أتأتي قوة الاستدلال عن طريق السحر..؟
البعض يعتقد بذلك ويلجأ إلى السحرة في حال فقدان قريب أو مال وغير ذلك.
ويدل هذا على أن الانسان لا يزال يقبل القوى اللامنطقية في حياته، وأن الانسان المعاصر، لا زال يظهر هلالاً بقيت من ماضيه البعيد. وكثير من نشاطاته الحاضرة مشتقة من طرق الحياة القديمة جداً، انتقلت ثقافياً من جيل لجيل.. ولو أنها غالباً ما انتقلت مشوهة إلى حد كبير. فمثلاً الاحتفال بأعياد (الكرنفال) يمكن تتبع أثرها إلى اندفاعات أساسية في طبيعة الانسان لا تتناسب مع حياة المجتمعات المتقدمة، ومع ذلك فهي تطلب أن تقبل ما بين حين وآخر ولأيام عدة ـ أثناء الكرنفال ـ يسمح للقوى غير المنطقية أن تسيطر على القانون والنظام بصورة رمزية على الأقل.
ومنذ آلاف السنين، وفي العصور القديمة، كان الطبيب الساحر في العصور البدائية يقنع مريضه بأن الأرواح الشريرة هي سبب مرضه، ويعالجه بإخراج هذه الأرواح الشريرة من جسده بطرق كانت تأتي دائماً بنتائج باهرة! وكان الأطباء في القرون الوسطى يقولون لمرضاهم أن هناك خللاً في ميزان السوائل الأربعة التي تكوّن الجسم، ثم يشرعون في (فصد) دماء المريض لأنها أسهل السوائل استخراجاً.
ويمكن أن يطلق الآن على مثل هذه المعالجة اسم (العلاج التأثيري)، وهو يتلخص في أن نعطي المريض تشخيصاً بسيطاً للمرض يستطيع أن يفهمه كسبب لما يعانيه من اضطراب، ثم نقدم له على هذا الأساس علاجاً. وقد يرى البعض في هذا نوعاً من الخداع، ولكنه في الحقيقة نوع من العلاج النفسي بطريق ملتو.
وإذا كان بعض البشر يتمتع بخاصية الأفكار والتخاطب عن بعد والتنبؤ بالأحداث وغيرها، فإن السحر شيء آخر يختلف تماماً.
إن المعنى اللغوي لكلمة السحر في اللغة العربية تعني مفاتيح الغيب.. والمسحور هو المخدوع أيضاً، لأنه يرى ما يخالف الحقيقة.
وربما كان جهل الانسان القديم بما يحدث من حوله سبباً في اعتقاده في السحر.. فظلام الجهل كان يخيم على الغايات الكثيفة والأماكن النائية التي لم يستكشفها بعد.. وكذلك وجود الصحارى الواسعة، والمغارات وغيرها. ولهذا اكن السحر يمثل جانباً هاماً وحيوياً من حياة الأقدمين.. فالتمائم السحرية توغلت بعيداً في نهار وليل الانسان القديم، حيث أنها تحرس الزرع من أمراضه وحشائشه الضارة، وهي تعين على جودة الصيد وزيادته، وهي في النهاية تحرس جثة محنطة في انتظار عودة الروح مرة ثانية في الحياة الأخرى.
إن جهل الانسان كان سبباً مباشراً في دخول السحر إلى الديانات القديمة، حيث استغله الكهنة في التأثير على الشعبو باسم الإلهة التي اخترعوها.. بل وصل شأنه إلى الطقوس الدينية والتضحية والصلاة.. فلا يزال كثير من الصلوات جزءاً من طبيعة العزائم السحرية، التي يتمتم بها المصلي، ويتلوها مرة بعد أخرى وهو مؤمن بهذا التكرار.
والطلاسم واللعنات والدعوات الصالحة هي أمور تطورت عن السحر.
وقد طرق الانسان مسالك السحر المختلفة في محاولته جذب معونة المخلوقات الأخرى غير المرئية، وشهدت الحضارات في سورية القديمة ومصر والهند والصين وأمريكا الجنوبية مشاهد مختلفة قام بها الأطباء السحرة لمعالجة مرضى النفس والبدن ومساعدة المرأة الحامل على الولادة.
