكت براهين أقامتها فلسفة ما وراء الطبيعة على استحالة هذا الاجتماع.

إن المادة الواحدة يمتنع أن تحمل فعليتين، لأنها لا تقدر أن تحمل وجودين. هكذا تقول هذه الفلسفة، وتدعم قولها ببراهين عديدة.

ولكن ما شأننا وذلك؟ لنضمن مع الديالكتيك إلى آخر الشوط. لنقل أن احتماع فعليتين في مادة واحدة هو معنى اجتماع النقيضين الذي سلمناه من قبل، فما وراء ذلك؟.

وراء ذلك ألا يكون أحد النقيضين أولى بالمادة من صاحبه فلا يستحق أن يكون هو الأصل والثاني هو النقيض، وأن لا يكون التالي أرفع قيمة من الأول إذا صح بينهما هذا الترتيب. ووراء ذلك أن يتدافع النقيضان بقوة متكافئة فتخمد الحركة ويبطل التطور، أو تكون الحرب بينهما سجالا ً، ويوكل أمر النصر فيها إلى الظروف والمصادفات. وعلى أي حال فلا تصبح الحركة قانوناً طبيعياً مطرداً،  ولا تكون الغاية التي ينشدونها من وراء هذا القانون غاية مضمونة.

ولم يبق إلا أن نعتبر النقيضين فعليتين تقتسمان المادة، فيختص الشيء ببعض أجزائها، ويختص النقيض ببعضها الآخر. وهذا الاختصاص لا يمنع من أن تكون بين الأجزاء علاقات طبيعة تثبت الوحدة وتسبب التفاعل، وتحدد مجال الحركة، وتمهد سبيل التطور. نعم وهذه هي الصفات الظاهرة للطبقات في المجتمع الإنساني، وهو- كما نعلم- الموضوع الأول للفلسفة الماركسية، والطبقات هي النقائض فيه فلنتصورها كذلك في الأشياء الطبيعية الخرى.

ولابد من أن نفترض أن الشيء يختص بالنصيب الأوفر من أجزاء المادة ليكون حرياً بأن تعرف المادة باسمه، ويصح وصفه بأنه الأصل وتسمية صاحبه بالنقيض.

لابد من هذا الفرض، لأن النقيضين لو تقاسما المادة على سواء لتكافأت نسبة المادة إليهما ولم يصح أن يعتبر أحدهما المعين هو الأصل. ولتكافأت فيهما قوة الدفع، ونتيجة ذلك وقوف الحركة، وبطلان التطور.

وإذا اختص الشيء بالنصيب الأوفر من المادة، اختص دون ريبة بالنصيب الأوفر من الطاقة، وكانت حركته تقدم وانتصار دائماً، وكانت حركة نقيضه حركة تراجع واندحار دائماً، ذلك أن الحركة الطبيعية في الأشياء تتبع مبلغ رصيدها من الطاقة. وهي لاتعرف مبدأ غير هذا المبدأ. وعلى أي حال فلن يصل اليوم الذي يتحول فيه الشيء إلى نقيضه، ولن يتحقق الأمل الديالكتيكي المزعوم إلا أن يطرأ ما ليس بالحسبان، والمصادفات والطوارئ لا تدخل تحت قياس، ولا تقرر بلحاظها قاعدة.

وهكذا يستبين أن الحركة الديالكتيكة لا يمكن أن تتحقق في فرض من الفروض، وأن الحركة التطورية المتصورة في الأشياء لا تصدر دون محرك من خارج ذاتها. وهكذا يستبين أن الماركسية ليست فلسفة يتطلب فيها ما يتطلب في الفلسفات من دقة الملاحظة وثبات الركائز واستقامة المنهج.

وإذا لم تكن فلسفة أفتكون نظرية علمية؟.

الحق أن نظريات العلم أصبحت تبتغي من الدقة وثبات الركائز أكثر مما تبتغيه أفكار الفلاسفة. والعلم إنما اعتمد- ما استطاع- على الحس والتجربة تنفيذاَ لهذه الخطة.

ومن الخلط بين مجال العلم ومجال الفلسفة أن يطلب أحد ما وراء المادة بمقاييس المادة، ونتيجة هذا الخلط محتومة معلومة، ثم من الغلو المضاعف أن ينكر أي حقيقة لا تبلغها هذه الأدوات ولو ارتكب هذا الصنع باسم غير العلم وغير الفلسفة لعده الناس محاولة مضحكة تشبه محاولة الأبله الذي يجهد أن يحس الطعوم ببصره ويدرك الألوان أو الروائح بسمعه.

والعلم لا ينفي ما لا يشاهد ولا يجرب، ولا يتقول أحد ذلك على العلم لأنه لن يتمكن أن يقيم على هذه الدعوى دليلاً من حس أو تجربة. وقصارى ما في الأمر أن العلم لا يبحث فيه لأنه خارج عن ميادينه، عصي على أدواته، وقد اعترف عدد كبير من العلماء التجريبيين بثبوت ما وراء الطبيعة وآمن بوجود الله.

