الإحباط في اللغة، بمعنى الإبطال، يقال: أحْبَطَ عَمَلَ الكافر، أي أبطله1.
والكفر بمعنى الستر والتغطية، يقال لمن غطّى درعه بثوب: قد كفّر درعه، والمكفّر، الرجل المتغطّي بسلاحه ويقال للزارع كافر، لأنه يغطي الحب بتراب الأرض. قال الله تعالى: ﴿كَمَثَلِ غَيْث أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُه﴾(الحديد:20). والكفر ضد الإيمان، سمي بذلك لأنه تغطية الحق2.
والمراد من الحبط هو سقوط ثواب العمل الصالح بالمعصية المتأخرة، كما أنّ المراد من التفكير هو سقوط الذنوب المتقدمة، بالطاعة المتأخرة.
وبعبارة أُخرى: إنّ الإحباط في عرف المتكلمين عبارة عن إبطال الحسنة بعدم ترتب ما يُتوقع منها عليها، ويقال التكفير وهو إسقاط السيّئة بعدم جريان مقتضاها عليها، فهو في المعصية نيقيض الإحباط في الطاعة. ولنقدّم الكلام في الإحباط أوّلاً.
أوّلاً: الإحباط
المعروف عن الإمامية، والأشاعرة هو أنّه لا تحابط بين المعاصي والطاعات والثواب والعقاب، والمعروف عن جماعة من المعتزلة، كالجبائِيَّينْ وغيرهما هو التحابط3.
قال التفتازاني: "لا خلاف في أنّ مَنْ آمَنَ بعد الكفر والمعاصي فهو من أهل الجنة بمنزلة من لا معصية له، ومن كفر بعد الإيمان والعمل الصالح، فهو من أهل النار بمنزلة من لا حسنة له، وإنما الكلام فيمن آمن وعمل صالحاً وآخَرَ سيئاً، واستمرّ على الطاعات والكبائر، كما يشاهد من الناس، فعندنا مآله إلى الجنة ولو بعد النار، واستحقاقه للثواب والعقاب، بمقتضى الوعد والوعيد، من غير حبوط. والمشهور من مذهب المعتزلة أنّه من أهل الخلود في النار إذا مات قبل التوبة، فأَشْكَلَ عليهم الأمْرُ في إيمانه وطاعته وما يثبت من استحقاقاته، أين طارت؟ وكيف زالت؟ فقالوا بحبوط الطاعات، ومالوا إلى أنّ السيئات يُذهبن الحسنات"4.
أقول: اشتهر بين المتكلمين أنّ المعتزلة يقولون بالإحباط والتكفير، وأما الأشاعرة والإمامية فهم يذهبون إلى خلافهم. غير أنّ هنا مشكلة، وهي أن نفيهما على الإطلاق يخالف ما هو مُسلّم عند المسلمين، من أنّ الإيمان يكفّر الكفر، ويدخل المؤمن الجنّة خالداً فيها، وأنّ الكفر يحبط الإيمان ويخلد الكافر في النار. وهذا النوع من الإحباط والتكفير ممّا أصفقت عليه الأُمّة، ومع ذلك كيف يمكن نفيهما في مذهب الأشاعرة والإمامية؟ ولأجل ذلك، يجب الدقة في فهم مرادهما من نفيهما على الإطلاق، وسوف يتبين الحال في هذين المجالين، وأنّ ما ينفونه منهما لا ينافي ظواهر الآيات والأخبار.
هذا، وإنّ القائلين بالإحباط اختلفوا في كيفيته، فمنهم من قال بأنّ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنات القليلة، وتمحوها بالكليّة، من دون أن يكون لها تأثير في تقليل الإساءة، وهو المحكي عن أبي علي الجُبائي.
ومنهم من قال بأن الإحسان القليل يسقط بالإساءة الكثيرة ولكنه يؤثر في تقليل الإساءة، فنيقص الإحسان من الإساءة، فيُجزَى العبد بالمقدار الباقي بعد التنقيص، وهو المنسوب إلى أبي هاشم.
وهناك قول آخر في الإحباط، وهو عجيب جداً حكاه التفتازاني في شرح المقاصد، وهو أنّ الإساءة المتأخرة تحبط جميع الطاعات، وإن كانت الإساءة أقل منها، قال: حتى ذهب الجمهور منهم إلى أنّ الكبيرة الواحدة تحبط ثواب جميع العبادات5.
وعلى هذا ففي الإحباط أقوال ثلاثة
1- الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة من دون تأثير في تقليل الإساءة.
2- الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة، مع تأثير الإحسان في تقليل الإساءة.
3- أنّ الإساءة المتأخرة عن الطاعات، تبطل جميع الطاعات من دون ملاحظة القلّة والكثرة.
إذا عرفت موضع النزاع في كلام القوم، فلننقل أدلة الطرفين:
أدلة نفاة الإحباط
استدل النافون بوجهين: عقلي ونقلي.
أما الوجه العقلي، فهو أنّ القول بالإحباط يستلزم الظلم، لأن من أساء وأطاع وكانت إساءته أكثر، يكون بمنزلة من لم يُحسن. وإنْ كان إحسان أكثر، يكون بمنزلة من لم يسيء. وإن تساويا يكون مساوياً لمن يصدر عنه أحدهما، وهو نفس الظلم6.
يلاحظ عليه: إنّ الإحباط إنما يعدّ ظلماً، ويشمُلُه هذا الدليل، إذا كان الأكثر من الإساءة مؤثراً في سقوط الأقل من الطاعة بالكلية، من دون أن تؤثر الطاعة القليلة في تقليل الإساءة الكثيرة، كما عليه أبو علي الجبائي. وأما على القول بالموازنة، كما هو المحكي عن ابنه أبي هاشم، فلا يلزم الظلم، وصورته أنْ يأتي المكلَّف بطاعة استحق عليها عشرة أجزاء من الثواب، وبمعصية استحق عليها عشرين جزءاً من العقاب، فلو قلنا بأنّه يَحْسُن من الله سبحانه أن يفعل به عشرين جزءاً من العقاب، ولا يكون لما استحقه من الطاعة أيّ تأثير، للزم منه الظلم. وأما إذا قلنا بأنه يقبح من الله تعالى ذلك، ولا يحسن منه أن يفعل به من العقاب إلا عشرة أجزاء، وأما العشرة الأُخرى فإنها تسقط بالثواب الّذي استحقه على ما أتي به من الطاعة، فلا يلزم ذلك.
يقول القاضي عبد الجبار، بعد نقل مذهب أبي هاشم: "وَلَعَمْرِي إنه القول اللائق بالله تعالى، دون ما يقوله أبو علي، والّذي يدل على صحته هو أنّ المكلّف أتى بالطاعات على الحد الّذي أُمر به، وعلى الحد الّذي لو أتى به منفرداً عن المعصية لكان يستحق عليها الثواب، فيجب أن يستحق عليها الثواب، وإن دَنّسها بالمعصية، إلا أنّه لا يمكن والحالة هذه أن يوفر عليه، على الحد الّذي يستحقه، لا ستحالته، فلا مانع من أن يزول من العقاب بمقداره، لأنّ دفع الضرر كالنفع في أنّه ممّا يعد في المنافع".
ثم قال: "فأمّا على مذهب أبي علي فيلزم أنْ لا يكون قد رأى صاحب الكبيرة، شيئاً ممّا أتى به من الطاعات، وقد نصّ الله تعالى على خلافه"7.
والأولى أنْ يُسْتَدَلّ على بطلان الإحباط بأنه يستلزم خُلف الوعد إذا كان الوعد منجزاً، كما هو في محل النزاع، وأما إذا كان مشروطاً بعدم لحوق العصيان به، فهو خارج عن محل البحث. هذا، من غير فرق بين قول الوالد والولد، والقول الثالث الّذي هو في غاية الإفراط.
وأما الوجه النقلي، فقوله سبحانه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ﴾(الزلزلة:7).
يلاحظ عليه: إنّ الاستدلال بالآية إنما يتم على القولين الأول والثالث حيث لا يكون للإحسان القليل دور، وأما على القول الثاني، فالآية قابلة للانطباق عليه، لأنه إذا كان للإحسان القليل تأثير في تقليل الإساءة الكثيرة، فهو نحو رؤية له، لأن دفع المضرة كالنّفع في أنّه ممّا يُعدّ منفعة. وهذا كما إذا ربح إنسان في تجارة، قليلاً، وخسر في تجارة أُخرى أكثر، فأدّى بعض ديونه من الربح القليل.
نعم، الظاهر من الآية، رؤية جزاء الخير، وهو بالقول بعدم الإحباط، ألصق وأطبق.
