ألقيت هذه الندوة في كلية الآداب في النجف الأشرف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن على منكري فضائلهم إلى يوم الدين.
اللهم ربنا وفقنا وجميع المؤمنين، واجعله خالصاً لوجهك الكريم، إنّك أرحم الراحمين.
شمولية النظريّة الإسلامية:
عندما نتحدّث عن حركة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، وندرس خريطة الحركة تقف أمامنا مواقع كثيرة مهمّة ذكرت بالروايات المستقبليّة لحركة الإمام، وأهم تلك المواقع هو العراق، موقع العراق على خارطة حركة الإمام، وجدنا أن هذا الموقع أخذ اهتماماً كبيراً بالروايات.
قبل أن نتحدّث عن تفاصيل وجزئيات هذا الموقع الوارد في الروايات الشريفة لابد من الحديث كمقدّمة أولى عن دفع دخل ـ كما يقول العلماء ـ لموضوع الحديث الجغرافي عن المناطق:
إن الفكر الإسلامي يعالج مسألة المكان برؤية فلسفيّة ثورية واقعية، وأثر المكان في حركة الإنسان، هذا الموضوع من الأهمية والضرورة التي تجعل الباحث أن يتطرق إلى عالمية الإسلام والمفاهيم التي جاء بها كأدليوجية حملها إنسان بدون قيد زماني أو مكاني.
عندما نقرأ )وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(1)، فهو كسر لطوق المكانية وطوق الزمانية، يعني أن المؤثرات المكانية والزمانية سوف تنعدم عن الروح والفكر الثوري الإسلامي.
نلاحظ أن الأطروحات المؤطرة بأطر مكانية، كالأطروحة القومية، سواء ما سميت بالقومية العربية أو القومية الفارسية أو القومية الألمانية أو أي أطروحة قومية أخرى، تأثير المكان على الأطروحة، يعني أُخذ في الأطروحة موضوع المكان كمسألة أساسية وأولية، يحدّد طوق تلك الأطروحة وذلك المشروع الفكري أو الثقافي الذي يطرح للأمّة المختصة بالمكان.
فالقومية العربية تتحدث عن مكان محدد بوطن سموه بالوطن العربي، والقومية الفارسية تحدثت عن المكان الذي يحكمه جوّ من الانتماء العرقي أو الانتماء المكاني، وهكذا في القوميات الألمانية والقوميات الأخرى التي طرحت في أوربا في عصور تسبق ما طرح في وطننا العربي أو وطننا الإسلامي.
لا أريد أن أعالج مسألة المكان وهل أنّ الإسلام قد أكّد على هذا المنطق في طرحه وفي مفهومه وفي المقدار الشرعي واللاشرعي فيه، لأن هذا الموضوع لابد أن يجرنا للحديث عن مفهوم الوطن وعن مفهوم القومية، وقد سبق لي أن طرحت هذا الموضوع في كتب مطبوعة ومنشورة على نحو مستقل ومنشورة في عدّة صحف في العراق وفي غير العراق.
خصوصيّة العراق:
لكني أريد أن أشير إلى أنّنا وإن تجاوزنا بطرحنا العام وطرحنا الأممي، والفكر الإسلامي تجاوز الموقع المكاني والزماني فالإسلام ليس لأمّة دون أمّة ولزمان دون زمان، مع أننا نؤكد على هذه الحقيقة فأننا نؤكّد أن هناك أموراً لابد أن نتحدث عنها بواقعية، وهي أن في كثير من الأحيان للمكان خصوصية في تحديد مواقع المبادئ والعقائد.
عندما نتحدث عن العراق، فإنّ العراق يحتاج للحديث عنه من خلال الرؤية الإمامية الشيعية للعراق، نتحدث عنه كمستقبل، ونتحدث عنه كماضي مؤثّر في المستقبل ومؤثر في الحاضر، نتحدث عن العراق كموقع اهّتم به أهل البيت عليهم السلام فكرياً واهتموا به تطبيقياً وميدانياً.
هذا الموضوع بنفسه يحتاج إلى تفصيل ويحتاج إلى حديث خاص في العراق بملاحظة ما ورد في العراق من روايات أهل البيت عليهم السلام من موقع قيادي في الماضي والحاضر والمستقبل، ولكني أختصّ بالحديث في هذه المحاضرة عن العراق ودور العراق المستقبلي للأمّة، الدور المستقبلي للأمّة في حركة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه.
