بسم الله الرحمن الرحيم
(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)
بين أيدينا ثلاث قضايا، يتلو بعضها بعضاً:
القضية الأولى:
الانقلاب الكوني الشامل الذي يشير إليه القرآن في أكثر من موقع:
يقول تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً)
ويقـــول تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُــها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ).ويتم هذا الانقلاب عندما يتحكّم المستكبرون في حياة الناس ويستضعفون عباد الله ويسلبون الناس قيمهم وعقولهم وضمائرهم، وتصل البشرية إلى طريق مسدود، عندئذ تتدخل الإرادة الإلهية وتنقل القوة والسلطان من أيدي الظالمين المستكبرين إلى أيدي الصالحين المستضعفين.
وقد تكرر هذا الانقلاب الكوني في التاريخ، ومن ذلك ما حدث في تاريخ بني إسرائيل عندما استكبر فرعون وأفسد في الأرض.
يقول تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).
وهذه هي الحتمية الأولى، وهي انقلاب القوة من المستكبرين إلى المستضعفين الصالحين، وهو انقلاب شامل في القيم والمواقع والقوة والسيادة، وهي سنن الله الحتمية.
القضية الثانية:
أن الذي يقود هذا الانقلاب الكوني الشامل هو المهدي من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد وردت في ذلك روايات صحيحة بلغت حدّ التواتر.
وهذه هي القضية الثانية التي يقرّرها الحديث النبوي، ويتّفق عليها المسلمون.
كما أن القضية الأولى ثابتة بحكم القرآن الشريف وليس في هذا شكّ ولا ذلك.
وقد بلغت أحاديث المهدي عليه السلام حدّاً لا يمكن التشكيك فيها، ولسنا نريد أن ندخل هذا البحث ولا البحث السابق عليه.
القضية الثالثة:
أن المهدي المنتظر عليه السلام الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي عليهم السلام ، ولد سنة 255 هـ. بسامراء، ثم حجبه الله تعالى عن أعين الناس، وهو الذي يرسله الله حين يشاء لإنقاذ الناس من الظلم، وإزالة الشرك من على وجه الأرض، وتقرير التوحيد وعبودية الإنسان لله، وتحكيم شريعة الله وحدوده في حياة الناس. وهو الذي يقود هذا الانقلاب الكوني الشامل الواسع، في انتقال القوة من الطبقة المترفة المستكبرة الفاسدة إلى الطبقة الصالحة المستضعفة (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ).
وقد تواترت الروايات عن أهل البيت عليهم السلام بأن المهدي المنتظر عليه السلام الذي بشّر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو محمد بن الحسن العسكري، وهو الثاني عشر من أهل البيت عليهم السلام .
وحديثنا اليوم يتركّز حول هذه النقطة بالذات.
ومخاطبنا في هذا الحديث هم الذين يؤمنون بحجّية حديث أهل البيت عليهم السلام ، ويبحثون عن أدلة كافية وواضحة وصريحة في الإثبات العلمي لعقيدة الإمامية في تشخيص المهدي المنتظر من آل محمد عليه السلام .
فإن الاختلاف بين الشيعة الإمامية وبين سائر الفرق الإسلامية ليس في أصل قضية(المهدوية)، فإنّ المسلمين مجمعون ـ إلاّ من شذّ منهم ـ في الإيمان بأن الله تعالى ادّخر المهدي عليه السلام من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإنقاذ البشرية وللانقلاب الكوني الكبير في حياة الناس... ليس في ذلك شكّ، والروايات النبوية في ذلك صحيحة ومتواترة، وإنّما الخلاف بين الشيعة الإمامية وغيرهم من المسلمين في التشخيص والتعيين فقط.
فإن الشيعة الإمامية يذهبون قولا واحداً إلى أن الإمام المهدي المنتظر عليه السلام هو محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي المولود سنة 255هـ. بسامراء، وقد غيّبه الله تعالى لحكمة يعرفها، وهو الذي ادّخره الله تعالى لنجاة البشرية، وبشّر به الأنبياء والكتب الإلهية من قبل، بينما يذهب الآخرون إلى أن المهدي الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يولد بعد، أو ولد ولا نعرف عن اسمه شيئاً.
