تمهيد:
تنحدر فكرة المهدي المنتظر في أصولها من العقيدة الإسلامية التي ترى بأن الإمام الثاني عشر هو محمد بن الحسن الذي ينتهي نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام والذي لقّب بالمهدي، وقد وُلد في النصف من شعبان سنة 256هـ، وعاش مع أبيه خمس سنين إذ أخفى أبوه أمره إلاّ عن نفرٍ يسير من خاصته، ولذا لم يكن العامّة يعرفون أن له ولداً... والسلطة الحاكمة يوم ذاك(1) هاجمت دار أبي محمد الحسن عليه السلام ووضعت عليه الرقابة وفتّشته تفتيشاً دقيقاً للقبض على خليفته الجديد... وأخيراً أصدرت المراسيم بأن إمام الشيعة قد مات ولا خَلَف له.(2)
وقد أوضحت الخطوط العامة لهذا المعتقد أن (هذا المصلح المهدي) لا يزال حياً، ولا يمكن أن يعود الدين إلى قوّته إلاّ إذا ظهر على رأسه مصلح عظيم يجمع الكلمة ويردّ عن الدين تحريف المُبطلين، ويُبطل ما أُلصق به من البدع والضلالات، بعنايةٍ ربانية وبلطف إلهي، ليجعل من هذا المصلح شخصاً هادياً مهدياً له هذه المنزلة العظمى والرياسة العامة والقدرة الخارقة ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً).(3)
واستدلّوا على ذلك بأدلّة كثيرة حفلت بها مصنّفاتهم الكلامية والعقائدية، منها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ طول عمر النبي نوح عليه السلام الذي لبث في قومه ألف سنة أو أقل، وقصة أصحاب الكهف، وكذا اختلاف العلماء في حياة الخضر الذي قيل أنه حيّ موجود وغيرها.(4)
وفكرة المهدي هذه (فكرة برّاقة تجذب إليها الناس أكثر من أية فكرة أخرى، لأنها تبعث فيهم الآمال وترضي تطلعاتهم نحو المستقبل).(5)
ولذلك فقد لقيت استحساناً وترحيباً في أوساط المجتمع الإسلامي في كل عصوره وإلا (لما تمكّن مدّعو المهديّة في القرون الأولى كالكيسانية والعباسيين وجملة من العلويين وغيرهم من خداع الناس واستغلال هذه العقيدة فيهم طلباً للملك والسلطان، فجعلوا ادّعاءَهم المهدوية الكاذبة طريقاً للتأثير على العامة وبسط نفوذهم عليهم).(6)
ولذلك تحوّلت النظرة الدينية البحتة تجاه فكرة المهدي إلى مفهوم سياسي صرف كان له دور مؤثر في خضّم أحداث التاريخ الإسلامي وتوجّهات فكره السياسي.
وابن تومرت، هو واحد من الذين تبنّوا هذه الفكرة في أوائل القرن الخامس الهجري في بلاد المغرب الأقصى، حيث تمكّن هذا الرجل من إقناع المجتمع البَدَوي بصحّة دعواه عن طريق القيام بثورة إصلاحية تمكن بفضلها من إسقاط دولة المرابطين وإنشاء دولة جديدة قامت على إنقاضها سُمّيت دولة الموحّدين الذي كان عصرهم منطلقاً لظهور علماء كبار نافسوا علماء المشرق وقدموا إسهامات عظيمة، وخلّفوا لنا تراثاً فكرياً ثرّاً.
المبحث الأول
ولادته ونسبه
اختلف المؤرخون في تثبيت السنة التي ولد فيها إبن تومرت، فقال بعضهم: إنه ولد في سنة 470هـ، وذكر بعض آخر أنه ولد في سنة 485ه(7) أو 484ه(8)، وقال قسم منهم: إن ولادته في سنة 491 هـ، وقال إبن الخطيب الأندلسي: سنة 486هـ، وقال الغرناطي: سنة 471 ه(9)، على أن هذا الاختلاف يؤكد ولادته في الثُلث الأخير من القرن الخامس الهجري.
أمّا مكان ولادته، فيذكر المراكشي أن ابن تومرت ولد في ضيعةٍ تعرف باسم (ايجلي أن وارغنّ)(10) في منطقة السوس، جنوب المغرب الأقصى على المنحدرات الشمالية لسلسة جبال الأطلس الداخلية التي تقطنها بعض العائلات التي تنتمي إلى قبيلة هرغة المتفرّعة عن قبيلة مصمودة.(11)
وقد اختلف المؤرخون ايضاً في نسبة العلوي، فمع أنه قد دوّن نسبه بخط يده إلى الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام(12)، إلا أن ذلك لم يمنعهم من التشكيك في صحّة ذلك النسب الذي لعب دوراً كبيراً في إضفاء الصفة الشرعية على ولاية ابن تومرت.
