عربي
Sunday 24th of November 2024
0
نفر 0

في علمه تعالى


في هذا الفصل يقع الكلام في عدة مسائل:
1_ علمه تعالى بذاته:
الله سبحانه وتعالى عالم بذاته، وعلمه بذاته علم حضوري، وذلك لأنه تعالى مجرد عن المادة، وكل مجرد فهو عقل وعاقل ومعقول، والعاقل هو المدرك لذاته، فالباري تعالى مدرك لذاته، حاضر لذاته، وعلمه بذاته علم حضوري، لأن المجرد ليس لديه الا العلم الحضوري، ولا علم حصولي لديه.
2_ علمه بغيره قبل الايجاد:
لا يوجد في عالم الوجود حقيقة سوى الحق، فهو الموجود بالذات، وهو يعلم بافعاله قبل وجودها، لأنه ما دام فاعلاً لهذه الاشياء فهو متقدم رتبة على فعله، وهذا يعني انه تعالى عالم بغيره قبل الايجاد.
وبعبارة أخرى هو يعلم بكل شيء يخلقه قبل وجوده، وان علمه بالأشياء في مرتبة ذاته قبل وجودها، هو علم اجمالي في عين الكشف التفصيلي. ولكي تتضح هذه المسألة فلابد أن نستذكر النقاط التالية:
الأولى: تبين فيما سبق ان كل مجرد يكون حاضراً لذاته وعالماً بذاته، فالباري تعالى باعتباره مجرداً فهو حاضر لذاته وعالم بذاته بالعلم الحضوري.
الثانية: ان الباري تعالى هو المفيض والمبدأ لكل عالم فاقد الشيء لا يعطيه. إذاً معطي الوجود والكمال الوجودي لا يمكن أن يكون فاقداً لذلك الوجود أو الكمال الوجودي.
إذا اتضحت هذه النقاط نقول: ان الله سبحانه وتعالى باعتباره مفيض هذا الوجود والكمال الوجودي، فهو واجد لكل كمال وجودي في مقام ذاته.
إذاً هو تعالى عالم بكل الوجودات والكمالات الوجودية، لان ذات الباري تعالى باعتبارها معطية لكل وجود وكل كمال وجودي، فهي واجدة لكل وجود وكل كمال وجودي.
من هنا فهو عالم بكل وجود وكل كمال وجودي في مقام ذاته قبل الايجاد وقبل الخلق، باعتباره عالماً بذاته، وذاته تشتمل على كل وجود وكل كمال وجودي، فهو عالم بكل وجود وكل كمال وجودي في مرتبة ذاته.
اذا اتضح هذا نقول: ان علمه بذاته علم حضوري، أي ان ذاته حاضرة لذاته، ولكن علمه بالاشياء قبل وجودها علم اجمالي يشتمل على التفاصيل، يكون منبعاً للتفاصيل، أي هو علم اجمالي بمعنى انه بسيط.
وانما يكون هذا العلم باعتبار ان كل ما سواه من الموجودات هي معلولة له، وهي منتهية اليه اما بلا واسطة أو بواسطة أو بوسائط، وبالتالي هي قائمة الذات به قيام الرابط بالمستقل، فتكون حاضرة عنده بوجوداتها ان كانت مجردة، وحاضرة بصورها المجردة ان كانت مادية.
3_ علمه بغيره بعد الايجاد:
كذلك له علم حضوري تفصيلي بما سوى ذاته من الموجودات في مرتبة ذواتها، يعني بعد وجودها، ولكن هذا العلم خارج عن ذاته. وان علمه بها يقتضي العلم بما لديها من علم.
تتمة _ معنى السميع والبصير:
عندما نقول: الله سبحانه وتعالى سميع بصير، فهل السمع والبصر من الصفات المستقلة عن العلم أو يمكن ارجاع صفة السمع والبصر الى العلم؟
هنا وقع خلاف، فبعضهم قال بأنها من الصفات المستقلة عن العلم بحسب المفهوم، وبعضهم قال ان مرجع السمع والبصر الى العلم.