وجدنا هناك تنوعاً بالروايات وتحديداً لكثير من الخصوصيات التي تتحدث عن العراق كموقع جغرافي، عبّرنا عنه باصطلاح المكان، وهناك شيء آخر وجدناه في الروايات، تحدثت عن الناس والمجتمع الذي يعيش في هذه البقعة من الأرض والذي قد أعبر عنه بالعراقيين، وأقصد سكان هذه الأرض بدون لحاظ الانتماء العرقي أو غير ذلك من الانتماءات وتحديد الهوية والجنسية، وما إلى ذلك مما يمكن للإنسان أن يتعرّض أو لابد أن يشخص تلك الخصوصيات، يعني من هو العراقي ومن هو غير العراقي، هذا سوف أغضّ الطرف عنه في هذه المحاضرة، لأني أرى أن الروايات تحدثت عن العراقي الذي يكون في هذه المنطقة ويحمل همّ هذه الأرض وينتمي جغرافياًّ وليس قطرياً وإقليمياً فحسب، بل ينتمي جغرافياً لهذه الأرض المسماة بالعراق.
مراحل دور العراق:
العراق له دور مستقبلي في حركة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، ألاحظ أن الروايات التي تحدّثت عن العراق أخذت عدت صور بالحديث، فمرّة تحدثت عن العراق الذي يسبق الظهور، وأخرى الروايات التي تحدّثت عن العراق الذي يمهد للظهور، وأخرى تحدثت الروايات عن العراق الذي سوف يشارك في الظهور، بمعنى مراحل ثلاث يمر بها العراق، هذه المراحل الثلاث هي:
المرحلة الأولى: قبل التمهيد
وهي المرحلة التي تسبق التمهيد للظهور، وقد عبرت عنها الروايات أن الأمّة في العراق سوف يعانون التمحيص وسوف يعانون الابتلاء والشدة من حكام جور سوف يحكمون هذا البلد ويحكمون هذه البقعة الجغرافية، هذا الجور يؤدي إلى حالات صعبة يمر بها العراق والشعب العراقي، هذه الحالات قد عبرت عنها الروايات بأنواع مختلفة.
من جملة تلك الأنواع التي يمر بها العراق في عصر قبل التمهيد، وهو العصر الأوّل الذي نتحدّث عنه، أن هذه المرارة التي يمر بها المجتمع العراقي سوف تؤدّي إلى عدّة ضغوط، منها نفسيّة وضغوط دينيّة وضغوط اقتصادية، وحتى في طوبوغرافية المجتمع العراقي.
هذه الصور المتعددة التي تحدثت عنها الروايات صورت لنا أن العراق سوف يُحكم من قبل حكّام جور، هؤلاء الحكام يغيرون كثيراً من خصوصيّة هذه المنطقة مما يجعل المنطقة تعيش في حصار اقتصادي، وهو المعبر عنه في الروايات بالجوع: «يشمل أهل العراق جوع ذريع.. يشمل أهل العراق نقص في الأموال»(2) هذا كله يوجد في نصوص وروايات وردت عن الإمام الصادق عليه السلام والأئمة عليهم السلام تحدثوا عن الجوع والحصار والألم الاقتصادي الذي يمر به الشعب العراقي قبل مرحلة التمهيد.
هذا شيء قد مر به العراق مرات كثيرة، ولكن قد يكون آخر مرة مر به خلال الحقبة الزمنية الأخيرة التي تجاوزت العشر سنوات.
الشيء الآخر الذي يمر به العراق حالة الحروب المتكررة وكثرة الدم وكثرة القتل وكثرة الذبح، مما يؤدي إلى انتشار حالة اجتماعية مرفوضة، وهي حالة الخوف الذريع، والخوف الذريع سببه اللاأمن الذي سوف يكون في العراق.
هذا الخوف الذريع ـ للأسف الشديد ـ سوف يؤثر على إرادة الإنسان، لأن الإنسان بطبيعته تحكمه خصوصيات اجتماعية ونفسية وإن أراد أن يتجرد منها أو يكبر عليها، لكن هناك ضغوط اجتماعية قد تفقد الإنسان في كثير من الأحيان إرادته، هذه الحالة سببها الخوف، والذي يمكن أن نرجع سكوت الشعب العراقي أو كثير من قطاعات الشعب العراقي عما مر عليه من الاضطهاد والحرمان والعذاب والقتل وما إلى ذلك، مع أنه كان ـ تقريباً ـ ساكتاً بالشكل العام نتيجة في كثير من الأحيان لما يفسر بفقدان الإرادة، فالإنسان عندما يرى الظلم لابد أن يقاتل الظلم لكنه كان فاقد الإرادة أمام الظلم وغير قادر على أن يجابه الظلام والحكام الذين سبق وأن حكموه وسلبوا إرادته.