فهو على رواية ابن خلكان (محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان بن صفوان بن سفيان بن جابر بن يحيى بن عطاء بن رباح بن يسار بن العباس بن محمد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب).(13)
يؤكد هذا النسب ابن ابي زرع مع تقديم (سفيان) على (صفوان) وإسقاط إسم الحسن المثنى (الحسن بن الحسن) السلسلة(14)، وكذا أشار إليه صاحب الحلل الموشية بنفس الاسقاط.(15)
ويشكك ابن خلدون بهذا النسب كثيراً إذ يقول (زعم كثير من المؤرّخين أن نسبه في أهل البيت)(16) ثم يورد ذلك النسب فيقدّم منه (سفيان) على (صفوان) ويرفع منه (يحيى) وينسب (رياح) إلى محمد الذي هو من ولد سليمان بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب أخي إدريس الأكبر الواقع نسب الكثير من بيته في المصامدة وأهل السوس(17)، يؤيده في ذلك الزركشي (ت 894هـ).(18)
أما (البيدق) وهو من المعاصرين لابن تومرت، فينقل عن من يوثق بنقله من قرابة ابن تومرت أنه (محمد بن عبد الله بن وكليد بن يامصل بن حمزة بن عيسى بن عبد الله بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )(19) ويعلّق على النسب الذي أورده غيره من المؤرّخين (بأن قرابة ابن تومرت وأهل العناية بهذا الشأن لا يعرفونه).(20)
وقد لاحظنا أن جُلّ هؤلاء المؤرخين لم تحصل لديهم القناعة التامة بما ذكروا عن نسب ابن تومرت المتصل بالحسن بن علي بن أبي طالبعليها السلام ، حيث عادوا ونسبوه الى (هرغة) أحد بطون قبيلة مصمودة وهي من أكثر قبائل المغرب عدداً وأكثرها نفوذاً وبطشاً، فيذكر ابن أبي زرع في رواية نقلها عن ابن مطروح القيسي أنه (رجل من هرغة من قبائل المصامدة يعرف محمد بن تومرت الهرغي)(21) ويكتفي آخرون بكونه ينتمي إلى عائلة تبوّأت مكانة دينية مرموقة في الوسط الإجتماعي الذي عاش فيه: فيقول ابن خلدون (وكان أهل بيته أهل نُسك ورباط).(22)
ثم يدرج له نسباً بعيداً عن العلويين فيقول إنه (محمد بن تومرت بن نيطاوس بن بساولا بن سفيون بن الكلايس بن خالد...).(23)
انّ نسبة ابن تومرت إلى آل البيت تمثل الكثير بالنسبة إلى رجلٍ يدّعي أنه المهدي المنتظر في قوم من البربر البسطاء، فهو الطريق الشرعي السليم الذي قد يضمن له الوصول إلى أهدافه الإصلاحية ومنها التغيير السياسي الذي كان يرنو إليه، دون متاعب، وإذا ما أضيف إلى ذلك مظاهر الورع والتقوى والزهد والصلاح الذي كان ابن تومرت يتحلّى أو يُحلّي شخصيته بها أمام مجتمع ساذج، فإن امرءاً بتلك المواصفات سوف لن يجد إلا الاستحسان والقبول ومن ثم التأييد والدعم.
المبحث الثاني
نشأته ورحلته في طلب العلم
لم تذكر لنا المصادر المغربية طبيعة نشأة ابن تومرت، إذ لا يمكن تحديد ثقافته الأولى إلا في كونه نشأ في بيتٍ أهله (أهل نسك ورباط، وشبّ محباً للعلم، وكان يسمى أسافور ومعناه الضياء لكثرة ما كان يُسرج من القناديل بالمساجد لملازمتها).(24)
وعليه فقد جَهَل المؤرخون الكثير من المعلومات المطلوبة لتوضيح المراحل الأولى من تعليمه، وكل المعلومات المتوفرة لا يمكن إلا أن تدخل في اطار الاستنتاج والتوقّع، فيوسف أشباخ الألماني ـ وهو مؤرّخ محدّث ـ قدّم بعض المعلومات المقتضبة عن مراحل تعليمه في بلاد المغرب بقوله: (في سنة 1190م قَصَد رجل من بلاد السوس ومن قبيلة مصمودة يدعى أبا عبد الله بن تومرت إلى طلب العلم في أشهر معاهد المغرب والمشرق أُسوةً بعلماء عصره)(25) ، حيث يستنتج من هذا النص أنه عندما غادر مسقط رأسه ليستكمل تعليمه في معاهد المشرق والمغرب كان على درجة من العلم تؤهله للرحلة بقصد الاستزادة، إذ ليس مناسباً أن يسافر من المغرب إلى المشرق ليتعلم المبادئ والسطوح دون أن يكون قد أنهى مراحل متقدّمة تجعله أهلاً للتملذ على أيدي شيوخ كبار أمثال (القاضي عياض الذي قرأ عليه في قرطبة)(26) (والامام المازري الذي أخذ عنه في المهدية)(27) قبل أن ينتقل إلى بغداد ليلتقي بالإمام أبي حامد الغزالي والكيا الهراسي وأبي بكر الطرطوشي(28) والمبارك بن عبد الجبار ونظرائه من المحدّثين.(29)
وللمؤرخين إختلاف في قصة لقائه بالإمام الغزالي المتوفى سنة 505 هـ، والتي حكى تفصيلها صاحب الحلل الموشية نقلاً عن عبد الملك بن صاحب الصلاة عن عبد الله بن عبد الرحمن العراقي ـ شيخ حسن من سكان فاس ـ قال:
(كنت ببغداد بمدرسة الشيخ الإمام أبي حامد الغزالي، فجاءه رجل كثّ اللحية على رأسه كرزية صوف، فدخل المدرسة وأقبل على الشيخ أبي حامد فسلّم عليه، فقال: ممن الرجل؟ فقال: من أهل المغرب، فقال: أَدَخلت قرطبة؟ قال: نعم، قال: كيف فقهاؤها؟ قال: بخير. قال: هل بلغهم كتاب الإحياء؟ قال نعم، قال: فماذا قالوا فيه؟ فصمت الرجل حياءً، فعزم عليه ليقولنّ! فأطرق رأسه وأخبره بإحراقه وبالقصة كما جرت، قال: فتغيّر وجهه ومَدّ يَدَه للدعاء والطلبة يؤمّنون عليه (يقولون: آمين)، فقال: مزّق الله ملكهم كما مزّقوه، وأذهب دولتهم كما أحرقوه! فقال أبو عبد الله بن تومرت السوسي الملقب بالمهدي: أيها الإمام ادعُ الله أن يجعل ذلك على يدي، فتغافل عنه، فلما كان بعد أيام أتى الحلقة شيخٌ آخر على شكل الأول، فسأله الشيخ أبو حامد فأخبره بصحة الخبر المتقدم، فدعا بمثل دعائه الأول، فقال له المهدي: على يدي إنشاء الله، فقال: اللهم اجعله على يده)(30) وفي رواية أخرى أنه قال: (ليذهبن عن قليل ملكه، وليقتلن ولده، وما أحسب المتولي لذلك الا حاضراً مجلسنا).(31)
وتشير هذه القصة إلى حادثة إحراق كتاب (إحياء علوم الدين) الذي أفتى علماء المغرب بوجوب إحراقه، فتم ذلك برعاية ملك المرابطين اللمتوني.(32)
ويقول ابن أبي زرع: (إن من العلماء الذين أخذ منهم العلم الشيخ الإمام الأوحد أبا حامد الغزالي، لازمه لاقتباس العلم ثلاث سنين).(33)
كما أشارت بعض الروايات إلى أن الشيخ أبا حامد كان كثيراً ما يشير إلى المهدي ويقول: إنه لابد أن يكون له شأن، ونمى الخبر إلى المهدي فلم يزل يتقرب إلى الشيخ بأنواع الخدمة حتى أطلعه على ما عنده من العلم في ذلك).(34)
وقد شكّك فريق من المؤرخين بحصول هذا اللقاء لاعتبار أن ابن تومرت لم يغادر المغرب قبل سنة 500 هـ، وربما لم يصل بغداد إلا في سنة 505، وبذلك يكو ن اللقاء بين الرجلين غير ممكن، لأن سنة خروج إبن تومرت من المغرب ووصوله إلى العراق مروراً بمكة لغرض الحج تتّفق مع وفاة الغزالي في سنة 505هـ، ومنهم ابن الأثير (ت 630هـ) الذي قال، (وصل في سفره إلى بغداد... وقيل إنه جرى له حديث مع الغزالي فيما فعله بالمغرب من التملك... والصحيح أنه لم يجتمع به)(35) ويعزّز ذلك رأي إبن خلدون (ت 808هـ) الذي اعتبر ذلك اللقاء بأنه مجرد زعم(36)، ويبدو أن فكرة التشكيك هذه تقوم على اعتبارات، منها أنه إدعاء اخترعه الموحّدون لدعم موقف ابن تومرت السياسي، لأن قصة اللقاء تحمل في طيّاتها ما يشبه الفتوى الشرعية للثورة على المرابطين.