والأدلة التي نستدلّ بها على إثبات عقيدة الإمامية في تشخيص وتعيين الإمام المهدي المنتظر عليه السلام على طائفتين، الطائفة الأولى: هي الروايات العامة التي لا تخصّ الإمام عليه السلام إلاّ أنها تنطبق بصورة قهرية على عقيدة الإمامية في المهدي عليه السلام ، ولا نعرف توجيهاً ولا تفسيراً لها إذا أسقطنا من حسابنا عقيدة الإمامية في هذا الموضوع، وهذه الروايات صحيحة بالتأكيد، وبعضها يبلغ حد التواتر في المصادر الإمامية من ناحية رجال السند في مختلف طبقاته، ولا مجال للمناقشة فيها من حيث الإسناد.
والإيمان بصحّة هذه الأحاديث يؤدي إلى الإثبات العلمي لعقيدة الإمامية في تشخيص وتعيين الإمام المنتظر عليه السلام ، وذلك بسبب تطابقها أولاً مع ما هو المعروف عند الإمامية ـ كما سوف نرى ذلك إن شاء الله ـ ولانتفاء حالة أخرى تصلح أن تكون مصداقاً وتفسيراً لهذه الأحاديث ثانياً.
ونتيجة هاتين النقطتين (المطابقة والانحصار) هي التطبيق القهري لهذه الأحاديث على عقيدة الإمامية في تشخيص الإمام المهدي عليه السلام . وإليك هذه الأحاديث:
1ـ حديث الثقلين:
وأوّل حديث نعتمده في هذا المجال حديث الثقلين، الذي صحّ واستفاضت وتواترت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأجمع على تصحيحه المحدّثون من كل الفرق الإسلامية، وليس من علماء المسلمين ممن يحترم من علمه يشكّ في صحّة هذا الحديث وصدوره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ويكفي أن يكون من رواة هذا الحديث مسلم في الصحيح، والترمـذي والدارمـــي فــي السنـن، وأحمد بن حنبل في مواضع عديدة وكثيرة من المسند، والنسائي في الخصائص، والحاكم في المستدرك، وأبو داود وابن ماجة في السنن، وغيرهم ممّا لا يمكن إحصاؤهم في هذا المقال... وطرقه في كتب الإمامية أكثر من أن تُحصى في هذه الوجيزة.
ولفظ الحديث، كما في أغلب هذه المصادر:
(أيّها الناس إنّما أنا بشر أوشك أن أُدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين، وهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فلا تسبقوهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم).
والحديث صريح في:
1ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يترك من بعده خليفتين هما القرآن وأهل بيته لهداية الأمة.
2ـ وأنّهما باقيان لن يفترقا عن بعض إلى يوم القيامة.
3ـ وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر وقال أن التمسّك بهما يعصم الأُمة من الضلال، ومعنى التمسّك هو الاتّباع والطاعة. وهذا هو معنى (الحجّة) وليس للحجّة معنى غير الاتّباع والطاعة.
وإذا ضممنا النقطة الأولى (إنّي تارك فيكم الثقلين) إلى النقطة الثانية (وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض)، استنتجنا أصلا هاماً، وهو وجود حجّة وإمام من أهل البيت عليهم السلام في كلّ زمان لا يفترق عن كتاب الله قط.
يقول ابن حجر في (الصواعق): (وفي أحاديث الحثّ على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض، كما يأتي، ويشهد لذلك الخبر السابق: في كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي).(1)
ولا شكّ في دلالة الحديث على بقاء حجّة من أهل البيت إماماً للناس...
وليس لهذا الحديث تفسير أو تطبيق غير ما يعتقده الإمامية من وجود الإمام المهدي عليه السلام وحياته وبقائه وعصمته وإمامته على المسلمين.