سؤال وجوابه
السؤال: لو كان القول بالإحباط مستلزماً للظلم، أو كان مستلزماً لخلف الوعد، فما هو المخلص فيما يدل على حبط العمل، في غير مورد من الآيات الّتي ورد فيها أنّ الكفر والارتداد، والشرك والإساءة إلى النبي وغيرها ممّا يحبط الحسنات. ما هو الجواب عن هذه الآيات؟ وما هو تفسيرها؟.
الجواب: إنّ القائلين ببطلان الإحباط يفسرون الآيات بأن الاستحقاق في مواردها كان مشروطاً بعدم لحوق العصيان بالطاعات، فاذا عصى الإنسان ولم يحقق الشرط، انكشف عدم الاستحقاق.
ويمكن أن يقال بأن الإستحقاق في بدء صدور الطاعات لم يكن مشروطاً بعدم لحوق العصيان، بل كان استقرار الإستحقاق في مستقبل الأيام، هو المشروط بعدم لحوق المعصية، فإذا فُقِدَ الشَرْطُ، فُقِدَ استقرارُ الاستحقاق واستمراره.
يقول الشيخ الطوسي في تفسير قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(البقرة:217): "معناه أنّها صارت بمنزلة مالم يكن، لإيقاعهم إياها على خلاف الوجه المأمور به، وليس المراد أنّهم استحقوا عليها الثواب ثم انحبطت، لأن الإحباطَ ـ عندنا ـ باطِلٌ على هذا الوجه"8.
ويقول الطَّبَرسي في تفسير قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(المائدة:5): "وفي قوله: ﴿فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾، هنا دلالة على أن حبوط الأعمال لا يترتب على ثبوت الثواب، فإن الكافر لا يكون له عمل قد ثبت عليه ثواب، وإنما يكون له عمل في الظاهر لولا كفره لكان يستحق الثواب عليه، فعبّر سبحانه عن هذا العمل بأنّه حبط، فهو حقيقة معناه"9.
ويقول في تفسير قوله سبحانه: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ﴾(المائدة:53).
"أي ضاعت أعمالهم الّتي عملوها لأنّهم أوقعوها على خلاف الوجه المأمور به، وَبَطَلَ ما أظهروه من الإيمان، لأنّه لم يوافق باطنُهم ظاهرَهُم، فلم يستحقوا به الثواب"10.
وبما ذكره الطبرسي يظهر جواب سؤال آخر، وهو أنه إذا كان الاستحقاق مشروطاً بعدم صدور العصيان، فإذا صدر يكشف عن عدم الاستحقاق أبداً، فكيف يطلق عليه الإحباط، وما الإحباط إلا الإبطال والإسقاط، ولم يكن هناك شيء حتى يبطل أو يسقط؟
وذلك لأن نفس العمل في الظاهر سبب ومقتض، فالإبطال والإسقاط كما يصدقان مع وجود العلة التامة، فهكذا يصدقان مع وجود جزء العلة وسببها ومقتضيها، وهذا كمن ملك أرضاً صالحة للزراعة فأحدث فيها ما أفقدها هذه الصلاحية.
وبعبارة أُخرى: إنّ الموت على الكفر، وإن كان يبطل ثواب جميع الأعمال، لكن ليس هذا بالإحباط، بل باشتراط الموافاة على الإيمان في استحقاق الثواب على القول بالاستحقاق، وفي الوعد بالثواب على القول بعدم الاستحقاق. وهكذا القول في المعاصي الّتي ورد أنها حابطة لبعض الحسنات من غير قول بالحبط، بل يكون الاستحقاق أو الوعد مشروطاً بعدم صدور تلك المعصية.
نعم، هذا التفسير إنما نحتاج إليه في جانب الإحباط، وأما في جانب التكفير فلا حاجة إليه، بل لنا أنْ نقول إنّ التوبة والأعمال المكفِّرة يذهبان العقاب المكتوب على المعاصي من دون حاجة إلى القول بكون الاستحقاق مشروطاً بالموافاة على الكفر، لجواز تفضّله سبحانه بالعفو.
هذا، ولا يصح القول بالإحباط والتكفير في كل المعاصي، بل يجب علينا تَتَبُّعُ النصوص، فكلّ معصية وردت في الكتاب أو في الآثار الصحيحة أنها ذاهبة أو منقصة لثواب جميع الحسنات أو بعضها، نقول بالإحباط فيها على التفسير الّذي ذكرناه. وهكذا في جانب التكفير فلا يمكن لنا أن نقول إنّ كل حسنة تُذهب السيئة إلاّ بالنص.
إلى هنا تم بيان دليل النافين للإحباط على الوجه اللائق بكلامهم، والإجابة عليه.