ومع افتراض صحة الروايات القائلة بحصول اللقاء بين الغزالي وابن تومرت، فهي لا تتضمن اعترافاً منه ـ من الغزالي ـ بقدرات ابن تومرت وكراماته التي تحدّث عنها بعض من أرّخ له من معاصريه.
فضلاً عن أن دعاء الإمام الغزالي اختص بالقضاء على المرابطين الذين مزّقوا أو أحرقوا كتابه، ولم يمتلك ابن تومرت الخصوصية في هذا الدعاء، لأنه ليس إلاّ واحداً في الحاضرين،يدلل على ذلك تغافل الغزالي أولاً ثم تردّده في أن يقول عبارة (على يدك!).
وأحسب أن دعاء الإمام الغزالي بتمزيق أو حرق ملك المرابطين لم يكن بسبب انحرافهم عن تعاليم الدين عندما (أثاروا بغطرستهم وقرفهم وعدم حرصهم على كثير من التقاليد الدينية سخط المسلمين المحافظين).(37)
كما لم يكن هذا الدعاء لمجاملة ابن تومرت الذي أحرج الإمام بطلب الدعاء لَه أو على يده، وهذا الأخير لم يجد بداً تحت الإلحاح من إجابة ابن تومرت إلى طلبه، فهو مجرد دعاء أطلقه الإمام الغزالي حانقاً على من قام بتمزيق أو إحراق كتابه الذي تضمن جلّ آراء الأَشاعرة وخلاصة فلسفتهم.
على أن ما يمكن أن يدحض واقعية لقاء ابن تومرت بالإمام الغزالي أساساً هو إجماع المؤرخين على أن الإمام الغزالي (رحل عن بغداد في سنة 499 هـ حيث عيّنه نظالم الملك وزير السلطان ملكشاه السلجوقي أستاذاً بالمدرسة النظامية في نيسابور، ولم يثبت أن المهدي بن تومرت زار نيسابور حيث ظلّ بها الغزالي حتى توفي سنة 505هـ).(38)
المبحث الثالث
سيرة ابن تومرت وفلسفته
عاد إبن تومرت من المشرق كمصلح للأعراف ولأسلوب فهم العقيدة وهو يمتلك نظرةً عن الإسلام في المغرب بأنه لم يفهم كما ينبغي، فبدأ وهو في طريقه إلى بلاده على ظهر السفينة (في تغيير المنكر على أهل السفينة وألزمهم بإقامة الصلوات وقراءة أحزاب من القرآن الكريم).(39)
وعندما وصل إلى المهدية كان (ينظر إلى المارة فلا يرى منكراً من آلة الملاهي أو أواني الخمر الا نزل إليها وكسّرها، فتسامع الناس في البلد فجاءوا إليه وقرأوا عليه كتاباً من أصول الدين).(40)
وكان ورعاً ناسكاً متقشّفاً مخشوشناً مخلولقاً، كثير الإطراق بسّاماً في وجوه الناس، مقبلاً على العبادة، لا يصحبه من متاع الدنيا إلا عصا وركوة وكان شجاعاً فصيحاً في اللسان العربي والمغربي شديد الانكار على الناس فيما يخالف الشرع.(41)
(ولقي ذات يوم أخت أمير المسلمين (يوسف بن تاشفين) حاسرة قناعها على عادة قومها الملثمين في زي نسائهم(42)، فوبخها ودخلت على أخيها باكيةً لما نالها من تقريعه)(43) ويبالغ يوسف أشباخ في وصف الحادثة قائلاً إنه: (أنبّها على تبذّلها ثم لطمها فوقعت من على جوادها)(44) وعندما (لحق بتلمسان وقع تسامع الناس بخبره فرحل إلى فاس ثم إلى مكناس ونهى فيها عن المنكر فأوجعه الاشرار ضرباً).(45)
إحتلت عقيدة التوحيد مكانة سامية في فكر إبن تومرت لأن التوحيد عنده هو (أساس الدين الذي بني عليه وإن فروعه إنما تثبت بعد العلم بثبوته)(46) وقد أورد مجموعة من الأدلة للتدليل على التوحيد والتنزيه كما يفهمه هو (كإثبات الواحد ونفي ما سواه من إله أو شريك أو ولي أو طاغوت كل ما يعبد سواه يجب نفيه والكفر به والتبرؤ منه).(47)
وبذلك يكون قد نفى الصفات، وكل ما عسى أن يلحق بذاته جل وعلا تشبيهاً بالحوادث، ولم يعترف إلا بالأسماء الحسنى التي سمى الله نفسه بها من غير اشتقاق أو إصلاح أو تأويل، لكن مع التنزيه المطلق للذات الإلهية أثبت إبن تومرت رؤية الله يوم القيامة دون أن يوضح كيفية حصول تلك الرؤية مخافة أن يوقعه ذلك في التشبيه والتجسيم.