وإذا أسقطنا هذا الأمر عن الاعتبار، لم نجد تطبيقاً وتفسيراً له قط في هذه القرون من حياة المسلمين. فليس في المسلمين اليوم ـ ولا قبل اليوم ـ من يدّعي أنه أعلم الناس، وأن على الناس أن يتّبعوه ولا يتقدّموه، وأن يتعلّموا منه ولا يعلّموه، كما في نصّ الحديث الشريف الذي لا يختلف فيه من يُعبأ بقوله ورأيه من علماء المسلمين.
وإذا قيل: فما نفع إمام غائب عن الناس للناس؟
نقول: إن الله تعالى لم يطلعنا من أسرار غيبه إلاّ على القليل، وما أخفى الله علمه عنّا كثير، وما عرّفنا منه قليل. وقد أخبرنا الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم ببقاء حجة من أهل بيته في الناس على وجه الأرض إلى يوم القيامة، فنتعبّد بحديثه، ونُحيل عِلم ما لا نعلم إلى مَن يعلم... وليس كل ما في شريعة الله ودينه مفهوم ومعروف لنا.
2ـ حديث من مات ولم يعرف امام زمانه:
وروى البخاري في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية).
صحيح البخاري كتاب الفتن/ الباب الثاني.
ورواه أحمد في المسند ص 259 (ط حيدر آباد) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية).
ورواه الحاكم في المستدرك، ولفظ الحديث: (من مات وليس عليه إمام جماعة فإنّ موتته جاهلية).
وصحّحه الحاكم على شرط الشيخين البخاري ومسلم.
ورواه الذهبي في تلخيص المستدرك 1/77 وصحّحه على شرط الشيخين رغم تشدّد الذهبي في تصحيح أحاديث المستدرك .
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد بأسانيد كثيرة وألفاظ عديدة 5/218 ـ 225.
وطرق الحديث وألفاظه كثيرة يبلغ حدّ الاستفاضة. وقد علمنا أن بعضها صحيح كما شهد به الذهبي.
وروى الحديث ثقاة المحدّثين من أصحابنا الإمامية، وطرقهم إليه كثيرة، وطائفة منها صحيحة، وهي في الجملة قريبة من التواتر. وقد عقد المجلسي رحمه الله له باباً في بحار الأنوار، روى فيه أربعين حديثاً في هذا المعنى بطرق كثيرة وألفاظ متقاربة. بحار الأنوار الجزء 23/ 76 ـ 93 تحت عنوان (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية). نذكر منها طريقين على سبيل المثال.
الطريق الأوّل: رواية البرقي في المحاسن بسند معتبر عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام : (إن الأرض لا تصلح إلاّ بإمام. ومن مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية). المحاسن للبرقي ص 153 ـ 154، بحار الأنوار 23/76. والسند معتبر.
الطريق الثاني: روى الكشي في (الرجال) 266 ـ 267: عن إبن احمد عن صفوان عن أبي اليسع، قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام : حدّثني عن دعائم الإسلام، فقال: شهادة أن لا إله إلاّ الله... إلى أن قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من مات ولا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).
ورجال السند كلهم ثقاة.
ولسنا نحتاج إلى توثيق السند في أمثال هذه الروايات التي تظافرت روايتها عن الطريقين، والروايات واضحة الدلالات صحيحة السند، وهي تدلّ على الحقائق التالية:
1ـ أن الأرض لا تصلح إلا بإمام.
2ـ ولابدّ في كل زمان أن يعرف الإنسان إمام زمانه، ومعرفته من الدين، والجهل به ورفضه من الجاهلية.
3ـ ولابدّ من طاعة الإمام لكل أحد في كلّ زمان، ولا يجوز لأحد أن يخرج عن طاعة إمام زمانه.
4ـ ومن يمت وليس في عنقه بيعة الإمام يمت ميتة جاهلية.
5ـ ولابد أن يكون في كل زمان إمام تجب طاعته معرفته، ولابد أن تتّصل حلقات الإمامة في كل زمان، وأن لا يخلو منهم زمان.