ومبدأ النقيض، أيقف لتجارب العلم؟.

وما هو المجال الحقيقي لهذا المبدأ حتى ينظر في انطباقه عليه أو انتقاضه فيه؟.

أبسائط المادة أم مركباتها؟.

أم حتى بسائط هذه البسائط؟.

ماذا حدث في دقائق الأثير حتى تكونت منها عناصر المادة؟.

أحركة ديالكتيكية، فكل بسيطة منها تحمل نقيضها وتتحول إليه؟.

إذن فلماذا لم تتحول جميع دقائق الأثيرإلى المادة وهي مشتركة في هذا السر؟ ونتيجة ذلك أن يغص الفضاء بالمادة وتبطل الأشياء!!.

وما حدث في بسائط المادة حتى تسلسلت أعدادها، وأنافت على المائة في جداول العلماء؟.

أحركة ديالكتيكية أيضاً؟.

إذن فلماذا لم تتحول جميع ذرات هذه العناصر إلى أشدها تعقيداً، إلى العنصر الأخير؟.

وما حدث في بسائط المادة أيضاً حتى تكونت منها مركباتها؟.

أحركة ديالكتيكية كذلك؟.

إذن فلما تتجه كلها اتجاهاً واحداً إلى هدف واحد، فإن ذلك هو السبيل المعين المحدد للأشياء إذا كانت حركتها ديالكتيكية ذاتية.

وحتى مثال الماء الذي ذكره مؤسسوا ديالكتيكية، واستشهدوا به لواقعية مذهبهم، ماذا حدث للماء حتى تحول إلى بخاراً أو جليداً؟.

أحركة ديالكتيكية كما يرون؟.

إذاً فلماذا لم تنقلب جميع ذرات الماء إلى أحد هذين النقيضين؟.

ولماذا يفتقر في تحوله إليها إلى حرارة أو برودة، أليست الحركة ذاتية كما يزعمون؟.

وإذا تحول البخار أو الجليد ماءً وعاد الماء سيرته الأولى، فأي الحركات هذه هي الحركة التقدمية؟ وأي الحالات هذه هي الحال الثانية التي هي دائماً أفضل من الحالة الأولى كما يقولون؟.

وأخيراً المجتمع الإنساني- وهو الذي حيكت من أجله هذه الحبالة- يقولون إن الحركة ديالكتيكية هي التي خططت أدواره في التأريخ وحددت مجراه في الحياة، فلماذا يقف هذا القانون الطبيعي العام عن العمل إذا قام المجتمع الشيوعي الموعود، فلا نقائض ولا ديالكتيكية ولا تغير ولا تطور؟.

وإذن فليست الماركسية فلسفة وليست نظرية علمية وإن أصر مؤسسها وأتباعهم على نعتها بهذه النعوت، وسموا المذهب الاقتصادي القائم عليها بالإشتراكية العلمية. ولم يبق إلا أن تكون حلماً مكبوتاً يروم التنفيس، أو خطة ملتوية تنشد المسوغات والمبررات.

والمذهب الإجتماعي أو الاقتصادي القائم على هذه الأسس أيمكن أن يكون أكثر واقعية منها؟ والمحاكمة التفصيلية لهما تطلب منا حين نبحث عن الاجتماع أو الإقتصاد في الإسلام.

القوت والملبس والمأوى أول الضرورات التي يواجهها ابن آدم.

ويلاحظ أن الإلتواء يبدأ من هذا التعبير، فهم يتحدثون عن نوع الإنسان لأن الفرد في نظرهم مطموس الحدود ملغي الإعتبار وواضح أن أول ضرورات النوع هي حاجة الجنس، ولكن ما قيمة هذه المناقشات؟ فلنفترض صدق ما يقولون.

القوت والملبس والمأوى أول ضرورات ابن آدم. نعم وقد قلنا من قبل أن القوت ضرورة وسنقوله فيما بعد وسيقوله كل أحد ولا يرتاب فيه. فما نتيجة ذلك؟.

ونداءات الجسد الأخرى؟ ونداءات الروح؟ ونداء النفس؟ أليست كلها فاقات يضطر الإنسان إلى إجابتها ولا قرار له بدونها؟ وإذا كانت كذلك أفلا تستوجب أن تعد عاملاً في حياته وفي تأريخه؟.

ونداءات الفطرة، نداءات العقل الفطري؟ أليس من الضروري أن تجاب؟.

لقد قالوا: أن العقل والآراء والمذاهب والسياسات والأنظمة انعكاسات للواقع الإقتصادي الموجود، فهل يمكن تصديق ما يقولون؟ وهل يؤمنون هم بصدق ما قالوا؟.

