عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

أفعال العباد وعلمه الأزلي

لا شك أنَّ الله سبحانه كان عالماً بكل ما يوجد في هذا الكوكب ومطلق الكون، فكان واقفاً على حركة الالكترونات في بطون الذرّات، وعلى حفيف أوراق الأشجار في الحدائق والغابات، وحركات الحيتان العظيمة في خضم أمواج المحيطات.
 
كما أنه سبحانه كان عالماً قبل أن يخلق العالم بأفعال المجرمين وقسوة السفّاكين، وطاعة الطائعين هذا من جانب.
 
ومن جانب آخر: إنَّ علمه تعالى بالأُمور علم بالواقع والحقيقة وهو لا يتخلف عن الواقع قيد شعرة وقد عرفت سعة علمه بالأشياء وقبل الكينونة في الآيات المتقدمة صدر الفصل.
 
وقال سبحانه: (وَ لاَ رَطْب وَ لاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين)(1).
 
وقال سبحانه: (قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْء عِلْماً)(2).
 
وعلى هذين الأساسين ربما يتصور أنَّ تعلق ذلك العلم بكل الأشياء عموماً، والأفعال الاختيارية للإنسان خصوصاً، يجعل الإنسان مجبوراً مضطراً متظاهراً بالحرية والاختيار، لأنه سبحانه إذا كان يعلم من الأزل، أنَّ هذا الشخص سيرتكب الذنب الفلاني في الساعة المعينة، فبما أنَّ العلم الإلهي لا يتخلف عن معلومه يجب أن يكون الشخص مصدراً لهذا الذنب، ولا يستطيع أن يتخلف عنه بأية قوة وقدرة، بل لا يستطيع أن يغير من كميته وكيفيته، إذ تخلفه نفس تخلف علم الله عن الواقع، وصيرورة علمه جهلاً تعالى الله عنه.
 
أقول: إنَّ هذا المقام هو المزلقة الكبرى للسطحيّين الذين مالوا إلى الجبر، لأجل كون أفعال العباد متعلقة لعلمه تعالى، غير متخلفة عن متعلقها ولكنهم لو وقفوا على كيفية تعلق علمه بصدور أفعال العباد منهم، لرجعوا عن هذا الحكم الخاطئ.
 
والجواب عن ذلك: إنَّ علمه سبحانه لم يتعلق بصدور أي أثر من مؤثره على أي وجه اتفق، وإنما تعلق علمه بصدور الآثار عن العلل مع الخصوصية الكامنة في نفس تلك العلل.
 
فإن كانت العلة علة طبيعية فاقدة للشعور والاختيار أو واجدة للعلم فاقدة للاختيار، فتعلق علمه سبحانه بصدور فعلها وأثرها عنها بهذه الخصوصية، أي أن تصدر الحرارة من النار من دون أن تشعر فضلاً عن أن تريد، ويصدر الارتعاش من الإنسان المرتعش عن علم ولكن لا بإرادة واختيار، فالقول بصدور هذه الظواهر عن عللها بهذه الخصوصية يستلزم انطباق علمه على الواقع وعدم تخلفه عنه قيد شعرة.
 
وإن كانت العلَّة عالمة وشاعرة ومريدة ومختارة كالإنسان، فقد تعلق علمه على صدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية.
 
فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية، لكان علمه مطابقاً للواقع غير متخلف عنه، وأمَّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور، أو بلا اختيار وإرادة فعند ذلك يتخلف علمه عن الواقع.
 
نقول توضيحاً لذلك، إنَّ الأعمال الصادرة من الإنسان على قسمين: قسم يصدر منه بلا شعور ولا إرادة كأعمال الجهاز الدموي والجهاز المعوي وجهاز القلب، والأحشاء، الّتي تتسم في أفعال الإنسان بسمة الأعمال الاضطرارية، غير الاختيارية.
 
وقسم آخر يصدر منه عن إرادة واختيار. ويتسم بسمة الأعمال الاختيارية غير الاضطرارية كدراسته وكتابته وتجارته وزراعته.
 
وعلى ما سبق من أنَّ علم الله تعالى تعبير عن الواقع بما لا يتخلف عنه قيد شعرة، فتقع أعماله مورداً لتعلق علم الله بها على ما هي عليه من الخصائص والألوان.
 
فتكون النتيجة أنه سبحانه يعلم من الأزل بصدور فعل معين في لحظة معينة من إنسان معين إمَّا بالاضطرار والإكراه أو بالاختيار والحرية، وتعلق مثل هذا العلم لا ينتج الجبر، بل يلازم الإختيار. ولو صدر كل قسم على خلاف ما اتسم به لكان ذلك تخلفاً عن الواقع.
 
وبعبارة أُخرى: إن علم الله بما أنَّه يطابق الواقع الخارجي ولا يتخلف عنه أبداً، فيجب أن يقوم الإنسان بكل قسم من أعماله على حسب السمة الّتي اتّسم بها.
 
فلو كان مصدراً لعمل الجهاز الدموي عن اختيار وقد تعلق علمه بصدوره عنه على وجه الاضطرار، لزم تخلف علمه عن معلومه.
 
كما أنَّه لو كان مصدراً لعمل الجهاز الدموي عن اختيار وقد تعلق علمه بصدوره عنه على وجه الاضطرار، لزم تخلف علمه عن معلومه. كما أنَّه لو كان مصدراً للقسم الآخر من أفعاله ككتابته وخياطته على وجه الإلجاء والاضطرار، لزم تخلف علمه عن الواقع لتعلق علمه بصدوره عنه بسمة الاختيار . 
فعلينا في هذا الموقف الالتفات إلى كيفية تعلق علمه بصدور الأفعال عن مبادئها وعللها.
 
نعم، من أنكر وجود الأسباب والمسببات في الوجود، واعترف بعلّة واحدة وسبب مفرد وهو الله سبحانه وجعله قائماً مقام جميع العلل والأسباب، وصار هو مصدراً لكل الظواهر والحوادث مباشرة ولم يُقِم للعلل الطبيعية وللإنسان وما فيه من المبادئ وزناً وقيمة، ولم يعترف بتأثيرها في تكوّن الظواهر والحوادث، لا مناص له عن القول بالجبر.
 
وهو مصير خاطئ يستلزم بطلان بعث الأنبياء وإنزال الكتب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. سورة الأنعام: الآية 59 .
2. سورة الطلاق: الآية 12 .


source : اهل بیت
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الوضع النفسي لدي المراهق
هل أن الإمامة أصل قرآني (2)
طبیعة التدخّل الإلهی
استثنا ما ورد فيه دليل عام
سياحة في الغرب أو مسير الأرواح بعد الموت 1
نعم لقد تشيعت... وهذا هو السبب
نظرية عدالة الصحابة (5)
الإمامَةُ والخِلافَةُ
هل كل كافر يدخل النار؟
لا يحبني الا مؤمن ولا يبغضني الا منافق

 
user comment