مبادئ نظرية القبض والبسط النظري للشريعة
من أبرز أهداف نظرية القبض والبسط:
1 ـ (القبض والبسط النظري للشريعة) نظرية تعنى بالمعرفة الدينية كواحدة من المعارف البشرية، وتحاول هذه النظرية قبل كل شيء أن تبلغ الأهداف التالية:
1 ـ 1: شرح آلية فهم الدين وكيفيته.
2 ـ 1: التأشير على خصائص المعرفة الدينية بالمقارنة مع سائر المعارف البشرية.
3 ـ 1: دراسة أبعاد العلاقة بين المعرفة الدينية وباقي المعارف البشرية.
4 ـ 1: الكشف عن أسباب تحول وثبات المعرفة الدينية على امتداد التاريخ.
وبهذا يكون الوجه البارز لنظرية (القبض والبسط) هو وجهها التفسيري ـ الأبستيمي.
أنحاء علم المعرفة:
2 ـ في تصنيف عام، يمكن النظر لعلم المعرفة (الابستمولوجيا) من زاويتين:
1 ـ 2: علم المعرفة القلبي، أو علم المعرفة السابق للتجربة، والخاص بالمعرفة قبل مقام التحقق الخارجي، وهذا النمط من علم المعرفة نمط فلسفي يبحث في الوجود الذهني للإدراكات والقوالب الذهنية، ولا يهتم بصفات وأحكام الفروع العلمية كموجودات عينية مستقلة تحققت في العالم الخارجي والواقع أن علم المعرفة السابق للتجربة ينحصر في الذهنيات وعلم الإدراك. ولعل جانباً من بحوث الفيلسوف الألماني كانط ينتمي إلى هذا الصنف من علم المعرفة. وعلم المعرفة عند الفلاسفة المسلمين كان أيضاً من هذا النمط في الغالب. أي أن الحكماء الماضين ركزوا جل اهتمامهم على الوجود الذهني للعلم، فسألوا مثلاً: حينما نعلم بشيء، هل نبلغ ماهية ذلك الشيء، أم ندرك شبحاً لتلك الماهية أم جزءاً محدداً منها؟ وهل العلم مجرد أم مادي؟ ما هي المعقولات الأولى والثانية؟ وما هو دورها في إدراك العالم الخارجي؟ وكيف تتكشف المفاهيم الكلية للانسان؟ وما هو مناط صدق القضايا؟ وهل يتحد العاقل والمعقول في مقام الإدراك؟ و.. الخ.
خصائص علم معرفة السلف:
تأسيساً على ذلك يمكن تسجيل بعض سمات علم المعرفة لدى الماضين بالنحو التالي:
1 ـ 1 ـ 2: وجود العالم الخارجي أمر مفترض ومسلم به، وكذلك إمكانية المعرفة الجزمية به.
2 ـ 1 ـ 2: يطرح السلف فعلاً أو وصفاً نفسانياً اسمه العلم أو الإدراك، ثم يبحثونه من حيث وجوده.
3 ـ 1 ـ 2: علم معرفة الماضين، علم قبلي يسبق ولادة المعارف البشرية. أي أنه لا يهتم إطلاقاً بتاريخ العلوم، ولا يستفيد منه. ولا يُعنى بالعلماء من حيث هم موجودات اجتماعية تتأثر بالعوامل الخارجية.
4 ـ 1 ـ 2: لا يتكئ علم معرفة القدماء على التعاطي بين جماعة العلماء، فلو كان هنالك شخص واحد في العالم وحصل لديه إدراك معين، لأمكن أيضاً التحدث عن وجود مجرد أو مادي لذلك الإدراك.
2 ـ 2: علم المعرفة البعدي، أو علم المعرفة المسبوق، والخاص بالمعرفة في مقام التحقيق:
1 ـ 2 ـ 2: لا يتطرق علم المعرفة البعدي للوجود الذهني والمستقر النفسي للمعرفة، ولا يدرسه من حيث هو كيفية من كيفيات النفس. بل إن موضوعه هو الفروع العلمية المختلفة، بما في ذلك المعرفة الدينية. والعلم في مقام التحقق الخارجي مجموعة من التصديقات والتصورات والمفاهيم والفرضيات والظنيات والقطعيات الصادقة والكاذبة، والناقصة والكاملة التي ترتبط مع بعضها بعلاقات حرب وسجال مستمرين، وظفر وهزيمة تاريخيين. علم المعرفة البعدي يبحث في أحوال وأحكام هذا العلم.