إذن السحر قديم في حياة الانسان وله أنواع مختلفة، أي أن له طرقاً متعددة الوسائل والأغراض. فهناك نوع من السحر يقوم على عبادة الكواكب واستغلالها، أو استغلال طاقاتها الخفية في قضاء الحاجات. وهذا النوع من السحر عرف في حضارة الآشوريين في شمال العراق، في آشور ونينوى، وكذلك وجد في حضارة الكلدانيين في بابل.
وهناك سحر يقصد به التأثير في الأجسام والأنفس، ذلك أن ما يؤثر في النفس يؤثر في الجسد، والعكس بالعكس، والساحر هنا يملك وسيلة تأثير خاصة يؤثر بها في نفس وجسد الشخص المراد سحره، ويكون التأثير حسب قدرة الساحر الشخصية ودرجة علمه في علوم السحر، والنوع الثالث من السحر هو الذي يستعان فيه بالمخلوقات غير الآدمية مثل الجن أو الأرواح الشريرة وغير ذلك.
وتطور السحر في العصور الوسطى إلى حيث كان السحرة يصنعون تماثيل صغيرة تشبه الشخص المراد التأثير عليه، ثم يضعون فيها مجموعة من الأبر.. كل واحدة منها تمثل هدفاً أو غرضاً من أغراض الساحر.
وكان هنود أمريكا الجنوبية في بيرو القديمة يحرقون الدمى أو العرائس الصغيرة التي تمثل أشخاصاً بعينهم. وكانوا يسمون ذلك (إحراق الروح)، وهذا يعني إصابة المسحور بضرر شديد يقترب من الموت!.
وإذا كان السحر قد بدأ بالخرافة، فإنه انتهى في العصر الحالي إلى أن أصبح فرعاً من العلوم.. فإن أغلب سكان العالم المتحضر في أوربا يلبسون التمائم والمداليات، ويضعون حدوة الفرس على مدخل بيوتهم، ويؤمنون بالأبراج، معتقدين في قدرتها على مساعدتهم وحمايتهم!
ويعود أكبر الفضل لابقراط وخلفائه في أنهم حرروا الطب من الدين والفلسفة.. نعم أنهم يشيرون في بعض الأحيان بأن يستعين المريض بالصلاة والدعاء، كما نرى ذلك في كتاب (التنظيم)، ولكن النغمة السارية في صفحات المجموعة كلها هي وجود الاعتماد الكلي على العلاج الطبي. وتهاجم رسالة (المريض المقدس) صراحة النظرية القائلة بأن الأمراض ترسلها الإلهة، ويقول مؤلفها أن للأمراض جميعها عللاً طبيعية بما في ذلك الصرع نفسه الذي يفسره الناس بأنه تقمص الشيطان جسم المريض (وما زال الناس يعتقدون بأنه من عند الإلهة لعجزهم عن فهمه، ويتوارى المشعوذون والدجالون وراء الخرافات ويلجأون إليها لأنهم لا يجدون علاجاً ناجعاً لهذا الداء، ومن أجل هذا يطلقون عليه اسم المرض المقدس حتى لا ينكشف للناس جهلهم الفاضح).
وهناك حقيقة أخرى، وهي أن بعض كبار علماء البشرية قد بدأ حياته بتعلم السحر، ولكنه تحول بعد ذلك إلى فروع العلم الأخرى، بعد أن صادف نقطة التحول الخطيرة التي توقف عندها ليحول مساره. فمثلاً أسحق نيوتن العالم الفذ، كان يدرس علم التنجيم من أجل السحر، وقد لقى بعض الصعوبات في تلك الدراسة، مما جعله يتوقف كثيراً عند ظواهر الكون، وخلال تلك الوقفات قدم للإنسانية أجمل وأعظم القوانين حتى الآن.
وقد اشتهر الشرق بسحره الخاص، بعيداً عن سحره الطبيعي، كما اشتهرت مناطق الهند المختلفة بالأنواع العديدة من السحر والسحرة، وكانت لهم كتب تسمى أسفار الفيدا، أي كتب المعرفة.. واهم هذه الأسفار هي سفر اتارفا، ومعناه كتاب معرفة السحر والرقي. وأهمية هذا الكتاب ترجع إلى أنه يؤكد أن للسحر أصولاً وعلوماً.. ويرجع تاريخه إلى أكثر من خمسة آلاف عام قبل الميلاد! وهو وغيره من كتب سحر تبين أن الساحر لابد أن يلم بعلوم ومعارف أخرى، وأنه لابد أن يمارس العديد من التجارب الشاقة قبل أن يصبح ساحراً حقيقياً. فالأدوات المعدنية التي صيغ بعضها من الذهب والنحاس والالمنيوم والفضة وغيرها، التي يرجع تاريخها إلى ما قبل الميلاد بآلاف السنين، تؤكد أن من المستحيل على الصانع في تلك الأيام أن يقدم تلك التحف الغنية النادرة مستخدماً الوسائل المتاحة الصناعية فقط! فالمشغولات الذهيبة في تركة توت غنج آمون تؤكد تقدماً مذهلاً في عالم الصياغة لا تتيحه الآلات البدائية المستخدمة. وفي العراق مثلاً توجد آنية من الفخار يتولد فيها تيار كهربائي إذا وضعت فيها كمية من الماء.. وغيرها الكثير.
