فضيلة الأُستاذ الجليل الشيخ يوسف القرضاوي حفظه اللّه ورعاه.
السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته
نسأل اللّه لكم دوام الصحّة والتوفيق لخدمة الإسلام والمسلمين.
أمّا بعد; فقد وقفنا في إحدى المجلات الإسلامية على مقالة رثائية قيّمة لكم بمناسبة رحيل المفكِّر الإسلامي القـديـر الشيـخ الغـزالي (رحمه الله) تحت عنوان: «النجم الساطع».
ولقد كان الشيخ الغزالي حقاً ـ كما وصفتموه ـ العقل الذكي، والقلب النقي، وصاحب الرشد في الفكر والشجاعة في الحق، والغيرة على الدين فقد صدع بما يرى أنّه الحق غير آبه بما يُثيره رأيه الصريح، من انتقادات واعتراضات، لأنّه كان ـ كما قلتم ـ حرَّ الفكر والضمير، حرَّ اللسان والقلم، و لأنّه رفض الخضوع لأهواء العوام كما فعل أدعياء العلم الذين يحسبهم الناس دعاةً !!
ولقد طالعنا في نفس الوقت رسالتكم القيمة إلى الندوة الثانية للتقريب بين المذاهب الإسلامية بالرباط (12 ـ 14 ربيع الثاني 1417هـ) التي انطلقت من روح متوقّدة متطلّعة إلى عزّة المسلمين وفهم عميق ومنطقي للقرآن والسنّة.
وقد أعجبتنا فيها رؤيتكم الصائبة حولَ ما يحول دون تحقيق الوحدة الإسلامية الكبرى والتقريب بين فصائل المسلمين وطوائفهم، وأبرز ذلك فراغ نفوس المسلمين من الهموم الكبيرة والآمال العظيمة، واعتراكهم على المسائل الصغيرة والهامشية من فروع العقيدة أو الفقه، وقد كان من الواجب ـ كما قلتم فيها ـ على الدعاة والمفكّرين الإسلاميين أن يشغلوا جماهير المسلمين بهموم أُمّتهم الكبرى وليلفتوا أنظارهم وقلوبهم وعقولهم إلى ضرورة التركيز عليها والتنبيه لها.
والحق كما تفضّلتم: مشكلة المسلمين اليوم ليست في الذي يؤوِّل آيات الصفات وأحاديثها بل في من ينكر الذات والصفات الإلهية جميعاً ويدعو إلى العلمانية والإلحاد، ومشكلة المسلمين ليست في من يجهر بالبسملة أو يخفضها أو لا يقرؤُها في الصلاة، ولا في من يرسل يديه في الصلاة أو يقبضهما، إنّما مشكلة المسلمين في من لا ينحني يوماً للّه راكعاً ولا يخفض جبهته للّه ساجداً ولا يعرف المسجد ولا يعرفه ...
ولا ... ولا .. . انّما انّما .....
وبالتالي انّ المشكلة حقاً هي: وهن العقيدة في النفوس، وتعطيل الشريعة في الحياة، وانهيار الأخلاق في المجتمع، وإضاعة الصلوات، ومنع الزكوات واتّباع الشهوات، وشيوع الفاحشة، وانتشار الرشوة، وخراب الذمم، وسوء الإدارة، وترك الفرائض الأصلية، وارتكاب المحرمات القطعية، وموالاة أعداء اللّه ورسوله والمؤمنين.
إنّ مشكلة المسلمين ـ كما تفضّلتم فيها ـ تتمثّل في إلغاء العقل وتجميد الفكر وتخدير الإرادة، وقتل الحرية، وإماتة الحقوق، ونسيان الواجبات، وفشوّ الأنانية، وإهمال سنن اللّه في الكون والمجتمع.
وهي بالضبط وعلى التحديد كل هذا، وبخاصة ما ذكرتموه في أرقام سبعة تحت عنوان هموم سبعة أساسية.
ولقد أعجبتنا كل هذه الرؤى جملةً وتفصيلاً، وتمنينا لو كان مثل هذه الرؤية والبصيرة شائعة بين مفكّري الإسلام وعلمائه اليوم سنةً وشيعةً ومن جميع الفرق والمذاهب، وكان هناك تعاون صادق وعميق ومتواصل لحلّ هذه المشكلات ما دامت كل هذه الفرق والمذاهب متفقة على وحدانية اللّه، ورسالة النبي الخاتم محمّد بن عبد اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأركان الإسلام العملية، ومكارم الأخلاق، وأُمور كثيرة أُخرى تفوق الحصر، وتستعصى على العدّ والإحصاء.