2 ـ 2 ـ 2: إن وجود علم المعرفة البعدي لا بد أن يكون مسبوقاً بوجود الفروع العلمية المختلفة، فهو يراقب بكل دقة حركة العلوم في الخارج. ويتحرى أخبار ظهور النظريات والآراء وتطوراتها، لذلك يكتسب تاريخ العلوم في هذا النمط من علم المعرفة أهمية بالغة.
3 ـ 2 ـ 2: علم المعرفة البعدي يهتم بجماعة العلماء ومحافلهم وأساليب عملهم، وكذلك بالهوية الجماعية السيالة للعلم، وبالتفاعل والتبادل بين العلماء، ويحاول الإفادة من التاريخ والمنطق وعلم المناهج وعلم المعرفة القبلي، ليضيف منها إلى محتواه. وبالتالي فإن علم المعرفة البعدي منوط ومتقوم بالسلوك الجماعي للعلماء.
يتضح مما أسلفنا أن علم المعرفة البعدي هو بحد ذاته معرفة من المعارف، لكنها معرفة من نوع معارف الدرجة الثانية، أي أنها تعني بمعارف الدرجة الأولى وتأتي بعدها وتترتب عليها. في حين يعتبر علم المعرفة القبلي من معارف الدرجة الأولى، ومن سنخ الميتافيزيقا والفلسفة الأولى.
إن نظرية (القبض والبسط) نظرية معرفية (أو علم معرفية، أو معرفوية أو ابستيمولوجية) تنظر للمعرفة الدينية نظرةً بعدية.
تمايزات الأحكام بين معارف الدرجة الأولى ومعارف الدرجة الثانية:
3 ـ تتمايز أحكام معارف الدرجة الأولى عن أحكام معارف الدرجة الثانية بخمسة فوارق على الأقل:
1 ـ 3: خلافات وخصومات الدرجة الأولى بين العلماء، تمثل توافقاتهم وتعاضداتهم في الدرجة الثانية.
2 ـ 3: أخطاء الدرجة الأولى، إصابات الدرجة الثانية.
3 ـ 3: ماضي المعرفة من الدرجة الأولى، حال المعرفة من الدرجة الثانية.
4 ـ 3: التغيير في معرفة الدرجة الأولى، ثبات في معرفة الدرجة الثانية.
5 ـ 3: القيم والتوجيهات (ما يجب أن يكون) في معارف الدرجة الأولى، حقائق وواقعيات خارجية (ما هو كائن) في معارف الدرجة الثانية.
إن اختلافات العلماء داخل إطار العلم الواحد، وتصديقهم أو رفضهم لآراء بعضهم، هي عين ذلك العلم، وليست عارضاً سلبياً ينبغي أن يزول. فحياة العلم قائمة بالردود والنقود. والفرع العلمي ليس الآراء التي يتبناها هذا العالم أو ذاك، وإنما هو عبارة عن جميع هذه الآراء المتضاربة التي طرحها ويطرحها العلماء في الماضي والحاضر باستمرار (الهوية الجماعية والسيالة للعلم)، فالمعرفة ملك عام، وليست مقتنيات شخصية. إذن اختلافات العلماء داخل المعرفة الواحدة، هي عين الاتفاق من وجهة نظر عالم المعرفة (الذي ينظر إلى تلك المعرفة من الخارج). وكأن العلماء اتفقوا على إحياء ذلك العلم باختلافاتهم، لذلك كانت أخطاؤهم غير المقبولة (في الدرجة الأولى) مقبولة بالنسبة لعالم المعرفة. إن تلك الآراء المتنوعة هي عين العلم، وليست عين الصواب. فعالم المعرفة يلاحظها من زاوية كونها علمية، لا من حيث إنها حق أو باطل. وهذه الأحكام تسري تماماً على صعيد المعرفة الدينية أو علم المعرفة البعدية الخاصة بالمعرفة الدينية. ففي المعرفة الدينية من الدرجة الأولى هناك الكثير من الآراء والطروحات الخاطئة الباطلة، لكن جميع هذه الآراء (بشرط أن تكون مقننة وممنهجة) داخلة في المعرفة الدينية ذات الدرجة الثانية.
العلم مجموعة من الآراء تتعامل وتتعاطى مع بعضها ويقوم بينها تحاور وتلاقح وفق ضوابط وتناسق خاص. وهذا التعامل والتحاور حالة ثابتة بالطبع. لهذا فإن عالم المعرفة بما هو عالم معرفة لا ينحاز إلى أية نظرية داخل العلم، ولا يرى أفول نظرية معينة أفولاً للعلم، وإنما يعتبر ذلك عين ترسيخ العلم وبقائه. وبعبارة أخرى فإن النظرية التي تُدحض وتُقنّد، تخرج من دائرة الصحة (حسب الدرجة الأولى) ولا تخرج من دائرة المعرفة (من حيث الدرجة الثانية). ولهذا عندما يُنظَرُ للعلم من الخارج تكون تحولاته الداخلية عين ثباته.