هذه الحالة تظهر قبل مرحلة التمهيد، والتي عبر عنها الإمام الصادق عليه السلام في كثير من تلك الأحيان بأنه «وخوف ذريع يشمل أهل العراق».
هذا الخوف الذريع قد يؤدي إلى تغيير خصوصيات التفكير عند الإنسان، ولكن مع ذلك هذا الخوف الذريع، قد يؤدّي إلى حالة إيجابية، ليست فقط السلبية، وإنما قد تكون هناك حالة إيجابية، وهذه الحالة الإيجابية تميز وتغربل الناس بغربال كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: «بغربال» تميّزهم على قسمين وهذه الرواية رواها النعماني في غيبته عن أبي بصير عندما كلّمه الإمام الصادق على ما يمر على أهل العراق من الفتن والامتحان والبلايا، وأنهم يغربلون كغربلة الغربال فيميز أحدهم عن الآخر، الرديء عن الحسن.(3)
هذا التمييز إنما يأتي من الفتن، يأتي من الضغوط التي يمر بها المجتمع العراقي، هذا في هذه المرحلة.
هنا سؤال قد يثار: لماذا يمتحن هذا الشعب بهذا الامتحان، وقد نجد أن أكثر الروايات التي تحدّثت عن عصر الظهور، بحيث أنّ الفقيه وأن القارئ المستنبط لتلك الروايات التي تحدثت عن عصر الظهور يجد أن أكثر تلك الروايات التي تحدثت عن عصر الظهور وما فيها من علامات ودلالات وآيات وما إلى ذلك تحدث بالعراق؟ يعني هذه المرحلة التمهيدية ـ المرحلة الأولى ـ أن هذه العلامات أكثرها تصير في العراق قبل أن تشمل العالم وقبل أن تشمل المناطق الأخرى، لماذا هذا التمحيص والابتلاء في العراق؟ لماذا هذا الامتحان وشده الامتحان في العراق؟
الجواب: لأن الله سبحانه وتعالى أخذ العراق مكاناً جغرافياً مهماً لحركة الإمام المهدي، وهو الذي نقرؤه في العصر الثالث، وهو عصر ظهوره وعصر حركته عجل الله تعالى فرجه الشريف، فإنّ موقع التحرك المهم يكون في العراق، ولذلك سوف يكون هذا الموقع بأهميته أن يكون الجمهور والمجتمع والناس الذين يسكنون في هذا الموقع الجغرافي يكونون بمستوى هذه المهمة.
بمعنى أنه لابد من تناسب طردي بين مهمة المهمة وبين شخصية المجتمع الذي يسكن في تلك الأرض التي تتحمل هذه المهمة، عندما نقرأ أن عاصمة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه سوف تكون في العراق وتكون في الكوفة، عندما نقرأ أن مرحلة تحرك الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه تكون من الكوفة أو من العراق فلابد أن يكون المجتمع في ذلك الموقع قد تحمل كل الامتحانات ولم يسقط أمامها، وتحمل كل الهموم ولم يسقط أمامها.
هذا المجتمع الذي لم يسقط أو الذي خرج من الامتحان ناجحاً يكون مؤهلاً لقيادة البشرية وقيادة العالم، فلذلك لأجل أن يكون هذا المجتمع القائد والمجتمع الرائد الذي يقوم بمرحلة هداية البشرية، لابد أن يكون قد مر بالامتحانات السابقة الصعبة وقد خرج منها ناجحاً.
وبالفعل كان التأكيد الإلهي على العراق لأن العراق دولة الإمام، ولأن العراق مجتمع الإمام، ولأن العراق محط قيادة قادة الإمام وجند الإمام، لذلك لابد لهذا المجتمع أن يمر بالامتحان.
إذن هذا الامتحان وهذا العذاب وهذا التمحيص لم يكن سخطاً إلهياً على المجتمع كما يصوّره بعض الناس عندما يقرؤون حركة الإمام، وإنما هذه العلامات التي تظهر من أجل أن يوفر المجتمع كل خصوصيات وكل صفات القيادة المؤهلة له لقيادة البشرية، نلاحظ الدور الإيجابي للمجتمع العراقي في عصر الظهور، هذا الدور مترابط بالمراحل.
إذن هذا العذاب وهذا المرار الذي يمر به العراق ويمر به المجتمع العراقي سوف يؤهّله وينظّمه ليأخذ دوره الطبيعي.