ولا يصح أن يقال أنّ هذا المورد من قبيل الحكم بشرط الموضوع، أو تعليق الحكم على الموضوع كأيّة قضية حقيقية أخرى.
فإننا نقول: إن الأمر كذلك، ولا تدلّ القضية الحقيقية على إثبات موضوعها، وإنّما يثبت الحكم على فرض تحقّق موضوعه، ولكن الروايات الواردة في هذا الباب تدل على أمر أكثر من ذلك، وهو ضرورة ارتباط الناس بالإمام ومعرفتهم وقبولهم له. وأنّه شرط الإسلام، وخلافه الجاهلية.. وهذه القضية تكشف عن وجود الإمام في كلّ زمان، دون ان يكون معنى ذلك أن القضية الحقيقية تثبت موضوعها، فإن القضية الحقيقية دائماً بشرط تحقق الموضوع، ولكننا نقول: إن الذي نستظهره نحن من الروايات هو أنّها تكشف عن استمرار الموضوع، وهو وجود الإمام الحجّة في كل زمان، وهذا أمر آخر غير الاثبات.
وبتعبير آخر: أن الروايات الواردة في هذا الباب تكشف عن أن سنّة الله تعالى قد اقتضت وجود إمام عدل في كلّ زمان، قد فرض الله طاعته ـ ولم يأذن بالخروج من طاعته. والحكم الشرعي الوارد في هذه الروايات يستبطن الكشف عن سُنّة إلهية. أمّا الحكم فهو وجوب طاعته في كل زمان. وأما السنّة الإلهية التي يستبطنها هذا الحكم فهو وجود إمام في كل زمان، وإلاّ فكيف يُطلب من الإنسان أن لا يموت إلاّ وهو في طاعة إمام زمانه، وأن يلتزم ببيعته وطاعته، غير ناقض ولا ناكث لها، وغير جاهل به، فإذا خرج عن الطاعة أو نكث أو جهل به مات ميتة جاهلية، بهذه الدرجة من التغليظ والتشديد في الجزاء والعقوبة.
ومن نافلة القول أن نقول أن الحكام الظلمة وأئمة الكفر والذين يحاربون الله ورسوله لا يكونون مصاديق للإمام الذي يفرض الله على الناس معرفته وطاعته في كل زمان، وقد قال تعالى: (وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) هود/ 113.
(وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَْرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) الشعراء/ 151 ـ 152.
(يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) الكهف/ 28.
وبعد هذا الإيضاح نقول: إن التفسير الوحيد لهذه الروايات هو ما تعرفه الإمامية وتعتقد به من استمرار الإمامة في أهل البيت عليهم السلام منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليوم، وعدم انقطاع الإمامة بوفاة الإمام الحسن العسكري عليه السلام . وأي فرض آخر لا يستطيع أن يقدّم تفسيراً معقولاً لهذه الروايات، الاّ أن نقول بوجوب الطاعة لكل برّ وفاجر، كما يقول به بعض الناس، وإثباته على عهدة من يدّعيه.
ولسنا نعتقد أن الطاعة التي تساوي الإسلام،ويساوي خلافها الجاهلية هي طاعة هؤلاء الذين أمرنا الله تعالى بعدم الركون إليهم والكفر بهم من الحكّام الظلمة الذين حكموا المسلمين خلال التاريخ.
ومن يضع هذه الطائفة من الروايات الى جنب الطائفة الاولى من الروايات يجد تطابقاً واضحاً فيما بينهما.
فقد ورد في حديث الثقلين من الطائفة الاولى أنهم حجج الله على عباده ويجب التمسّك بهم، وهم العدل الآخر للكتاب،وما إن تمسك الناس بهم لن يضلّوا ابداً.
وورد في الطائفة الثانية أن معرفتهم من دين الله، والجهل بهم من الجاهلية والضلالة، والحديث ممّا تسالم عليه الفريقان، وقد ذكرنا بعض ألفاظه وطُرقه من قبل، وممّن أخرجه الشيخان في الصحيحين.