وتمنّينا لو كان المسلمون يكفّون ـ إلى جانب ذلك ـ عن التراشق بسهام الاتهام فيما بينهم، ويتحرّرون من عقدة الطائفية وأساليبها الجاهلية، ويقوموا ـ بدل ذلك ـ بدراسة نقاط الخلاف والاختلاف بروح أخوية ونهج علمي، وأُسلوب رصين، ويفسحون للجميع فرصة التعبير عن مذهبه، والإدلاء بأدلّته، وبراهينه في جوّ ملؤُه رحابة الصدر واتّساع الفكر والسماحة، ويتركون إثارة ما يبعد القلوب بعضها عن بعضها، ويكدر الصفو، ويفسد المودة.
***
غير أنّه بلغنا أنّكم في محاضرة لكم في «قطر» تعرضتم بسوء لشيخ الأباطح ناصر الإسلام وحامي نبيه الأكبر أبي طالب ـ رضوان اللّه تعالى عليه ـ الذي تكفّل رسولَ اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)وآواه، وحامى عنه بعد ابتعاثه بالرسالة، وضحى في سبيل دعوته براحته، ونفسه، وبأولاده وأفلاذ كبده، كاتماً إيمانه، ومتّقياً قومه العتاة ليبقى على منصبه، من أجل أن يخدم في ظلِّه الرسولَ والرسالة، ويدفع به عنهما أذى معارضيهما، وكيدهم كما فعل مؤمن آل فرعون طوال أربعين سنة، بلا انقطاع.
فهل ترى كان حقيقاً بأن يُنكر فضله، وتُتجاهل خدمته؟ وهو الذي صرّح بصحّة الرسالة المحمدية وصدق الدعوة النبوية الخاتمة في قصائده، وأشعاره وترجم إيمانه، بالوقوف الصريح ـ هو وأبناؤه الغرّ ـ إلى جانب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)حيث يقول:
كَذَبتُم وبيتِ اللّه نُبْزَى ([2]) محمّداً *** ولما نُطاعِن دونَهُ ونناضل
ونُسلِمُه حتّى نُصرَّعَ حولَهُ *** وَنَذهَل عن أبنائنا والحلائِل
لَعمري لقد كلِّفتُ وجداً بأَحمد *** وإخوته دأبَ المحبِّ المواصل
فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها *** وزَيناً لمن والاه ربُّ المشاكل ([3])
فَمنْ مثلُه في الناس أيُّ مؤمَّل *** إذا قاسَهُ الحُكّام عند التفاضل
حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غير طائش *** يُوالي إلهاً ليس عنه بغافِلِ
لقد علِمُوا أنَّ ابْننا لا مكذَّبٌ *** لدينا ولا يُعنى بقولِ الأَباطِل
فأصبَحَ فينا أحمدٌ في أُرومة *** تقصّـر عنه سَورةُ ([4]) المتطاول
حَدِبْتُ بنفسي دونَه وحميته *** ودافعتُ عنه بالذُّرا ([5]) والكلاكل
فَأيّدَهُ ربُّ العباد بنصره *** وأظهرَ ديناً حقُّه غير باطل ([6])
نقل ابن هشام في سيرته أربعة وتسعين بيتاً من هذه القصيدة، فيما أورد ابن كثير الشامي في تاريخه «اثنين وتسعين بيتاً»، وأورد أبو هفان العبدي الجامع لديوان «أبي طالب» مائة وواحداً وعشرين بيتاً منها في ذلك الديوان ولعلّها تمام القصيدة وهي في غاية العذوبة والروعة، وفي منتهى القوة والجمال، وتفوقُ في هذه الجهات كلَّ المعلّقات السبع التي كان عرب الجاهلية يفتخرون بها ويعدّونها من أرقى ما قيل في مجال الشعر.
وله وراء هذه اللامية، قصيدة أُخرى ميمّية، فهو ـ سلام اللّه عليه ـ يصرح فيها بنبوة ابن أخيه وأنّه نبي كموسى وعيسى (عليهما السلام)إذ يقول:
لِيعلم خيارُ الناس أنَّ محمّداً *** نبيٌ كموسى والمسيح بن مريم
أتانا بهدي مثل ما أتيا به *** فكلٌّ بأمرِ اللّهِ يهدي ويعصم ([7])
ونظيرها قصيدته البائيّة وفيها:
ألم تعلموا أنّا وجدنا محمداً *** نبياً كموسى خُطَّ في أوّل الكُتْبِ ([8])
أفبعد هذه البلاغات والتصريحات يصحّ لإنسان واع أن يكفّر سيد الأباطح أو يشك في إيمانه؟!