قلنا أن الهند اشتهرت بأنواع مختلفة من السحر والواقع أن كل شيء في هذه البلاد اختلط فيه السحر.. بداية، بالطب وانتهاء بالفقر!.
وتروي الكاتبة المصرية نفيسة عابد قصة الصحفي الانكليزي الذي سافر إلى الهند لأول مرة، حيث شاهد هناك الساحر الذي يمسك بالبوق لينفخ فيه فيرفع الحبل الممدد على الأرض ليقف منتصباً في الهواء ثم يتسلقه الطفل الصغير، ويتبعه الساحر ومعه سكين، ويبدأ الساحر في قذف أعضاء الطفل إلى الأرض وهي مضرجة بالدماء، مما يعني أنه قد قطعه إرباً. ثم ينزل الساحر وينفخ في البوق لتجتمع أعضاء الطفل الذي يعود إلى الحياة مرة أخرى. ويعود الصحفي الانكليزي إلى فندقه وهو مذهول، ولا ينام الليل، وفي الصباح يقرر أمراً، فيحمل كاميرته السينمائية ويخفيها بين ملابسه ويسجل بها الحدث الذي يقوم به الساحر في عرضه اليومي. وعندما يذهب إلى الفندق يدير ا لشريط في لهفة ليتأكد مما شاهده، وتكون المفاجئة المذهلة، وهي أن الشريط يعرض خالياً، وليس فيه سوى الحبل الممدد على الأرض وبجانبه الساحر والطفل في سكون تام! وبكون هذا الشريط الخالي أكبر دليل في ذلك الوقت على أن السحر يخدع المشاهد في ظاهرة الأشياء وليس في طبيعتها.
وفي غمرة طفرة السحر على البشر، نهى الاسلام عنه باللجوء إلى السحرة. وقد قر رأي أغلب المفسرين وعلماء الاسلام على أن الساحر يعتبر كافراً إذا ارتكب بسحره ما يؤدي إلى الكفر، وأنه في أقل الحالات شأناً يكون مرتكباً لكبيرة من الكبائر وعاصياً شديد العصيان، وفي ذلك تبعاً لطريقة استخدامه للسحر والهدف الذي يرمي إليه. والقرآن الكريم يقدم لنا صورة الساحر في إطار الإنسان الفاشل الذي يجانيه الصواب (وملا يفلح الساحر حيث أتى).. ولذلك فأغلب السحرة يصادفون أهوالاً في حياتهم.
وتروى قصة عن محاولة سحر الرسول عليه الصلاة والسلام، خلاصتها أن لبيد بن أعصم اليهودي سحر للنبي الكريم في إحدى عشر عقدة.. وفي وتر رماه في بئر اسمها ذوران، ومكث الرسول يشكو من آلام جسده ثلاثة أيام حتى آتاه جبريل ليروي له القصة.. فأرسل علياً (ع) ومعه طلحة (رض) وأحضر السحر. وكلما قرأ النبي آية من المعوذتين أنحلت عقدة وذهبت بعض آلامه الجسدية.
لكن جمهور المعتزلة أنكر هذه القصة.. على أن أغلب المفسرين رواها على أن سحر اليهودي لم يؤثر إلى في جسد الرسول الكريم دون أن يؤثر في عقله وروحه ونفسه، لأن الثلاثة الأخيرة لها دخل كبير في أداء الرسالة على أكمل وجه وهو ما فعله الرسول الكريم بينما خضع جسده الشريف لما يخضع له البشر من الألم والمرض.