3ـ حديث أنّ الأرض لا تخلو من حجّة:
روى هذا الحديث من أصحابنا الإمامية محدّثون ثقاة مثل المحمدين الثلاثة الكليني والصدوق وأبي جعفر الطوسي رحمهم الله بطرق كثيرة تبلغ حدّ التواتر في مختلف طبقات إسناده، وقد عقد له الكليني محمد بن يعقوب في كتاب الحجة من الكافي باباً بهذا العنوان (ج1 ص 178).
كما عقد العلامة المجلسي في بحار الأنوار باباً بعنوان (الاضطرار إلى الحجّة، وأن الأرض لا تخلو من حجّة) وهو الباب الأول من المجلد السابع من الكتاب، ذكر فيه 118 حديثاً بهذا المضمون، وفيما يلي نذكر نماذج من هذه الروايات:
ذكر الكليني في الكافي/ كتاب الحجة/ باب أن الأرض لا تخلو من حجة: عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن عمير عن الحسن بن أبي العلاء، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام : تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال: لا. قلت: يكون إمامان؟ قال: إلاّ وأحدهما صامت) أصول الكافي1/ 178.
والسند تام لا يتطرّق إليه الشك.
وروى الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن منصور بن يونس وسعدان بن مسلم عن إسحق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: سمعته يقول: (إنّ الأرض لا تخلو إلاّ وفيها إمام). الكافي1/ 178. والسند تام والرواية معتبرة.(2)
وروى الكليني عن محمد بن يحيى عن احمد بن محمد عن علي بن الحكم عن ربيع بن محمد المسلّمي عن عبد الله بن سليمان العامري عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: (مازالت الأرض إلا ولله فيها الحجّة) الكافي 1/ 178. والسند تام والرواية معتبرة أيضاً. ورواة الحديث ثقاة(3).
وروى الكليني عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس بن مسكان عن أبي بصير عن أحدهما عليها السلام قال: (إن الله لم يدع الأرض بغير عالم) الكافي1/ 178.
والسند تام والرواية معتبرة كذلك.
وروى الكليني عن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن الوشّاء، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام : (هل تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: لا. قلت إنّا نروي أنّها لا تبقى إلاّ أن يسخط الله عزّوجل على العباد؟ قال: لا تبقى إذاً لساخت)(4) الكافي 1/ 179. والسند تام والرواية معتبرة.
وروى الشريف الرضي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة ما له علاقة بذلك. قال عليه السلام : (لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً، وإمّا خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حُجج الله وبيّناته).
هذه طائفة واسعة من الروايات تبلغ حد التواتر، وجملة منها تامّة من حيث السند، كما أشرنا إلى بعضها من كتاب الكافي، وهي صريحة بأنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله ظاهراً أو مغموراً، والحجة في كلمات أهل البيت عليهم السلام مصطلح معروف لمن يألف كلماتهم عليهم السلام ، وهذه الأحاديث لا تحتاج إلى تعليق كثير وتأمّل وتوقف، فهي صريحة في ضرورة وجود الإمام وحياته وغيبته، وإذا أسقطنا هذا الأمر من الاعتبار فلا نجد تفسيراً لهذه الروايات البتّة، وهي كثيرة بالغة حدّ التواتر.
4ـ حديث الأئمة الأثنى عشر:
روى البخاري في الصحيح كتاب الأحكام عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال كلّهم من قريش.
وروى مسلم في الصحيح كتاب الإمارة باب أن الناس تبع لقريش عن جابر بن سمرة، قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً، ثم تكلّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكلمة خفيت عليّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال: كلّهم من قريش)(5).
وروى مسلم في الصحيح كتاب الإمارة باب أن الناس تبع لقريش عن جابر بن سمرة، يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا يزال الإسلام عزيزاً إلى إثني عشر خليفة، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلّهم من قريش).(6)
وروى أيضاً مسلم في الصحيح في نفس الكتاب ونفس الباب عن جابر بن سمرة، قال: دخلت مع أبي على النبي، فسمعته يقول: (إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنى عشر خليفة، ثم تكلّم بكلام خفي عليّ، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلّهم من قريش)(7).