إن آراء ماركس ذاتها تهزأ من هذا القول وتعلن فساده، ومن المستحيل أن يدعي أحد من أتباع ماركس أن مذهبه يعكس الحياة القائمة في زمانه، إذن فلماذا كان ثائراً ناقماًَ؟!.

والأتباع الذين تبنوا هذا المذهب فيما بعد، وعملوا على تطبيقه ودأبوا في الدعوة إليه، هل قبسوه من واقع الحياة في زمانهم؟ إذن فبم كانوا يجهدون؟!

وطالما تعاصرت الآراء والمذاهب المتناقضة المتطاردة، بل وطالما تواطنت، فأي هذه تصح فيه الدعوى؟.

وقانون النقيض، والحركة ديالكتيكية، هل يطبقهما ماركس وأتباعه على مذهبهم ذاته فيؤمنون بأنه يحمل نقيضه في أطوائه، وبأنه سينهار آخر الأمر ويتحول إلى النقيض؟. وسواء آمنوا بانطباق هذا القانون على المذهب أم قالوا باسثنائه منه، فإنهم سيضطرون إلى إبطال المذهب، إما لانهياره بالحركة ديالكتيكية، وإما لانهيار قاعدة النقيض التي يقوم عليها.

ومبدأ النقيض هل يشمل نفسه فينطوي على نقيضه ويتحرك حتى يتحول إليه أم هو مبدأ  قارّ ثابت لا حركة فيه ولا تطور، هذه أسئلة لابد للماركسيين من الإجابة عليها، وبأي قالوا فإنهم يأتون مذهبهم من القواعد!!.

لن يتأسس المجتمع على العدل الحقيقي إلا بالدين

وجد الإنسان الأول، فكان الحجر الأول لبناء المجتمع الأول، وكان النواة الحية لنبات الأسرة الأولى، والمجتمع في بدء أمره أسرة، والأسرة  في أول تكوينها فرد، ولئن كانت نشأة المجتمع متأخرة عن نشأة الفرد في التأريخ, فإن الركائز الإجتماعية قرينة للفرد في الميلاد. ومتى كان المرء ولم تكن له هذه الغرائز تضطره إلى النوع, وهذه الحاجات التي تلجئه إلى الإلتفاف والإنضمام؟.

والإجتماع- حسب مقررات علم النفس- غريزة من غرائز المرء المكينة فيه, الثابته لعامة أفراده, اللا زمة له في جميع أدواره, وللإنسان – غير هذه – مجموعة من الغرائز الإجتماعية, تتآزر على لف المجتمع وشد أركانه وحفظ كيانه, وعلى ذلك أسس الفرع الإجتماعي من علم النفس, وأقيمت أصوله وقررت مناهجه ونبغ المتخصصون فيه.

بلى. وأكثر غرائز البشري دوافع تفرض عليه الإجتماع, وأغلب ضروراته حوافز تسوقه إليه, حتى مقومات خلقه, وحتى خصائص تركيبه.

لماذا منحه الله قدرة الكلام وطاقة التأثير وقوة الفهم وملكة التفهيم إذا لم يكن اجتماعياً بالطبع؟.

وجد الإنسان الأول ووجدت معه علاقة الإنسان بالإنسان, وصلة الفرد بالأمة, ورابطة الأمة بالأمم والجيل بالأجيال. حلقات من الأواصر متشابكة متماسكة كالدرع المحكمة السرد المتداخلة الزرد.

وجدت هذه العلاقات كلها مع وجود الإنسان في أسبق أيامه وفي أقدم حالاته، وإن كان ضعيف الشعور بها يوم كان لا ينطلق فكره أبعد مما ينطلق حسه.

ومر الإنسان وروابطه هذه المكينة في غرائزه البعيدة عن إحساسه، يعززها من داخله بالنمو، ويدعمها من خارجه بالتوثيق والأحكام.

ومرت هي معه في تأريخه الطويل تتمدد وتعمق آثارها وتنداح أقطارها كلما امتد نظر المرء في العواقب واتسع أفقه في التفكير فأبصر وجوهاً جديدة من الحاجة، وكشف ألواناً خفية من المصلحة.

الإجتماع للإنسان فطرة وضرورة، وقد أصبح الحديث عن ذلك فجاً وعدت إقامة البينة لإثبات ذلك إسفافاً، ومن الذي يرتاب في ذلك من الناس؟ ومن الذي يفتقر في إثباته إلى بينة وإلى إطالة واستقصاء في الحديث؟.

وتثبيت المجتمع وضبط قواعده وضمان سلامته تستدعي أن تقرر لأفراده حقوق متبادلة وأن توازن هذه الحقوق بتبعات متعادلة.

حقوق تصون بها الصلات أن ترث، وتبعات تعادل بها الكفة أن تميل، وأي أثر للصلة إذا هي لم تستتبع حقاً؟ وأي نصف في تشريع الحق إذا لم يوازن بتبعة؟.