إن العديد من الأدعية كان الرسول الكريم يقولها لأصحابه وأهل بيته، منها أنه كان يعوذ الحسن والحسين (رض) قائلاً: (أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة). وقالت عائشة (رض): (كان رسول الله (ص) إذا اشتكى ألماً في جسده قرأ قل هو الله أحد والمعوذتين في كفه اليمنى ومسح بها مكان الألم).
وفي سورة طه، يقدم لنا القرآن الكريم قصة موسى مع فرعون وقومه.. وهي قصة مثيرة من الناحية الدرامية، وفي نفس الوقت تقدم لنا شرحاً وافياً للسحر، والفرق بينه وبين المعجزة السماوية..
قال تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى. قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى. قال ألقها يا موسى. فألقاها فإذا هي حية تسعى. قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى) صدق الله العظيم.
إن فرعون الملك الإله الجبار له جمهوره من السحرة الأفذاذ الذين يقدمون إليه كل ما يريد.. وأكثر!
وموسى كنبي ورسول لابد أن تكون معجزته ـ التي تؤيد دعواه ـ فيما يتفوق ويتميز به أهل مصر، وهو السحر..
والحقيقة هي أن الآيات تحتوي على معان كثيرة تلفت النظر وتستدعي الفكر والتأمل.. فالله سبحانه وتعالى يعلم تماماً ماذا يحمل موسى في يده اليمنى، فلماذا السؤال إذن؟
يقول العالم العربي الكبير الفخر الرازي في كتابه مفاتيح الغيب! أن الله أراد أن يظهر من لاشيء الحقير شيئاً شريفاً. والسؤال هنا للتذكير والتأكيد على تفاهم العصا أولاً.. فالله سبحانه وتعالى لما أراد أن يظهر من العصا تلك المعجزات الكبرى كقلبه بها حية وكضربه البحر حتى انفلق، وضربه الحجر حتى تفجر منه الماء.. عرضها أولاً على موسى وكأنه يقول له: هل تعرف حقيقة هذه العصا وأنها مجرد قطعة من الخشب لا تضر ولا تنفع؟.. ثم بعد ذلك يقلبها ثعباناً هائلاً. وبهذا الشكل تنبه الله سبحانه وتعالى الأذهان إلى كمال قدرته، بحيث يظهر آية عظمية من أهون الأشياء وأصغرها عنده. ويقال أيضاً أن هذا السؤال ينبه لموسى نفسه حتى يذكر أن العصا قطعة من الخشب، فإذا قلبها الله ثعباناً فلا يخاف منها. ويقال أيضاً أن حكمة قلب العصا إلى حية في ذلك الوقت حتى يعرف موسى أنها معجزته التي تؤكد نبوة نفسه بالدليل المادي.. و (قال خُذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى)، وإذا كان موسى قد أدرك أن الله قد حفظه بتلك المعجزة الكبيرة فلماذا خاف؟ يقول بعض المفسرين أنه لم يسبق له أن شاهد قبل ذلك قط، فهذا أمر يخالف المعقول وما تفكر به العقول.
وقد قال الشيخ أبو قاسم الأنصاري إن خوف موسى يعتبر من أقوى الأدلة على صدقه، لأن الساحر يعلم أن الذي يمارسه نوع من الخداع والتمويه فلا يخاف منه، خصوصاً وأنه من عمل يديه. إن معجزة موسى هي من فعل الله وحده.. وإذا كان انقلاب العصا إلى حية معجزة، فإن عودتها إلى حالتها الأولى معجزة أيضاً، وتوالي المعجزات هو الدليل الأقوى.
وبأمر الله تعالى عبده ورسوله موسى بالذهاب إلى فرعون لأنه طغى، فيطلب موسى من ربه أن يشرح له صدره، وشرح الصدر كما قال رسول الله نور يقذف من القلب، فقيل وما أمارته؟ فقال: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود. ويذهب موسى وهارون يحملان الرسالة إلى فرعون، ويسجل القرآن الكريم في سورة طه حواراً رائعاً طرفاه فرعون الملك الإله المتكبر المدعي صاحب السلطان والحول والطول، والطرف الآخر النبي موسى وأخوه هارون يحملان الرسالة والدليل والبرهان، يؤيدهما الحق تبارك وتعالى.. وتتوالى الأحداث وتتصاعد حتى يتفق أتباعه، ويقال أن عددهم كان إثنين وسبعين ساحراً، وقيل أنهم كانوا أربعمائة، وربما أكثر من ذلك.