وروى الترمذي في السنن كتاب الفتن باب ما جاء في الخلفاء عن جابر بن سمرة قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يكون من بعدي إثنا عشر أميراً) ثم عقّب على ذلك بقوله، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح(8).
وروى أبو داود في السنن عن جابر بن سمرة قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى إثني عشر خليفة، فكبّر النّاس، وضجّوا، ثم قال كلمة خفيت عليّ، قلت لأبي: يا أبه ما قال؟ قال: كلّهم من قريش)(9).
وروى الحاكم في المستدرك في كتاب معرفة الصحابة عن جابر قال: (كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته يقول: لا يزال أمر هذه الأمّة ظاهراً حتى يقوم اثنا عشر خليفة).
وروى أحمد بن حنبل في المسند هذا الحديث عن جابر من أربع وثلاثين طريقاً (ج5/ ص 86 و87 و89 و90 و92 و93 و94 و95 و96 و97 و98 و99 و100 و101 و106 و107 و108).
وروى أبو عوانة هذا الحديث في مسنده 4/ 396 و398 و399.
ورواه ابن كثير في البداية والنهاية 6/248، والطبراني في المعجم الكبير 94 و97، والمناوي في كنوز الحقائق 208، والسيوطي في تاريخ الخلفاء 61، والعسقلاني في فتح الباري 13/ 179، والبخاري في التاريخ الكبير 2/158، والخطيب في تاريخ بغداد 14/ 353، والعيني في شرح البخاري 24/281، والحافظ الحسكاني في شواهد التنزيل 1/455، والقسطلاني في إرشاد الساري 10/328، وغيرهم من المحدّثين والحفّاظ.
ولدينا مجموعة من النقاط في هذا الحديث:
1ـ لا إشكال في أن حديث الإثنى عشر خليفة قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد رواها الفريقان بطرق كثيرة، ويكفي أن البخاري ومسلم من السنّة والكليني والصدوق من الشيعة من رواة هذا الحديث.
2ـ والأحاديث ظاهرة في أن الأمراء المذكورين في هذه الرواية أمراء الحق، ولا يكونون من أئمة الظلم والجور من أمثال معاوية ويزيد والوليد والمتوكّل وأضرابهم من حكّام الظلم والجور.
3ـ وأن عدّتهم اثنا عشر عدد نقباء بني اسرائيل.
يقول تعالى: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً) المائدة/ 12.
4ـ ولا يخلو منهم زمان.
ولا نعرف لهذه الأحاديث بمجموعها تطبيقاً قط غير الأئمة الاثنى عشر المعروفين عند الشيعة الإمامية الاثنى عشرية، وآخرهم المهدي المنتظر عليه السلام وهو الإمام الثاني عشر.
ولو رأينا التمحّل الذي يتمحله علماء كبار من أمثال السيوطي في ترتيب الاثنى عشر أميراً بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لاطمأن القلب إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يُرد غير الأئمة الاثنى عشر من أهل بيته الأبرار الطاهرين عليهم السلام . ولقد أحسن محمود أبو رية في التعليق على التوجيه الذي وجّه به السيوطي هذه الرواية، فقال عنه: (ورحم الله من قال عن السيوطي أنه حاطب ليل).
فلا نعرف تطبيقاً قط ينطبق بالتمام والدقّة على هذه الروايات غير عقيدة الشيعة الامامية وبضمنها ولادة الامام محمد بن الحسن العسكري عليه السلام وغيبته وظهوره.
وبعد: فهذه أربع طوائف من الروايات لا يتطرّق إليها الشك من حيث السند والدلالة. ونقرن ذلك بمثال من القضاء:
لو أن أحداً عثر على مال في دارٍ لا يدخلها غير نفر معدود، ولايدخلها غيرهم فادّعاه أحدهم، لا يعرف الناس له تناقضاً أو كذباً، ولم يدّعه غيره ممّن يتردّد على هذه الدار من أولئك النفر. فإنّ القاضي يحكم بالضرورة بعائدية المال إلى المدّعي مع عدم وجود ادّعاءٍ معارض، وليس يحتاج إلى بيّنة أو يمين أو وسيلة أخرى من وسائل الاثبات القضائي بالضرورة.