وخاض إبن تومرت في قضية الفعل الانساني وكون القدر الإلهي هو القانون العام الذي تخضع له كل المخلوقات قائلاً (فكل ما سبق به قضاؤه وقدره واجب لا محالة ظهوره وجميع المخلوقات صادرة عن قضائه وقدره أظهرها الباري سبحانه كما قدرها في أزليته من غير زيادة ولا نقصان لا تبديل في المقدور ولا تحويل في المحتوم)(48) وبذلك عدّ الانسان مكلفاً بمقتضى إنسانيته.
ورغم تنوع المصادر والمناهل التي استقى منها إبن تومرت آراءه، ووضوح الطابع الانتقائي إن لم نقل التلفيقي الذي يطبع تلك الاراء، إلاّ أنه لم يأت بجديد، ولم يمتلك فلسفة خاصة في نظرته الى المبادئ التي حاول أن يضع لها حلولاً، فإن مجمل آرائه هي مجموعة منتقاة من فلسفة المذاهب الإسلامية المختلفة والمتناقضة احياناً، فتجد بينها آراء إعتزالية وبجانبها أفكار أشعرية ظاهرية وشيعية، على أن تنوّع مصادر علمه أعطى لعقيدته سمة التحرر من الإلتزام المذهبي الكامل المألوف لدى المذاهب الاخرى، فقد وافق إبن تومرت الأشعرية في مسألة الرؤيا والفعل الانساني والثواب والعقاب ومسائل أخرى كثيرة دفعت بابن خلدون إلى القول (وحملهم (أي قوله) على القول بالتأويل والأخذ بمذهب الأشعرية في كافة العقائد)(49) ، وهو ذات السبب الذي حمل كثيراً من الباحثين المحدثين على القول بأهمية الفكر الأَشعري كمصدر تأثر به إبن تومرت واستقى منه الكثير(50)، كما أن الموازنة العقيدية والسلوكية بين آراء إبن تومرت وأبو حامد الغزالي إمام الاشاعرة تظهر لنا إلى أي مدى تأثر بأفكار الأَشعرية وآرائهم وأن نقاط الاتفاق والألتقاء تدلل على تلك الصلة العقيدية الوثيقة لاسيما إذا أخذنا بصحة كون إبن تومرت تتلمذ على يد الغزالي مع عدم إغفالنا للنقاط الإختلاف التي تعبّر عن مواقف إجتهادية خالف فيها التلميذ شيخه وهي حالة مألوفة في جميع الحلقات التدريسية في العصر الوسطى، فالطابع العلمي الذي ميّز مذهب إبن تومرت يقابله الطابع الصوفي عند الغزالي الذي كان ضد نشر آرائه العقيدية بين العامة وخاصة تلك التي تمثّل التأويل بخلاف إبن تومرت الذي جعل تقريب هذه العقيدة القائمة على أساس التنزيه والتأويل إلى أفهام العامة من بين مهامه الأساسية كمصلح للأعراف والعقيدة(51)، وأحسب ان تفضيل بعض المؤرخين المهدي بن تومرت على الإمام الغزالي كان من هذا الباب (لأن إبن تومرت أظهر نظرياته العلمية في شكل عملي على حين نشر الغزالي علمه من الناحية النظرية دون أن يجرؤ على مناوأة الخليفة العباسي).(52)
ويتجلى ذلك الإختلاف بين فلسفتَيْ الرجلين في مسائل الإمامة والمهديّة والعصمة التي يرفضها الغزالي ويعارضها بشدة، كما يعارض الخروج المسلّح على الإمام الجائر خوفاً من الفتنة، خلافاً لابن تومرت الذي جعل كل هذه المبادئ أساساً لفكره السياسي، فالإمامة والمهديّة والعصمة مفاهيم شيعية ثلاثة وظّفها في خدمة أهدافه السياسية، فاتخذ من قوله بالإمامة شعاراً سياسياً إنتحله لتدعيم زعامته وسلطانه، ووسيلة لاقرار سيادته في نفوس المغاربة وضمان طاعتهم له والامتثال لأوامره وعدم مخالفتها أو التشكيك فيها.(53)
أما المهدويّة فكانت بمثابة الثوب الروحي الذي توشح به لتأييد شرعية إمامته وقدسيتها، فهو لم يتناولها من جانبها الفقهي الأصولي، بل اقتصر فقط على جانبها العملي ووظفها في صراعه السياسي مع المرابطين،(54) بدليل إنه لم يلقب نفسه بالمهدي على الرغم من الألقاب الكثيرة التي تلقّب بها حيث (رحل إلى تينمل فبايعوه بها وذلك تحت شجرة الحروب)(55) في (يوم السبت غرة محرم مفتتح عام 516هـ)(56) ، (ثم بث دعاتهُ في بلاد المصامدة يدعون الناس الى بيعته ويزرعون محبته في قلوبهم)(57) ، (ولما كملت بيعته لقبوه المهدي وكان قبلها يلقب بالإمام وكان يسمّي أصحابه الطلبة وأهل دعوته الموحدين، تعريضاً بلمتونة (قبيلة المرابطين) في أخذهم بالعدول عن التأويل وميلهم الى التجسيم).(58)
أما العصمة فقد اعتبرها شرطاً من شروط الأمانة (لابد أن يكون الإمام معصوماً من الفتن وأن يكون معصوماً من الجور لأن الجائر لا يهدم الجور بل يثبته وأن يكون معصوماً من الكذب لأن الكاذب لا يهدم الكذب بل يثبته وأن يكون معصوماً من الباطل لان المبطل لا يهدم الضلال).(59)
إن هذا التنوّع الفكري كان سبباً في إختلاف الكتّاب المحدثين حول طبيعة حركة إبن تومرت، فعبد الله كنون في كتابه النبوغ المغربي يرى (أنها حركة دينية إصلاحية لم تشبها أية أطماع سياسية وأن المهدي كان مخلصاً في دعوته)(60) ، أما عباس الجراري فيرى أنها (حركة سياسية إستهدفت منذ البداية تقويض أركان الدولة المرابطية والوصول إلى دفة الحكم).(61)
كما أن توظيفه المفاهيم الثلاثة (الإمامة والمهديّة والعصمة) في خدمة أهدافه السياسية دفعت بعض المؤرخين إلى وصمه بالتشيع وبذلك يقول إبن خلدون (ولم يحفظ عنه فلتة في البدعة إلا ما كان من وفاقه الإمامية من الشيعة في القول بالإمام المعصوم).(62)
ونسب إليه البعض كونه قد تأثر بالمذهب الإعتزالي إلى حد كبير، مدللين على ذلك برأيه في التوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين يعتبران من أصول المعتزلة الخمسة بالإضافة إلى القول بتقدم العقل وإعطائه مكانة رئيسة في فكره وموافقته الاعتزال في مسألة التكليف.