ويبدأ السحرة في شن هجوم جديد هو أقرب إلى الحرب النفسية فيقولون عن موسى وهارون أن هذان لساحران وهذه محاولة منهم للتشكيك في معجزة موسى بأنه ساحر هو وأخوه.. والنفس تنفر من السحر وتكره رؤية الساحر، كما أن الناس تعلم أن السحر لا بقاء له إلا لفترة محددة، فهل يتبعون موسى إذا كان دينه ومذهبه يقوم على تأييد السحر؟ أي أنه لا بقاء للدين الذي جاء به.. ومن اللافت أن الذين يذمون السحر هم السحرة؟
لنقرأ الآتي (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن تكون أول مَن ألقى. قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخلف أنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى) صدق الله العظيم.
إن السحرة يمارسون مع موسى نوعاً من آداب المهنة يحمل في طياته الثقة الزائدة في قدراتهم فيعرضون عليه أن يلقى عصاه أولاً. ويقابل موسى هذا الأدب مثله فيقول (بل ألقوا).. ويلقي السحرة حبالهم وعصيهم ويخيل إلى موسى من شدة أجادتهم لفنون السحر أنها نتحرك.. ويدخل الخوف إلى قلب موسى، ويختلط المفسرون في سبب أو تعليل هذا الخوف.. فقد أعطى الله موسى الشيء الكثير: كلمه أولاً ثم بيّن له معجزة العصا واليد.. وأعطاه الاقتراحات الثمانية وقال له (أنني معكما أسمع وأرى).. إذن النبي موسى لا يخاف على نفسه، ولكنه يخاف أن تدخل على الناس شبهة فيما يرونه من سحر سحرة فرعون، ويختلط عليه الأمر فلا يدركوا أن هذا مجرد سحر، أي خيال وخداع بصر، وليس تغييراً للحقيقة.
والآية التالية (قلنا لا تخف أنك أنت الأعلى) تدل على أن خوفه كان راجعاً إلى احتمال عدم فهم الناس لحقيقة ما يحدث أمامهم، فالمسحور كالمخمور مخدوع الحواس.
وحين يلقي موسى بعصاه تتحول هذه إلى حية كبرى تبتلع كل ما قدمه السحرة ويعلم السحرة أن حقيقة الأمر قد ظهرت.. ولأنهم كانوا يمثلون أعلى مستوى من ممارس السحر فقد أدركوا الفارق الهائل بين المعجزة السماوية التي تخرق الناموس وتغيير حقيقة الأشياء.. عمليات سحر الأعين وتغيير ظاهر الأشياء التي يقومون بها.. ولذلك فقد سجدوا لله من فورهم ـ وكأنهم ألقوا إلى الأرض ـ قبل أن يدرك فرعون حقيقة ما يحدث حوله، مما أفقده صوابه فعمد إلى تعذيبهم.
وإذا كان موسى النبي قد بيّن لأبناء طائفته من اليهود أن الساحر لا يفلح وأن الإيمان بالله يقتضي البعد عن السحر، فإن اليهود مع ذلك هم أكثر شعوب الأرض إقبالاً على السحر، اشتغل به عدد كبير منهم وكأن شيئاً لم يكن.. ثم جاءت فترة نبوة سليمان بن داود وكان اليهود لا يعترفون به نبياً من أنبياء الله، ويعترفون له ملكاً عظيماً من ملوكهم!.. وفي عهد سليمان بدأ اليهود يتعلمون السحر ويتبعون ما تتلوه عليهم شياطين الإنس والجنس من الخارجين على حدود الله. وزادت كتب السحر وطرائفه، وقيل أن الشياطين كانت تلقن أحبار اليهود قواعد السحر، ويدعون كذباً أن سلطان سليمان على الجن والطير والريح والبشر أيضاً كانت تقوم على تلك الأسس السحرية المدونة في كتبهم، وهي الكتب التي تداولها اليهود بعد ذلك في كل مكان، وكانت تعد سراً من أسرار قوميتهم.