كذلك حينما يُخبَر بالأحكام القيمية والاعتبارية ذات الدرجة الأولى من وجهة نظر معرفية تنتمي للدرجة الثانية، فسينطوي هذا الإخبار على حكم غير قيمي وغير اعتباري. وبعبارة ثانية فإن علم القيم ليس هو القيم ذاتها، وإنما إنباء بها. (لا تكذب) نهي قيمي داخل علم الأخلاق، ولكن في المعرفة الأخلاقية يقال: إن (علم الأخلاق يأمر بأن لا تكذب). وواضح أن العبارة الأخيرة لست من سنخ الأمر والنهي، وإنما هي قضية حول قضية أخرى، لذلك كانت معرفة الدرجة الثانية في طول معرفة الدرجة الأولى، وليست في عرضها. وبهذا فإن علم المعرفة الدينية لا يمكنه أن يتقاطع أو يصطدم مع الأحكام الإنشائية الموجودة في الدين. وينبغي الاحتراز بشدة من الخلط بين أحكام معارف الدرجة الأولى وأحكام معارف الدرجة الثانية، لأن هذا الخلط أرضية خصبة للمغالطات.
خصائص المعرفة البشرية في مقام التحقق:
1 ـ 4: ليست المعرفة من وجهة نظر معرفية بعدية، بمعنى ذات (العلم) أو (المُدرَك الذهني) أو مجموعة القضايا المتفرقة. بل هي مجموعة القضايا الصادقة والكاذبة تتحد مع بعضها بحسب موضوع واحد أو غاية واحدة أو منهج واحد. وهي ملك عام لكل العلماء، ولها هوية جماعية سيالة جارية في التاريخ. وهذه المجموعة الممنهجة المقننة والمتألفة هي ما يسمى في الأوساط العلمية بالفروع العلمي أو المعرفة.
2 ـ 4: في كل معرفة يمكن تمييز مقامين عن بعضهما:
1 ـ 2 ـ 4: مقام التأليف والجمع، وفيه تُجمع وتكتشف المواد الخام للمعارف ومحتوياتها. والعالم لا يدري في هذا المقام هل ما جمعه أو اكتشفه صحيح أو خطأ؟ وهل سيكون مقبولاً أم غير مقبول؟ فالجمع والاكتشاف أوسع دائرة من جمع واكتشاف الأمور الصحيحة، وليس له منهج محدد أو مضبوط، إذ يستطيع العالم في هذا المقام الاستفادة من تجاربه وأخيلته وتمثيلاته وتشبيهاته وإشراقاته و... وبعبارة أخرى لا يصح سؤال العالم من أين جاء بنظرياته؟ فأساليب الجمع والاكتشاف في العلوم ليست ذات أهمية تذكرن وإنما المهم هو منهج إصدار الأحكام.
2 ـ 2 ـ 4: مقام الحكم، وفي هذا المقام يتم إصدار الأحكام وفق منهج معين حول صحة وسقم المواد الخام المجموعة لدى العالم. ويصار إلى فرز المواد السليمة عن الفاسدة. فتمايز العلوم والمعارف في مقام المنهج، يعود إلى منهج الحكم لا إلى منهج الجمع والاكتشاف. وبعبارة أخرى فإن (المنهج العلمي) لا يطلق على منهج الجمع، وإنما يطلق على منهج إصدار الأحكام.
بصورة عامة، يمكن تقسيم العلوم بحسب منهج إصدار الأحكام إلى ثلاث شعب رئيسية:
أ ـ العلوم التجريبية، والتي تتخذ من التجربة منهجاً للحكم.
ب ـ العلوم العقلية، ومنهج الحكم فيها هو العقل.
ج ـ العلوم النقلية، ومنهج الحكم فيها هو النقل. فإذا جرى التشديد في معرفة ما على مقام جمع المعلومات، من دون أن تتضح كيفية اختبار هذه المواد الخام وتمييز صحيحها من غير الصحيح، بقيت تلك المعرفة ضعيفة ناقصة. فكمال العلم في كمال تقنيات الحكم.
3 ـ 4: في كل معرفة ينبغي أيضاً الفرز بين مقامين آخرين:
1 ـ 3 ـ 4: مقام الـ (يجب) وهو مقام التعريف.