أدلة مُثْبتي الإحباط
استدل القاضي على ثبوت الاحباط بوجه عقلي فقال: "قد ثبت أنّ الثواب والعقاب يستحقان على طريق الدوام، فلا يخلو المكلّف إما أن يستحق الثواب فيثاب، أو يستحق العقاب فيعاقب، أو لا يستحق الثواب ولا العقاب، فلا يثاب ولا يعاقب، أو يستحق الثواب والعقاب، فيثاب ويعاقب دفعة واحدة، أو يؤثر الأكثر في الأقل على ما نقوله.
ولا يجوز أن لا يستحق الثواب ولا العقاب، فإن ذلك خلاف ما اتفقت عليه الأُمة ولا أن يستحق الثواب والعقاب معا فيكون مثاباً ومعاقباً دفعة واحدة، لأن ذلك مستحيل، والمستحيل مما لا يستحق. فلا يصح إلا ما ذكرناه من أنّ الأقل يسقط بالأكثر. وهذا هو الّذي يقوله الشيخان أبو علي وأبوهاشم ولا يختلفان فيه، وإنّما الخلاف بينهما في كيفية ذلك11.
يلاحظ عليه: إنّه مبني على أنّ استحقاق العقاب على وجه الدوام، وهو مبني على أنّ مرتكب الكبيرة مُخلّد في النار، وبما أنّ الأساس باطل، فيبطل ما بني عليه، فلا دليل على دوام استحقاق العقاب. وعلى ذلك فالحصر غير حاصر، وانّ هنا شقا سادساً ترك في كلامه، وهو أنّه يستحق الثواب والعقاب معاً لكن لا دفعة واحدة، بل يعاقب مدة ثم يخرج من النار فيثاب بالجنة على ما عليه جمهور المسلمين.
وقد نقل القاضي عبد الجبار، وجهاً عقلياً آخر للإحباط عن الشيخ أبي علي وأجاب عنه، فلاحظ(شرح الأُصول الخمسة، ص 630 ـ 631 وحاصل هذا الدليل انّ المكلّف، بارتكاب الكبيرة تخرج نفسه من صلاحية استحقاق الثواب وهو كماترى دعوى بلا دليل اذ لا دليل على أنّ كل معصية لها هذا الشأن، وليست كل معصية كالكفر والارتداد والنفاق).
تحليل لمسألة الإحباط
وها هنا تحليل آخر للمسألة وهو أنّ في الثواب والعقاب أقوال
1- الثواب والعقاب في الآخرة من قبيل الأُمور الوضعية الجعلية كجعل الأُجرة للعامل، والعقاب للمتخلّف في هذه النشأة.
2- الثواب والعقاب في الآخرة مخلوقان لنفس الانسان حسب الملكات التّي اكتسبها في هذه الدنيا، بحيث لا يمكن لصاحب هذه الملكة، السكون والهدوء إلا بفعل ما يناسبها.
3- الثواب والعقاب في الآخرة عبارة عن تمثّل العمل في الآخرة وتجلّيه فيها بوجوده الأُخروي من دون أن يكون للنفس دور في تلك الحياة، في تحلّي هذه الأعمال بتلك الصور، بل هي من ملازمات وجود الانسان المحشور.
فلو قلنا بالوجه الأوّل، كان لما نقلناه من نفاة الحبط (من أنّ الاستحقاق أو استمراره مشروط بعدم الإتيان بالمعصية) وجه حسن، لأن الامور الوضعية، رفعها ووضعها، وتبسيطها، وتضييقها، بيد المقنّن والمشرّع. وعندئذ يُجمع بين حكم العقل، بلزوم الوفاء بالوعد، وما دلّ من الآيات على وجود الإحباط في موارد مختلفة، كما سيوافيك.
وقد عرفت حاصل الجمع، وهو أن إطلاق الإحباط ليس لإبطال استحقاق الانسان الثواب، بل لم يكن مستحقاً من رأس، لعدم تحقق شرط الثواب. وأما مصحح تسميته بالإحباط فقد عرفته أيضاً، وهو أن ظاهر العمل كان يحكي عن الثواب وكان جزء علة له.