وعلى فرض التسليم، فهل هذه هي واقعاً مشكلة الأُمّة الإسلامية اليوم وأنتم الأدرى بمشاكل الأُمّة، وهل التنكيل بحامي الرسول، والإيقاع به ممّا يخدم الأُمّة؟!
هل يكون أبو طالب مع كل تلكم المواقف المشرّفة ومع كل تلك المآثر الصريحة الكاشفة عن عمق إيمانه بالرسالة المحمديّة مشركاً، وأبو سفيان الذي أشعل حروباً وقام بمؤامرات مدة عشرين سنة وأبناؤه الذين كانوا أساس المشكلة ومبدأ الانحراف في المسار الإسلامي، مسلمين موحّدين يستحقّون كل تقدير وكل احترام منّا ؟!
وهل ترى لو كان أبو طالب والداً لغير علي (عليه السلام) كان يرى هذا الحيف من قِبَل أبناء الإسلام؟!
هلاّ كنتم يا فضلية الأُستاذ ـ وأنتم على ما أنتم عليه من مستوى رفيع ومرموق في الرؤية والبصيرة ـ على نهج زميلكم الراحل الفقيد الشيخ الغزالي ـ رحمه اللّه ـ من الصدع بالحق، وعدم الخضوع للمرويّات الباطلة.
نحن ـ وقد وقفنا على قسم من مؤلّفاتكم القيمة الزاخرة بالفكر المشرق ـ كنّا ولا نزال نأمل أن تنصفوا الحقيقة ولا تقعوا فيما وقع فيه الأوّلون من غمطها وتجاهلها والجناية عليها، وأن تكونوا المرجعَ الأمينَ لشباب هذا العصر في تصحيح التاريخ، وتنقيته من الأباطيل، ورفع الضيم والظلم عن المظلومين.
ورحم اللّه ابن أبي الحديد القائل:
ولولا أبـــو طالب وابنـه *** لما مثل الدين شخصا وقاما
فهذا بمكة أوى وحامى *** وذاك بيثرب ذاق الحماما
كل ذلك لو كان النبأ الواصل إلينا عن محاضرتكم صادقاً، وأرجو أن لا يكون كذلك.
***
هذا ونرسل إليكم ما قمنا به من دراسة لإيمان أبي طالب في ضوء الكتاب والسنّة والتاريخ، وقد طبع ضمن دراستنا لحياة وتاريخ سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) .
ثم إنّنا انطلاقاً من ضرورة السعي لإيجاد المزيد من التفاهم والتقارب نرسل إليكم كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنّة، و حكم الأرجل في الوضوء، و الأسماء الثلاثة ، وأملنا أن تكون هذه الكتب خطوات على سبيل تحصيل التقارب بين الفقهين.
وختاماً نقول: إنّكم في رسالتكم للمؤتمر رجّحتم قول الإمام أحمد في مسألة خلق القرآن، وما قوله إلاّ القول بـ «قدم القرآن» ، وكيف يكون هذا القول، هو القول الأرجح وليس القديم إلاّ اللّه سبحانه، فيكون القرآن عندئذ إلهاً ثانياً، وهو يضاد أصل التوحيد؟!
ولو أُريد من قِدم القرآن قدمُ علمه سبحانه فهذا أمر لا سترة عليه ولا نزاع فيه.
والجدير بالإمام أحمد الذي يأخذ العقائد من الكتاب والسنّة أن لا يخوض في هذا الموضوع بحجة أنّ الكتاب والسنّة لم يذكرا شيئاً حول قدم القرآن و حدوثه لو لم نقل انّهما تبنّيا حدوثه.
وتقبلوا في الختام أسمى تحياتنا، وأفضل تمنياتنا، وفقكم اللّه لصالح العلم والعمل، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
------------------------------------------------
[1] . تم تحرير هذا الجواب بتاريخ 15 ذي القعدة 1417 هـ ، رداً على المحاضرة التي ألقاها الشيخ القرضاوي في قطر.
[2] . أي نُغلَبَ عليه.
[3] . المشاكل: العظيمات من الا ُمور.
[4] . السَورة: الشدة والبطش.
[5] . الذرا: جمع ذروة وهي أعلى ظهر البعير.
[6] . راجع السيرة النبوية: 1/272 ـ 280.
[7] . مجمع البيان: 7/37، الحجة: 56; مستدرك الحاكم: 2/623.
[8] . مجمع البيان: 7/36. وقد نقل ابن هشام في سيرته: 1/352 خمسة عشر بيتاً من هذه القصيدة.