2 ـ 3 ـ 4: مقام الـ (إنّ) وهو مقام التحقق.
في تعريف أي علم من العلوم ثمة (يجب منطقية). فمثلاً يقال: إن الفلسفة إذا أُريد لها أن تكون فلسفة وليس سوى الفلسفة يجب أن تكون (العلم بعوارض مطلق الوجود). لكن الفلسفة المتحققة في العالم الخارجي لا تمثل ذلك التعريف بالضبط. أي أن الـ (يجب) المذكورة لم تتحقق في العالم الخارجي بتمامها. فمن الخطأ التوهم أنه بما أن تعريف الفلسفة يوصينا بأن تكون الفلسفة على الشاكلة الفلانية، إذن فالفلسفة الموجودة في العالم الخارجي هي فعلاً على هذه الشاكلة. وإنما الفلسفة الموجودة كانت دائماً دون مستوى تعريف الفلسفة، وكذلك الحال بالنسبة لجميع العلوم الأخرى.
في مقام تعريف أي علم ينبغي أولاً تعريف ذلك العلم بصورته الخالصة، أي تعريفه بشكل يجمع كل الأفراد والمصاديق ويمنع كل الأغيار. وثانياً ينبغي في مقام التعريف الإحاطة بكل المعرفة وليس بجزء ناقص منها. وثالثاً يجب أن يكون التعريف خاصاً بالقضايا الصادقة للمعرفة المنظورة ولا يُعنى بقضاياها الكاذبة.
ومن الواضح أن المعارف التي ظهرت إلى السطح في العالم الخارجي وفي إطار الكتب والنظريات التخصصية، لم تتوفر على أي من الشروط المذكورة أعلاه بشكل كامل. بمعنى أنه لا يوجد أي علم يمكن اعتباره خالصاً تمام الخلوص، أو كاملاً بشكل مطلق، أو أنه حق وصدق بكل ما يحتويه من آراء ونظريات. وإنما هو مجموعة آراء صادقة وكاذبة وناقصة يحملها العلماء هنا وهناك، وهي دوماً عرضة للتحول والتنقيح الجماعي والتاريخي. والمعرفة الدينية واحدة من هذه المعارف والعلوم.
4 ـ 4: من ناحية، يمكن تصنيف العلوم إلى (مُنتجَة) و (مُستهلكة):
المعارف المنتجة تتخذ في الغالب الطابع النظري والتقنيني، وهي معارف تتناول الواقع الخارجي بشكل مباشر لتخبرنا به وتكشف عما يدور فيه ضمن قوانين معينة. أما المعارف المستهلكة فتأخذ النظريات المُستخلَصَة في العلوم المنتجة وتستخدمها استخدامات معينة. والمعارف المُستهلكة عادةً ما تكون مزيجاً من المعارف والمهارات. أي أن العالم هنا لا بد أن يكون على معرفة بطائفة من النظريات، وإلى جانب ذلك ينبغي أن تكون له المهارة الكافية لاستخدامها وتوظيفها.
المبدأ الابستيمي لنظرية القبض والبسط (الواقعية المعقدة):
5 ـ لنظرية (القبض والبسط) مبدأ ابستيمولوجي مهم جداً هو (الواقعية) أو (أصالة الواقع).
طبقاً لهذا المبدأ تستخلص القضايا التالية:
أولاً: يوجد واقع ما.
ثانياً: يمكن إدراك هذا الواقع.
ثالثاً: الغاية على صعيد المعرفة، هي بلوغ الحقيقة والتوفر عليها.
البعض تقودهم سطحيتهم إلى القول بأن الحقيقة واضحة، والمعرفة بها سهلة يسيرة، فالأذهان السطحية تقنع بأبسط شيء تقرؤه في العالم وتعتبره الحق المنشود. ومثل هذه النظرة الساذجة للواقع، والتي يمكن تسميتها (الواقعية البسيطة)، ليست هي الواقعية التي تتخذها نظرية (القبض والبسط) مبدأً لها، فالتجارب الطويلة لتاريخ المعرفة علمت المفكرين أن الواقع، رغم كونه مقولة إيجابية منشودة، لكنه معقد وعسير الاكتشاف، ولا يمكن التيقن منه بسهولة، لذلك كانت المعرفة عملية معقدة وليس من السهل التوفر على معرفة صادقة كاملة. هذا النمط من فهم الواقع والذي يسمى (الواقعية المعقدة) هو المبدأ الذي ترتكز عليه نظرية (القبض والبسط).