أما فخر الدين الرازي فقد نفى أن ما أنزل على الملكيين في بابل هو السحر كما قالت الشياطين، فالذي ينزل من السماء هو شرع الله والدين والدعوة إلى الخير، ولا يمكن أن تزيل الملائكة أي أنواع السحر. وقد ذكرت الروايات اليهودية قصصاً طويلة غير حقيقية عن أسباب نزول الملكين إلى الأرض.. قالت إحداهما أن الملائكة استنكرت سلوك الانسان على الأرض فأراد الله أن يبتلي الملائكة الذين اختاروا ملكين من أعظم الملائكة علماً وورعاً لينزلاً إلى الأرض بعد أن تضاف إليها شهوات الإنسان. وفي أول يوم تقابلا مع امرأة جميلة اسمها الزهرة جعلتهم يرتكبون كل الكبائر في أسرع وقت.. ثم أن الملكين قد قدما وطلبا العفو من الله واختارا عذاب الدنيا بدلاً من عذاب الآخرة وهما معلقان في أحد الكهوف في مكان بابل القديمة.
هذه الروايات وغيرها من اختراع إسرائيلي، شأنه شأن أغلب الروايات التي من هذا النوع والتي تحفل بها كتبهم، مثل العهد القديم وغيره. وقد اختلف المفسرون في سبب نزولهما إلى الأرض.. بعضهم قال أن السحرة قد كثرت في ذلك الزمان، وكانوا يدعون النبوة فأرسل الله الملكين إلى الأرض ليعلما الناس أن السحر غير المعجزة، أو أن تعليم السحر كان لضرورة محاربة السحرة بسحر آخر مضاد، وأن الملكين كانا يحذران الناس قبل أن يعلماهم بأنه فتنة ويحذران من الكفر.. أي من استخدام السحر في الاضرار بالغير، وقال بعض المفسرين أن الملكين كانا يعلمان البشر أنواعاً من السحر ليواجهوا بها سحر الجان.
لقد سجل اليهود أيضاً عدداً كبيراً من الكتب التي تشرح وتعلم أصول السحر وفنونه التي أخذوها عن قدماء المصريين وغيرهم. ويقال أن القبائل التي كانت تحرس هيكل سليمان في القدس كانت تحتفظ بالعديد من تلك الكتب، وعندما هدم الهيكل هاجرت باقي القبائل إلى أماكن مختلفة ومنها أوربا. وقد سجل نوستر داموس ذلك في كتاباته ورباعياته المشهورة، لأنه شخصياً كان آخر تلك السلالة.
وكتب السحر كثيرة ولكن من أشهرها كتاب (الفلاحة النبطية) وهو الذي ترجمه قدماء المصريين عن كتب بابل وآشور، ثم ظهر بعد ذلك كتاب (صحف الكواكب السبعة) وكتاب (طمطم الهندي). ويقال أن جابر بن حيان العالم الإسلامي الكبير قد قرأ تلك الكتب السحرية أثناء فترة اهتمامه الدراسية، وأنها كانت معيناً له بشكل ما في تدون كتبه عن الكيمياء وأسرارها. وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته أن محمد بن مسلمة المجريطي ـ وهو أحد علماء الأندلس في علوم السحر ـ قد لخص تلك الكتب السابقة ونقاها من الشوائب وقدمها في كتاب أسماه (غاية الحكيم).
إن الفرق بين الشعوذة والسحر هو أن الأخير عمل شيء فيه مناقضة لنواميس الطبيعة وخروج على قيودها. والمراد منه في الغالب، إخراج الباطل في صورة الحق. وفي بعض كتب اللغة أن السحر هو ما ستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الانسان.. على أن العلم ينكر السحر لأنه يقوم على مخالفة نواميس الكون، فإذا كانت هذه المخالفة وهمة، أو من قبيل الخداع البصري فهي الشعوذة والخفة.
وقد درج الناس على اعتبار السحر والشعوذة شيئاً واحداً، وهو خطا يجاريهم فيه الكثيرون من الكتاب. وفي الحقيقة أن الساحر يعتمد على قوى غير منظورة، سواء أكان هو نفسه يؤمن بتلك القوة أم لا يؤمن بها، وأما المشعوذ فلا يعتمد إلا على الخداع وخفة اليد.
والأرجح أن السحر وجد قبل الشعوذة وأنه تحول إليها بمرور الزمن، وأثر السحر ظاهر بين جميع الشعوب البدائية، فلا تجد قبيلة من القبائل المعروفة في البدائية إلا ولها ساحر تحترمه وتنقاذ وراءه. بل لقد كان الساحر أو العراف قديماً، زعيم القبيلة وسيدها المطلق، وهذا ما جعل زعماء القبائل يلجأون إلى الخداع والمخاتلة لضمان زعامتهم على قومهم، وبمرور الزمن أدرك الناس أن مخالفة النواميس الطبيعية غير ممكنة، فالشمس لا بد أن تشرق في النهار، والنار لابد أن تحرق ما يلقى فيها، والحديد لابد أن يغرق في الماء، والسم لابد أن يقتل مَن يتناوله، فإذا حدث ما يناقض جميع ذلك فهو شعوذة لا شك فيها.