أما آراء إبن تومرت التي تدعو إلى الرجعوع إلى القرآن والسنة لأستنباط الاحكام الشرعية دون الرجوع الى الفروع ورفض القياس أصلاً للأحكام الشرعية واستنكار التقليد في كل هذه الآراء، جعلته في مسار المذهب الظاهري، وبذلك يقول عنه المنوني (والواضح أن مسألة الظاهرية ليست آتية من عبد المؤمن ثم يوسف فقط وانما منسؤها الأصلي إبن تومرت).(63)
ومجمل القول أن آراء إبن تومرت هذه كانت مؤلفة من عدة عناصر جعلت منه معتزلياً في تقبّله فكرة تنزيه الله تنزيهاً مطلقاً، وحزمياً ظاهرياً في وقوفه من القرآن والسنة وإجماع المسلمين وجعل أسماء الله الحسنى التي أوردها القرآن هي الأسماء التي يجب على المسلمين التزامها دون التعرض للصفات، وأشعرياً في تأويل الآيات المتشابهات الواردة في القرآن، وشيعياً في جعله الإمامة ركنا أساسياً في فكره. وبذلك يكون إبن تومرت قد استفاد من كل هذه المذاهب على قدر حاجته واستخلص منها مذهبه الذي وصف لتنقاض في أفكاره مع ما كان رائجاً في الوسط المغربي من أفكار وآراء عند الفقهاء والعلماء مما أثارهم ضدّه لاسيما أولئك الذين كانوا يشكلون سنداً لدولة المرابطين.
إستطاع إبن تومرت بمفرده أن يواجه اولئك الفقهاء والعلماء بتفكيره الجدلي وثقافته المتنوعة المصادر، فخاص غمار مناقشاته الكلامية مع الفقهاء وعلى رأسهم فقيه سبتة القاضي عياض الذي كشف عن أطماع إبن تومرت السياسية وإنه إتخذ الدين ستاراً لحمل الناس على القيام ضد المرابطين ومحاربتهم واجهاض حكمهم.
وقد شكك عياض بإفكار إبن تومرت من الناحية العقيدية وعارضها عادّاً قوله بعصمة الإمام بدعة لا أساس لها في الدين الإسلامي ورفض الإعتراف بمشروعية بيعة عبد المؤمن خليفة للمهدي بن تومرت بقوله (لا شيء يلزم أهل سبتة ببيعته ما دامت بيعة تاشفين بن علي في عنقهم)(64) ، لذا عدّ هذا القاضي الموحدين متسلطين على الحكم ولا حق لهم في الإمامة.
ولقي إبن تومرت أيضاً مواجهةً عنيفةً في مدينة مرّاكش من قبل فقهائها وعلى رأسهم مالك بن وهيب الذي استنتج بعد محاورات ومناظرات طويلة مع إبن تومرت أنه (رجل مفسد لا تؤمن غائلته ولا يسمع كلامه أحدٌ إلاّ مال إليه وإن وقع هذا في بلاد المصامدة ثار علينا منه شرٌ كبير)(65) وتقدم بأستنتاجه هذا إلى الأمير علي بن يوسف بن تاشفين ناصحاً له بسجنه حين امتنع الأمير الأَخذ بنصيحة قتله إلاّ انه لم يستمع لنصيحته الثانية بل أطلق سراحه وتوجه إبن تومرت بعد ذلك إلى (أغمات) ومنها الى سوس ليكون في مأمن من دسائس إبن وهيب ومحاولاته لاقناع السلطان بالقبض عليه والبطش به.(66)
ويجمل إبن القطّان موقف الفقهاء المناهض لأبن تومرت بقوله:
(قالوا هذا رجل يكفّر الناس بالذنوب ويمنع من الصلاة والصيام وغير ذلك من العبادات، ويردّ المطلقة ثلاثاً إلى زوجها، وطرح مذاهب العلماء وكاتبهم، وخرج عن الاجماع، وكفّر المسلمين، واستحل أموالهم، واستحلّ حريمهم، وجعل أموالهم تخمس كما تخمس أموال النصارى، وأقام على الأمراء ونزع يده من طاعتهم، وقد أجمع المسلمين على تحريم القيام عليهم ووجوب طاعتهم)(67) وبذلك يكون فقهاء الدولة المرابطية قد جاهروا بتكفير إبن تومرت واتهموه بمخالفة الدين وشق عصا الطاعة على ولي الأمر ومخالفته لأجماع المسلمين.
وقد ردّ إبن تومرت على تلك الاتهامات مفنداً إيّاها ومسفهاً محتواها بالأدلة والحجج الفقهية والمنطقية نافياً عن نفسه مخالفة إجماع المسلمين ونجح في التغلب على أولئك الفقهاء والعلماء على كثرتهم ورغم دعم الدولة لهم لأنهم لم يكن لهم نشاط دعائي يكافئ نشاط المهدي إبن تومرت لوحده.
المبحث الرابع
ابن تومرت بين الاصلاح والتلفيق
إنّ مما يدعم القول بأَن فكرة المهدي المنتظر لم تمثل في منظور إبن تومرت سوى الهدف السياسي الذي كان يطمح للوصول إليه، هو إنتفاء الإستقرار المبدأي الذي يتميز به عادةً أي مصلح ديني وانعدام حالة الإلتزام العقيدي الذي عرف به كثير ممن سبقوا إبن تومرت أو ظهروا بعده.