انك عندما تقول: فلان يسمع، فهذا يعني انه يعلم باشياء من خلال أُذنه، أي عن طريق السمع، وهي تختلف عن العلوم التي يحصلها عن طريق البصر، لان للمسموعات آلة السمع، وللمبصرات آلة البصر.
فاذا فرضنا ان هناك موجوداً مجرداً يسمع من دون آلة سمع ويبصر من دون آلة بصر، فلا معنى لان نقول: ان علمه بالمسموعات هو عن طريق آلة السمع، لانه ليس لديه آلة سمع، وعلمه بالمبصرات، عن طريق البصر، لانه لا آلة بصر لديه. إذاً السمع بالنسبة اليه تعالى هو علمه بالمسموعات، والبصر هو علمه بالمبصرات.
تنبيه واشارة _ في الاقوال في علم الباري تعالى:
ذكر الطباطبائي في هذا التنبيه والاشارة الاتجاهات والاقوال في علم الباري تعالى، وهي:
القول الأول:
ان الباري تعالى يعلم بذاته دون مخلوقاته ومعلولاته، باعتبار ان الذات المتعالية أزلية فهي معه فهو يعلم بذاته، أما كل معلول من معلولاته فهو حادث، فهو لا يعلم به علماً قديماً.
لكن الطباطبائي ناقش في ذلك فقال: ان العلم بالمخلوقات والمعلولات في الأزل، لا يستوجب كون هذه المعلولات والمخلوقات موجودة منذ الازل، لأنه يمكن أن يعلم بهذه الموجودات قبل وجودها على ما بيناه، فان هناك ثلاثة اقسام لعلم الباري، هي علمه بذاته، الذي هو عين ذاته، وهو علم حضوري، وعلمه بالموجودات قبل وجودها، وهو عين ذاته، وهو علم حضوري ايضاً، وعلمه بالموجودات بعد وجودها، وهو علم تفصيلي حضوري خارج عن ذاته.
إذاً العلم بالموجودات قبل وجودها لا يعني ان هذه الموجودات لابد ان تكون موجودة منذ الأزل لكي يعلم بها، وانما يمكن أن يعلم بها قبل وجودها.
وهذا القول مبني على انحصار العلم الحضوري في علم الشيء بنفسه، اما غير علم الشيء بنفسه فيعتبره صاحب هذا الرأي علماً حصولياً تابعاً للمعلوم، بينما العلة المجردة تكون عالمة بمعلولها المجرد علماً حضورياً.
القول الثاني:
وهو منسوب الى المعتزلة، وهذا القول يرى ان للماهيات ثبوتاً عينياً قبل وجودها، يعني هناك حالة بين العدم والوجود، وهذه الحالة تكون الماهيات ثابتة فيها. فهو تعالى يعلم بالماهيات قبل وجودها.
لكن هذا القول مبني على افتراض ان هناك حالة بين الوجود والعدم، وهي ثبوت الماهية الممكنة مع انها لا موجودة ولا معدومة وانه لا يمكن تعقل حالة بين الوجود والعدم. إذاً لا يمكن ان يتحقق الثبوت للماهيات الممكنة التي تكون لا موجودة ولا معدومة، فهذا القول ايضاً باطل.
القول الثالث:
وهذا القول منسوب الى الصوفية، وهو يرى ان للماهيات الممكنة ثبوتاً علمياً يتبع الاسماء والصفات، وهذا الثبوت هو المتعلق لعلم الباري تعالى قبل وجود الماهيات. فالصوفية يرون ان الماهيات ثابتة بنحو التبعية للاسماء والصفات الالهية وليس بنحو الاستقلال.
وبعبارة أخرى ان الصوفية ذهبوا الى ان هناك عالماً مستقلاً هو عالم الاسماء والصفات، في قبال العوالم الاخرى، وهذا العالم كما قال بعضهم هو عالم عظيم جداً. وهذا العالم عالم اسماء الله وصفاته فيه لوازم، ومن لوازمه الماهيات الثابتة ثبوتاً علمياً قبل وجودها، يعني ان الماهيات الممكنة لها ثبوت علمي في ذلك العالم، الذي هو عالم الاسماء والصفات، وهذا الثبوت هو المتعلق لعلم الباري قبل وجود هذه الماهيات.
