عربي
Saturday 2nd of November 2024
0
نفر 0

إثبات الأشاعرة لرؤيته تعالى في الآخرة


من المسائل التي دار حولها جدال بين المعتزلة والأشاعرة مسألة رؤيته تعالى، إذ تتصل المشكلة إتصالاً وثيقاً بمشكلة خلق القرآن، فالقائلون بخلق القرآن لزمهم من ذلك نفي الرؤية ـ وهم المعتزلة، والقائلون بقدم القرآن لزمهم إثبات الرؤية ـ وهم الأشاعرة، إلا أن هؤلاء أثبتوا الرؤية له تعالى في الآخرة لا الدنيا، خلافاً لبعض فرق المجسمة والمشبهة، والذين أجاز بعضه حلوله تعالى في ذات الأشخاص، بينما أجاز بعضهم رؤيته تعالى في الآخرة من جهة فوق مستوياً على عرشه أو بلا كيف.
كذلك يرتبط موضوع الرؤية ـ رؤيته تعالى في الآخرة ـ بموضوع الجهة بأعتبار أن الرؤية البصرية تستلزم وجود المرئى في جهة معينة من الرائى وهي المقابلة، فالمثبتون الجهة له تعالى والنافون لها من الأشاعرة أثبتوا رؤيته تعالى في الآخرة إستناداً إلى أن المصحح للوجود هو الرؤيه.
أما المعتزلة، فقد نفوا رؤيته تعالى تبعا لنفيهم عنه الجهة، وفسروها بمعنى العلم.
كذلك أعتبر البعض ان رأي كل فرقة من المثبتين الرؤية والنافين لها إنما يقوم على مذهب كل منهم في موضوع السببيه، فالقائلين بأن العلاقات ضرورية بين الأسباب والمسببات، كالمعتزلة، نفوا الرؤية تبعا لذلك، والقائلين بأن العلاقات بين الأسباب والمسببات غير ضرورية، وهم الأشاعرة، أثبتوا له تعالى الرؤية.
فإذا ذهبا متتبعين المذهب في هذا الموضوع لدى الأشاعرة، وجد أن الأشعري: قد أجاز رؤيته تعالى عقلاً وأوجبها سمعاً، إذ حاول جاهدا أن يبرهن على جوازها ثم على وقوعها للمؤمنين من العباد في الجنة يوم القيامة وقد ساق في ذلك أدلة متعددة من حديث وقرآن وبرهان. فقد أجاز الأشعري رؤيته تعالى في الآخرة عقلاً. وذهب إلي أن المصحح لها هو الوجود، والباري تعالى موجود، فيصح إذن أن يرى خلافاً للمعدوم.
والأشعري في ذلك يجيز رؤية كل موجود كالأصوات والطعوم، ويذهب الى أنه تعالى يجوز أن يخلق فينا رؤيتها، وانما لا نرى تلك الأشياء لجريان العادة من الله بذلك. ولا تشترط رؤيته تعالى في الآخرة اتصال شعاع أَوْجِهة ومقابلة الرائى للمرئى، أو على سبيل انطباع فكل ذلك مستحيل.
ويفرق الأشعري في ذلك بين العلم والرؤية، فيذهب الى أن معنى أن الرؤية تتعلق بعلم مخصوص، هو أن العلم يتعلق بالواجب والجائز والمستحيل أما الرؤية فلا تتعلق الا بالموجود ولا يجوز تعلقها بالمعدوم، لأنه يقتضى تعيين المرئى، والتعيين لا يتحقق في العدم. كذلك العلم لا يستدعى تعيين المدرك والرؤية تستدعى بذلك. أيضاً فان العلم يتعلق بالمعدوم وليس الادراك كذلك.
وأما كون الادراك وراء العلم فدليل أن الأكمه لو أحاط علما بما أحاط به البصير فحصل له كل علم سوى الادراك. فدل ذلك على أن الادراك زائد على العلم أو هو وراء العلم.