ولو قلنا بالوجه الثاني، وحاصله أن الملكات الحسنة والسيئة التّي تعدّ فعليات للنفس، تحصل بسبب الحسنات والسيّئات التّي كانت تصدر من النفس. فاذا قامت بفعل الحسنات، تحصل فيها صورة معنوية، مقتضية لخلق الثواب. كما أنّه إذا صدر منها سيئة، تقوم بها صورة معنوية تصلح لأن تكون مبدأً لخلق العقاب. وبما أنّ الانسان في معرض التحول والتغيير من حيث الملكات النفسانية، حسب ما يفعل من الحسنات والسيئات، فانّ من الممكن بُطلان صورة موجودة في النفس وتبدُّلها الى صورة غيرها ما دامت تعيش في هذه النشأة الدنيوية.
نعم، تقف الحركة ويبطل التحول عند موافاة الموت، فعند ذلك تثبت لها الصور بلا تغيير أصلا.
فلو قلنا بهذا الوجه، كان الاحباط على وفق القاعدة، لأنّ الجزاء في الآخرة، اذا كان فعل النفس وإيجادها، فهو يتبع الصورة الأخيرة للنفس، التّي اكتسبتها قبل الموت. فإن كانت صورة معنوية مناسبة للثواب فالنفس منعّمة في الثواب من دون مقابلة بالعقاب، لأن الصورة المناسبة للعقاب قد بطلت بصورة أُخرى واذا انعكست الصورة، انعكس الحكم.
وأما لو قلنا بالوجه الثالث، وهو تجسّم الاعمال وتمثلها في الآخرة بالوجود المماثل لها، فالقول بعدم الاحباط هو الموافق للقاعدة اذ لا معنى للإبطال، في النشأة الأُخرى.
غير أن الكلام كلّه في انحصار الثواب والعقاب بهذين الوجهين الأخيرين، وقد عرفت في الجزء الأول أنّ المتشرع لا يتجرأ على القول بذلك12.
عوامل الإحباط وأسبابه
البحث عن عوامل الإحباط وأسبابه، بحث نقلي يتوقف على السبر والفحص في الكتاب والسنة ونكتفي في المقام بما جاء في الكتاب العزيز.
1- الارتداد بعد الاسلام
قال سبحانه: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الْدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(البقرة:217).
2- الشرك المقارن بالعمل
يقول سبحانه: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾(التوبة:17).
وقد كان المشركون يزعمون أنّ العمل الصالح بنفسه موجب للثواب، غير أنّ القرآن شطب على هذه العقيدة، وصرّح بأن الثواب يترتب على العمل الصالح، اذا صدر من فاعل مؤمن.
ولأجل ذلك أتبع الآية السابقة بقوله: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾(التوبة:18).
3- كراهة ما أنزل اللّه.
قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾(محمد:8 - 9).
4- الكُفر.
5- الصّدُّ عن سبيل اللّه.
6- مجادلة الرسول ومشاقّته.
وقد جاءت هذه العوامل الثلاثة في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾(محمد:32. ولاحظ في عامل الكفر، التوبة:69).
وهل كل منها عاملٌ مستقلٌ، أو أنّ هنا عاملا واحداً هو الكفر، ويكون حينئذ الصَّد عن سبيل اللّه ومشاقة الرسول من آثار الكفر، فهم كفروا، فصدوا وشاقوا؟
تظهر الثمرة فيما لو صدّ انسانٌ عن سبيل اللّه لأغراض دنيوية، أو شاقّ الرسول لحالة نفسانية مع اعتقاده التام بنبوة ذاك الرسول وقبح عمل نفسه. فلو قلنا باستقلال كل منهما في الحبط، يحبط عمله ، وإلا فلا. وبما أن الآية ليست في مقام البيان، بل تحكي عمل قوم كانت لهم هذه الشؤون فلا يمكن استظهار استقلال كل منها في الحبط، نعم يمكن القول بالاستقلال من باب الأولوية، وذلك أنّه اذا كان رفع الصوت فوق صوت النبي من عوامل الاحباط كما سيأتي، فكيف لا يكون الصّدّ والقتل من عوامله؟
7- قتل الأنبياء.
8- قتل الآمرين بالقسط من الناس
قال سبحانه ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَاب أَلِيم * أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ﴾(آل عمران:21 - 22).
9- إساءة الأدب مع النبي
قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾(الحجرات:2).
وربما يُتصور أنّ رفع الصوت ليس عاملا مستقلا في الإحباط، بل هو كاشف عن كفر الرافع.ولكنه احتمال ضعيف، لأن الآية تخاطب المؤمنين به بقولها:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
نعم، لا يمكن الالتزام بأنّ كل إساءة بالنسبة إلى النبي تُحبط الاعمال الصالحة(كالغضب في محضره صلوات اللّه عليه وآله) إلا اذا كانت هتكاً في نظر العامة، وتحقيراً له في أوساط المسلمين، كما هو الظاهر من أسباب نزول الآية.