والمرء أثر شحيح بجبلته، ذلك أن غرائز هذا الكائن لا تقتنع بالقدرة الذي تستحق، فهي تلح أبداً وتلحف، وتهيب بالمرء حتى يستجيب، فإذا استجاب لها أول مرة كان ذلك سبباً لسعارها وتزايد إلحاحها، وهي تغلو أبداً إذا كان من شأنها أن تأخذ، وتقتر أو تمنع إذا كان من الحق أن تعطي.

المرء أثر شحيح إذا ترك لغرائزه الدنيا ولرغباته الضارية، والأثر والشح لا يعترفان بحق ولا يلتزمان بتبعة.

ووفرة من طباع الناس وخلائفهم المكتسبة أو الموروثة. وأطوارهم في هذه الحياة، ومنازلهم المتفاوتة فيها تحبب إليهم الميل أو النشوز عما يجب وعما يحسن.

فكان من ضرورات المجتمع أن يعد له نظام عتيد، يقرر فيه الحقوق، ويضبط منه الحدود، ويشد العلاقات ويقسم الواجبات، وكان من ضروراته أن يكون لنظامه هذا وازع يمكن له نفوس الأفراد، وازع داخلي في كل نفس نفس، وحارس يقظ على كل فرد فرد يرصده إذا أمن الرقيب، ويقومه إذا أزاغته الأثرة، ويفل من طغيانه إذا جمحت به القوة أو نزت به الشهوة.

ضروري للمجتمع أن يكون له نظام ثابت مطرد، يقيم الاجتماع على أسس العدل، ويركزه على مبدأ المساوات، ويطهره من رجس الظلم ومن دنس الإستئثار، يقيمه على العدل الكامل في كل وجهة منه وعلى المساوات الحقيقية في كل منحى من مناحيه، وضروري له كذلك أن تكون لهذا القانون قوة عاملة حازمة تفرض احترامه وتتولى تنفيذه وتدأب في رعايته والتمهيد له حتى تصله بأعمق دخائل النفس وتوصله إلى أبعد جذورها.

وما قيمة قانون اجتماعي لم تكن له هذه الميزة؟.

وكيف يحقق غايته الاجتماعية المطلوبة إذا لم يكن له هذا النفوذ؟.

ثم أي نظام تجتمع له هاتان الخاصتان غير الدين؟ وبأي سلطان يكون له مثل هذا النفوذ غير سلطانه؟.

ولن تصلح المجموعة البشرية بدونه

والبشرية في متسع أقطارها، وفي متباين لغاتها ومختلف ألوانها، بل وفي متعاقب أجيالها ومترامي أزمانها، هذه البشرية حيثما امتدت حدودها واتسعت دائرتها مجتمع واحد، يشده ما يشد المجتمع المحلي من صلات، ويسنده ما يسند هذا من دوافع، ويقتضي له ما يقتضي لهذا من نظم وحدود.

مجتمع واحد يلف أقصاه بأقصاه نسب عريق، وتصله به آصرة مستحكمة ووحدة مكينة متينة.

نسب البشرية قبل أي نسب، ووحدة المصدر والمجرى والمبتغى فوق كل وحدة.

أجل. فهذه السيول المتدفعة من البشر تتفجر كلها من ينبوع واحد، ثم تتدفق في مسيل واحد إلى مصب واحد.

والغاية التي فطرت من أجلها هذه الخليقة، وشحنت بها أكناف الأرض، وملئت بها مناكب الزمان، إنها غاية واحدة كذلك.

والعواطف التي تعقد الواحد بنوعه وتعنيه بحفظه بل وتفنيه في حدوده، والغرائز التي تعزز فيه هذا النزوع وتمكن لهذه الأغراض، إنها ركائز المجتمع العام في نفوس الأفراد.

واتسع الفكر بالإنسان الحديث، وتنوعت- بطموحه- مطاليب الحياة، وكثرت- بشرهه- ضروراتها، واحس بحاجة للمزيد في الثقافة وأحس بحاجة للتعاون في الصناعة، وأحس بحاجة ااتبادل في مقتضيات العيش، وفي واجبات المدنية، وأحس بضرورة التفاهم مع سائر الأمم، والإفادة من تجاربهم والاقتباس من علومهم وسياستهم، واحس بأن هذه الضرورات تقتضيه أن يتصل. وأن يحكم الصلة، فارتبط في المعرفة، وارتبط في الصناعة، وارتبط في الفن، وارتبط في الاقتصاد، وارتبط في السياسة، وارتبط في الحماية.

وحاول بعد ذلك ان يرتقي بروابطه هذه إلى وحدة، فوحد بين شعوب واندماج بين دول، ولعله سيتبين الغاية التي من أجلها خلق فتتسع الصلة وتعم الوحدة وتفني الحدود. ولعل الوازع الخلقي سيستيقظ إذا اندمجت الوحدات وتوحدت المصالح. لعله يستيقظ يومه ذلك فيطبع البشرية مجتمعة بطابع كريم، ويرتفع بها عن حضيض أوشكت أن تتردى فيه.