ففي الوقت الذي إختلطت في فكرة فلسفات متناقضة لمذاهب كلامية متعددة كانت مثاراً للأستفهام والإنكار، إستخدم إبن تومرت الإسلوب التلفيقي وسيلة مباشرة لاثبات فكره النظري على أرض الواقع، فليس مألوفاً لمصلح دين (إذا خاف البطش وإيقاع الفعل به خلّط في كلامه فينسب الى الجنون)(68) ، بل إن مما يؤكد ذلك النهج هو قصته مع (البشير الونشريسي) من أصحابه العشرة الأوائل وهو ممن (تهذّب وقرأ فقهاً وكان جميلاً فصيحاً في لغة العرب وأهل المغرب، فتحدثا يوماً في كيفية الوصول إلى الأمر المطلوب فقال إبن تومرت للونشريسي العالم: أرى ان تستر ما أنت عليه من العلم والفصاحة عن الناس وتظهر العجز واللكن والحصر والتعري عن الفضائل، تشتهر به عند الناس لنتخذ الخروج عن ذلك وإكتساب العلم والفصاحة دفعة واحدة ليقوم ذلك مقام المعجزة عند حاجتنا إليه فنصدّق فيما نقوله).(69)
وما إن جاء الوقت المناسب الذي لاحظ فيه إبن تومرت تردد بعض أصحابه في تصديق دعوته فضلاً عن بعض المخالفين له من البربر، أوعز الى صاحبه (الونشريسي) قائلاً (هذا أوان إظهار فضائلك دفعة واحدة ليقوم لك مقام المعجزة لنستميل بك قلوب من لا يدخل في الطاعة... ثم اتفقا على أن يصلي الصبح ويقول بلسانٍ فصيح بعد إستعمال العجمة واللكنة في تلك المدة: إني رأيت البارحة في منامي وقد نزل بي ملكان من السماء وشقّا فؤادي وغسلاه وحشياه علماً وحكمةً وقرآناً، فلما أصبح فَعَل ذلك، فأنقاد له كل صعب الانقياد وعجبوا من حاله وحفظه القرآن في النوم).(70)
ولم يترك إبن تومرت هذه الحيلة دون ان يستنفذ (ببراعة محتال) كل مؤثراتها الايجابية لتأكيد مصداقيته، إذ قال لصاحبه (فعَجّل لنا البشرى في أنفسنا، وعَرّفنا أسعداء نحن أم أشقياء؟ فقا له: أما أنت فأنك المهدي القائم بأمر الله، ومن تبعك سعد ومن خالفك هلك، ثم قال: إعرض أصحابك عليّ حتى أميّز أهل الجنة من أهل النار، وعمل في ذلك حيلة قتل بها من خالف أمر محمد وأبقى من أطاعه).(71)
ومن الطريف أن إبن خلدون يوجز هذه الرواية بأسلوب أقرب إلى التصديق منه إلى الإنكار، فيقول (إلى أن كان شأن البشير وميّز الموحّد من المنافق).(72)
إن عملية إختلاق المعجزة والاستفادة من نتائج تأثيرها العاطفي لدعم المصالح السياسية أمرٌ لا يتلائم مع الطبيعة الإصلاحية، وخاصة تلك التي تدعو إلى الالتزام بالدين وتعاليمه، ولم يلتزم إبن تومرت الذي استخدم العكس حين تمادى في إتّباع سياسة التلفيق حتى على أرض المعركة الذي كان يعتبر إنها جهاداً في سبيل الله.
يروي إبن أبي زرع أنه (كانت بين المحودين والمرابطين حرب، فقتل من الموحدين خلق كثير، فعظم ذلك على عشائرهم، فأحتال المهدي بأن انتخب قوماً من أتباعه ودفنهم أحياء بموضع المعركة وجعل لكل واحدٍ منهم متنفساً في قبره (قصبة هوائية) وقال لهم: اذا سُئلتم على حالكم فقولوا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً وإن ما دعا اليه الإمام المهدي هو الحق فجدّوا في جهاد عدوكم، وقال لهم: إذا فعلتم ذلك أخرجتكم وكانت لكم عندي المنزلة العالية).(73)
وكان من طبيعة إبن تومرت الدعائية أنه (كان يستميل الأحداث من ذوي الغرّة، وكان ذووا العقل والعلم والحلم أهاليهم ينهونهم ويحذرونهم من إتبّاعه ويخوّفونهم من سطوة الملك).(74)
وقد وصفه بعض من ترجم له بأنه (كان صارماً سفاكاً للدماء يستبيح دم أعدائه ودم أصدقائه إذا لم يصدعوا في الحال بأمره وكان إذا أراد المبالغة في عتاب أحد أمر بدفنه حياً، وكان يذكي حماسة جنده بما يعدهم به من عظيم الثواب في جثات الخلد التي تنتظهرهم إذا استشهدوا في سبيل الدين الصحيح، وكان يلقنهم صلاة صغيرة يتلونها في الحرب في الذهاب والوقوف والقتال إقتصاداً في الوقت ولكي لا يضطروا إلى الركوع والسجود كما يحدث في الصلوات المعتادة).(75)
ويتضح من ذلك أن إبن تومرت كان يحاول إستغلال سذاجة المجتمع البربري القائم، وبدائية معارفه العلمية والدينية التي وجد فيها مرتعاً خصباً لتمرير سياسة الاصلاح الديني، مستهدفاً التغيير السياسي لانحراف المرابطين.
لقد كان إبن تومرت مصلحاً قبل أن يكون مفكراً مبدعاً وكان صاحب مبادئ إصلاحية متعددة الوسائل، عمل على نقلها إلى العامة والخاصة في وسط إجتماعي بدوي أغفل كثيراً من تلك المبادئ التي جاهر بها دون أن يستثني من ذلك الأمير إبن ناشفين نفسه الذي تأثر بطروحات إبن تومرت، وبكى وأطرق حياءً إذ قال له ـ إبن تومرت ـ (هل بلغلك أن الخمرة تباع جهاراً وتمشي الخنازير بين المسلمين وتؤخذ أموال اليتامى... وعددّ من ذلك شيئاً كثيراً...)(76) وأطلق الأمير سراحه رغم نصيحة رجال بلاطه وعلى رأسهم مالك بن وهيب قاضي مراكش الذي قال له (إحتفظ على الدولة من الرجل، واجعل على رجليه كبلاً (قيداً) لئلا يُسمعك طبلاً)(77) ، وفي رواية أخرى أنه قال للأمير: (أرى أن تعتقله وأصحابه وتنفق عليهم كل يوم ديناراً لتكتفي شره وإن لم تفعل ذلك لتنفقنّ عليه خزائنك كلها، ثم لا ينفعك ذلك فوافقه الملك على ذلك، فقال له وزيره: يقبح منك أن تبكي من موعظة هذا الرجل ثم تسيء إليه في مجلس واحد وأن يظهر منك الخوف منه مع عظم ملكك، وهو رجل فقير لا يملك سد جوعه، فلما سمع الملك كلامه أخذته عزة النفس واستهون أمره وصرفه وسأله الدعاء).(78)
وعندما إنكسر جيش المهدي بعد حصاره لمراكش عاصمة المرابطين. وبلغه الخبر وكان قد حضرته الوفاة قبل عودة أصحابه إليه (أوصى من حَضَر أن يبلّغ الغائبين: إن النصر لهم وإن العاقبة حميدة، فلا يضجروا وليعاودوا القتال وأن الله سبحانه وتعالى سيفتح على أيديهم والحرب سجال، وإنكم ستقوون ويضعفون ويقلّون وتكثرون وأنتم في مبدء أمرٍ وهم في آخره).(79)
وقد لا يخفى ما في مقالته هذه وهو على فراش الموت من القوة والأمل الكبير بالغلبة على أعدائه المرابطين في الوقت الذي بشّر فيه بأنكسار جيشه ومقتل معظم أصحابه.