10- الإقبال على الدُنيا والإعراض عن الآخرة
قال سبحانه ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاْخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(هود:15 - 16).
ويمكن أن يقال: إنّ الاقبال على الدنيا بهذا النحو الّذي جاء في الآية، يساوق الكفر، أو يساوق ترك الفرائض، والتوغل في الموبقات، فتكون إرادة الحياة الدنيا وزينتها إشارة الى العامل الواقعي.
11- إنكار الآخرةُ
قال سبحانه ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾(الأعراف:147. ولاحظ الكهف:105).
وهو فرع من فروع الكفر وليس عاملا مستقلا.
12- النفاق
قال سبحانه: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * .... أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً﴾(الأحزاب:18 - 19).
وقوله: ﴿لإخوانهم﴾، يدل على أنّهم لم يكونوامؤمنين بل كانوا منافقين. ويصرّح به قوله: ﴿أولئك لم يؤمنوا﴾ وعلى ذلك فيرجع النفاق الى عامل الكفر وعدم الايمان، وليس سبباً مستقلا.
هذه هي أبرز أسباب الاحباط في الذكر الحكيم، وقد عرفت إمكان ادغام البعض في البعض وعلى كل تقدير فالاحباط هنا هو بطلان أثر المقتضى، لا إبطال أثر ثابت بالفعل، كما تقدم.
ثانياً: التكفير
التكفير هو إسقاط ذنوب المعاصي المتقدمة بثواب الطاعات المتأخرة، وهو لا يعدّ ظلماً، لأن العقاب حق للمولى، و إسقاط الحق ليس ظلماً بل إحسان، وقد عرفت أنّ خُلْف الوعيد ليس بقبيح وانما القبيح خلف الوعد. فلأجل ذلك لا حاجة الى تقييد استحقاق العقاب أو استمرار استحقاقه، بعدم تعقّب الطاعات. بل الاستحقاق واستمراره ثابتان، غير أنّ المولى سبحانه، تفضّلا منه، عفا عن عبده لفعله الطاعات.
قال سبحانه: ﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُم وَنُدْخِلْكُم مُدْخَلاً كَرِيماً﴾(النساء:31).
وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾(الانفال:29).
وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّد وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾(محمد:2).
ولا يمكن استفادة الاطلاق من هذه الآيات، وانّ كل معصية تُكفّر، لأنّها بصدد بيان تشريع التكفير، وأما شروطه وبيان المعاصي التّي تكفّر دون غيرها، فلا يستفاد منها. وإنما الظاهر من الآية الأُولى هو اشتراط تكفير الذنوب الصغيرة باجتناب الكبيرة منها، ومن الآية الثانية، اشتراط تكفير السيئات بالتقوى، ومن الثالثة، تكفير السيئات للذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نُزّل على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
روى الكراجكي، بسنده عن الامام علي عليه السَّلام أنّه قال: "وان كان عليه فضل، وهو من أهل التقوى، ولم يشرك باللّه تعالى، واتقى الشرك به، فهو من أهل المغفرة، يغفره اللّه له برحمته إن شاء ويتفضل عليه بعفوه"13.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج4،ص363-377
1- المقاييس، ج 2، مادة حبط، ص 129.
2- المقاييس، ج 5، مادة كفر، ص 191.
3- أوائل المقالات، ص 57.
4- شرح المقاصد، ج 2، ص 232، ويظهر من القاضي عبد الجبار في شرح الأُصول الخمسة، ص 624، انّ القول بالإحباط والتكفير خيرة مشايخ المعتزلة، وإنما خالف منهم القليل مثل عبّاد بن سليمان الصيمري.
5- شرح المقاصد، ج 2، ص 232.
6- كشف المراد، ص 260.
7- شرح الأُصول الخمسة، ص 629.
8- التبيان، ج 2، ص 208، ولاحظ مجمع البيان، ج 1، ص 313.
9- مجمع البيان، ج 2، ص 163.
10- مجمع البيان، ج 2، ص 207.
11- شرح الأُصول الخمسة، ص 625. وترك تعليل الوجه الأول (وهو ان يستحق الثواب فقط) والثاني (وهو أن يستحق العقاب فقط)، لوضوحه.
12- لاحظ الالهيات، ج 1، ص 299.
13- البحار، ج 5، ص 334، ح 2.
source : http://almaaref.org