البشرية أينما قطنت شعوبها من بقاع هذه الأرض، وأنى وجدت من آماد هذا الزمان مجتمع واحد لا تعدد فيه.

والقانون الذي يقوم عليه هذا  المجتمع ويتكفل بأحكام وحدته وتهذيب آحاده لابد وأن يكون منتزعاً من صميم الحياة لهذا الإنسان، ومن المقومات الأصيلة لطباعه والأسس الذاتية لسلوكه ومن مختلف حاجاته وضروراته، ومن الصلات العميقة التي تصل أفراده بعضهم ببعض، ومن الملابسات الضرورية التي تطرأ على هذه الروابط فتنقضها، أو تضاعف من إبرامها، ثم من الملاحظات المستقصية لجميع هذه النواحي والموازنات العادلة بين مقتضياتها.

هذه هي الأصول العامة الثابتة التي لا يتصور أن يطرأ عليها تغير في بيئة ولا تحول في وقت، والقانون المرتكز عليها هو القانون الذي يقيم الإنسانية على أثبت الأسس وأقوى الدعائم، والسلوك القائم عليها هو السلوك الذي يرقى بالمجموعة إلى أبعد الغايات ويربط بين أجزائها بأوثق الصلات.

والمنظمة البشرية- كما قلنا من قبل- جزء صغير من المنظمة الكونية، يحكمها ما يحكم هذه من سنن وينفذ فيها ما ينفذ في هذه من أحكام.

واللازم الصريح لذلك أن نظام الاجتماع البشري يجب أن يكون امتداداً للنظام الكوني العام، واقتباساً من قواعده واعتماداً على أصوله.

يجب أن يكون كذلك لئلا تتناقض الأنظمة وتتخالف الاتجاهات في المنظمة الواحدة الكبرى.

وبعد فإن الإنسان خاضع في طبيعته وفي تكوينه، وفي نموه وحياته وفي كل طاقة من طاقات نفسه  وكل جزء من أجزاء جسمه للنظام الكوني العام ،فاتباع قانون إجتماعي لا يشتق من ذلك النظام ولا ينهض على أصوله يؤدي إلى القلق الدائم في نفس هذا الكائن،والتهافت البالغ في سلوكه ، والإنهيار الشديد في شخصيته .وأخيراً إلى الإنحلال في المجموعة البشرية للإنحلال البادي في نفوس أفرادها.

فهل يستطيع الإنسان أن يقوم بهذا التشريع؟ وهل يملك غير الدين أن يفي للبشرية بذلك؟.

هذا سؤال أجبنا عنه فيما مر، وسنوضح الجواب فيما يأتي.

ولن تضمن لها وحدة بسواه

وابن آدم مخلوق كثير الأهواء، عارم الرغبات، ومما يعاب به أنه ضعيف الإرادة  تجاه رغباته، قصير النظرة أمام أهوائه. وأنه لهذه النظرة العجلى قد يؤثر لذة أو منفعة صغيرة لكنها عاجلة، على أخرى كبيرة مضاعفة لأنها آجلة. وقد يستحب غاية محدودة موقوتة تمس حدود القريبة على غاية لا حد لها ولا مدى لأنها تخص حدوده العليا.

وقد نعى القرآن الكريم عليه هذا الإستعجال المعيب، وهذا الإنحدار مع الهوى، وقد نعى عليه أن يحتبس فكره في نطاق رغائبه ومشتهياته، حتى إذا رام الفكر أن يعمل وأن ينشط ولم يجد متنفساً وراء هذا المضيق.

وآصرة النوع ونسبه العريق، ووحدته في الظعن والمقيل، وفي المصدر والمورد، كل أولئك أمور يبعدها هذا الكائن عن تفكيره كل الإبعاد حين تتزاحم في نظره الغايات، ومناط التقديم لديه أن تدنو لغاية من ذاته، ومن لحمه ودمه على الخصوص عند كثير من الأفراد.

وحتى العواطف الغيرية التي تعصف به من داخل كيانه، وركائز النوع التي تعمل عملها في أعماق نفسه. إنها لا تستطيع أن توجهه إلى مجموعة النوع ما دام متقلب الهوى، محدود الفكرة.

بوسعه أن يلتجئ إلى مجتمع صغير يقترب من حدوده، فيلبي من نفسه دعاء الغيرية ويشبع سعار الأنانية. وقديماً صنع الإنسان ذلك، ولبى به نوازعه وواءم فيه بين حاجاته، واستمساكه بحدود الأسرة والقبيلة معروف منه في أدوار التاريخ. ولقوة الوحدة الاجتماعية وضعفها أثر محسوس في بناء المجتمع وفي سلوك أفراده.

وإذن فبالمجتمع البشري فاقة إلى ما يجدد وحدته ويحكم أسه ويشد بناءه.