قال تورنو: (نحن مقتفون بأن قوة خارقة لابد أنها صدرت عنه عندما كان يتكلم، إن بلاغته كانت حقاً قادرة على إثارة نفوس مستمعيه من البربر البسطاء).(80)
المبحث الخامس
وفاته
توفي المهدي بن تومرت على رواية إبن خلدون في سنة 522 هـ، (وقد عهد بأمره إلى كبير صحابته عبد المؤمن بن علي الكرمي، وقبره بمسجده من مدينة تينمل، وخشي أصحابه من إفتراق الكلمة وما يتوقع من سخط المصادمة على ولاية عبد المؤمن بن علي لكونه من غير جلدتهم (قبيلتهم) فأرجأوا الأمر إلى أن يخالط بشاش الدعوة قلوبهم، وكتموا موته ثلاث سنين يموّهون بمرضه... يدخل أصحابه إلى البيت كأنه إختصهم بعيادته، فيجلسون حول قبره ويتفاوضون في شؤونهم... حتى إذا استحكم أمرهم وتمكنت الدعوة من نفوس كافتهم كشفوا جسد القناع عن حالهم، وتمالأ من بقي من العشرة أصحابه على تقديم عبد المؤمن).(81)
ولعلّ رأي باقي المؤرخين(82) القائلين بأنه توفي سنة 524هـ ناشيء عن كتمان أصحابه لموته، وإنهم ذكروا تاريخ إعلان الوفاة رسمياً بعد كتمانها لمدة سنتين عن الناس، بخلاف ما ذكره إبن خلدون.
الخاتمة
لقد نجح إبن تومرت في إرساء حجر الأساس لدولة الموحدين معتمداً مجموعة ركائز إنتقاها من عدة مذاهب إسلامية كلامية، وصبّها ممزوجة في إطار مبرمج حمل إسم المهدوية التي ساقها إليه أصحابه عندما بويع دون أن يطالب بها لنفسه. فكان إماماً قبلها وأصبح إماماً مهدياً.
وقد فشل إبن تومرت في أن يجعل من فكرته هذه نبراساً للأجيال الموحدية التي تلته، إذ ماتت المهدوية بموته ولم ينادِ بها خلفاؤه من أولاد عبد المؤمن الكومي، بل لم يعد بمجدها أحد من أنصاره كفكرة سلفية، في حين إنه أثبت نجاحاً ساحقاً في تأسيس دولة نافست في قوتها ومعطيات حضارتها دول العالم الاسلامي يومذاك.
استخدم المهدي ما يعرف اليوم بمبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) الذي ابتعد به من صفات المهدوية الصحيحة التي نادى بها قبله أئمة أهل البيت عليهم السلام والتي تعتبر اليوم واحدة من أهم عقائدالمذهب الإمامي، فكان يصطنع الجنون حين يشعر بأذىً وشيك، ويدفن الاحياء على أنهم شهداء فيشهدوا لرفاقهم بأن وعد الله ووعد المهدي حق، ثم يكافئهم بسخاء على ما فعلوه من احتيال فيقلتهم في قبورهم وأما خدعة البشير الونشريسي الذي قتل بتمييزه للمنافق من الموحد جميع المناوئين وعدم المقتنعين بامامة ابن تومرت، فهي وسيلة سياسية بارعة لسحق المعارضة، لستخدم فيها الدين غطاءً لعملية تصفية جماعية لا تليق بنوع الدعوة التي جاء بها والتي كان الاصلاح ومحاربة البدعة أحد أهم اسبابها.
لقد شكلت سيرة ابن تومرت تحدياً مرّ بدة مراحل اولاها الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم المجاهرة بالانكار على ملك المرابطين نفسه وفي بلاطه، انتقل بعدها الى تنظيم صفوفه وتصفية الجيوب المعارضة لمبادئة، ومن ثم اعلان المواجهة المسلحة التي ابتدأها ولم يشهد نهايتها اذا عاجلته المنية. حيث يقول ابن خلكان (لم يفتح شيئاً من البلاد وانما قرر القواعد ومهّدها ورتّب الاحوال ووطّدها) ج6 ص 55.
الهوامش
________________________________________
(1) في عصر الخليفة المعتمد على الله العباسي (256 ـ 279هـ).
(2) الحسني، هاشم معروف، عقيدة الشيعة الامامية، منشورات دار الكتاب اللبناني بيروت 1956م: ص 176.
(3) المظفر، الشيخ محمد رضا، عقائد الإمامية، النجف 1391: ص 78.
(4) ينظر كاشف الغطاء، العلامة محمد حسين، أصل الشيعة واصولها، المطبعة الحيدرية النجف 1965: ص 6 وما بعدها.
(5) فوزي، فاروق عمر، الخلافة العباسية، دار الحكمة، جامعة بغداد 1986م: ص 65.
(6) المظفر، عقائد الامامية: ص 77.
(7) للتفصيل في آراء المؤرخين حول موضوع ولادته، ينظر: ألروجي لي تورنو. حركة الموحدين في المغرب في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، ترجمة: ابن المطلبي المطبعة العربية التونسية 1982م: ص 13ـ 14، الحجي، عبد الرحمن، التاريخ الاندلسي ص 456.
(8) ابن خلكان، ابو العباس شمس الدين احمد بن محمد (ت681هـ)، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: احسان عباس، دار صادر بيروت، 167: ج6 ص 45.
(9) الزركشي، ابي عبد الله محمد بن ابراهيم (ت894هـ)، تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية تحقيق: محمد ماضور، المكتبة العتيقة، تونس 1966م: ص4.