وواقع الائمة الاثنى عشر من اهل البيت عليهم السلام في التاريخ الاسلامي بالقياس إلى الأخبار الصحيحة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشبه إلى حدٍّ ما هذا المثال القضائي.
ولذلك قلنا أن أنطباق هذه الروايات على الائمة الاثنى عشر من أهل البيت عليهم السلام ـ ومنهم الامام الثاني عشر الغائب المنتظر عليه السلام ـ انطباق قطعي وضروري، ولا يحتاج إلى جهدٍ علمي كثير بقدر ما يحتاج إلى رؤية صافية غير مثقلة بالخلفيّات والرواسب الفكرية والتعصبيات، أعاذنا الله منها.
ونلخّص الكلام في هذا الباب ونقول:
إن امامنا افتراضين اثنين:
الافتراض الأول: صحّة عقيدة الشيعة الإمامية في الائمة الاثنى عشر من أهل البيت عليهم السلام ، بمن فيهم الإمام الثاني عشر عليه السلام وولادته وغيبته وظهوره.
والافتراض الثاني عدم صحّة هذه العقيدة.
ومن الطبيعي أن يخضع هذان الإفتراضان للدراسة والتحقيق في ضوء الطوائف الأربع المتقدمة من الحديث، التي لا يمكن إنكارها ولا تكذيبها.
عندئذ نجد أن الافتراض الأول يقدّم بسهولة تفسيراً واقعياً وتأريخياً للطوائف الأربع المتقدمة من الحديث لانطباقها الكامل عليها.
بينما الافتراض الثاني يؤدي إلى إنكار الاحاديث الأربعة أو تكذيبها. والأول منها يعارض النهج العلمي المعروف للفريقَين في توثيق الحديث، والثاني منهما تكذيب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس، وجعلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العدل الآخر للكتاب.
الهوامش
________________________________________
(1) رواه مسلم في الصحيح في كتاب الامارة/ باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن 6/22، ولفظ الحديث: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية).
(2) والرواية معتبرة من حيث السند ورواتها كلّهم ثقاة، وأما إبراهيم بن هاشم والد علي بن إبراهيم فقد رجّح العلاّمة في (الخلاصة) الأخذ بروايته، وأكثر ابنه علي بن إبراهيم من الرواية عنه في التفسير، وقد التزم في مقدمة التفسير بالرواية عن الثقاة فط، وصرّح ابن طاووس عند ذكر رواية من أمالي الصدوق في سندها إبراهيم بن هاشم بأنّ رواة الحديث ثقاة بالاتّفاق، وهو أوّل من نشر حديث الكوفيين في قم، وتلقّوه عنه بالقبول، رغم اشتهار القميين بالتشدّد في قبول الحديث، ولا يتردد فقهاؤها في الأخذ برواياته، يقول السيد الخوئي رحمه الله: لا ينبغي الشّك في وثاقة إبراهيم بن هاشم.
(3) أمّا علي بن الحكم، فقد وثّقه فقهاؤنا لوقوعه في أسناد كتاب التفسير لعلي بن إبراهيم القمي.
(4) والسند معتبر تام، وحسين بن محمد الأشعري الثقة شيخ الكليني، ومعلّى بن محمد هو البصري، روى في تفسير القمي فهو ثقة، والوشّاء هو الحسن بن علي بن زياد، قال البرقي عنه: لا ينبغي الشك في وثاقته.
(5) صحيح مسلم ط دار الفكر 6/3ح6 باب أن الناس تبع لقريش، كتاب الامارة.
(6) ن.م. ح8.
(7) ن.م. ح5.
(8) سنن الترمذي 4/ 501 ط مصطفى البابي الحلبي.
(9) سنن أبي داود 2/ 421 ط مصطفى البابي الحلبي 1371 أول كتاب المهدي.