نحن في عقيدتنا الإمامية أن الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه لا يظهر بصورة إعجازية ويريد أن يثبت الإعجاز في الأرض وفي الوجود، وإنما يظهر عجل الله تعالى فرجه بشكل طبيعي عندما تتوفّر القواعد وتتهيّأ القيادة المؤهّلة لذلك الدور التغييري للعالم، وليس للعراق فقط، وليس للعرب فقط، وليس للمسلمين فقط، وإنما التغيير الأرضي، وبواسطة التغيير الأرضي سوف يكون هناك تغيير كوني، فالكون سوف يتغيّر.
قد تعجب كيف يكون تغيير الكون؟! هذا يحتاج إلى حديث حول دور المهدي في تغيير المجموعة الشمسيّة وحركة المجموعة الشمسيّة، وهذا فيه لحاظات ليست انطلاقاً من روايات وأحاديث فقط وإنما من خلال بحوث علمية تتحدث عن هذا التغيير الكوني الذي سوف يحدث في عصر المهدي عجل الله تعالى فرجه.
المرحلة الثانية: التمهيد
هذا التغيير الذي يقوم به الإمام يبتدئ من العراق، ولذلك يحتاج هذا الدور إلى تمهيد، وهي المرحلة الثانية: مرحلة التمهيد، يأخذ العراق دوراً كبيراً قبل أن يتحرك الإمام وقبل أن يظهر الإمام.
لابدّ لهذا المجتمع الذي خرج من الامتحان ناجحاً، لابد أن يكون له دور الممهّد لظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه.
هناك روايات تتحدث عن الممهدين للمهدي سلطانه وعن الموطّئين ـ الذين تعبّر عنهم الروايات: الموطئون للمهدي سلطانه(4) ـ هؤلاء ينطلقون بحركتهم من العراق إلى خراسان، يعني هذه حركة متواصلة، ولا أريد أن أتحدّث عن الجانب الجغرافي لوجود هذه الحركة المتّصلة؛ العراق خراسان والمناطق الأخرى، إنّما أتحدّث عن هذا الجانب في هذه المحاضرة وهو: أنّ العراق جزء من الموطّئين والممهّدين للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه.
هناك روايات متنوّعة تحدّثت عن هذا التمهيد، من جملة الروايات التي تحدثّت عن أن هناك قوى بمستوى الوعي وبمستوى الإدراك وبمستوى المسؤولية للتغيير الشمولي للدنيا في العراق قبل الظهور، إقرأ هذه الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام:
قال: «يدخل الكوفة ـ يعني الإمام المهدي عجل الله فرجه ـ وبها ثلاث رايات قد اضطربت فتصفو له، ويدخل حتّى يأتي المنبر فيخطب فلا يدري الناس ما يقول من البكاء».(5)
لاحظ شيئين:
الشيء الأوّل: أنّه يأتي العراق، فلو كان العراق لا يملك التأهيل المناسب لاستمرار ثورته لانتقلت حركة الإمام إلى منطقة أخرى، مثلاً: إلى الشام أو إلى خراسان أو إلى اليمن أو إلى مصر، لكنه تجاوز كل تلك المناطق وإنما بمجرّد أن نجح في مكّة والمدينة ـ كما تقول الروايات ـ توجّه إلى العراق.
الجهة التي يتحرّك وينطلق منها إلى الدنيا هو أن يأتي إلى العراق فيؤسّس الدولة المهدويّة في العراق، ثمّ بعد ذلك ينطلق إلى الدنيا، عندما يأتي إلى العراق.
لا يتصوّر البعض في حركة الإمام الجانب السلبي الذي سمعناه وقرأناه في كثير من المرّات، حيث تحدّثت عن العراق بشكل سلبي فقط، وإنما سوف يكون للعراق دور إيجابي، هذا الدور الإيجابي فيه ثلاث رايات.
بعض الروايات تقول فيها: راية الحسني وراية الحسيني وراية الخراساني هذه ثلاث رايات، رايات هدىً، يعني القوى الحاكمة في المنطقة قوىً لها امتداد عميق في الأمّة، قوىً تشكل براياتها الثلاث ـ والراية تمثل عملاً إيجابياً ـ قوى مسلّحة أو قوى غير مسلحة عسكرياً، ولكن تملك الجمهور الذي يساند، هذه الراية وهذه القوى هي الموطّئة والممهّدة.