فاذا كانت المعتزلة تنفى الرؤية البصرية، ولكنها لا ترى مانعاً من أثبات الرؤية القلبية، أو تفسير الرؤية بمعنى العلم والاحاطة، فقد ذهب الأشعري الى تجويز رؤيته تعالى عن طريق اثباته رؤية البارى لنفسه واستدل على ذلك بثبوت العلم له تعالى \"الدليل على رؤيته تعالى بالأبصار أنه يرى الأشياء، واذا كان للاشياء رائيا، فلا يرى الأشياء من لا يرى نفسه، وإذا كان لنفسه رائيا فجائز أن يرينا نفسه، وذلك أن من لم يعلم نفسه لا يعلم الأشياء، فلما كان تعالى عالما بالأشياء، كان عالما بنفسه، كذلك من لا يرى نفسه لا يرى الأشياء، فلما كان تعالى رائيا للأشياء، كان رائيا لنفسه، وإذا كان رائيا لها فجائز بأن يرينا نفسه، وقد قال تعالى (انني معكما أسمع وأرى) فأخبر أنه يسمع كل منهما ويراهما، ومن زعم أن الله لا يجوز أن يرى بالأبصار، يلزمه أن لا يجوز أن يكون الله رائيا، ولا عالما، ولا قادراً، لأن العالم والقادر والرائى جائز أن يرى\".
أيضاً فليس في اثبات جواز الرؤية تشبيها لله بخلقة ولا تجنيسه ولا قلبه عن حقيقته، لإنا نرى السواد والبياض لا يتجانسان ولا يتشابهان بوقوع الرؤية عليهما ولا يتحول واحد منهما عن حقيقته الى حقيقة الآخر. وعليه فليس في جواز الرؤية احتمال قلب الله عن حقيقته.
فاذا اعترض المعتزلة على الأشعري بأن هذا الدليل يجري في اللمس والذوق والشم لأن في اثباتها ما لا يستلزم محالا من تلك المحالات. فهل معنى ذلك أن الله يُلمس ويذاق ويشم؟ نرى الأشعري يذكر رأيين لأصحابه في هذه المسألة وهو يقصد بأصحابه هنا أهل السنة فأحد هذين الرأيين يرى في اثبات اللمس والذوي الشم حدوث معنى في البارى وثانيهما: أن البارى قد يحدث فينا ادراكا للملموس والمشموم والمذاق لا يتوقف على تلك المماسة أو هذا الاتصال. فاللمس ضرب من المماسات، والذوق اتصال اللسان بالشئ، والشم اتصال الخيشوم بالمشموم، والتسمية راجعة الهي تعالى. فان أمرنا بتسميته بهذه الأسماء فعلنا، وأن منعنا من ذلك امتنعنا.
والأشعري لم يجوز حدوثاً في البارى، بل أجاز حدوث أدراك منه فينا دون أن يؤدي الى حدوث معنى في البارى. وبالتالي فانا نستنتج أنه انما اختار لنفسه الرأي الثاني دون الأول، وهو جواز حدوث ادراك فينا للملموس والمذاق والمشموم لا يتوقف على ما يشترطه اللمس والذوق والشم من شروط. وهو في ذلك ينفى أن يكون تعالى لامساً أو ذائقاً أو شاماً بلا كيف، كما ألزمته بذلك المعتزلة.
فالأشعري يرى أنا لا نرى الجوهر أو العرض لكونه جوهراً أو عرضاً، ولكن الرؤية عنده جائزة لأن هذه الأشياء موجودة، والمصحح لوجود هذه الأقسام من الموجودات هو الوجود دون صفاتها النفسية.
وهكذا كانت حجج الأشعري السابقة لإثبات رؤيته تعالى في الآخرة متناقضة تمام التناقض مع مذهبه في نفي الجسمية عنه تعالى. كذلك فنحن نعتبر تلك الحجج ـ متفقين في ذلك وما ارتأه د. صبحي ـ ضعيفة لا ترقى إلى مستوى تأكيد الأشعري لها. ويعلل د. صبحي لذلك بأن الأشعري كان يحكمه في مذهبه في الرؤية ثلاثة أعتبارات: أعتبار منهجي، إذ أن معارضته للمعتزلة ليست مسألة مذهبية فحسب، وإنما هي مسألة مذهبية ومنهجية، فقد عارض نزعتهم العقلية والتي أملت عليهم أنكار الرؤية لإفادتها التجسيم المستحيل عليه تعالى، وقد تبنى بعضهم في هذا الموضوع للنزعة الصوفية كأبى الهزيل العلاف وتابعة نفر منهم وعارضه آخرون.
وهذه النزعة الصوفية تجيز رؤيته تعالى ببصيرة القلب لا ببصر العين، إذ الرؤية القلبية هي تمام معرفته تعالى معرفة ذوقية يقصر عنها العقل البشري.