إلى ما يكون له وحدة جلية قوية تشعر بها نفوس العامة من الناس حتى يطيب لها الفناء في حدودها. والتضحية في سبيلها.

إلى ما يثبت للفرد أن صوالحه المشروعة لن تفوت في ظلاله، وأن ما يؤثر به مجتمعه من شيء سيعود إليه مضاعف العدد موفور الجزاء.

إلى دين ينشئ المجتمع كله على الشعور بالأخوة، ويقيمه على مبادلة الحب، والتعاون على البر والتواصي بالحق.

أجل. بالمجتمع البشري فاقة إلى دين، فإن الروابط التي يذكرها العلماء الاجتماعيون لا تتعهد له بهذه الغاية.

وهذه الوحدة التي تلف المجتمع البشري من ألفه إلى يائه  حين يستمسك بالدين وتحكم أسه، وتبرم علائقه وتحفظها عن الوهن وتكلأها عن الطوارئ. هذه الوحدة المتينة لا يفرضها الدين على المجتمع فرضاً من خارج ذاته، بل يستنبطها له من داخل حدوده، من طبيعة معلوليته في وجوده. أليس كل فرد من أفراد الإنسان يعلم أنه معلول؟ والمجتمع كله يعلم كذلك أنه معلول, وأن علته التي يفيد منها وجوده علة واحدة.

هذا الرباط الذاتي الوثيق الذي يدركه المرء بفطرته ويؤمن به بعقله, ويتعاضد على إثبات البرهان والوجدان هو منبع الدين, وهو كذلك منشأ الوحدة التي يبتغيها للمجتمع, واقرأ إذا شئت قوله تعالى (( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم. وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون )).

ولا يظلل البشرية إلا دين واحد

البشرية بجميع تخومها وأغوارها وبكل ألوانها ودمائها مجتمع واحد, والقانون الذي يحكم هذه المنظمة ويبرم وحدتها ويهذب آحادها وشعوبها إنما هو الدين.

هذه نتيجة البحث السابق, وقد أسهبنا فيه بعض الاسهاب.

واللازمة الأولى لذلك أن لا يحكم البشرية كلها سوى قانون واحد .

سوى دين واحد. لأن البشرية – كما قلنا من قبل – مجموعة واحدة ذات اتجاه واحد, ولأن الركائز الحقيقية لهذا المجتمع واحدة فلا يشتق منها أكثر من قانون واحد .

واللازمة الثانية أن يكون هذا القانون (الدين) شاملاً للإنسانية كلها بهداه بحيث لا ميزة فيه لعنصر على عنصر, ولا اختصاص له بفريق دون فريق, ولا فضل لأحد على أحد إلا بمقدار التزامه بالحق واستشعاره لهدى, وانقياده في العمل.

وللمجتمع نشأة طبيعية كنشأة الفرد وأدوار في الحياة مترتبة مثل أدواره, فله مولد كما لأي فرد من أفراده, ثم له دور طفولة وعهد صبا, وطور مراهقة, وله سن كمال ونضوج, وله تدرج طبيعي أيضاً في نمو الوعي واتساع المدارك وتكامل المواهب, وهو يتدرج في تكامل وعيه واتساع مداركه مع تدرجه في أطوار حياته كما ينتقل الفرد في ذلك سواء بسواء.

ومن البديهي أن تختلف ضرورات الاجتماع مع اختلاف أطوار المجتمع في النشأة واختلاف أدواره في الوعي, ومن البديهي أن تختلف متطلبات هذه الضرورات كذلك من طور إلى طور ومن دور إلى دور.

فكان من الحتم أن يتدرج القانون الإجتماعي مع المجتمع الناشئ, وأن يعد له في كل طور ما يوائمه.

على الدين أن يحضن المجتمع وليداً, وأن يدأب في تغذيته وتنشئته طفلاً, ويجهد في تأديب غرائزه صبياً, ويسعى لتقويم عاداته وإنماء مداركه يافعاً ويدخر للمجتمع التام النمو المكتمل الرشد ما يوائم نضوجه ورشده.

على الدين أن يتطور كذلك ويتدرج في تقديم هداياته وتطعيم علاجاته, أخذاً بناموس الإرتقاء في الأمور, وسيراً مع اقتضاء الحاجة في المجتمع.

ولو لم تتطور الشرائع الدينية مع المجتمع, ولو أنها أعطته غذاء الرجولة في دور الطفولة لكانت هازلة الحكمة فاقدة الجدوى. بل لكانت بالغة الضرر معكوسة النتيجة, ومن يثب إلى القمة من أدنى السلم يوشك أن ينتكس إلى الحضيض مهشماً.

وهذا التحول الإرتقائي في الشرائع لا يثلم وحدة الدين أبداً كما أن التطور الإجتماعي ذاته لا يصدع وحدة المجتمع.