عندما يأتي المهدي تكون هذه القوى قد فرغت العراق له، ولذلك لم نقرأ في الروايات أن هناك حرب تجري في العراق بين الإمام المهدي وبين أهل العراق، لا توجد أي رواية إلاّ رواية البتريّة التي تحدّثت عن أولئك الاثني عشر ألف الذين يخرجون ويسمّون البتريّة يقولون عندما يظهر الإمام: ما لنا ولك يابن فاطمة ارجع لا شأن ولا شغل لنا معك فيضع السيف فيهم.(6)
أولئك البتريّة قوم غرباء عن العراق، البترية لم يكونوا من الشيعة، قوم غرباء عن العراق غرباء عن التشيع غرباء عن شخصيّة هذا المجتمع العراقي، تكون الحرب في الأرض العراقية ولكن الشعب لم يكن شعباً عراقياً ولم يكن مجتمعاً عراقياً، الذي يقاتل هؤلاء هو الإمام المهدي بالرايات الثلاث: راية الحسني وراية الحسيني وراية الخراساني التي تكون قد نشرت.
الشيء الثاني: الاضطراب الذي تذكره الرواية يكون في معنيين: معنىً من معاني الاضطراب إذا اهتزت لشدة وكثرة الجمهور والقواعد التي تحمل تلك الراية، يعبّر عنها قد اضطربت.
وهناك تفسير آخر قد يكون للاضطراب: هناك حالة من اللاتفاهم الجزئي أو حالة من الاختلاف الجزئي الذي يكون بين هذه الرايات، والتي تسقط على يد الإمام عجل الله فرجه.
على كل حال، هذا الوضع يوضّح أن هناك قوىً قبل ظهور الإمام، هذه القوى تمهّد للإمام وتوطّئ للإمام عجل الله فرجه.
الرواية تتحدّث عن المجتمع العراقي تقول: « حتّى يأتي المنبر» لم يكن الإمام له مدّة طويلة عند دخوله العراق، وإنما الإمام عجل الله فرجه بمجرّد أن يصل إلى الكوفة يصعد المنبر ويخطب بالناس «فلا يدري الناس ما يقول من البكاء» أنت لاحظ: من البكاء لا يفهم الناس ما يقول الإمام، لأن حالة البكاء شملت الناس، وهذا يفسّر شيئين:
أوّلاً: كثرة الجمهور، لأنه لو كان بكاءً فردياً لا نتبهوا.
ثانياً: يعطيك مدلول الحالة النفسية والعاطفيّة بين الجمهور والقائد، يعني الحالة العاطفيّة والانفعال في أوجه، حالة الترقب والفرح والحضور في أعلى مستوياتها، حيث غلب البكاء على الجمهور.
إذن هذه القاعدة التي تكون قبل ظهور الإمام لم تكن قاعدة صغيرة، ولم تكن هذه القاعدة شاذّة أو تعبّر عن حالة فردانية بالحضور، وإنما تكون قاعدة واسعة من حيث الكم، وتكون قاعدة واعية ومتّفقة عقائديّاً وعاطفيّاًَ مع الإمام لذلك يأخذها الانفعال، الانفعال الذي يغلب على كل حواس الإنسان سواء السمع أو غيره، لأنّ الإنسان الحاضر قد توجّه بكلّه إلى الإمام.
هذا الوضع يعطينا أملاً في هذه الظلمة، إذ ربما الإنسان في مثل هذا الجو عندما يخرج إلى الشارع وعندما يخرج إلى المجتمع قد تأخذه حالة من حالات اليأس وحالة من حالات فقد الإرادة التي يعيش بها العالم الإسلامي والعالم العربي الآن.
هذا الوضع المأساوي الذي تعيشه الأمّة ككل، هذا الوضع هو فقدان الجانب الفاعل في الإنسان والجانب المؤثّر في الإنسان.
الذي يعطي الزخم المستقبلي الإيجابي هي العقيدة المهدوية عندما سوف تكون في هذه المرحلة العقيدة بكل خصوصيّاتها الشيعيّة التي تحكم الإنسان وفكر الإنسان، وتكون مؤهّلة للظهور.
هذه الحالة من حالات الهزيمة التي نعيشها، الهزيمة السياسية بعد الهزيمة العسكرية في عدّة مواقع وقعنا فيها، هذه الهزيمة سوف تكون في مرحلة زمنية محدودة، وفي مرحلتنا هذه لا تكون طويلة وممتدّة، وإنما سوف تنقلب هذه الهزيمة إلى حالة إيجابية عندما نرتبط مع الروح الحقيقيّة للعقيدة الشيعيّة بما تفهمه عن الحركة المهدوية، هذا الجانب الثاني.
المرحلة الثالثة: عصر الظهور
العراق في عصر الظهور، قرأت الآن مجموعة من الروايات، وأنا أتحدّث عنها بشكل سريع، نجد أن الروايات تحدّثت عن أهميّة العراق ودور العراق المستقبلي.