لذلك وجدنا الأشعري يتبنى ـ إنطلاقاً من مخالفته للمعتزلة مذهبياً منهجيا ـ ما يعرف بالنزعة الواقعية. تلك النزعة التي تجيز الرؤية إستناداً إلى أن كل موجود يصح أن يرى أما الإعتبار الثاني ـ والذي حداً بالأشعري الى إنتحال هذا المذهب المتناقض إلى حد ما في الرؤية ـ فهو الاعتبار الفقهىـ إذ كان على الأشعري أن يتبنى آراء أمامه في الفقه وهو الشافعي وقد كانت الرؤية من المسائل التي أكدها الشافعي. ثم يأتي الاعتبار الثالث وهو الاعتبار السني، إذ كان لزاما على الأشعري أن يتبنى رأى أهل السنة فيما يتعلق بالرؤية ـ تماماً كما تبناه فيما يتعلق بنواحي مذهبه الاخرى ـ فهم قد أثبتوها إستناداً إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: \"ترون ربكم يوم القيامة\".
وإذا كانت هذه هي أدلة الأشعري العقلية، فأدلته السمعية كثيرة، ذلك أن هذه المسألة إنما تجب بالسمع وهو أقوى من العقل في الدلالة ومن هذه الأدلة السمعية قصة موسى في قوله تعالى \"رب أرنى انظر اليك\" وجوابه تعالى \"لن ترانى\" ولا يجوز أن يسأل موسى وهو من النبيين ربه ما يستحيل عليه. وجواب الرب يدل على الجواز، فانه لم يقل لست بمرئي، ولكنه أثبت العجز وعدم الرؤية من الرائى. ولذا قال تعالى \"انظر إلى الجبل فان استقر مكانه فسوف ترانى\".
فلو أراد البارى استبعاد الرؤية لقرن كلامه بما يستحيل وقوعه، ولكنه قرن كلامه بما يجوز وقوعه وهو إستقرار الجبل لكون البارى قادراً عليه. فان قيل ان حرف (لن) للتأييد. قلنا للتأكيد، لقوله تعالى (لن تستطيع معي صبراً) وهو جائز غير محال. وحتى لو كانت (لن) للتأييد فهي دلالة على منع وقوع الجائز، ولكنها ليست دلالة على الاستحالة بأي حال من الأحوال.
فاذا قيل أن موسى سأل الرؤية لقول قومه (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهره) فلو كان الأمر كذلك لكان جوابه تعالى لهم (انهم لن يرونى) كما هو الحال في قولهم (اجعل لنا إلها كما لهم) وقد سألوه محالا وكان جوابه (انكم قوم تجهلون). فالجهل راجع إليهم لا إلى الله.
كذلك يستدل الأشعري في اثباته الرؤية له تعالى بالآية الصريحة في جواز الرؤية (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) فيرى أن النظر إذا ما اقترن بالوجه كان هو الرؤية بالبصر. وليس المقصود بالنظر في الآية نظر الاعتبار كما في قوله تعالى (أفلا ينظرون إلى الإِبل كيف خلقت) كما ذهبت إلى ذلك المعتزلة، لأن الآخرة ليست بدار اعتبار.
وأيضاً فليس المقصود بالنظر في الآية التوقع والانتظار كما في قوله تعالى (ما ينظرون الا صيحة واحدة) لأن الآخرة ليست بدار إنتظار، لأن الانتظار فيه تنغيص وتكدير، وأهل الجنة لا يجوز كونهم منتظرين لأنه كلما خطر ببالهم شى أتوا به دون إنتظار. كذلك فلا يجوز أن يكون النظر في الآية بمعنى التعطف كما في قوله تعالى (ولا ينظر إليهم يوم القيامة) لأن الخلق لا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم, ولا يراد بالنظر كذلك النظر إلى ثوابه تعالى لأن ثوابه غيره.
فاذا بطلت هذه الأقسام تعين أن النظر المراد هو نظر العينين اللتين بالوجه وهو المراد بالرؤية البصرية.
ولكن الأشعري تقابله آية أخرى تنفى الرؤية تقول (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) فيؤولها على أن المراد بها في الدنيا دون الآخرة، ومن المحتمل أيضاً أن يكون المراد بها لا تدركه أبصار الكاذبين الكافرين، كما في قوله تعالى (كلا أنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) والقرآن لا يتناقض. لذلك وجب الجمع بين الآيتين.