ومما يدل على نما كان لكلا الساحر والمشعوذ من مقام عند الأقدمين (ولم يكن هؤلاء يفرقون بينهما)، أن الملوك في الأزمنة الغابرة كانوا يحيطون أنفسهم بالسحرة والعرافين. وفي التاريخ أن اسكندر ذا القرنين إذا أراد الخروج إلى الحرب استشار السحرة والعرافين، وكذلك كان يفعل الروم والرومان والفرس وغيرهم. وفي الحقيقة أه ما كان أولئك السحرة يستطيعون الاحتفاظ بما لهم من سلطان على الملوك والأقيال إلا بالتجائهم إلى الخديعة والشعوذة. وكانوا يحتاطون لتكون شعوذتهم بمأمن من الفضيحة بأن يقولوا أقوالاً أو يتنبأون تنبؤات يسهل تأويلها كما يريدون مهما كانت النتيجة.
لقد كانت الشعوذة ولا تزال مرتبطة بالتنجيم ارتباطاً وثيقاً، فكان الطبيب في أطوار الاجتماع الأولى مشعوذاً يستعين بقليل من الخبرة وبكثير من الدجل والخداع.. فكان إذا دعي لعيادة مريض عمد إلى وصف بعض الأعشاب والمواد وإلى استطلاع النجوم والأفلاك، وتنبأ بما سيكون من أمر العليل. لهذا كان لشخص الطبيب، عند الأقدمين، حرمة كبيرة، وكان الناس ينظرون إليه كما ينظرون إلى شخص مقدس يجب الخضوع له في كل شيء. وكان الطبيب، أو المشعوذ، يرث مهنته عن أبيه ويورثها لابنه، ومن ثمة نشأت طائفة الكهان والعرافين الذين لم يكونوا في الحقيقة سوى دجالين مشعوذين. نعم أنهم كانوا، في أقدم عصور الاجتماع، يؤمنون بإخلاص لما لهم من قوى خارقة للطبيعة، ومع ذلك احتفظوا بما لهم من سلطان بفضل ما لجأوا إليه من ضروب الحيل والخداع. ويقول علماء النفس أن أولئك المشعوذين كان لهم، في عدة مواقف، فضل على قومهم لما كانوا يوقدونه فيهم من نار الحماسة وما ينفخونه من روح الشجاعة والإقدام. وتفصيل ذلك أن قادة الجيوش الأقدمين كانوا إذا خرجوا للحرب والقتال يستشيرون السحرة والكهان، ويذيعون ما يقوله هؤلاء بين الجنود ليشجعوهم ويستثيروا حماستهم.
ورغم قسوة عقوبة السحر ـ وهي الحرق بالنار ـ فقد ظلت ممارسة السحر تنتقل من جيل إلى جيل في حرص وسرية كما تنتقل المخدرات من مكان إلى آخر.. وإن كانت تلك العقوبة قد ألغيت في أواخر القرن الثامن عشر، مما أتاح الفرصة مرة أخرى ليلعب السحرة بدون أقنعة.
إن قوة الاستدلال من السحر تجعلنا نقول أن علل التصديق في الحياة اليقظة تشبه في معظمها علل التصديق في حالة الأحلام أو حالة الجنون أو حالة النوم المغناطيسي، ولكنها بطبيعة الحال لا تشبهها تمام الشبه.. فثمة جرثومة عقلية تصنع كل الفرق، ولكن العقل من علل التكذيب لا من علل التصديق.. ذلك بأن (الإيمان البدائي) يقدم كل ما هو إيجابي، والعقل لا يقدم إلا ما هو سلبي. والعلم بوجه عام شجرة تنمو في تربة الإيمان البدائي، ولكن يشذ بها مقص العقل.. والدور الذي يؤديه علم النفس البدائي هو ما أخذ علم النفس الحديث في فهمه.
إن السحر بما هو غير منطقي أعطانا المنطق، ويسر لنا سبل تحقيق أهداف العلم بالولوج إلى مكانه، فكان سحر ساحر للبدائي، وعلم عالم للإنسان المتحضر.