وعلى هذا المنهاج الطبيعي, وعلى هذا السنن الرشيد أنزلت السماء شرائعها للإنسان فأعطته في كل عهد ما يلائمه, وكان دور الرشد الإجتماعي هو دور الرسالة الكاملة والشريعة الخالدة.

 
صلة الإنسان الأولى

وللإنسان على رأس صلاته المتنوعة صلة بخالقه الذي كونه بعد العدم، وقواه بعد الضعف، وأغناه بعد الفقر، وكثره بعد القلة. والذي صوره فأبدع منه التصوير، ودبره فأتقن له التدبير.

عبودية لها معنى الحرية، وخضوع هو قوام العزة، وتبعية فيها سر الإستقلال.

بلى. الإنسان عبد تابع خاضع، ولا يملك أن يكون إلا عبداً، ولا يملك أن يكون إلا تابعاً خاضعاً، وليتفكر. وليتأمل. وليطل تفكيره وتأمله إذا شاء، ثم لينظر أيستطيع أن يكون غير ذلك؟.

وقد يجحد المرء، وقد يمعن في جحوده إذا كان لا يأبه لمنطق ولا يعي نداء فطرة ولا يكترث لدلالة أثر، يستطيع المرء أن يكون كذلك وأن يتطاول على ربه إذا كان من هذا الصنف الكنود، ولكنه لا يملك أن يغير شيئاً مما وقع.

ليفكر في وجوده الذي به يكون، وفي حياته التي يقوم، وفي طاقاته التي بها ينشط. وفي جوارحه التي بها يعمل، وحواسه التي بها يدرك، وعقله الذي به يفكر، ولسانه الذي به ينطق، وفي كل خاصة وعامة من نفسه، وكل ظاهرة وخافية من جسمه، ألا يحس أن جميع ذلك منه موجود بعد عدم، ومكتمل بعد نقض؟.

ثم ألا يوقن بأن هذا الوجود المستحدث بعد العدم المستكمل بعد النقص لا محيد من أن يكون له موجد حي يصرفه بقوة وينظمه بتدبير؟.

هذه أمور في حدود البداهة، فهل يستريب في شيء منها(1)؟.

ثم لينظر. ألا يجد نفسه خاضعاً لهذه العلة تنفذ فيه أحكامها وتسيطر عليه بمشيئتها وتصرفه بقوانينها، وهو غير مختار في جميع ذلك؟.

(1) سنتعرض لقانون السببية، وسنتحدث مع من أنكر هذا القانون لينكر بعض نتائجه.

ألا يجد ذاته تابعاً لهذه العلة كالظل لا يستقل وكالخيال لا يستغني؟.

ليتفكر في هذا قليلاً أو طويلاً ثم ليقل إن شاء، أليس هذا معنى العبودية الخالصة، والتبعية المحض؟.

الإنسان عبد تابع خاضع، ولا يملك إلا أن يكون عبداً. وإلا أن يكون تابعاً خاضعاً، ولكنها عبودية لها معنى الحرية، وخضوع به قوام العزة، وتبعية فيها سر الاستقلال.

ومتى شعر الإنسان بأنه جزء صغير من الكون المحدق به ينقاد لسننه، ولا قبل له في أن يشذ عن واحدة منها، ثم رأى كل ما حوله من محتويات الكون خاضعاً لعلته يعنو لإرادتها ويضرع لقوانينها، ووجد كذلك أن كل نصيب تناله الموجودات من الخير، وكل حظ تصيبه من الكمال إنما هو ثمرة ذلك الاستسلام وأثر ذلك الخضوع.

فالبذرة لن تصبح شجرة يانعة تؤتي ثمرها وتحفظ نوعها حتى تسلم وجهها لليد القديرة، فتخضع لما سنت لها من قوانين، وما نظمت من طرائق، وما مهدت من أسباب.

حتى تضع الجنين المودع فيها جذيراً لا حول له ولا طول، ثم تغذيه عصارتها إلى أن تثبت قدمه ويستقل بذاته ويمتد ساقه وتبدو أوراقه.

وحتى تربو تلك الشجيرة، وتضرب جذورها، وتكثر ثغورها، وتمتص الجذور ما يغذيها من عناصر الأرض، وتتلقف الثغور ما ينميها من لطائف الجو، وتمثل وتنتح(1) وتتزود بقوى مختلفة وتجري عمليات معقدة. 

وبويضة الأنثى لن تتكون حيواناً بادي النشاط بالغ الأهمية موفور المنافع حتى تدين لخالقها بما قدر لها من سنن ويسر لها من سبل، فتستجيب للجرثومة الملقحة، وتخلد بعد التلقيح إلى القرار المكين، وتتقبل الأغذية المتنوعة والنشآت المختلفة، وتعنو لتدبير يمدها في كل جزء جزء وتطوير ينالها في كل صورة صورة، ورفد يصلها في كل لحظة لحظة..