ويرى الأشعري أنه ليس لمعترض أن يعترض على تدليله على الآية (لا تدركه الأبصار) بأنه تعالى ذكرها في وقت غير الوقت الذي ذكر فيه (وجوه يومئذ ناضرة)، وذلك بأن يقيس على ذلك قوله تعالى (لا تأخذه سنة ولا نوم) فيكون ذلك في وقت دون وقت. إذ أنه ليس من الضروري تأويل هذه الآية لعدم وجود آية أخرى تثبت له النوم هو آفه تقوم بالنائم تزيل عنه العلم، وليست الرؤية آفه، ولذلك لا يجب في شأنها ما يجب في العلم.
فإذا اعترض المعتزلة على الأشعري بنفى الرؤية استدلالاً بالآية (وجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقره) بأن الظن إذا ما أضيف إلى الوجه وأريد به ظن القلب، فكذلك النظر إلى الوجه يراد به نظر القلب لا نظر العين، أو أن يكون المراد بذلك الإنسان على الجملة، ودليل ذلك قوله تعالى (وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية) فكما أن تعليق الظن بالوجوه يقتضى أن المراد به جملة الإِنسان لانه الظان دون الوجه، فكذلك وصف الوجوه بأنها ناظرة يدل على ذلك، لأن الناظر هو صاحب الوجه دونه. وعلى هذا المعنى حمل جماعة المسلمين قوله تعالى (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) وقوله (كل شيء هالك إلا وجهه) ولا يبعد أن تكون الجملة وصفت بذلك سوى الوجه، لان بالوجه تتميز الجملة من غيرها.
فان الأشعري يجيب على ذلك بأن النظر قد يكون بالوجه وغيره، فإذا قرن بالوجه كان المراد به نظر الوجه، وإذا قرن بالقلب كان المراد به نظر القلب. كذلك يستدل الأشعري على رؤيته تعالى بدليل سمعي آخر هو قوله تعالى (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) إذ يرى أن هذه الزيادة هو النظر إليه تعالى، فالنظر إلى وجهه أفضل اللذات.
أيضاً يجد الأشعري في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته) سنداً في إثبات رؤيته تعالى. أما المعتزلة فقد رأوا في هذا الحديث أنه حديث آحاد، وأحاديث الآحاد عندهم تفيد العمل دون الإعتقاد، فلا يصح الإحتجاج بها. وهذا الحديث اعتمد عليه ابن حنبل في رده على الجهمية، إذ انه لم يلجأ إلى الكتاب في مسألة الرؤية لأن فيه آية تثبت الرؤية وأخرى تنفيها، فظن أن الآيتين متناقضتين في الظاهرة على الأقل.
ويروى الأشعري في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرؤية في الدنيا فنفاها، لأن العين لا تقدر أن تحدق في الشمس وسط النهار، فما بالها بنور ربها. ويرى أن الرؤية ما دامت إدراكاً حكمه حكم العلم في التعلق، أي لا يتأثر بالمرئى ولا يؤثر فيه، فإذن لا معنى لإِشتراط جهة ومقابله واتصال شعاع ـ كما اشترطت ذلك المعتزلة وبالتالي نفت الرؤية عنه تعالى إذ لا تحقق لتلك الشروط ـ لانه لا يجوز في حق البارى تعالى القول باتصال أشعة من البصر بذاته تعالى. وإذا فرؤية البارى جائزة إذ لا يشترط في رؤيته الشروط الواجب توافرها في رؤية المحدثات.
وقد تجند في مواجهة فريق المهاجمين للأشعري من ناحية مذهبه في الرؤية فريق آخر حاولوا إزالة التناقض الذي علق بمذهب الأشعري في الرؤية. نذكر من هؤلاء د. جلال موسى، إذ أنه يرى أنه من الممكن فهم حقيقة موقف الأشعري في إثبات الرؤية إذا ما فهمت الرؤية بمعنى العلم، وحينئذ يكون الامر جائز الوقوع.