(10) المراكشي، محي الدين عبد الواحد بن علي، المعجب في تلخيص اخبار المغرب، تصحيح محمد سعيد العريان، مطبعة الاستقامة، القاهرة 1949م: ص 178.
(11) ابن ابي زرع، الانيس المطرب بروض القرطاس، دار المنصور للطباعة، الرباط 1972م: ص 172.
(12) البيذق، ابو بكر الصنهاجي، اخبار المهدي بن تومرت وابتداء دولة الموحدين تصحيح وترجمة: إ ـ لافي. بروفنسال، طبع بولس كتنر الكتبي، باريس 1928م: ص4.
(13) وفيات الأعيان: ج6، ص 46.
(14) الأنيس المطرب: ص 172.
(15) مجهول، الحلل الموشية في ذكر الاخبار المراكشية، تحقيق: سهيل زكار ط1 دار الرشيد الدار البيضاء 1979: ص 85.
(16) العبر وديوان المبتدا والخبر: ج6 ص 226.
(17) المصدر نفسه.
(18) تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية: ص 3.
(19) اخبار المهدي ابن تومرت: ص 21.
(20) المصدر نفسه.
(21) الأنيس المطرب: ص 172، المراكشي، المعجب: ص 178.
(22) العبر: ج6 ص 226.
(23) المصدر نفسه: ص 225.
(24) ابن خلدون، العبر: ج6، ص 226.
(25) تاريخ الاندلس في عهد الموحدين والمرابطين، ترجمة: محمد عبد الله عنان، مطبعة لجنة التاليف والنشر، القاهرة 1958: ص 186.
(26) الزركشي، تاريخ الدولتين: ص 4.
(27) المصدر نفسه.
(28) ينظر ابن خلكان، الوفيات: ج6 ص 46.
(29) المراكشي، المعجب: ص 178.
(30) الحلل الموشية ص 85، وينظر: ابن صاحب الصلاة، تاريخ المن بالامامة على المستضعفين، تحقيق: عبد الهادي التازي ط1، بيروت 1964: ص 85.
(31) المراكشي، المعجب: ص 179.
(32) الزركشي، تاريخ الدولتين: ص 4.
(33) الانيس المطرب: ص 227.
(34) الحلل الموشية: ص 85ـ 86، الناصري، أحمد بن خالد، الاستقصار لأخبار دول المغرب الاقصى، تحقيق: جعفر الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء 1954.
(35) الكامل في التاريخ: ج8 ص 569.
(36) العبر: ج6 ص 227.
(37) يوسف اشباخ، تاريخ الاندلس في عهد المرابطين والموحدين، ص 191.
(38) حسن ابراهيم حسن، النظم الاسلامية، طبع مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1970: ص 97.
(39) ابن خلكان. الوفيات: ج6ص 46.
(40) المصدر نفسه: ص 47.
(41) المصدر نفسه: ص 46.
(42) كان من عادة المرابطين أن تسفر نساؤهم وتتلئم الرجال.
(43) الناصري، الاستقصا: ص 87 وينظر ابن خلكان: ص6 ص 49.
(44) تاريخ الاندلس في عهد المرابطين والموحدين: ص 190.
(45) الزركشي، تاريخ الدولتين: ص5.
(46) المهدي بن تومرت، أعز ما يطلب، تقديم جوله تسيهر، الجزائر 19003: ص 240.
(47) المصدر نفسه: ص 241.
(48) المصدر نفسه: ص 238.
(49) العبر: ج6 ص 226 وانظر الزركشي، تاريخ الدولتين ص 5.
(50) ينظر جان جيروم طارو، ازهار البساتين ص 190، أحمد محمود صبحي، في علم الكلام مؤسسة الثقافة، الاسكندرية 1978م:ص 671.
(51) احمد محمود صبحي، في علم الكلام: ص 588.
(52) حسن ابراهيم حسن، النظم الاسلامية: ص 100.
(53) انظر عن ما يطلب: ص 254.
(54) انظر المصدر نفسه: ص 257.
(55) البيذق، اخبار المهدي بن تومرت: ص11.
(56) ابن صاحب الصلاة، تاريخ المن بالإمامة: ص84، وينظر ابن ابي زرع: ص 127.
(57) الناصري، الاستقصا: ص 96.
(58) ابن خلدون، العبر: ج6 ص 229.
(59) أعز ما يطلب، ص 254.
(60) النبوغ المغري، ص108.
(61) الامير الشاعر ابو الربيع سليمان الموحدي: ص 18.
(62) العبر: ج6 ص 229.
(63) المنوني، محمد، العلوم والفنون والآداب في عهد الموحدين، ط دار المغرب الرباط. 1977م: ص 51.
(64) ينظر مصطفى الشكعة، القاضي عياض بين مناهل العلم والأدب ـ مقال في مجلة المناهل، الرباط، العدد 21: ص 162.
(65) المراكشي، المعجب: ص 185.
(66) بنظر ابن خلكان، الوفيات: ج6 ص 50 ـ 51.
(67) ابن القطان، الحسن بن ابن الحسن، نظم الجمان في اخبار الزمان، الرباط بلات: ج1.
(68) ابن خلكان، الوفيات: ج6 ص 46.
(69) المصدر نفسه: ص 48.
(70) المصدر نفسه: ص 52.
(71) ابن خلكان، الوفيات: ج6 ص 52.
(72) العبر: ج6 ص 228.
(73) روض القرطاس: ص 172، الناصري، الاستقصا: ص 96.
(74) ابن خلكان، الوفيات: ج6 ص 51.
(75) يوسف اشباح، تاريخ الاندلس: ص 195.
(76) ابن خلكان، الوفيات: ج6 ص 50.
(77) ابن خلدون، العبر: ج6 ص 228، الزركشي، تاريخ الدوتلين: ص 5.
(78) ابن خلكان، الوفيات: ص 50.
(79) المصدر السابق: ج6 ص 52.
(80) حركة الموحدين في المغرب في القرنين الثاني عشر والثالث عشر: ص 37.
(81) العبر: ج6 ص 229.
(82) ينظر، ابن خلكان، الوفيات: ج6 ص 53، الزركشي، المعجب: ص 7 ابن ابي زرع، روض القرطاس: ص 172، ابن صاحب الصلاة، تاريخ المن بالإمامة: ص 83.