وفي الجواب على ذلك ذكر الطباطبائي اننا قلنا: ان الماهيات ليست موجودة قبل وجودها العيني الخاص، يعني بناءً على القول بأصالة الوجود واعتبارية الماهية، فالماهية أمر اعتباري، لان الماهيات هي تجليات وحدود الوجود، فلا يمكن ان يكون عندنا حد دون ان يكون هناك محدود، ولا يمكن ان ننتزع ماهية من دون منشأ لانتزاعها، وهو الوجود الامكاني، الوجود المحدود، بينما مفروض كلام الصوفية ان الماهيات لها تعين وثبوت علمي قبل الوجود، بينما اصالة الوجود واعتبارية الماهية تنفي ذلك، فانه قبل ان يوجد الوجود لا ماهية، أو قل قبل المحدود لاحد، فلا معنى لثبوت الماهيات قبل الوجود، حتى وان كان هذا الثبوت ثبوتاً علمياً لازماً لعالم الاسماء والصفات،وليس ثبوتاً عينياً استقلالياً.
القول الرابع:
وهو المنسوب الى افلاطون، فافلاطون يرى ان هناك عالماً، وذلك العالم توجد فيه نماذج ونسخ من هذا العالم. وبعبارة أخرى يعتقد أفلاطون ان لكل نوع من الانواع المادية الموجودة في عالم الطبيعة نسخة ونموذجاً في عالم آخر، وهذه النسخة مجردة، ولكنها تشتمل على كل الكمالات.
يعني ان هناك مفارقات للمادة وهي المفارقات النورية والمثل الالهية، وهي تشتمل على كل كمالات الانواع الموجودة في عالم الطبيعة، ولذلك يعبر عنها بارباب الانواع، لأنها هي التي تدبر هذه الانواع الموجودة، وهي التي تخرجها من حالة القوة الى حالة الفعلية، ومن الاستعداد إلى الكمال.
وعلى هذا الاساس فان هناك مفارقاً نورياً ومثلاً الهياً، يكون واجداً ومشتملاً على كل الكمالات الممكنة للنوع المادي. وان هذه المفارقات وهذه المثل الالهية المشتملة على كل الكمالات تكون عالمة بما في الطبيعة، باعتبار ان كلاً منها نموذج لما في عالم الطبيعة من انواع، وعلم الباري تعالى التفصيلي هو علمه بهذه المفارقات النورية، يعني ان علمه بهذه المفارقات النورية والمثل الالهية المجردة في ذلك العالم هو علمه بما لديها من علم، وبما ان كل واحد منها هو رب لنوع من هذه الانواع الموجودة في عالم الطبيعة ويشتمل على كمالات هذا النوع، فلديه علم تام بذلك النوع، فعلم الحق تعالى بهذا النوع المجرد يعني علمه بما عنده من العلم، فيكون علمه التفصيلي بالاشياء عن طريق علمه بهذه الموجودات التي في ذلك العالم.
يقول الطباطبائي على تقدير ثبوت هذا الكلام، فهذا انما يكفي لتصوير العلم التفصيلي بالاشياء في مرتبتها، لا في مرتبة ذات الباري، فتكون ذات الباري خالية من العلم بالاشياء قبل وجودها. وقد ذكرنا ان ذات الباري وجودها وجود صرف يشتمل على كل كمال ولا يشذ عنه كمال وجودي.
وبعبارة أخرى قلنا: ان علم الباري له ثلاثة انواع، علمه بذاته، وعلمه بالاشياء قبل وجودها، وعلمه بالاشياء بعد وجودها، بينما نحن نريد ان نثبت علم الباري بالاشياء قبل وجودها. ولازم هذا القول ان الباري تعالى في مقام ذاته لا يعلم بالاشياء، وهذا خلف ما تقدم من ان ذاته بسيطة مشتملة على كمال وجودي، ولا يشذ منها وجود أو كمال وجودي.