فهو يرى أن الذين تعرضوا لنقد وفحص أقوال الأشعري في هذا الموضوع، لم يفهموا المسألة على حقيقتها \"إذ الرؤية فعلا تتعلق بمشكلة التجسيم، حينما يكون المراد رؤيته جسماً أما البارى فلا تنطبق عليه أحكام الاجسام، ورؤيته جائزة عقلاً ونقلاً، وعلى ذلك فلا تناقض في قول الأشعري بالرؤية والتنزيه مع إثبات الصفات الخبرية التي ورد الشرع بثبوتها ولكن بلا كيف\".
كذلك نرى د. فوقية حسين تذهب هي أيضاً مذهب المدافعين عن الأشعري في مذهبه السابق، إذ ترى أن الأشعري في مذهبه في الرؤية لم يخرج عن عقيدة أهل السنة وخصوصاً أحمد بن حنبل، وان كان قد خرج على مذهب السلف أحياناً وخصوصاً في برهانه على أن الوجود هو المصحح للرؤيه وقوله بأن كما كان تعالى لنفسه رأئيا وكذلك للأشياء فجائز أن يرينا نفسه.
وترى د. فوقية أن نفى المعتزلة لرؤيته تعالى استناداً على جسمية المرئيات خاطئ، لغياب التجانس بين الموضوعين، إذ الله من الغيبيات والأجسام من المشاهدات ولا يجوز قياس الغائب على الشاهد الا إذا كان الغائب من جنس الشاهد، وإذا فالقياس غير جائز، ومن الواجب طالما اننا نتعامل مع موضوع غيبي، أن نرجع في ذلك إلى النص لا إلى العقل كما فعل الأشعري.
فإذا إنتقلنا بعد ذلك إلى الباقلاني، وجدناه يسير على نفس نهج الأشعري، فيشير إلى نفس حجج الأشعري السمعية والعقلية في جواز رؤيته تعالى. إذ يرى أن كل موجود يصح أن يرى، لأن الشىء يرى لوجوده لا لكونه محدثاً أو لحدوث معنى فيه.
حاول المعتزلة أيضاً الزام الباقلاني أن نراه الآن إذا كان ممن يجوز أن يرى. وقد رد عليهم الباقلاني بأن ما يمنع من رؤيته تعالى الآن هو وجود ما يضاد إدراكها في أبصارنا، إذ الشرائط المادية التي تستلزمها الرؤية للبصرية الإِنسانية لا تلزم الرؤية الإِلهية، ولكن هذه الشرائط تقوم بها وتمنع من إدراك رؤية الله بأبصارنا، ولو رفعها البارى لادركنا رؤيته في الحال.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى جبريل والصحابة لا تراه، فليس شىء مما ذكرتموه يمنع من رؤية المرئيات، كما أن الجهل المانع من العلم بالشىء لا يجوز أن يقارن العلم بحال\".
وقد حاول المعتزلة إلزام القاضى بناء على إثباته رؤيته تعالى إلزامات تخرج عن سياق مذهبه، كأن يخلق الله فينا إدراك الذرة ويمنع من إدراك الفيل. ويرد الباقلاني بأن القدرة العامة الشاملة التي اتصف بها البارى دون حدود تجيز خلق إنسان لا من أبوين، ونار غير محرقة، وذلك عن طريق خرق العادة، والمعجزات انما هي خوارق للعادة. وجميع ذلك مقدور له تعالى.
ونلاحظ أن الباقلاني في دليله السابق انما يبني رأيه في تجويز رؤيته تعالى على مذهبه في السببية بل ومذهب الأشاعرة بصفة عامة، إذ أنهم ذهبوا جميعاً إلى أن العلاقات بين الأسباب والمسببات غير ضرورية، وذلك خلافا للمعتزلة والذين رأوا أن تلك العلاقات ضرورية.
فإذا تفحصنا أدلة الباقلاني السمعية على إثبات رؤيته تعالى في الآخرة وجدناها نفس أدلة الأشعري، وان أضاف إليها ردوداً قوية على ما أثارته المعتزلة من اعتراضات، فمثلاً من تلك الأدلة السمعية سؤال موسى صلى الله عليه وسلم (رب أرنى أنظر إليك) إذ يرد الباقلاني على المعتزلة الذين ذهبوا إلى أن رده تعالى بقوله (لن ترانى) يفيد نفى الرؤية أو إستحالتها عليه وتعالى، فيذهب الباقلاني إلى أن سؤال موسى صلى الله عليه وسلم الرؤية ـ وقد كان سؤاله بعد النبوة ـ لا يخلو من أربعة أوجه. \"فاما أن يكون سأل الرؤية بعد علمه بجوازها على ربه، أو مع علمه باستحالتها على ربه، أو سألها وهو شاك في ذلك، أو سألها وهو ذاهل العقل. فلا يجوز أن يكون سأل ذلك مع علمه باستحالته على ربه، لانه من المحال أن يسأل نبي كريم ربه ما يستحيل في حقه.