نجد بعض تلك الروايات تحدّثت أنّ هذا المجتمع من حيث كل الخصوصيّات التغييريّة يكون عين الإمام وحركة الإمام، ولذلك أوّل شيء يقوم به الإمام عليه السلام أن يصل إلى العراق ويؤسّس في العراق هذه الدولة، فمقرّ الدولة سيكون الكوفة.
هذه الروايات تقول هكذا، حتّى أنّها تحدّثت عن الكوفة وعلاقة الكوفة بهذه القيادة، الرواية تقول: «ويكون أسعد الناس به أهل الكوفة»(7) إشارة إلى العراق، فالروايات عندما تقول الكوفة تعني العراق ككل وعموماً، أي بالشكل العام، عندما تتحدّث عن العراق، «أسعد الناس به أهل الكوفة»، ولم تقل الرواية: أفرح الناس، أي أكثر فرحاً، بل أكثر سعادةً، لأن هذا الشعب تحمّل الكثير من أجل الإمام عجل الله فرجه، وتحمّل الكثير من أجل أهل البيت عليهم السلام، فيكون حينئذٍ محل اقتطاف تلك الثمرة هو هذا المجتمع في هذه الأرض فلذلك يكون الناس سعداء، بمعنى مرتاحين من جميع الجوانب، الجوانب الحضاريّة والمدنية والثقافية والسياسية والعسكرية، كل الجوانب التي ترتبط بحياة الإنسان، تتوفّر أحسن سبل الراحة في العراق في عصر الإمام عجل الله فرجه.
ولذلك نجد أنّ الإنسان في العراق سوف يتغيّر، هذه الحالة من حالة الهزيمة والتعب والمرارة والعذاب والشقاء وإذا يتحوّل إلى مجتمع مثالي، لابدّ أن نتحدّث عنه ضمن الحديث عن خصوصيّات المجتمع المهدوي.
عاصمة الدولة المهدوية:
المجتمع المهدوي يختلف عن باقي المجتمعات بخصوصيّات لم تتوفّر قبل الظهور، وإنما تكون هذه الخصوصيات قد توفرت بعد ظهوره عجل الله فرجه، فعندما تتوفر السبل العمرانية والحضارية بطبيعة الحال يكون سبباً للهجرة، فعلى سبيل المثال المدينة المنورة عندما جاءها النبي صلى الله عليه وآله كان لا يقطنها إلاّ الأوس والخزرج وبعض اليهود في مناطق وحصون بعيدة عن داخل المدينة، أي أنها كانت قرية صغيرة، أمّا مكّة فكانت تسمّى أمّ القرى، لأنّ فيها كل وسائل الراحة التي تجبى من الشام وتجبى من اليمن ومن حضارات الدنيا من الفرس والروم، وما إلى ذلك، لكن بعدما جعل الرسول صلى الله عليه وآله المدينة عاصمة له بدأت الهجرة، لتوفّر وسائل الراحة، ولذلك صار من حيث الكم والنفوس العدد أكبر بالنسبة إلى سكّان المدينة والتنوّع من جميع العرقيّات ومن جميع الناس، حتى تجد الرومي قد سكن ـ الرومي يعني الأوربي في زماننا ـ المدينة.
في عصر الإمام عندما يكون العراق وتكون الكوفة عاصمة الإمام وتتوفّر في هذه العاصمة كل وسائل الراحة وتطوّرات المدنيّة، حينئذٍ يكون الحضور والهجرة تكون بكثرة بحيث تعبّر تلك الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: «إذا قام قائم آل محمد عجل الله فرجه بنى في ظهر الكوفة مسجداً له ألف باب واتّصلت بيوت الكوفة بنهر كربلاء».(8)
يعني أن الدنيا سوف تهاجر إلى هذه المنطقة، هذه المنطقة الخربة، التي خرّبها صدام وخرّبتها الأنظمة يعمّرها المهدي، وتعمّر في عصر قبل المهدي، ولكن يتم التعمير الأعظم عندما يظهر بقية الله.
هذا التطوّر في هذه المنطقة بالخصوص ـ وهي العراق ـ حقّاً أن يكون أسعد الناس به أهل الكوفة، يعني أهل العراق، لما يظهر في هذه المنطقة منن تطوّر كبير، والحديث طويل جدّاً.
واكتفي بهذا المقدار، لكني أرجو أن يوفّق الحاضرون لمتابعة الموضوع ومعرفة الدور المطلوب من العراقي.