القول الخامس:
وهو المنسوب إلى شيخ الاشراق السهروردي، وتبناه ايضاً مجموعة من المحققين، وهذا الرأي يذهب الى ان الباري تعالى يعلم بالاشياء علماً حضورياً، وان سائر الاشياء المجردة والمادية حاضرة لديه بالعلم الحضوري، وعلمه بها علم تفصيلي.
وهذا القول ايضاً باطل، لان المادية تجامع الغياب ولا تجامع الحضور، فالشيء المادي لا يمكن ان يكون حاضراً لا لنفسه ولا لغيره، واجزاؤه بعضها غائب عن بعضها الاخر، وهو غائب عن نفسه، بينما الأمر المجرد هو الحاضر، والحضور يعني التجرد.
مضافاً إلى ان هذا الكلام يبين لنا العلم التفصيلي في مرتبة وجود الاشياء، بينما نحن نتحدث عن العلم قبل وجود الاشياء، يعني في مرتبة ذات الباري، وعلى هذا الاساس تبقى الذات خالية من العلم بالاشياء قبل وجودها، بينما بينا فيما سبق ان له علماً حضورياً بالاشياء قبل وجودها. إذاً هذا القول غير مقبول ايضاً.
القول السادس:
وهذا القول منسوب إلى طاليس المالطي، وهو يقول انه تعالى يعلم العقل الاول، والعقل الاول هو الصادر الاول منه، ويعلم به لانه حاضر عنده، والحضور هو العلم، ثم انه يعلم الاشياء الاخرى غير العقل الاول، باعتبار انها معلومة للعقل الاول ومرتسمة صورتها للعقل الاول، أي ان العقل الاول يعلم بها علماً حصولياً.
وهذا الكلام يمكن مناقشته كما ناقشنا القول السابق، فنقول ان هذا يلزم منه خلو الذات المتعالية عن الكمال الوجودي، بينما الذات واجدة لكل كمال، وبمعنى آخر ان هذا القول يلزم منه ان الذات لا تكون عالمة بالموجودات قبل وجودها، بينما قلنا ان الذات عالمة في مرتبة ذاتها بالموجودات قبل وجودها.
كما ان هذا القول ايضاً يلتزم شيئاً باطلاً، وهو ان العقول المجردة التي قالوا بوجودها، لها علم حصولي ارتسامي، بينما قال الطباطبائي: ان العقول المجردة ليس لها علم حصولي ارتسامي، وانما علمها علم حضوري.
القول السابع:
ما نسب الى بعضهم، من ان ذاته تعالى تعلم علماً تفصيلياً بالمعلول الاول، يعني بالعقل الأول، وتعلم علماً اجمالياً بما دونه، والمعلول الاول يعلم علماً تفصيلياً بالمعلول الثاني وعلماً اجمالياً بما دونه، والمعلول الثاني له علم تفصيلي بالمعلول الثالث وعلم اجمالي بما دونه، وهكذا.
لكن يرد عليه، ان الذات المتعالية _على هذا القول _ تكون خالية عن الكمال العلمي بما دون المعلول الاول، يعني ان الذات تعلم بالمعلول الاول علماً تفصيلياً، بينما لا تعلم علماً تفصيلياً بالمعلول الثاني الذي تحت المعلول الاول، وانما تعلم به علماً اجمالياً مبهماً. وهذا يعني تفريغ الذات من الكمال، أي سلب كمال من الكمالات من الذات المتعالية، بينما قلنا ان الذات المتعالية تشتمل على كل كمال ولا يشذ منها كمال وجودي.
القول الثامن:
وهو المنسوب إلى فرفوريوس، فقد قال ان علمه تعالى انما يكون بالاتحاد مع المعلوم.
ويرد على هذا القول:
أولاً: نحن لسنا في مقام كيفية تحقق علم الباري، وانما في مقام بيان ان الباري يعلم بالاشياء قبل وجودها أو لا يعلم، فهذا القول يبين كيفية تحقق علم الباري، وان علمه يكون باتحاد العاقل مع المعقول.