وكل بسيط أو مركب في العالم لن يوجد ولن يعتلي ولن يبلغ غايته المرجوة له حتى يخضع ويتجه لعلة ترعاه وعين تراه.

(1) التمثيل الضوئي أو الكربوني عملية دقيقة يقوم بها النبات بواسطة ضوء الشمس يجزئ بها ثاني أكسيد الكربون، فيلفظ الأوكسجين منه ويحتفظ لتغذيته بالكربون. والنتح تبخيره الماء الذي تتشربه الجذور مع العصارة لتبقى الأملاح وحدها للتغذية، ولتمتص الجذور بدورها عصارة جديدة.

ولو قدر لها أن تكون ممن يعقل ويختار ولو أنها تمردت على سلطان الله وندت عن قوانينه لحرمت الخير وقعدت عن الكمال.

أقول: متى شعر الإنسان بذلك- وكله مشاهد محسوس- أيقن دون شك أنه عبد قانت، وأيقن كذلك أن عبوديته هي منشأ الخير له ومصدر الكمال فيه.

وصلة ابن آدم هذه أسبق صلاته كلها بالقدم وأبلغها في الأثر، وأشملها في الوجود. تنشأ بينه وبين ربه على معنى الحاجة والتعلق, وعلى معنى الحب والوله،  وعلى معنى الرجاء والانقطاع، وعلى معنى الخشية والإكبار. أليس جماع هذه المعاني بأسرها هي العبودية الخالصة والتبعية الوجودية؟ ثم أليس مناطها جميعاً هي القوة الأزلية الأبدية التي بيدها تصريف المقادير وإليها مصائر الأمور؟.

على مزيج من معاني الحب العميق، والإجلال المضاعف، والاحتياج الدائم، والخضوع الملذ، والخشية الصادقة تنشأ علاقة الإنسان بربه، ثم تسري مع الخلجات إلى الروح، ومع الخفقات إلى القلب، ومع الأحاسيس إلى النفس، ومع التأملات  إلى العقل، ومع النية إلى العمل، ومع السلوك إلى العادة، ومع الاعتياد إلى الخلق، ومع العاطفة إلى الصلاة الأخرى، ومع الفرد الخاص إلى المجتمع العام. وتنتظم العلائق كلها في علاقة وتتوحد الغايات جميعها في غاية، ويأتلف الكون بأسره في وحدة، هي خلاصة الحب، وجوهر الإخلاص، ولباب العبادة.

هذه القاعدة التي يرتكز عليها الدين، والنقطة التي تلتقي عندها قوانينه، وتنشعب منها تعاليمه.

بلى. هذا هو هدف الدين إذ يشرع العبادة لله، وإذ يرسم الأصول للعقيدة، وإذ يضع الموازين للعمل، ويسن المناهج للأخلاق، والحدود للصلات، والمبادئ للغايات.

فهل يسع الإنسان إلا أن يكون متديناً إذا آثر أن يبقى إنساناً؟.

يحاول الدين أن يستخلص من خضوع المرء لعلته في التكوين وجوب خضوعه لها في التشريع ومن اتباعه لها في الوجود لزوم اتباعه لها في الإرادة.

ويريد ليفهم الإنسان أن الله وحده واضع منظمة الكون على أدق الموازين وأثبت القوانين فيتحتم أن يكون هو بذاته واضع منظمة الاجتماع على أرسى العلائق وأعدل الأنظمة.

وليعرفه أن كمال الإنسان هو غاية الله التي أرادها له لما برأه نطفة مهينة، ثم طوره وصوره حتى استقام مخلوقاً سوياً ينطق ويعقل، ولما آتاه هذه النفس الطلعة، واستودعها هذه الأرصدة الضخمة. فلا يسوغ أن تؤخذ حدود هذا الكمال إلا عن الله سبحانه ولا يسوغ أن يصار في تشريع نظامه إلا إليه، لأنه أعلم بحدود غايته، وأبصر بتخوم مراده.

ثم يقول له: الكون مجموعة متداخلة الأجزاء متسقة النظام متفقة الحركة، فلابد وأن تكون القوة المشرفة على تدبيره قوة واحدة تتصرف فيه بقدرة، وتنظمه بحكمة، وتحيط به بعلم.

يريد الدين ليلفت المرء إلى هذه الحقائق فهل يسعه إلا أن يكون متديناً إذا كان معنى الدين هو ذلك؟.


source : http://zainealdeen.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الخلاف حول البناء على قبور الأنبياء (عليهم ...
مسؤوليات الشباب في كلام القائد
موقف النهج الأموي من الخروج على الحاكم الظالم
مدرسة السقيفة وإشكالية علمنة الدين
موقف ابن تيمية من مناقب علي بن أبي طالب عليه ...
الشيعة غير الروافض
لكي نتخلّص مِن الكسل العبادي
في قول النبي لأهل بيته: (أنا حرب لمن حاربكم) ...
خير العمل
مشاركة الجن للانس في شريعة الاسلام

 
user comment