طبعاً أن القضية المهدوية بالبداية عقيدة في العقول والنفوس، ولكننا نؤمن أن العقيدة المهدوية لها آثارها الحياتية في واقع المجتمع العراقي، وهناك بحث كتبته سابقاً هو أثر العقيدة المهدوية في الفكر السني، يعني الفارق بين أثر العقيدة المهدوية في الفكر السني عن الفكر الشيعي وأثر العقيدة المهدوية في تأريخ الشيعة وحاضر الشيعة، وأهم أثر واقعي هو أن يعيش الإنسان الإيجاب والإيجابية والتغيير والتحول نحو الأحسن.
والحمد لله رب العالمين
الأسئلة والأجوبة
السؤال الأول:
أوّلاً: أود أن اتفق مع سماحة السيد أن العراق نقطة الانطلاق للمشروع الحضاري الإسلامي المعاصر، وأنه نقطة الانطلاق كما تقول كنوداليزا رايس مستشارة الأمن القومي: أن العراق اليوم نقطة انطلاق لشرق أوسط جديد.
ثانياً: هناك حملة شديدة تتهّم الروايات المهدوية بالضعف والإرسال واضطراب المتون وضعف بعض روات أسانيدها مثل المفضّل بن عمر، فما يقول سماحة السيد بهذا الأمر؟
الجواب: أشكر الأخ الدكتور العميد(9) على ما كتبه وأشكره على حفاوته وتهيئة الظروف والأجواء الأخوية والعلمية، وأسأل الله له ولكم التوفيق وأكثر وأكثر، وأن يجعلنا من جند الإمام المهدي عجل الله فرجه.
أمّا بالنسبة لتوثيق السند للروايات، فهذا موضوع قائم بنفسه، أي أن هناك بحث بالنسبة إلى موضوع روايات الظهور.
أمّا اتهام هذه الروايات بالضعف فلي بحث مكتوب ومطبوع حول روايات الظهور عموماً بالشكل العام، ففي الفكر الإسلامي عندنا نوعان من الروايات:
النوع الأوّل: الروايات العامّة التي تحدّثت عن المهدي وعلامات الظهور، والتي يدخل أكثر تلك الروايات تحت عنوان كتاب الملاحم لابن المنادي وكتاب الفتن لأبي نعيم، هذان الكتابان موضع نقد من حيث السند، ولو أن السيد ابن طاووس عندما كتب كتاب الملاحم والفتن في علامات الظهور إنما اعتمد على هذين الكتابين بالدرجة الأولى، ولذلك نعتبر من حيث الأسانيد أنّ هذه الأسانيد ساقطة من الاعتبار ولا يمكن نعمل عليها.
النوع الثاني: وهي روايات الشيعة الموجودة في كتاب الغيبة للنعماني، والغيبة للشيخ الطوسي، وإكمال الدين للشيخ الصدوق، وغيرها من كتب الشيعة، ففيها من الروايات المتينة والصحيحة سنداً ودلالة، ولكن نحتاج إلى وقت خاص لتفصيل هذا الموضوع، نسأله تعالى أن يوفقنا للحديث عنه لاحقاً بشكل مفصّل.
السؤال الثاني: نجد في كثير من الروايات والمقالات ما يذم أهل العراق ويتّهمهم بالنفاق، ولذا نجدهم قد وضعوا منهجيّة تنشر اليأس في قلوب الكثيرين وتخمّد الروح الثوريّة لدى الناس، لأنّها في الغالب تذكر السلبيّات دون الإيجابيّات.
الجواب: في الواقع لا توجد رواية يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق، لم نجدها في نهج البلاغة ولا فيمن استدرك على نهج البلاغة، ما نسب لأمير المؤمنين عليه السلام، وإنّما هو افتعال قام به الأمويّون لأجل حربهم ضدّ العلويين باعتبار أنّ العراق تأريخياً كان علوياً نشأةً، وكان علوياً جهاداً، وكان علوياً سياسياً، وفي كل أبعاده بقي العراق مع أهل البيت وسوف يبقى العراق مع أهل البيت إلى أن يظهر المهدي إن شاء الله.
ولذلك حظي العراق بحرب ضروس من الأمويين فاختلقوا من تلك الأكاذيب التي تحدثوا فيها عن أهل العراق.