ثانياً: ان هذا القول لم يبين لنا ثبوت علم الباري بالاشياء قبل وجودها أو بعد وجودها، يعني هو غض النظر عن هذه القضية، بينما نحن نريد ان نعرف أإنه يعلم بالاشياء قبل وجودها أم لا يعلم.
القول التاسع:
وهو منسوب الى أكثر المتأخرين، وهو يرى ان له تعالى علماً تفصيلياً بذاته، وله علم اجمالي بالأشياء قبل وجودها، اما الاشياء بعد وجودها فيعلم بها علماً تفصيلياً، لان العلم تابع للمعلوم ولا معلوم قبل الوجود العيني للمعلوم.
ويرد على هذا الكلام:
أولاً: محذور خلو الذات عن الكمال العلمي، كما بينا في مناقشة الأقوال السابقة.
ثانياً: ايضاً في هذا القول اثبات العلم الحصولي للباري تعالى، يعني اثبات ارتسام العلم بالنسبة الى الموجود المجرد، وقد قلنا ان الموجود المجرد لا علم حصولي له، وانما علمه علم حضوري.
القول العاشر:
وهو القول المنسوب الى المشائين، وهذا القول يرى ان الحق تعالى يعلم بماهيات الاشياء، وهذا العلم لا يقبل الاتحاد مع ذاته، وإنما هذه الماهيات تكون قائمة بالذات الالهية نظير قيام الماهيات لدينا في الوجود الذهني، فعندما نعلم بماهيات الاشياء، يعني ذلك انها ليست متحدة مع الذات، وإنما هي قائمة بالذات.
وهذا العلم انما يكون علماً كلياً لا جزئياً والمراد بالكلي هنا هو العلم الثابت الذي لا يتغير بتغير المعلوم بالخارج، يعني ان هذا العلم لا يتغير قبل الايجاد وحين الايجاد وبعد الايجاد. وهو علم عنائي حصوله العلمي نفس حصوله العيني.
إن الفاعل بالعناية هو الفاعل الذي له إرادة وعلم سابق على الفعل، ولكن هذا العلم نفسه يكون هو المنشأ لصدور الفعل من الفاعل، كمن وقف على شاهق ثم لاحظ القاع، فنفس ملاحظته للقاع كانت هي السبب لاختلال توازنه وسقوطه. إذاً علمه هو السبب لسقوطه. فالعلم الكلي على وجه الكلية، بمعنى لا يتغير فيه العلم بتغير المعلوم، هو علم عنائي، أي ان حصوله العلمي مستتبع لحصوله العيني.
المتكلمون قبلوا هذا القول أيضاً، فذهبوا الى ان علم الباري تعالى بالاشياء قبل وجودها انما يكون بحضور ماهياتها لديه، ليس على نحو الاتحاد، وإنما على نحو القيام بذاته، كقيام الماهيات في اذهاننا، وهذا العلم علم كلي، أي لا يتغير فيه العلم بتغير المعلوم في الخارج، فهو علم ثابت قبل الايجاد واثناء الايجاد وبعد الايجاد، وهو علم عنائي أي ان الحصول العلمي يستتبع الحصول العيني.
لكن المتكلمين ناقشوا في مسألة الكلية، فقالوا: ان هذا العلم ليس علماً كلياً، وهذه المناقشة نشأت من الالتباس في فهم معنى الكلية، اذ لاحظوا ان معنى الكلية هو ما لا يمتنع صدقه على كثيرين، بينما قلنا ان المقصود بالكلية هنا ليست في مقابل الجزئية، عند ابن سينا ومن تبعه وليس ما يمتنع فرض صدقه على كثيرين، وإنما يريد بالكلية عدم تغير العلم بتغير المعلوم.
لكن هذا القول نوقش بعدة مناقشات، وهي:
1_ ان هذا القول يعني خلو الذات عن الكمال في مرتبة الذات، يعني ان هذا القول تمكن ان يصور لنا علم الباري بالاشياء قبل الايجاد تفصيلاً، إلا ان هذا العلم زائد على الذات وليس عين الذات، وهذا يعني ان مقام الذات يكون خالياً عن الكمال العلمي.