ولا يجوز عليه أن يكون سأل ذلك ـ وهو شاك جاهل ـ حكم هذه المسألة، أو ذاهل لا يدرى، لان هذه المسألة من مسائل أصول الدين. وإذا بطل جميع ذلك لم يبق الا أنه سأل وهو معتقد جواز الرؤية عليه سبحانه. فإذا أعتقد النبي جواز الرؤية لم يخل ذلك من أن يكون مصيباً أو مخطئا، ولا يجوز أن يخطى النبي في إعتقاده. فلم يبق الا أنه أصابه\" وهو في ذلك ينكر أن يكون معنى سؤال موسى أن يعرفه تعالى بنفسه، إذ أن ذلك يخالف إستعماله في اللغة.
أيضاً نرى الباقلاني في دليل سمعي آخر له، يجمع بين الآية (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) والآية (كلا أنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) فيرى أن الحجاب لما كان للكفار دون المؤمنين، فكذلك الرؤية للمؤمنين دون الكفار.
كذلك يفسر الباقلاني الآية (لا تدركه الأبصار) والتي كانت من أقوى أدلة المعتزلة التي استندوا إليها في نفيهم الرؤية ـ أن معناها أن أبصار الخلق لا تدركه في الدنيا لا الآخرة \"لأن هذه الأبصار جعلت للفناء، وانما يحدث لهم بصراً غير هذا البصر ويكون باقياً غير فان فيرى الباقي بالباقي\".
كان الجوينى قد فارق الأشعري والباقلاني فيما يتعلق بنفى الجهة عنه تعالى، اذ سلك في ذلك طريق المعتزلة لا الأشاعرة. رغم ذلك نراه يذهب في الرؤية مذهب الاشاعرة مخالفته للاتجاه العقلي، والذي اختاره الجويني لنفسه، والذي بدا واضحاً في مذهبه الكلامي عموماً.
يذهب الجويني إلى أنه تعالى مرئى وتجوز رؤيته بالابصار، ودليل جواز رؤيته تعالى عقلاً، يستند إلى قضيتين، الاولى ان كل موجود يجوز أن يرى، إذ الرؤية متعلقة بوجود الموجود، ولما كان البارى موجوداً، كانت أهل الجنة له جائزة ويذهب الجويني في ذلك إلى أن المحسوس لا يرى لكون محسوساً ولا لكونه جوهراً وإنما لكونه موجوداً.
وأما القضية الثانية التي إستند إليها الجويني في إثباته الرؤية له تعالى، فهي الاستناد إلى مبدأ خرق العادة، وذلك رداً على المعتزلة الذين يرون اقتضاء للرؤية الجسمية والوسط الشفاف بين الرائى والمرئى والشعاع بينهما فضلاً عن إرتفاع الموانع كالبعد والحجب الكثيفة وقصور حاسة البصر.
ويشير الجويني إلى نفس الأدلة النقلية التي استند إليها الأشعري والباقلاني، كما يوؤل الآيات التي تنفي الرؤية نفس تأويل الأشعري، فنراه مثلا في الآية التي يعتمد عليها المعتزلة في نفى الرؤية وهي قوله تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) يفرق بين الادراك والأبصار، إذ الادراك يقوم على الاحاطة، والرب منزه عن التحديد والنهاية، وإذا كانت الآية تنفى الإدراك، فهي لا تنفى الرؤية البصرية.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ثقافة الحب الحاضر الغائب في مجتمعنا
إثبات الأشاعرة لرؤيته تعالى في الآخرة
من هم آكلة لحم الخنزير وما هو مصيرهم في الكتاب ...
المُناظرة الثاني والخمسون /مناظرة السيد محمد ...
قاعدة التسليط
البَضْعة الزكيّة
محبة الرسول واله صلى الله عليه وآله
سؤال القبرفي کلام امير المؤمنين
إبراهيم عليه السلام أول الموحدين
مما يهوِّن هول المحشر

 
user comment