وأمّا ما نجده في بعض الروايات من خطب أمير المؤمنين عليه السلام فهو نحن نعبّر عنه منطقيّاً ـ أي بالمنطق الأورسطي ـ بالقضيّة الخارجية، يعني يتحدّث عن مجتمع عاصره وعانى من هذا المجتمع من مرارات، ولذلك كان يتحدّث عن بعض الحاضرين ولم يكن قد تحدث عن المجتمع كمجتمع، بل بالعكس لو أراد الفقيه أن يحدّد الصورة الدينيّة والرؤية الإسلامية والشيعيّة للمجتمع العراقي لرآه ممدوحاً، وأهم رواية ـ في نظري ـ تحدّثت عن الكوفة هي ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: «يا كوفة ما أرادك جبّار بسوء إلاّ قصمه الله»(10)، يعني أنّ الله نصر الكوفة وسوف ينصر الكوفة ويحفظ الكوفة ويجعلها المنطقة التي تؤدي دورها المطلوب في دولة الإمام.
سؤالان يتمحوران في محور واحد:
الأول: هل تدل الأحداث الحالية في العراق وفي دول أخرى على أنّنا نعيش في عصر الظهور؟
الثاني: حاول سماحة السيد المحاضِر أن يطوّع الواقع ومجرياته ليوحي للمستمع وليدلل على أن المرحلة الراهنة هي مرحلة ما قبل التمهيد، أي المرحلة الأولى، في حين أنّ العراق مرّ بمراحل مماثلة على مرّ تأريخه وحتى عصرنا الحالي خاصة في العصر الوسيط الذي عاصر السنوات الأخيرة للدولة العباسية وتلى سقوطها والويلات التي مرّت على العراق، كان تلك الفترة والتي كانت من أقسى الفترات لعلّه المقصود على العراقيين أنّ ظروف الظهور تحتاج إلى وقت طويل لكي تمهّد لذلك الظهور، وهي تحتاج منّا نحن العراقيين بالذات العمل الجاد والدؤوب لنكون بحق الممهدين لتلك الدولة.
الجواب: نتفق أنّ المرحلة طويلة وليس مرحلة بالأيام، عندما نتكلم بالمرحلة لا نقصد يومين أو شهرين أو سنتين سوف يظهر المهدي عجل الله فرجه، وإنّما نتحدّث عن العناصر بشكلها العام، فمثلاً الشيخ المجلسي عندما تحدّث عن التوطئة للمهدي تحدّث قال عن الدولة الصفوية، وهو كتب كتاب البحار في زمان الدولة الصفوية: إنّ هذه الدولة التي سوف تسلم للمهدي الراية وتسلم للمهدي عجل الله فرجه الأمور.(11)
على كل حال نحن نعيش في الأمل ونبقى بالأمل، أمّا تشخيص هذه المرحلة فلا أتحدّث بالتشخيص الدقيق، والتشخيص الدقيق قد يكون نوعاً من أنواع التوقيت المذموم الذي نهينا عنه، وإنّما أتحدّث عن المرحلة بخصوصيّاتها العامّة التي نعيشها.
لا إشكال نحن الآن في المرحلة الأولى أو الثانية وليس نحن في مرحلة الظهور، ولكن في المرحلة التي تمهّد إن شاء الله لظهوره، وقد تكون هذه المرحلة ألف سنة أو سنة أو سنتين أو أيّام أو أشهر، علم ذلك عند الله، لأنّ التوقيت مذموم ونهينا عنه، فلم يكن المقصود من كلامي هو التوقيت، وإنّما الطرح العام لتوضيح الرؤية الدينية والشيعية لحركة الإمام ومستقبلها.
والحمد لله رب العالمين
الهوامش
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الأنبياء (21): 107.
(2) لاحظ: الإرشاد للشيخ المفيد: 2/ 369، كشف الغمة للأربلي: 3/ 256.
(3) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «...لابد للناس أن يمحصوا ويميزوا ويغربلوا وسيخرج من الغربال خلق كثير»، راجع كتاب الغيبة للنعماني: 204، ح6.
(4) راجع كنز العمال للمتقى الهندي ج 14 ص 263 ح 38657.
(5) الإرشاد للشيخ المفيد: 2/ 380، كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: 469.
(6) دلائل الإمامة للطبري (الشيعي): 455.
(7) كتاب الغيبة للنعماني: 15.
(8) شجرة طوبى للشيخ الحائري: 1/ 178، إعلام الورى للطبرسي: 2/ 287.
(9) المقصود: الدكتور عبد الأمير زاهد عميد كلية الآداب في جامعة الكوفة، حيث أقيمت هذه الندوة على قاعتها.
(10) لاحظ: مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: 2/ 84، شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: 417 الحديث 766.
(11) لاحظ: بحار الأنوار: 52/ 243 ذيل الحديث 116.
source : http://alhikmeh.com