2_ في هذا القول محذور ثبوت العلم الحصولي لما هو مجرد ذاتاً وفعلاً، وقد بينا فيما سبق ان العلم الحصولي لا يكون ثابتاً لما هو مجرد.
3_ ان لازم هذا القول ثبوت وجود ذهني من دون وجود عيني يقاس اليه، وهذا يعني انه يتحقق وجود عيني للماهية قبل وجود الماهية الخاص، وهذا الوجود العيني للماهية قبل وجود الماهية الخاص، يكون منفصل الوجود عنه تعالى، وحينئذٍ بالتدقيق يعود هذا القول الى قول افلاطون.
وببيان آخر، قلنا فيما سبق في مبحث الوجود الذهني، ان الماهية الحاضرة في الذهن يمكن ان نلاحظها بلحاظين، فصورة الكتاب في ذهنك حين نلاحظها بما هي كاشفة عن الخارج، فهذا نسميه وجوداً ذهنياً، والكتاب الذي في الخارج نسميه وجوداً خارجياً. يعني مفهوم الكتاب، أي الصورة الذهنية للكتاب اذا لاحظناها بما هي مقيسة للخارج وحاكية عن الخارج وكاشفة عنه، فبهذا اللحاظ نعبر عنها بالوجود الذهني.
أما لو لاحظناها من زاوية أخرى بما هي موجود من الموجودات، بقطع النظر عن الخارج فانها تكون موجود من الموجودات الخارجية، فهي كيف نفساني تترتب عليه آثار الكيف، ولذلك تندرج تحت مقولة الكيف بالحمل الشائع، وينطبق عليها انها مصداق للكيف.
من هنا يتضح أن هذا القول يذهب إلى ان الماهيات ثابتة للذات بنحو الوجود الذهني، فاذا كانت الماهيات ثابتة قبل وجودها بنحو الوجود الذهني، فمعنى ذلك انه لابد من وجود خارجي لكي يحكي عنه هذا الوجود الذهني، فاذا لم يكن هناك وجود خارجي يحكي عنه هذا الوجود الذهني فلا يعقل ان يتحقق وجود ذهني للماهيات قبل وجود خارجي يحكي عنه هذا الوجود الذهني، لان الوجود الذهني إنما نسميه وجوداً ذهنياً إذا كان مقيساً الى الخارج، بينما كلامنا في وجود الماهيات للذات المقدسة قبل وجودها في الخارج.
ان هذا الوجود الذهني لا يتحقق ما لم يتحقق وجود خارجي للماهيات يقاس اليه، فاذا لم يكن هناك وجود خارجي، نرجع الى هذا الوجود الذهني للماهيات، فماذا يكون بقطع النظر عن الخارج.
الجواب: يكون وجوداً عينياً وخارجياً وليس وجوداً ذهنياً، فاذا اصبح وجوداً عينياً، وهو ليس عين الذات ولا جزء ذات الباري، فيكون زائداً على الذات، وإذا كان زائداً على الذات، فيكون وجوداً خارجياً للماهيات قبل وجودها الخاص بها في الخارج، وهذا الوجود يكون منفصلاً عنه تعالى.
فحينئذ إذا تأملنا في هذا القول فمعناه يعود الى قول افلاطون، وهو القول الرابع، أي أن علم الحق بالاشياء عن طريق المفارقات النورية أو المثل الالهية.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الحثّ على الجهاد
الارتباط بين الفكر الأصولي والفلسفي
الآيات الدالّة على الشفاعة التكوينية
بعض اقوال علماء اهل السنة والجماعة في يزيد ابن ...
الله سبحانه وتعالى احيا الموتى لعزير
کيف نشأة القاديانية و ماهي عقيدتها
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكرَى تَنفَعُ ...
العلاقة بين رجل الدين والمجتمع
مسؤوليات الشباب في كلام القائد
ما تفسیر آیة "ما یَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ ...

 
user comment